تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد،
جمع تلميذه الشيخ أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجَّار،
الجزء الأول،
أَلاَ إِنَّ أولياءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الذينَ ءَآمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ،
المقدمة،
الحمد للَّه على أياديه المتواترة، ونعمه الباطنة والظاهرة، وصلى اللَّه على سيدنا ومولانا محمد ذي المعجزات الباهرة، والأخلاق العظيمة الظاهرة، وعلى آله وصحبه أنصارهم والمهاجِرة،
وبعد، فهذا أنموذج يسير، مغترف من بحر تيار كبير من العلم العزيز الغزير، من كلام الإمام القطب الشهير، العارف باللَّه والدال عليه، حجة الإسلام وبركة المسلمين، غوث البلاد والعباد، أبي الحسنين، وإمام العارفين، الشيخ عبداللَّه بن علوي بن محمد الحداد باعلوي رضي اللَّه عنه ونفع به، مما جمعه ودونه فقيره وتلميذه الشيخ أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجار، بارك اللَّه له في ذلك، وبلغه ما أمله هنالك، إنه جواد كريم، وقد أحببت أن أنقل كلام سيدنا الحبيب برمته، مع تصرف يسير في تقديم بعض المقالات، أو تأخيرها إلى مقالة أخرى، وإذا كان في شيء من المكرر زيادة لفظة أو فائدة أثبته وحذفت المكرر العري عن الزيادة، وأذكر كلام سيدنا الحبيب نفع اللَّه به برمته إلا شيئاً يسيراً من كلام الحساوي المذكور، مع تلخيصه إذا كان له تعلق بكلام سيدنا الحبيب نفع اللَّه به، كما ستراه إن شاء اللَّه تعالى، قال الحساوي المشار إليه لطف اللَّه به، آمين
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه وحده، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، قال العبد الفقير إلى كرم اللَّه الغني الكبير أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجار، سامحه اللَّه وعفا عنه
هذه كلمات كلية نافعة، وحكم جُمَلية جامعة، وجواهر نفيسة غالية، ولآلٍ أنيسة عالية، وهي قريبة العهد من موطنها، طرية غَضة من معدنها، أخرجَتْها من بحر الحكمة الزخار أمواجُه المتلاطمة آناء الليل والنهار، حتى أَلْقَتْها بأمر اللَّه على ساحله، فالتقطها من ظفر بها وكتبها من فاز بها بأنامله، وهي لعزتها قليلة الورود، عزيزة الوجود، سريعة الشرود، وكل كلمة منها توازن الدر عند الأحرار، وإن لم تكن لها قيمة عند الجهال الأغمار، إذ ما كل أحد يعرف قدر اللؤلؤ، لكن أهله، ومن عرف عزيز قيمته غاص له في البحار، حتى استخرجه من تلك القعار، ولكن هذه للآدمي قدرةٌ على التوصل إليها، حتى يبلغها ويشرف عليها، وأما الجواهر النفيسة العزيزة، فلا وصول إليها إلا إذا هبت رياح الأقدار، فحركت بحور قلوب أكابر الأولياء الأحرار، أخرجتها منها فألقتها على ساحل ألسنتهم فاحتفظها من وجدها، وضن عليها من ظفر بها، وذاقها وعرف قيمتها من عرفها، وقد جاء في الخبر، عن عبداللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه، أنه قال، استأذنت رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أن أقيد ما سمعته منه، فأذن لي، فجاء عنه أنه قال، حفظت عن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ألف مثل، وحزروا أحاديثه التي رواها أربعة آلاف حديث، وقال أبو هريرة رضي اللَّه عنه، كان عبداللَّه بن عمرو يكتب ولا أكتب، وكذلك قيد أصحاب المشايخ المتقدمين ما سمعوا من مشايخهم، كأصحاب الشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي اللَّه عنه، قيدوا ما سمعوا منه مما تكلم به على الكرسي وغير ذلك، فقُيد وجُمع في كتاب، سمي "جلاء الخاطر في كلام محيي الدين عبدالقادر"، وكذلك قيد عبداللَّه بن بدر الحبشي ما قيد به كلام الشيخ ابن عربي، مما تكلم به في مجالسه وأوقاته، وما خاطب به غيره، وما فصله من علم أو شرح لكلام مَنْ تَقَدَّمَه أو تحدث به مع أصحابه، أو شئ مما فيه فائدة، فإذا كان الأمر كذلك ،
(١/٢)
ففي أولئك قدوة وأسوة حسنة، لمن حذا حذوهم واقتدى بهم، وكانوا له حجة، فإني قد جمعت نبذاً مما قيدته من كلام سيدنا وقدوتنا، ومَنْ عليه بعد اللَّه ورسوله عمدتنا، السيد الشيخ الإمام القدوة للخاص والعام، قطب الأقطاب، ونخبة الأولياء الأحباب، سيدي الحبيب عبداللَّه بن علوي الحداد علوي، رضي اللَّه عنه ونفعنا ببركاته وأسراره في الدنيا والآخرة، مما تكلم به في مجالسه أو شرحه وفصّله في بيان مسألة، أو على حديث أو أي معنى مما سمعناه منه، فإنه لسان حال الوقت، وقطب العصر وإمام الدهر، وقدوة هذا الآن، ومقدم هذا الزمان، كما أجمع على ذلك أهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل الشريعة وأهل الحقيقة، وأنه المجدد للدين في وقتنا، وحامل سر الحق فيه، وحامل اللواءين، لواء الشريعة ولواء الحقيقة، المشتمل عليهما مقام القطبية، وأنه لا يحمله عنه بعده من كل الوجوه إلا المهدي، كما قال رضي اللَّه عنه مراراً، عندنا أمانة لا يحملها إلا المهدي، وستقف على تحقيق ذلك في هذا النقل عن كبار المحققين، من أهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل النقل وأهل العقل، من المكاشفات المحققة لذلك، والمرائي الصادقة، والعلامات الدالة القاطعة به
(١/٣)
ذكر شيء مما نَوَّهوا به من وَصْفِه
قال السيد الكامل العارف باللَّه محمد بن عبدالرحمن مديحج باعلوي رضي اللَّه عنه، وكان من أكابر العارفين، وأهل الحقيقة واليقين، كلام السيد عبداللَّه الحداد دواء لأهل القلوب المنورة لأنه طَرِيٌّ من عند ربه، وقال أيضاً، نحن ما أُذِنَ لنا في هذا الزمان، والسيد عبداللَّه أذن له، وقال، لا تغتر في هذا الزمان بأحد، ولو رأيته يفعل ما يفعل أي من الطاعات والكرامات ، فإن أهل الزمان إن لم ينتموا إلى السيد عبداللَّه الحداد بالقلب، وإلا ما جاءوا بشيء، لأن اللَّه وهبه أموراً لا تُكيَّف، لا تجلس إلا عنده، فإن الفائدة في مجالسته، وقال أيضاً، إن أهل الزمان لا يتأسفون على السيد عبداللَّه إلا بعد موته خصوصاً العلماء، فإنه حجة عليهم، وقال سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به، إن فلانا - وذكره - قال، ما في تريم إلا الفقيه المقدم في التربة، والسيد عبداللَّه الحداد في الأحياء، ثم قال سيدنا، نعم ذاك قبرٌ وهذا باب، يعني نفسه الشريفة، ولكن ما يعرفون الباب حتى يصير قبراً، فيعرفون أنه ذلك الباب الذي كانت تنفتح عليهم منه الأمور
وقال السيد العارف أحمد بن عمر الهندوان نفع اللَّه به، ما بقي اليوم شيخ مرشد إلا السيد عبداللَّه الحداد، قال، وظهر لي أنه مملي الكون، وقال السيد العارف أبوبكر بن سعيد الجفري، ما رأيت للسيد عبداللَّه الحداد مثيلاً، لأنه نَفَسٌ رحماني، وقد اجتمعت بأزيد من أربعين ولياً، ما رأيت أحداً يُسَاميه، وقال أيضاً، مجالسة السيد عبداللَّه علم من غير تعلم، وفي مجالسته الخير كله
وقال السيد العارف علي بن عمر بن حسين بن الشيخ علي، السيد عبداللَّه ظهر في الكمال، لأن أمر التصوف قد خفي، ما ظهر اليوم إلا ببركته
(١/٤)
وقال السيد العارف باللَّه علي بن عبداللَّه العيدروس، السيد عبداللَّه سلطان آل أبي علوي، وقال عبدالعظيم شراحيل، وممن أثنى عليه - يعني سيدنا الحبيب عبداللَّه نفع اللَّه به - شيخه السيد العارف باللَّه عمر بن عبدالرحمن العطاس نفع اللَّه به، فإنه قال لجماعة ذكروه له، السيد عبداللَّه ثوبٌ طُوِي، نُشِرَ في هذا الزمان، لأنه من أهل القرن السَّابع، إنما أخره اللَّه سعادةً لأهل وقته، قال، فلما سمعت ذلك أخبرت به سيدي عبداللَّه، فقال لي، يا عبدالعظيم أنا بحمد اللَّه ما أنا من أهل هذا الزمان، قد جعلني اللَّه بينهم، وأنا وحدي منفرد عنهم بقلبي، كما قال في بعض قصائده نفع اللَّه به وببركاته في الدارين ،
وإني مقيم في مواطن غربة على كثرة الأُلاَّف في جانبٍ وحدي
قريب بعيد كائن غير كائن وحيد فريد في طريقي وفي قصدي
أقول، وقد رأيت بخط خادمه المحب المبارك عمر باحميد يقول، سمعته مرة يقول، ما أنا من أهل هذا الزمان، بل أنا من أهل القرن الثاني، ولولا الأدب مع أهل القرن الأول، لقلت أنا منهم، لأن ما فيهم إلا الصحابة رضي اللَّه عنهم، فانظروا في حالي وحال أهل الزمان، إن كنت أشبههم أو يشبهوني، وقال عبدالعظيم، وقد قال لي يوماً، أُسِّسَ أمري وبني على الأكابر، منهم الشيخ عبدالقادر والفقيه المقدم محمد بن علي علوي، وعبدالرحمن بن محمد السقاف، وعبداللَّه بن أبي بكر العيدروس رضي اللَّه عنهم، فهؤلاء الأربعة هم قوام أمري، فهؤلاء سادة أهل التصوف وأئمتهم، ودخلت عليه يوماً وجلست معه، فتحدث في الفضل، ثم قال، أما أنا بحمد اللَّه قد خرجتُ من نفسي والتجأتُ إلى ربي، ولا يطرقني خاطر في الرزق، ولولا خوف الشهرة لَشَلِّيت من تحت هذه القطيفة ما يكفي أهل تريم انتهى
(١/٥)
أقول، وقد رأيت بخط سيدي السيد الشريف الجليل الحبيب أحمد بن زين الحبشي رحمه اللَّه ونفع به، وعرضته عليه وأقره، قال الفقيه محمد بن أبي بكر باجبير، كنت خارجاً مع سيدنا الحبيب عبداللَّه الحداد ليلة بعد المغرب من التربة، فقال لي، يا فقيه إن حبيبك - يعني نفسه - قد له ثلاثة أيام منذ دخل مقام القطبية انتهى
أقول، بين قول سيدنا هذا وبين وفاته مدة طويلة، أظن نحو ستين سنة، وقل أن يبقى في هذا المقام من بلغه إلا القليل من الزمان، فإن أكثرهم بقاءً فيه من يبقى فيه خمس سنين، وإنما أكثرهم ما يبقى فيه إلا أياماً قريبة، وقد أشهره اللَّه بها عند أهل الظاهر وأهل الباطن، وعند أهل الخصوص وأهل العموم، وقد طار نسبتها إليه في الجهات، وانتشر صيتها له في الآفاق، وبلغ خبرها المشارق والمغارب، وقد قال لي السيد الفاضل المتبحر في العلوم محمد بن أبي القاسم المعروف بأبي الطيب المغربي بمدينة الأحساء قال، أنا من مُوَلَّدِي المدينة المنورة، وأبواي من أهل المغرب، فلما كبرت وبلغت الحلم، سرت إلى المغرب لزيارة أخوال لي - أو قال، أعمام لي - هناك، فرأيت في المغرب رجلاً مشهوراً بالولاية شهرة عظيمة، وتأتي إليه القوافل من أماكن متعددة وجهات بعيدة للزيارة، ويفد الناس إليه بالهدايا، وله سمت عظيم وصيت شهير، فمضيت لزيارته، فحين وقع بصري عليه، ورأيت حاله، اعتقدته كثيراً، وخطر بقلبي أن هذا هو القطب اليوم - أي في هذا الوقت - فبمجرد خطور ذلك في خاطري، التفت إليَّ وقال، ياولدي ما أنا بالقطب اليوم، وإنما القطب اليوم السيد عبداللَّه الحداد باليمن، فمن حينئذ اعتقدت في السيد عبداللَّه كثيراً انتهى
(١/٦)
وقد وقفت لسيدنا على رؤيا رآها هو دالة على ذلك أيضاً، رآها فيما سبق من الزمان، وأخبر بها بعض خواصه، فكتبها ووقفت عليها في خطه، ونقلتها منه حرفاً بحرف، وصورة ذلك قال، قال سيدي القطب الرباني، السيد الأكبر والغوث الأشهر، عبداللَّه بن علوي الحداد علوي الحسيني نفع اللَّه به، قال، رأيت كأني في مسجد يشبه مسجد قيدون في رواقه النجدي، وكأن فيه خلقاً كثيراً، قال، وفيهم من أصحابه جماعة، من جملتهم السيد حسن بن علوي الجفري، قال، وكأن واحداً أتى إليه وقال له، أنت صاحب الوقت، أنت الغوث، قال، قلت، لا ما هو أنا، قال، أنت، حتى أكثر عليه وهو يقول له، لا ما هو أنا، ثم بعدُ خرج هذا الشخص إلى حوش المسجد، وقال بأعلى صوته، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمداً رسول اللَّه، وأشهد أن سيدنا عبداللَّه بن علوي الحداد القطب، قال، ثم بعدُ أتى إليَّ، وشق على صدري، ولم أحس لذلك ألماً وأخرج قلبي وجعل يغسله، ويخرج منه أشياء لم أرَهَا، وكأنه يريد أن يجعل فيه شيئاً بعد أن يفرغه، قال فذكرت عند ذلك قصة شق قلب المصطفى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وإيداع العلم والحكمة فيه، قال، والرؤيا جزء من النبوة، وهي تسر ولا تغر، كما قال الإمام مالك رضي اللَّه عنه انتهى، قال الراوي، انتهى من لفظه
(١/٧)
أقول، وقد قرأت أنا هذه الرؤيا بهذا اللفظ على سيدنا، وسمعها وتأملها وهو ساكت لم يتكلم بحرف، والسكوت إقرار وتقرير، وأظن أن هذه الرؤيا قريب من ذكره لباجبير ماذكر، وهي تقدمة لذلك المقام العظيم، كما تقدم الوحي للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الرؤيا قبل وحي الملَك، إشارة إلى قوة متابعته للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حتى رأى في نفسه شبهاً مما اختص به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من شق صدره، وإيداع العلم والحكمة فيه ومن دقيق متابعته وغزير علمه وشدة اقتفائه واقتدائه لجده رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، أني كثيراً ما أسمعه إذا سلم من الركعتين الأولتين من الأربع قبل العصر، يقول، السلام على ملائكة اللَّه والمقربين، وعلى أنبياء اللَّه والمرسلين، وعلينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، فأردت أن أسأله عن أصل ذلك، فما جسرت على سؤاله، فمر علينا في الدرس بعد العصر، في قراءة السيد الجليل عمر بن حامد في سنن أبي داؤد بإسناده إلى سيدنا علي كرم اللَّه وجهه، قال، كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يصلي قبل العصر أربعاً يفصل بينهما بالتسليم على الملائكة والمقربين، وعلى الأنبياء والمرسلين، وعلى عباد اللَّه الصالحين
وقد رأيت بخط السيد الفاضل عبدالرحمن بن محمد بن عقيل بن زين باعلوي، قال، أخبرني السيد الشريف الفاضل أحمد بن عقيل بن يحيى باعلوي قال، أخبرني رجل ثقة من أهل مكة أنه تخلف عن زيارة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مدة عشر سنين، قال فرأيت النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ليلة في المنام، فقال لي، يا عبداللَّه لِمَ لم تزرنا، أما علمت أن من زار السيد عبداللَّه بن علوي الحداد قُضِيَت له سبعون حاجة، فكيف من زارنا
(١/٨)
ورأيت رؤيا أوائل ما وصلتُ إلى حضرة سيدنا نفع اللَّه به، تشهد لمكاشفة ذلك الولي الذي في بلاد المغرب للسيد أبي الطيب، وهي، أني رأيت كأني وسيدي القطب الشيخ أبوبكر بن عبداللَّه العيدروس صاحب عدن نفع اللَّه به في جمع، وأراه متقشفاً جداً وثيابه خلقان بالية، إنما عليه ملحفة متمزقة من كل جانب، وكأنه في شبه السيد شيخ بن إبراهيم السقاف، من أهل قسم، فتعجبت واستنكرت من حالته هذه، وقلت في نفسي لو خلوت به لفاتشته في ذلك، حيث إنا كنا نسمع عنه خلاف هذا، فما لبثت وأنا أشتهي الخلوة به، أن جاء داع دعا أولئك الجماعة، وقال، فلان يدعوكم، فمضوا إليه، فخلوت بالشيخ فأقبلت عليه، فقلت له، يا شيخ أبابكر ما هكذا ما نسمع عنك، أين صولتك، أين كرامتك التي نسمع عنك، وإنك كنت تلبس غلمانك وخدامك الثياب الفاخرة النفيسة، فما بالك هكذا متقشفاً؟، فهكذا صورة ما وقع في الرؤيا، فقال رضي اللَّه عنه، الناس اليوم غير الناس، والزمان غير الزمان، كان ذلك في وقتنا، والوقت لنا، واليوم الوقت لغيرنا، فقلت له، ومن هو الذي له الوقت اليوم، فقال، الآن أريك إياه، فإذا بالداعي الذي دعا أولئك الجماعة قد جاء يدعونا، وقال، فلان يريدكم، وسمى الذي سماه لأولئك الذين دعوا قبلنا فقام الشيخ مسرعاً، فقمت معه مجيبين لداعيه، فمضى بنا إلى باب بيت يشرف على حوش كبير واسع جداً وفيه خلق كثير، وهو ملآن منهم، وفيهم الذين كانوا معنا، وهم مستندون على الجدار وحافون به، دائرين عليه كالحلقة، وفي صدر المجلس رجل، هو الذي دعاهم والناس عن يمينه صافين إلى شماله، وهم متأدبون معه غاية الأدب، مطرقين رءوسهم، لا يتكلمون ولا يلتفتون مغضين أبصارهم حياءً منه، وهو يبدأ بالمصافحة وبالقهوة، ولا يُصافَح في مجلسه أحد غيره، وكل من صافحه قابله بوجهه، ومشى القهقرى إلى قفاه حتى يجلس ثم يبقى مطرقاً برأسه، فلما وقفت مع
(١/٩)
الشيخ على باب الحوش، ونظر إليه أطرق برأسه أيضاً حياءً، وقال لي، هذا اليوم هو صاحب الوقت، والوقت اليوم له هو صاحبه، ثم ولجنا جميعاً من الباب داخلين، ثم سرنا معاً حتى وقفنا عليه وصافحه الشيخ، وقبَّل يده ثم مشى القهقرى كغيره، حتى جاء إلى آخر المجلس، فجلس هناك لأنه لما كمل مقامه، وعلا قدره، زاد تواضعه، ثم إني أقبلت على الرجل، وقبضت يده لأصافحه، وقبلت يده رفعت رأسي، ونظرت إلى وجهه وإذا هو سيدي الحبيب عبداللَّه الحداد نفعني اللَّه به، فلما عرفت أنه هو برد خاطري، وعرفت أني آهلي من أهل المكان فأردت الجلوس بالقرب منه، لكني استحييت من الشيخ، حيث جئت معه وجلس هو في آخر المجلس، وأجلس أنا عند صدر المجلس، فجئت إلى جنب الشيخ، وجلست بينه وبين النعال، إلى هنا انتهت هذه الرؤيا المباركة وأول ما قصصت هذه الرؤيا على سيدي الحسن ابن سيدي الحبيب عبداللَّه، فقال، قصها على حبيبك، فكأنه ذكرها لأبيه، أو مكاشفة منه نفع اللَّه به، فدعاني سيدي عشية بعد الدرس إلى موضعه الذي يجلس فيه بعد الدرس أيام الصيف، وهو شرقي داره بالحاوي مقابل النخل، فقال، كيف رؤياك التي رأيت؟، فقصصتها عليه بهذه العبارة، فلما سمعها تكلم في نفسه سراً بكلام ما فهمته، وسألته ما سبب مشابهة الشيخ أبي بكر لذلك الرجل، فقال، لعله حصل له منه حال أو مدد
(١/١٠)
ومن العجيب الذي يدل على عظيم تصرفه وشدة كراهته للشهرة، أني رأيت أيضاً أوان وصولي إلى حضرته، كأني وقفت على حافة نهر عذب الماء، ودخلته وسبحت فيه، فأخبرت بذلك سيدي في طريق السبير، وطلبت منه تأويلها، فقال، أتحسن السباحة؟، قلت، نعم، قال، والماء عذب؟، قلت، نعم، ثم سكت ولم يؤوِّلها، فقلت، أَوِّلُوهَا لي، فلم يرد جواباً وسكت، وسكتُّ، فلما جئنا من السبير فتحت الخزانة، وأخذت كتاب "حياة الحيوان" لأنظر فيه كلمة، وليست رؤياي لي على بال، فحين فتحت الكتاب قابلني فيه قوله، التعبير مكتوب بالأحمر، كما هي عادته فتأملت في عبارته في ذلك الموضع، وإذا به يقول، من رأى أنه دخل نهراً عذباً وهو يحسن السباحة، فإنه يخالط رجلاً من الأكابر، فعجبت من ذلك الاتفاق، وبقيت هذه الرؤيا تتكرر لي بعد كل مدة حتى تكررت لي مراراً كثيرة، فكأن سكوت سيدنا رضي اللَّه عنه عن التأويل المذكور، كأنه اطلع قطعاً على ذلك التأويل، وعلى أن القدرة ستسوقني إلى الوقوف على ذلك التأويل، الذي لم يستحسن هو أن يذكره لي، لما رأى فيه له من الإطراء، مع رغبته في وقوفي عليه للحاجة الداعية إليه، فأراد أن أقف عليه من غيره، فاكتفى بوقوفي عليه في ذلك الكتاب من غير أن يذكره هو، وكل هذه واللَّه عجائب آيات، وكرامات باهرات، ومناقب عاليات
(١/١١)
ومما يدل أيضاً على عظيم تصرفه وشدة كراهته للشهرة لنفسه ولمن يحبه ويتصل به، أن الأخ الأكرم عبدالرحمن بن أحمد باكثير الشحري، علمني عزيمة مجربة للحمى، فاستعملتها لأناس كثير وأفادت واشتهر أمرها في حضرموت، حتى إن أناساً من دوعن وغيرها يرسلون إليَّ يطلبون أن أفعلها لهم، وسمع سيدي بها فقال، كيف العزيمة التي تفعلها للحمى، فأخبرته بها، ولم يتكلم لي من جانبها بشيء، لا بأمر ولا بنهي، بل سمعها وسكت، فسلب منفعتها حتى إنها ما أفادت بعد ذلك، ولا نفعت فتركتها مدة حياته نفع اللَّه به، وبعد ذلك صرت أفعلها لبعض الناس في بعض الأوقات، رجاء أن يرد اللَّه خاصيتها لنفع المسلمين، فمراراً تفيد ومراراً لا تفيد، فانظر هذا التصريف العظيم والتربية التامة انتهى ما أردنا نقله مما يحقق كلمته للفقيه باجبير، التي أسرَّها إليه
والآن إن شاء اللَّه بعون اللَّه نبتدئ في المقصود، وقد أردت أن أصدّر هذا النقل بخطبة لسيدنا نفع اللَّه به، ليكون كله مقتبسٌ منه، ومأخوذٌ عنه، وكان رضي اللَّه عنه وضع هذه الخطبة، وأراد أن يجعلها على حِكَمه، ويجعل الحِكم كتاباً مفرداً، ثم عَنَّ له أن يجعل الحكم مع مجموع المكاتبات والوصايا والديوان، وجعلها رابعة الأربعة، فكان الأربعة مجموعاً، وجعل له خطبة تشتمل على الأربعة الأقسام، وبقيت هذه الخطبة مفردة، ليست على كتاب، فاستحسنت أن أصدر بها هذا النقل، لتكون فاتحته وهي هذه ،
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
{ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }، الحمد للَّه الحنان المنان، دائم الإحسان والامتنان، الذي تقدست مواهبه عن التخصيص بمكان أو زمان، وعن الحصر في فلان دون فلان، جل عن التقييد ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً فسبحانه كُلَّ يوم هو في شأن
(١/١٢)
أحمده حمد من غرق في بِره، فاعترف بالعجز عن القيام بشكره، وعن أن يُقْدِرَهُ حَقَّ قدره بعد الإتيان بحسب الطاقة والإمكان، وصلاتُه وسلامه على خيرته من خلقه والمبعوث بخير الأديان، سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه في كل حين وأوان
أما بعد، فإني بعون اللَّه قد عزمت بعد أن استخرتُ ربي على تقييد كلمات وأمثال وأبيات، ترد عليّ عند التذكّر والمذاكرة، أرجو الانتفاع بها في الدنيا والآخرة، وقد جردت العزم على هذا الأمر مراراً، فلم تتم العزمة، ولم تنفذ الهمة، والسبب في ذلك بعد سابق القدر احتقار النفس، والاتكال على الحفظ والدرس، ثم إني لما رأيت أني نسيت من ذلك الشيء الكثير، ولم يبق منه إلا القليل اليسير، ورأيت الحاجة في بعض الأحيان تدعوني إلى ما دخل تحت دائرة النسيان، ووقفت على كلام للشيخ ابن عربي حاصله، أن الإنسان ترد عليه الأشياء في نهاية الطلب، ينبغي له أن يعتني بحفظها، لأنه سوف يحتاج إليها فيما بعدُ، وما وَرَدت إلا لذلك، فعند ذلك صممت على تقييد ما يخطر في البال، وإليه أضيف إن شاء اللَّه تعالى ما يكون في الاستقبال مستثنياً بمشيئة اللَّه تعالى النافذة، ومفوضاً إليه، ومتوكلاً عليه، وراغباً فيما لديه، ومعتصماً به، { وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }، ثم إني أعلم أخاً وقف على ما هنا، فرأى فيه مقاربة لكلام أحد لفظاً أو معنى، أن ذلك وقع بطريق الموافقة، إذ ليس بخافٍ أن من أثبت كلام أحد، ولم يعزه إليه، أنه سارق أو غاصب، وكلاهما قبيح، وهذا أوان الابتداء، أصلح اللَّه النية، وصَفَّى الطوية
انتهت الخطبة المباركة الميمونة، وما رأيتها قط في حضرموت، ولكن يَسَّر اللَّه وقوفي عليها في كتاب عند رجل جاء بها من الهند، فنقلتها منه، وقرأتها على سيدي الحبيب نفع اللَّه به وأقرها
(١/١٣)
والآن أشرع إن شاء اللَّه في المقصود، مستعيناً باللَّه سبحانه وتعالى ،
اعلم أن كلام سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به مستمد من علمه، وعلمه مستمد من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كما هو وصف القطب، وقد وصفه في بعض قصائده بقوله ،
يمتد من بحر العلوم محيطها خير الأنام بعاجل وبآجل
واعلم أيضاً، أن كلام مجالس سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به، على حسب ما يجريه اللَّه تعالى على قلبه، وينطق به لسانه، لا على حسب مادة ينسهب فيها الكلام ويطول، ويرتبط بعضه ببعض، كما هو في أبواب العلوم المعروفة، كالفقه وغيره، ولهذا يكون كل كلام منه على حدة، لا تعلق له بما قبله ولا بما بعده غالباً، ورأيت فيه من الخاصية، أنه لا يَمَلُّ قارئه ولا سامعه، ولو تكرر عليه مراراً كثيرة، وذلك من سر نَفَسه الشريف، فلذلك حسن منا أن نسميه كتاب، تثبيت الفؤاد، بذكر كلام مجالس سيدنا القطب السيد عبداللَّه بن علوي الحداد نفع اللَّه به، وقد استأذنته في نقل ذلك مراراً، فأذن لي في كل مرة وقلت له مرة، إنا نسمع كلامكم ونحرص عليه ونكتبه، ولا ندري هل فهمناه على الوجه الذي أردتم أم لا؟، ولكنا نتحرى لفظكم إن أمكن، وإلا كتبناه بالمعنى على ما فهمناه، وربما حصل زيادة أو نقصان، فقال، اكتبه وعادك تعرفه، حتى إني رأيته رضي اللَّه عنه في المنام ليلة، وهي ليلة الجمعة في ١٤ ربيع الأول سنة ١١٢٧هـ، وهو في جمع يتكلم عليهم، وذلك بمسجده بالسبير، فبينما هو يتكلم عليهم إذ التفت إليَّ وقال، فلان مهيَّم القلب، والقلب المهيم لا يتأهل للواردات الإلهية، ولا يحصل الهيام إلا لقلب فارغ، فأخبرته بذلك يقظة وقلت، أأكتبه في جملة ما أكتب مما أسمعه وأحفظه من كلامكم؟، فقال، أكتبه، ثم إنه رضي اللَّه عنه شرحه، فقال الهيام والغرام من أسماء المحبة، والهيام هي الواردات الإلهية بنفسها، فلا يتأهل، أي لا يحتمل القلب المهيم من الواردات الإلهية أكثر
(١/١٤)
مما هو فيه، ولا ترد إلا على القلب الفارغ انتهى ما شرحه
كذلك رأيت أيضاً كأني في حلقة فيها خلق كثير، وسيدنا في وسطهم يتكلم عليهم، إذ التفت إليَّ وجعل يملي عليَّ كلاماً كثيراً، ويقول، احفظ كلامنا هذا، فقلت، يا سيدي ما يمكنني حفظه لكثرته، فقال، هات دواة مع قلم وقرطاس، فأتيته بذلك، فقال ،
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه الذي جعل القلوب محل أسرار الغيوب، فانتبهت بعد ما كتبت هذا، فأخبرته بهذه الرؤيا بعد ستة اشهر في طريق السبير، فقال، أكتبها، فقلت له، الكلام الذي ننقله عنكم بلفظه، نحس له أثراً ونرى له رونقاً أكثر مما ننقله بالمعنى، فقال رضي اللَّه عنه، ولو قد غِبْتُ ظهر له حال غير الحال الأول، لأن المخالطة والاجتماع مانع وحجاب عظيم
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً على الناس كثيراً، ثم قال في آخر كلامه ذلك، إذا تكلمنا في مجلس، فلا يظن أحد أنا قصدناه بالكلام خصوصاً، بل هو عام لكل من سمعه، ثم تمثل بهذا البيت ،
وإذا فتىً طرح الكلام بمجلسٍ في مجمع أخذ الكلام اللَّذْ عنا
ثم قال، وإذا تكلمنا في مجلس، فإن عرفه الحاضرون وأخذوا به، كان حجة لهم، وإلا فله من يسمعه غيرهم لا يرونهم، وكلامنا بأمر إلهي
وقد أخبرني السيد محمد بن شيخ الجفري، أنه رأى يوماً حية في جنب سيدنا في مدرس العصر، فأراد بعض الحاضرين أن يأتي بعصا يضربها، فصاح سيدنا بالرجل لا تقتل الحية، واتركها، فبقيت إلى أن فرغوا من الدرس، وقرأ سيدنا الفاتحة، ودعا فلما ختم الدعاء تسبسبت وذهبت
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً على رجل وهو يسمع، ثم قال له، إنما هذا تأديب لك من اللَّه سبحانه أجراه على لساننا، وقال رضي اللَّه عنه، إن كل كلامنا الذي نتكلم به معكم، إنما نحثكم به على الوسط لا غير
(١/١٥)
وقلت له رضي اللَّه عنه، هل تأذنون لنا أن أَتَسَمَّع كلامكم إذا سمعتكم تتكلمون؟، إذ كل ما نسمعه منكم يحصل لنا منه فوائد، فقال رضي اللَّه عنه، أذِنَّا لك تسمع كلامنا ولا نأذن لك تتكلم، فَتَسَمَّع كلام عظة، أو فائدة أو علم، ونحن لا نتكلم إلا لأمرين، إما لأحد حاضر غير مرئي، أو لأجل رجل في نفسه كلام لا يمكنه يتكلم به، وكانوا مستعدين للنقل بآلته، وقد نقل كلامنا أناس كثير نقلوه بالمعنى، فأخطأوا في نقله، فإذا سمعناه منهم، رأيناهم مخطئين، قال رضي اللَّه عنه، وينبغي أن يعرف الناقل الكلامَ ودرجاتِه، وقيودَه، وخصوصه، وعمومه، وكونه فيه استثناء، ويبقى يستمعه من أوله إلى تمامه، فرب قائل تسمعه يذم العلماء، إلا أهل الخشية، والورع، والتقوى، فتستعجل وتقول فلان يذم العلماء، قال، والقيود كمن سمعنا نقول في التوبة - مثلاً - بعد ذكر شروطها، ولزومها، أنها تعسر في هذا الزمان، فيقول قال فلان، التوبة عسرة فلا تمكن، ولا ينقل الكلام من أوله، فلما علمنا بذلك من أهل الزمان، تركنا الخوض معهم والكلام إلا في المجالس العامة، فيما يتعلق بعبارات الكتب، فإن فهموه وإلا فعهدته على أهلها، وقد أقل اللَّه من ضعفاء الفهم، وكذا من أهل النفاق، وإن كانوا أقل منهم
وقال رضي اللَّه عنه، نحن إذا أمرنا بشيء، أو تكلمنا بكلام قيدناه، فكل كلامنا مقيد، فافهم القيود ولا عليك، لأنا عارفين بأحوال أهل الزمان، وقد عثر عندنا ناس كثير بترك القيود، وأخذوا الكلام غير مقيد، كالإناء بلا غطاء، أو الغطاء بلا إناء، بعضهم تَعَسُّفاً، وبعضهم تعنتاً، وبعضهم ضُعْفَ فهم، حتى لما علم بأمرنا بأخذ القيود بعضُ الناس، قال، لا ينبغي أن نحضر مجلسكم، فقلنا لا يتعطل المجلس بغيبتك، ثم إنه رجع وحضر
(١/١٦)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا نقل أحد كلام أحد، فليذكر الكلام كله من أوله إلى آخره، فإن الكلام يُذكر بالكلام، ويُعرف معنى بعضه من بعض، ولا يُذكر بعضه ويُترك البعض، فلو سمع رجلا يقول، إن فَعَلَ فلان كذا فلا خير فيه، فيقول، سمعته يقول، ما في فلان خير، فليس الكلام على هذا الوجه، وأحسن التكلم نقل الكلام على وجهه ليعتبر بما اعتبر، وقد تكلمنا أيام كنا بالهجيرة يوماً في التوبة، فقلنا، التائب المصر على الذنب، بأن يقول، استغفر اللَّه بلسانه، وفي قلبه إنه متى تمكَّن منه فَعَلَه، إن هذا لا توبة له، ولكن الاستغفار باللسان لا يخلو من خير، فنقل عنا رجل كان حاضراً، إنا نقول، إن ما للتوبة معنى أصلاً، وأن ما لأحد توبة، فسمعه علي بن عمر بن حسين، فقال له، تَخْزَا ما قال هكذا، وأشياء من الخواطر ما تدخل تحت الاختيار، يعفى عنها، كمن ترك ذنباً، وإنما تركه للَّه لا لشيء آخر، ولكن بقيت له في قلبه لذة فيعذر في مثل هذا، ولا يؤاخذ به، ثم قال، وأصول الأحكام وأصول الدين كلها في القرآن، ولكن لمن يعرف، وهذه الأشياء تُنقل وتُعرف، وبعض منها ما يحسن أن ينقل
أقول، وقد رأيت بخط من نقل عنه رضي اللَّه عنه أنه قال، إن الجَوابي لم تُبْنَ في الأصل للقذر، فلما حصل فيها القذر عارضاً فلا يكره ذكر اللَّه فيها، فمثل هذا نقل عنه خطأ، فلما سمعه أنكره، وهو الذي أشار إليه بقوله، فإذا سَمِعناه منهم رأيناهم مخطئين، وهو خلاف ما نقلناه عنه من قوله الذي نقول به ونختاره فانقلوه عنا، وقولوا هذا اختيار فلان، والذي نقول به، أنه لا ينبغي ذكر اللَّه في الجوابي، ولا جواب المؤذن فيها لما فيها من القذر، ونكره ذلك فيها، ولكن إذا خرج منها ينبغي أن يأتي بأذكار الوضوء، وجواب المؤذن على وجهه يقضيه بعد ما يخرج من الجابية، وهذا خلاف ما ذكر عنه صاحب ذلك النقل
(١/١٧)
وكذلك ذُكِر، إن سيدنا قال، إذا عوقب أحد من أصحابنا بعقوبة في الدنيا والآخرة فهو بسبب من جهتنا، لأنا وإن سامحناهم في التقصير الواقع منهم في حق اللَّه وحقنا، فللطريق غَيرة لأهلها انتهى
(وقوله)، وإن سامحناهم في التقصير الواقع منهم في حق اللَّه، لعله وَهْمٌ، أو سبق قلم، أو هو من الخطأ الذي أشار إليه، فإنه نفع اللَّه به، من عادته أنه لا يسامح أحداً في التقصير في حق اللَّه قط، بل في حق نفسه، هو شيمته وعادته المسامحة به، وسمعته غير مرة يقول ما معناه، من تهاون بحقنا لا بد أن يعاقب وإن سامحناه وعفونا عنه، وإن اللَّه ليغار لعباده الصالحين وإن سامحوا في حق أنفسهم، قال، وإذا غضبنا على أحد ونحن نحبه لا بد من أن نتكلم عليه ولو كليمة واحدة لئلا يعاقبه اللَّه، لأنا جربنا أن من قَصَّر في حقنا أو أَغْضَبَنا عوقب إلا أن نتكلم عليه فتتعداه العقوبة، أو كما قال
(١/١٨)
أقول، وذلك كما وقع للرجل الدمشقي من الطرد والعقوبة، حيث حصل منه التقصير وسوء الأدب في حقه نفع اللَّه به، وقصته، أني رأيت بتريم رجلاً من أهل دمشق الشام، يقول، إنه شريف، واسمه زين العابدين، فأقمت سبع سنين ما أراه يصل إلى الحاوي للزيارة، إنما أراه في الجامع يوم الجمعة، فتعجبت من مقاساته الحال في تريم، مع عدم تردده إلى حضرة سيدي، فمضيت إليه يوماً قاصداً معاتبته ولومه على ذلك، وقلت له، أنت رجل من أهل بلد رفاهية، وسعة معاش، والغريب لا يتكلف المقام هنا إلا لأجل الاجتماع بسيدنا الحبيب، وأنت لا أراك تتردد عليه، ولي منذ سبع سنين ما رأيتك أتيته زائراً، فما معنى مقامك هنا، فقال، ما جئت هنا إلا لأجله، ولا قصدت إلا عنده، ولكني خفت من ضعف العقيدة بسبب المخالطة، فاستحسنت البعد مع العقيدة، ولا القرب مع ضعفها، فقلت له، كلامك حكمة وصواب، ولكن عملك يكذب قولك، فلو كان قولك هذا صدقاً، لكنت تتردد للزيارة، ولو في الأسبوع أو الشهر أو السنة، وأكدت عليه بذلك شفقة عليه، فلم يفعل، ثم بعد سنة أتيته كذلك وقال كما قال أولاً، وبقيت سبع سنين أتردد عليه في كل سنة مرة، وأسأله فلا يجيبني إلا كذلك، ولا دخل في خاطري ما قال، واعتقدت أن الأمر بخلافه، ولم يعطني أحد عنه خبراً، حتى يوماً كثر عليَّ الوسواس من جانبه، وهذا عادتي إذا رابني أمر لم أصبر حتى اطلع على حقيقته، فلما كان الليل زاد عليَّ ذلك الوسواس، فلما كان بعد الراتب، وكانت ليلة الثلاثاء وعادة سيدنا فيها الطلوع إلى البلاد للمبيت، وركب سيدنا وأنا أسايره مع قائد الفرس عكيمان فقط، وبقي يقرأ ورده مشتغلاً به، وأنا مشغول بتلك الخواطر التفت إليَّ، وقال لي مكاشفةً منه رضي اللَّه عنه، يا حاج، قلت، لبيك، قال، إن هذا الرجل الدمشقي ما جاء إلى هنا إلا لأجلنا، ولا قصد إلا عندنا، ولكنه مَرَّ في مجيئه من بلده إلى عمان ،
(١/١٩)
وجاء إلى قرية على الساحل تُسمى الرمس، وفيها أناس يقال لهم آل ثالث، وكانوا محبين لنا ويكاتبونا، فقصد عندهم لما علم أن لهم بنا صلة، فلما علموا منه أنه قاصد إلى عندنا قاموا به وكسَوه وزودوه، وأعطوه خرجيَّة، وأركبوه في مركب لهم إلى الشحر بلا نول، وكتبوا لنا معه كتاباً يوصونا به، فبعد ما وصل إلينا بأيام كتب لهم كتاباً، وذكر فيه كليمة من جانبنا أزعلتهم، فكتبوا لنا كتاباً، وجعلوا كتابه ذلك في طي كتابهم إلينا، يريدونا نقف على كلمته، فقرئ علينا كتابهم وكتابه، وإذا فيه يقول، إنا قد زرنا السيد فلاناً واجتمعنا به، ولكن ما رأيناه على ما نسمع عنه، فأخذت الكتابين من يد القارئ، وأخذت عليه أن لا يتلفظ بتلك الكلمة لا له ولا لغيره، ثم إنه شل حوائجه وما معه، وانتقل من نفسه إلى البلاد، وهو آخر العهد به، ونحن من عادتنا أنا إذا أردنا أحداً جذبناه إلينا، ولو كان بأبعد محل، ومن لم نرده نفيناه، ولو كان حاضراً عندنا انتهى
ثم إن ذلك الرجل ضاق عليه المعاش بتريم، فسار إلى الهند مع جماعة من أهل تريم، فجاء إلى سيدنا عند سفره يستودع، فأوصاه بتقوى اللَّه، وملازمة الطاعة، ونحو ذلك، وما رأيت له منه تلك البشاشة المعتادة لمن استودع منه، فلما كان بعد مدة دون السنة، جاء الذين سافر معهم، فلقيت منهم رجلاً فسألته عنه، فقال، كنا ليلة سائرين في البحر، متوسطين الغبة، فقام من آخر الليل ليتوضأ، فزلت رجله فسقط في البحر، فصاح وفطن به أهل المركب، فأرخوا الشراع، وجعلوا يدنون المركب إلى نحو الصوت، فعجزوا عن القرب منه، ولم يمكنه القرب منهم، وبقوا في علاج من ذلك إلى أن قرب استواء الشمس على الرأس، فانقطع صوته فساروا وتركوه، فنعوذ باللَّه من سوء الظن بالصالحين
(١/٢٠)
ورأيت بخط ابنه الحبيب علوي مما نقله عن والده أنه قال، إذا تكلمنا لأحد منكم بكلام، فليُعِهْ وليقبله بكليته، فإنْ ما ظهر له معناه اليوم، عاده يظهر له، ولا يعرف قدره إلا عند فقد متكلمه، فيطلب من يقول مثله، فلا يجده، وذلك من تمام الكلام، لأنا مارسنا الأمور وجربناها، ولنا نحو ستين سنة ونحن في مطالعة الكتب إلى الآن، انتهى
والذي سمعته أنا من سيدنا يقول، من حين سننا أربع عشرة سنة وإلى الآن ونحن في مطالعة الكتب، وما مر عليكم مرةً مَرَّ علينا مراراً، ثم تمثل بهذا البيت ،
ومن عجب إهداء تمر لخيبر وتعليم زيد بعض علم الفرائض
وقيل له، يا سيدنا لا تروا علينا، فإنا ما نخاف إلا من مخالفة أمركم، فقال، لا، ما نحن بصدد ذلك، وإنما نطلب الجزاء من اللَّه، لأن اللَّه سبحانه ما خلق الإنسان طويلاً إلى جهة السماء، وجعل رأسه أعلاه، إلا ليطلب حوائجه من السماء لا من الأرض، ولا عليك إلا أن تعمل ما يرضي ربك، فذلك هو الذي نرضى به
وقال رضي اللَّه عنه، من أتانا قاصد الانتفاع، فليسمع ما نقول ويفهمه، ويُصَدِّق ويَصْدُق فيه إذا نقله إلى أحد، لكن مع فهم القيد، لقوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( رحم اللَّه امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأدَّاها كما سمعها )) الحديث، وللوارث حكم الموروث، والنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ما وَرَّثَ إلا العلم، وما كان له من ذلك مطلقاً كان لورثته مقيداً، وإذا أخذ الناس من ذلك بسهم، أخذنا منه بسهمين، سهم من جهة العلم، وسهم من جهة النسب، انتهى
أقول، وما أحسن قول البوصيري صاحب البردة والهمزية، شاهداً في ذلك ،
يا وارثاً بالفرض علم نَبِيِّه شرفاً وبالتعصيب غير مقيد
اليوم أحمدُ من عليّ وارثٌ حَظَّيْ عليٍّ من وراثة أحمد
(١/٢١)
ومراده بعلي أبو الحسن الشاذلي، وبأحمد المذكور أول البيت أبا العباس المرسي، وبأحمد المذكور آخر البيت النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومعناه أن علياً المذكور ورث من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، من جهة النسب سهمين سهماً بالفرض، وسهماً بالتعصيب، فورثهما منه أبو العباس، كليهما من جهة العلم، وسيدنا نفع اللَّه به ورثهما من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كليهما من جهة النسب، أي سهماً بالفرض، وسهماً بالتعصيب وهما المراد بقوله ( وسهم من جهة النسب ) أي فرضاً وتعصيباً، وسهماً آخر ثالثاً من جهة العلم، وهو المراد بقوله سهم من جهة العلم
وقال رضي اللَّه عنه، إذا سمعت شيئاً فانقله بحروفه على أصله، خصوصاً ما كان عن أهل الدين، لأنهم طرائق إلى رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم
(١/٢٢)
وصافحه رضي اللَّه عنه رجل أعمى بعنف، فقال له، أنت ما تفهم الإشارة، أَوَ كُلَّ حينٍ يكون الكلام، ونحن حتى عيالنا مُرَبِّينَهُم على فهم الإشارة وحفظ الكلام، وستر المعنى المطلوب منه، وقد كانوا - أي السلف - إذا تكلم المتقدم بالكلمة، أخذها الطالب بالقبول وفهم الإشارة، فيحصل له مقصوده، واليوم يسمعون منا الكلام ولا يفهمونه، وكلام الإشارة لا نسمح به كل حين، كان الشيخ عبداللَّه العيدروس يقول، كان في تريم أُسُودٌ تَنْهَم فذهبوا وما بقي اليوم إلا هذا الأسد النهام، يعني نفسه، وقد كان في القرن التاسع، فما بالك اليوم في القرن الثاني عشر، وإذا حضر مجَالِسَنا العامَّةُ والصغار، لا نرغب في الكلام، خوفاً من أن يسمعوا كلاماً لم يفهموه فينقلونه على غير المعنى الذي أردناه، ومن كان ولابد ناقلاً شيئاً فلينقل أيضاً سببه الذي حصل من أجله الكلام، وقد قال لنا بعض أصحابنا، إذا تكلمتم في المجلس، فذاك أحب إلينا من قراءة الكتب، فقلنا له، نحن أحب إلينا قراءة الكتب من الكلام، لأن في الكلام زيادة ونقصاً، ولا نسلم فيه من الخطأ غالباً، والكتب أصدق، وإن كان فيها شئ فهو على المصنف، وهو المسئول عنه، وأما كلامنا فنحن المسئولون عنه، فالقراءة في الكتب أسلم لنا من الكلام
أقول، قوله رضي اللَّه عنه، كان الشيخ عبداللَّه الخ، فافهم الإشارة أن سيدنا نفع اللَّه به عنا بذلك نفسه في وقته، وَوَرَّى بإسناد القول إلى الشيخ عبداللَّه نفع اللَّه بهما
(١/٢٣)
اعتناؤه بمن تعلق به نفع الله به
وقد قال سيدنا رضي اللَّه عنه، إنا لا نترك ولا ندع المتصل بنا ومرة قال، المتمسك بنا، سواء كان دويلاً أو جديداً، والتمسك إنما هو من الطالب، ومرة قال، من مَسَكْناه لا نُسَيّبه، وإن هو سيّب، أصل أنا نمسكه، ومن لم نمسكه فإنا لا نحب كثرة التحمل، ومرة قال، من تعلق بنا، ووضعنا عليه نظرنا لم نُفْلته، ولم نَدَعْه، وإن بَعُدَ عَنَّا، ولكن ما لم نطرح عليه النظر، فإنا لا نحب كثرة التحمل، وعلى هذا جرت عادة سلفنا من السادة، أن من تعلق بهم لم يتركوه، ويكون مقتدياً بمن تعلق به منهم فيما يقدر والباقي يحمله عنه، وقد قال الشيخ عمر المحضار، نرد موسومتنا ولو بالصين أقول، وفي ذلك أيضاً تورية منه رضي اللَّه عنه، وإنما عنا بالمقالة هذه نفسه الشريفة، كما ورى بها في قصتنا التي وقعت لنا في البحر، لما حكيتُ له بها قال، قال الشيخ عمر المحضار، نرد موسومتنا ولو بالصين، والقصة المشار إليها، أني في وصولي إليه في شعبان من سنة خمس عشرة ومائة وألف، أصابنا في البحر في (غبة قمر) طوفان عظيم، ونحن في سنبوق صغير، كل الذي فيه سبعة أشخاص، وصار الماء يدخل من جوانبه وجعلوا يبكون، فقرأت أبياتاً من قصيدة لسيدنا نفع اللَّه به (نادي المهاجر صفي اللَّه) إلى قوله (بجَدِّكم وبكم تنجاب، سحب البليات والضر) فعند ذلك أخذني النوم فقمت، فرأيت كأني واثنين معي نمشي في المعلاة، مقبرة مكة المشرفة، ونحن نستعجل في المشي، يقال لنا، إن هناك السيد عبداللَّه الحداد جالس، وإنه في آخر المجلس يريد القيام، فتعجل المشي لتلحق عليه، فمررنا بقبر سيدتنا خديجة الكبرى رضي اللَّه عنها، فزرت زيارة مطولة، ثم سرت ولحقت سيدي في مجلسه، فقبلت يده وحصل لي سرور عظيم، وبكاء كثير، فانتبهت وإذا أهل السنبوق في ضحك وأنس، وقد ذهب عنهم الطوفان، وإذا أحدهم يقول، يا شيخ ادع اللَّه أن يرزقنا حُلاً يعني
(١/٢٤)
خصاراً، قلت، ما هو إلا من البحر، فصيدوا لكم بمجرار قالوا، ما يمكننا ذلك، وإذا بسمكة كبيرة عليها لون الخضرة، قد ظفرت في المركب فوضعوا عليها ثلاث قواصر حتى ركدت، فبقينا كل يوم نطبخ منها سبعة قدور، إلى أن وصلنا سيحوت، ثم إني أخبرت سيدي بهذه الوقائع كلها فتعجب وقال، سبحان اللَّه، وذكر كلمة الشيخ عمر المذكور آنفاً، انتهى ما أردنا ذكره، مما يتعلق بنقل الكلام
ثم الآن نبتدي بالنقل على ما سنح، أول ذلك مما يتعلق بالنية، لأنها أساس البناء وكل عمل يتبعها ،
قال رضي اللَّه عنه، اعمل للَّه على قدر همتك ونيتك، فإن الأجر على قدر الهمة والنية لا على قدر العمل، فإن خزائنه تعالى مملوءة عبادة، فإذا كان المَلَكُ الواحد من الملائكة، من قَبْل خلق الدنيا إلى يوم القيامة في سجدة، وآخَر في ركعة، ونعَّمهم بذكره، كما هو معلوم من أحوالهم، فما قدر عملك فإنما هو بالنية، فإن اللَّه تعالى شكر للضفدع حيث حملت في فيها ماء لتطفئ نار النمرود عن إبراهيم عليه السلام، فقيل لها، أتقدرين على طفئها، قالت، هذا حد قدري، فنهى الشرعُ عن قتلها، والوزغ حيث جعل ينفخ فيها، وقال أريد أن أظهر له الشماتة، ذمَّه اللَّه جداً حتى رغب الشرع في قتله
وقال رضي اللَّه عنه، رب قليل كَثَّرته النية، ورب كثير قللته النية
وقال رضي اللَّه عنه، كل عمل يعمله الإنسان للَّه، يعلم من نفسه أنه لم يعمله إلا للَّه فلا عليه بأس من خواطر السوء
وقال رضي اللَّه عنه، من ادعى إن له نية صالحة، فانظر إلى عمله، فكل عمل يدل على النية فإن صلح عمله دل على صلاح نيته، وإن كان فاسداً دل على فساد نيته، وقال، إذا عملتَ خيراً فانو العود إليه، فإن لم يتفق لك العود فتثاب على نيتك، وكذلك إن لم تكن قد عملته فانوه
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه لم يُعِن الشخص إذا نوى فعل خير حتى يشرع فيه
(١/٢٥)
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه لا ينظر إلاّ إلى هَمِّ الإنسان ونيته، فمن كان همه للَّه، وإن كانت أفعاله على خلاف ذلك، فيوشك أن تتبع الهَمَّ، ومن كان يظلم ويعصي، وهمه المعاصي ويتلفظ بالذكر، فلسانه حجة عليه، فانظر إلى الرجل من الصالحين، كأن قائلاً يقول له من قِبَلِ اللَّه، أعطني قلبك وهمك، واترك جوارحك وظاهر عملك، فلا يمكث أن تتبعه جملته، فمن تعلقت همته باللَّه، وإن كان غير مرضي العمل في جوارحه، فإنها تصلح ولا بد، ومن كان عمله في الظاهر طاعة، وهمه خلاف ذلك تتبعه الجوارح لا محالة، ولهذا قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم))
وقال رضي اللَّه عنه، المخطئ في الطاعة لا يؤاخذ، لأن اللَّه رفع عنه الخطأ، وهو كفاعلها على وجهها، بل يثاب على قصده، والمخطئ في المعصية كالعاصي ويأثم على قصده، لأن المدار على القصد لا على نفس العمل
وقال رضي اللَّه عنه، ما أُمِرْتَ أن تصلي وثوبك طاهر، بل أن تصلي وتعتقد أنه طاهر، وإنك غير متعبد بما هو في نفسه حلال، بل ما هو في اعتقادك حلال
وقال رضي اللَّه عنه، من لم تَصْفُ له الطاعات، لم تصح له نية في المباحات
وقال رضي اللَّه عنه، كلامك ثمرتك، فانظر هل هو خبيث أم طيب، فأنت كذلك، وهو جزء منك، فالوعاء الطيب ينضح طيباً، وضده بضده، وكذلك النخلة والشجرة الطيبة تثمر طيباً، والخبيثة تثمر خبيثاً، ( كل إناء ينضح بما فيه ) ،، {وَالبَلَدُ الطِّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّه، وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلا نَكِداً }
(١/٢٦)
وقال رضي اللَّه عنه، الفهم من جانبين، فهم يحصل من العلم، وفهم يحصل من العمل، والعلوم كثيرة، لا يحتاج الإنسان إلى العمل بجميعها، بل ببعضها كالعبادات، وأيضًا لا يحتاج إلى العمل بكل العبادات، والذي يخصه العمل به منها قليل جداً، وما لا يحتاج أن يعمل به كالعادات، فينوي أنه إن عمله أن يحسن فيه، ليحصل له ثواب النية
ولما شرح السيد الجليل الحبيب أحمد بن زين الحبشي القصيدة العينية، وتأخر إتمامه، فقال سيدنا، لو لم يظهره قبل تمامه، لتيسر عليه وأتمه سريعاً، وفي الحديث، (( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ))، فقلت له، هل تخلف إتمام "الفصول العلمية" لهذا السبب، حيث نويتم أن لا تظهروها حتى تتم أربعين، أي فصلاً، فأظهرتوها قبل ذلك، فلم تتم، فقال، ليس تأخر إتمامها من هذا السبب، لأنا وإن نوينا أن لا نظهرها إلا بعد تمام الأربعين، فإنا إنما أظهرناها بنية، وأيضاً كل فصل بمنزلة كتاب، لأنه معنى مستقل غير معنى الفصل الآخر، وأيضاً إنما هي واردات، فمتى ورد شئ أثبتناه، إلا أن هذا الزمان ليس أهله أهلاً للواردات، فبهذا السبب توقفَتْ فيه، فلم يرد منها شئ، ونحن أعلم بأهل جهتنا منك، فإنهم غافلون عن كلامنا، وليس نرى عند أحد منهم شيئاً، ومن كان معه منه شئ، فربما أخذه ولم يفهمه، وسكت ولم يسأل عنه
(١/٢٧)
ولما عزم رضي اللَّه عنه على إتمام "الفصول العلمية"، وذلك من فصل الاستقامة وتمامه يوم ثامن عشر صفر سنة ثلاثين بعد المائة والألف، قال، أين نسختك من كتاب "الفصول العلمية" نشوفها، قلت، البارحة استعاره السيد فلان، وسميته له، فقال، ما يعرفه، خذه منه بلا جفاء، ولا تخبره إنا نريد نتمه، وقل له، لا تطالع فيه، واجعل مطالعتك في الديوان، فإنهم أودعوا فيه أسراراً وفوائد لا تكون في غيره، ونحن هذه الأشياء قامت علينا بتعب واجتهاد كثير، وهؤلاء بغوها ألاّ بلاش من غير اجتهاد ولا تعب، ما يريدونها حتى بطريق العدل والإنصاف، ولو طالعوا كتاباً واحداً من كتبنا وأمعنوا فيه النظر لكفاهم
وقال رضي اللَّه عنه، خذ من الطاعة قدراً لا تمِلَّ وتضجر منه بعد ذلك، فإن القلب مادام وسخاً لا يستلذ الطاعة، فإياك أن تكثر منها أولاً مادام كذلك، فإذا تنور واستلذ بها، فخذ منها على قدره
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان لا يصلحون للاستعانة على فعل خير، ولا على ترك شر، هذا إجمال الأمور، وتفصيلها يعرفه الإنسان من نفسه بالتجربة
وقال رضي اللَّه عنه، راحت أعمار الناس بلا شئ، وسيبوا كل شئ، وادعوا كل شيء، وفاتهم كل شئ
وقال، هذا الزمان أهله كثيري العجائب، قليلي الغرائب، كثيري المثالب، قليلي المناقب
وقال رضي اللَّه عنه، إنا لما رأينا حال الزمان وتغيره، عقدنا عقداً أن لا نكون تحت أحد، ولا يكون أحد تحتنا، إلا أن نأخذه بسياسة العلم والطريقة، لأن ذلك يسعه أو يخرج المهدي، فيكتفوا به منا إن أدركَنَا، قال، وقد قال بعضهم لرجل جاء يطلب منه الطريق، لا، بعدُ، فإني لم أر قلبي مجتمعاً عليك
(١/٢٨)
وقال رضي اللَّه عنه، الناس يحسبون أنا ندعو إلى الطريق الخاصة وليس كذلك، لأن من كان عند الضيقة، لا نطرب عليه اطلع إلى الغيلة، بل ننزل نفتح له الضيقة، ثم نطلعه، وذلك لأنا لم نر من يقوم بالدعوة العامة، ولو رأينا ذلك وعلمنا أن فيه كفاية لكان، إن كان عندنا شئ من الطريق الخاصة فهي مطوية، وإن دعونا أحداً مخصوصاً إلى طريق مخصوص، ونرى بعض الناس يدعون إلى الطريق العامة، ونحن وإياهم عليها، ولكن دَعْوتُهُم إلى مجرد العلم، ونحن ندعو إلى الخوف من اللَّه والخشية والعمل الخالص، ونحن مع أهل الزمان كصاحب الحمار الشيبة ينخسه كل ساعة إلى أن يُقَطِّع ظهره من الحك، ولا يسير
وفي مجلس آخر قال، لا تظنوا أنا على الطريق الخاصة أبداً، لقلة أو عدم من يطلبها بصدق، وإنما نحن على الطريق العامة، طريقة أصحاب اليمين، وما يدريك لأن هذه طريق إليها، لأن الطريق الخاصة قيل إنها رفعت، فإن كان قد رفعت فذاك، وإلا فهي مطوية وإن وجدت، ولكنا لو رأينا فقيهين ورعين لهما ديانة وأمانة، وقاما بإرشاد الناس، ويأمران بالمعروف، وينهيان عن المنكر، ربما تكلمنا بشيء من الطريق الخاصة، مع من هو أهل لذلك للتنفس والتروح
(١/٢٩)
وقال رضي اللَّه عنه يوم الجمعة ثامن عشر رمضان سنة ١١٢٨ ثمان وعشرين ومائة وألف، اعمل في هذا الزمان من الخير ما لا يشق عليك، ويمكنك المداومة عليه، فقليل دائم خير من كثير منقطع، واشكر على القليل يعطك اللَّه الكثير، ولا تنظر مثل أحوال بِشْرٍ والفُضيل وأمثالهما، فإن هؤلاء حتى الصحابة رضي اللَّه عنهم لم يعملوا بمثل عملهم، لكن معهم نور النبوة، وقد سئل بعضهم عن ذلك، فقال، كان الصحابة أكثر إيماناً، وكان التابعون أكثر أعمالاً، وأين زمانك اليوم من زمانهم، فإنك في القرن الثاني عشر، ولو بعث اليوم من هؤلاء واحد لتعجب وقال، ما ظننا أن الوقت يمتد قبل قيام الساعة إلى الآن والزمان يتناقص، من ذلك الوقت إلى الآن، ولما رأينا الزمان يتناقص، وأثر النقصان ظاهر على أهله، بنينا أمرنا في الابتداء على ثلاثة أشياء، الأول، أن لا نتحكم لأحد حتى نرى فيه أهلية التحكيم، فلهذا صحبنا كثيراً من مشايخنا من غير أن نتحكم لأحد، بل صحبة مجردة كما هي عادة السلف، صحبة بلا تحكيم كعادة الحسن البصري وغيره، كما يقال صحب فلاناً ولقي فلاناً، والثاني، أن لا نحكِّم إلا من نراه أهلاً، فإذا رأيناه متأهلاً لذلك، وألقى إلينا نفسه منطرحاً حَكَّمناه على مقتضى حاله، والثالث، أن لا نفيد ولا نستفيد إلا من متأهل للإفادة والاستفادة، والناس إذا سمعوا بأحوال الصالحين، يظنون أنهم يطلعون على الغيب، فمتى أرادوا كاشفوا الناس بخواطرهم، ويقال، الأنبياء يعلمون الغيب من أكثر الوجوه، والأولياء يعلمونه من بعض الوجوه، ولا يعلم الغيب كله إلا اللَّه ،{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن ِفي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ}، { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}
وقال رضي اللَّه عنه، علوم الغيب تتفرع إلى أمور كثيرة، وعلم الغيب المطلق هو للَّه خاصة
(١/٣٠)
وقال رضي اللَّه عنه، كلما بَعُدَ ما أخبر به الأولياء من المغيبات، كان ذلك أعظم للكشف
أقول، وقد رأينا مما أخبر به سيدنا نفع اللَّه به شيئاً ما تبين إلا بعد أربع سنين، وشيئاً بعد تسع سنين، وشيئاً بعد أربعين سنة، وغير ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، أخبرنا رجل عن أبيه، أنه قال، إذا مات فلان أي سيدنا بقي الناس يضرب جباههم بعضها ببعض، فقلنا، لا، إن شاء اللَّه، وليس هذا الظن باللَّه، بل الظن باللَّه سبحانه أنه إذا راح واحد، خلفه بدل منه، قدم على قدم، إلى خروج المهدي، ونزول عيسى عليه السلام
أقول، وفي ذلك رائحة من معنى قوله رضي اللَّه عنه، عندنا أمانة لا يحملها إلا المهدي، ومرة قال، أو أربعون من أصحابنا، ومرة قال، أو ستون، ومرة قال، أَخَذْنا من الكتاب والسنة ما لا يحمله إلا المهدي، وهكذا كل من بلغ رتبة الكمال، ومرة قال، عندنا من الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر أمانة لا يحملها إلا المهدي، صدر منه هذا الكلام متفرقاً في مجالس متعددة
وذكر رضي اللَّه عنه في سند سلسلة إلباسه الذي طلبه السيد عبداللَّه بروم (من أهل الشحر)، ولنا بحمد اللَّه منه أي العيدروس يد باطنة في واقعة عظيمة، بل وقائع متعددة، ولعل الواقعة هذه هي التي تروى عن السيد العارف علي بن عبداللَّه العيدروس، أن سيدنا الحبيب نفع اللَّه به زار التربة مرةً وَحْدَهُ، فلما أتى إلى ضريح سيدي عبداللَّه العيدروس بن أبي بكر رضي اللَّه عنه، رآه جالساً خارج القبر وداخل التابوت، وأنه صافحه وأعطاه وديعة، وأفهم هذا أنه محمول عنه، لا عن غيره للمهدي تتفرق عنه في المذكورين، حتى تجتمع كلها للمهدي، ولعلها مقام القطبية، والدعوة إلى اللَّه، وتجديد الدين، واللَّه أعلم
(١/٣١)
وقال رضي اللَّه عنه، لا تصلح الخلوة والرياضة في هذا الزمان، لعدم شروطهما فيه، كأكل الحلال وغير ذلك، ولكن من بنى أمره فيه على ملازمة الفرائض، وترك المحرمات، وما استطاع من نوافل، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإعانة ضعيف، وإحسان إلى محتاج أو إقامة بمؤنته، وما شاكل ذلك، وثبت عليه حصل له ما حصل لأولئك برياضاتهم وخلواتهم، وأدرك ما فاته منها
وسألته، ما السبب في استقواء الشهوات في هذا الزمان أكثر من الزمن السابق، فقال رضي اللَّه عنه، لأن أهل الزمن السابق كانوا أقوى يقيناً وأكثر حلالاً وأقرب عهداً بالنبوة
وقلت له، أي عمل يعمل في تقوية القلب، كعمل الشهوات في تقوية النفس؟، فقال رضي اللَّه عنه، اليقين الكامل، فإن النفس لا تترك الشهوات إلا لخوف مزعج، أو شوق مقلق
وقال رضي اللَّه عنه في بعض مكاتباته، إنا نسمح عند المذاكرة والمشافهة، بالشيء من هذا العلم، وإن كان دقيقاً ويحتاج إلى طول كلام، ولا نسمح بمثله في الكتب والمكاتبات، لأن المذاكرة إنما يعقلها ويعيها من هو من أهلها، ومن ليس منهم فعارض يعرض له، وشئ يمر به لا يبقى في يده منه شئ، وهذا من التأييد الذي أيد اللَّه به هذه الطائفة، ولا هكذا ما يرسم في الدفاتر، فإنه عرضة للبر والفاجر، فافقه
(١/٣٢)
وقد أخبرني الأخ الأكرم عوض بن صَبَّاح، وكان له فيما سمعت في خدمة سيدنا نحو سبعين سنة، قال، زرنا في قديم الزمن مع الحبيب التربةَ، فلما فرغنا من الزيارة، وبعد زيارة أهله، جلس على الدكة تحت قبة الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه التي عند بابها النجدي، فتكلم علينا رضي اللَّه عنه بكلام جزل، ثم قال، أتظنون أنا مع أهل الزمان في مكان واحد يسمعون كلامنا، هيهات، بل بيننا وبينهم بحر عميق، واسع الطرفين، نحن في طرفه هذا، وهم في الطرف الآخر، ومَثَلُنا معهم كمثل رجل جاء من بلد بعيدة لا تعرف، وفيها من كل شيء من الأشياء النفيسة الغالية القيمة، وجاء معه منها بشيء كثير، وأراد أهل الزمان أن يشتروا منه شيئاً يسيراً جداً، فأخرج لهم من دنيّ القماش، فلم يوصلوا فيه قيمة، فأمسك على بقية ما معه من المليح، حيث لم يعطُوا في الدني قيمة، فاللَّه المستعان انتهى
وقال رضي اللَّه عنه، نحن مع أهل الزمان في العبادات والعادات، كالغريب الذي جاء إلى بلد لا يعرفها فرأى أمراً لا يعرفه، فسأل عنه فأُخبر به
وقال رضي اللَّه عنه، علم الشريعة إذا عمل به يكون للعلم اللدني كالوعاء، فإن من هو من أهله يعمل به على مقتضى الشرع، وإن اطلع به على أمور لم يطالب بها شرعاً، كمن يُدعى إلى طعام وكشف له أنه حرام، فيجيب تبعاً لأمر الشرع، ولا يأكل فيجمع بين ذلك وبين جبر خاطره
وقد قلت مرة لسيدنا نفع اللَّه به في معرض الكلام، إن في الكشف عن شأن الزاد الحرام لفائدة، ليَسلم من أكله، فقال، فإذا كشف له عنه أيجلس بلا أكل
(١/٣٣)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أحس العبد في قلبه بداعية للطاعة، وبغض للمعاصي، فلا يخلو قلبه من نور، وبه اهتدى إلى ذلك كالسراج في البيت المظلم، إذ لولاه لم يهتد إلى رؤية أدنى شئ عنده، ثم إنه يظهر بعد تمكنه في الباطن على الظاهر، كما حكى، إن حجَّاماً دعا جماعةً من الصالحين على طعام حرام، فلم تمتد إليه أيديهم، فعالجوا أن يأكلوا منه، فلم يستطيعوا فخرجوا، فقال بعضهم لبعض، رأيته دماً عبيطاً، وقال آخر منهم، رأيته ناراً، وهذا أكمل من الأول، إذ رآه على حقيقته وهي النار
وقال رضي اللَّه عنه، إذا سمعت من بعض الأولياء شيئاً من الخوارق، فإذا عجز عنها العقل يسعها الإيمان، وابق على تنزيهك لربك، وانسب ذلك إلى القدرة ودعوى الولاية يقابل بالإنكار، فيتعين على الولي السكوت عن دعوى الولاية، وإنما الذي يتعين أن يُدَّعى النبوةُ، لأنه مطالب بالتبليغ لها، ولا كذلك الولاية فلا يدعيها أحد منهم، إلا في حالة الغلبة
وقال رضي اللَّه عنه، الولاية من سر النبوة، إلا أن الولاية لا تبقى مع النبوة، فينطوي سر الولاية في سر النبوة، حتى لا يبقى له ظهور إلا في عالم الظهور
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، درجة الولاية تحت درجة النبوة، وقد يعطى الإنسان من هذا المقام ما يعينه على الإنابة إلى اللَّه، والزهد في الدنيا، وقد يعطى منه ما يرى بسببه الطريق إلى اللَّه، وإن لم ير السالكين عليها، وأحدهم يعطى ما يرى به أقدام السائرين، فيسير على آثارهم، ومنهم من يعطى ما يرى به آثار أقدامهم في الطريق، وكل مرتبة أعلى من مرتبة، فينبغي أن يكون الإنسان على شئ من هذه المراتب، وإن قدر أن يكون على الأعلى فالأعلى، ولا يمكث أعمى لا يدري ذهابه إلى أين، وكلما قَرُبَ من التشبه بهم، وتسَيّر بِسِيَرِهم فَحَسَنٌ، ويرجى أن يلحق بهم، أو كما قال
(١/٣٤)
وقال رضي اللَّه عنه، كل رتبة من رتب النبوة تحتها رتبة من رتب الولاية، وقد يكون ما مع الإنسان إلا خمس رتب، فيحكمها ويدعو إليها في الظاهر، وقد يتحقق بها في الباطن، فإذا أحكم الرتب كلها وتحقق بها، صار هو القطب، وقد قال بعضهم، أعطيت مقام القطبية، ولكني إسْتَنَبْتُ فيها غيري
ورأيت بخط السيد العارف أحمد بن زين الحبشي رحمه اللَّه، قال، حضرت عند سيدنا الحبيب عبداللَّه الحداد نفع اللَّه به، فسأله رجل، ما أجزاء الولاية؟، فقال له في الحال - أي من غير تفكر -، أربعون جزءاً، فقال، مكتسبة أو موهوبة؟، فقال، كلها مكتسبة إلا جزءاً واحداً، فإذا وصل إليه اندمجت كلها فيه، وصارت كلها حلقة ملقاة في فلاة انتهى
وأنشدتُ يوماً بين يدي سيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به،بأمره لي أن أنشد بقصيدته التي أولها،
سقى اللَّه ربعاً حل فيه الذي أهوى ومَنْ حبهم والقرب كالمن والسلوى
ثم بعدما فرغت، قُدِّم طعام لمن حضر، فقال سيدنا حينئذٍ، ما يكون الرجل عندهم رجلاً حتى يكون فيه من كل جزءٍ من أجزاء الإنسانية نصيب، وينقص منه جزء من كل جزء من أجزاء النفس، ويختلف الناس في ذلك، كل على حسب مرتبته ومنزلته عند اللَّه تعالى، فالأولياء في ذلك مختلفون، حتى ينتهي إلى مرتبة القطب، فهو أكمل في ذلك من غيره، ولا أحد استوفى من ذلك أكثر من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وكلما كمل العبد صارت الغلبة للأعمال الروحانية، وانغمرت فيها أمور النفس، حتى يتوهم فقدها أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، على قدر خصوصية الإنسان، تَلطُف كثافاتُ نفسه، والانتفاع الأعظم في قوة الاعتقاد
وقال رضي اللَّه عنه، لا يعرفُ منازعَ العلوم، ويعمل بما علم، إلا ولي أو من هو سائر على سير الأولياء
(١/٣٥)
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، إن الإنسان إذا نزل من درجة الإنسانية بأن غلب عليه الهوى والشهوة جداً، بحيث تذهب منه المروءة فيصير حيواناً بحسب ما غلب عليه، لأن كل حيوان تغلب عليه صفة من هذه الصفات، يُعرف بها، ومن غلبت عليه واحدة منها من بني آدم نسب بسببها إلى ذلك الحيوان الموصوف بها، فإذا أراد الوصول إلى اللَّه، يحتاج إلى مجاهدة، حتى يصل إلى درجة الإنسانية أولاً، وهي ما يختص بها الإنسان دون بقية الحيوانات، ثم يجاهد أيضاً حتى يصل إليه أي إلى اللَّه تعالى
وقال رضي اللَّه عنه، من ازداد في دينه بكثرة الطاعات وقلة المباحات، وربما كان المباح بفعلهم طاعة وزُهداً في الدنيا، فمن كان كذلك فقد ارتقى من درجة الإيمان العامة إلى الخاصة، ومثله كمثل طير معلق في قفص وقد خرج منه ولم يبق إلا رجلاه فيه، أو على الدرجة العامة، إذا لم يترك لازماً، ولم يفعل محظوراً، ولكن لم يمعن فيما يحمده الشرع كالأول، ولا فعل محرماً أصالة، فهو متوسط، وهو الغالب من الناس، وإن نزل عن هذه المرتبة، بأن جعل المباح حراماً، وإن لم يقصر في الواجب، كمن ينظر إلى مَحْرم بشهوة ونحو ذلك، فهذا طبعه فاسد، انحط عن الطبيعة العامة، إذ لم يقيد اللَّه ورسولُه إباحة ذلك على عدمها، حيث كان لا يقتضيه الطبع، فمثال هذا يجب عليه أن يرقّي نفسه، إما برياضة، أو عزلة، أو ارتقاب أو نحو ذلك، حتى يرجع إلى الوسط وإن قدر بعد ذلك على الترقي فلا يَتْرُك
وقال رضي اللَّه عنه، طرق التصوف وإن تعددت فهي طريقة واحدة، وهي مجاهدة النفس، والخروج من كل ما تدعو إليه، وهذا أمر عسر
(١/٣٦)
وقال رضي اللَّه عنه، إنا لم نحمل الناس على طريقة المقربين، ولم نكلف أن نحملهم عليها كثيراً، إن حملناهم حملناهم على طريقة أصحاب اليمين، لأن الناس كلما لهم ينكصون قليلاً قليلاً، ينكصون أولاً عن مقام الإحسان، ثم عن مقام الإيمان، ثم هم في هذا الزمان، أكثرهم يكاد يخرج عن دائرة الإسلام والعياذ باللَّه، حتى قال بعض الشاطحين، لما قيل له ادع للمسلمين، أخاف ما عاد أحد من المسلمين، وهذا كلام في غاية الخطر، لأن أثرَ ظاهرِ الإسلام ظاهرٌ عليهم، وقد قال الإمام أبوبكر الباقلاني، إن إدخال ألف كافر في الإسلام بشبهة إسلام واحدة، أسلم من تكفير مسلم واحد، بألف شبهة كفر
وقال رضي اللَّه عنه، إذا حصلت العناية الإلهية، حصل السلوك كسقي السيل، ودون ذلك كسقي الآبار، وفي الحقيقة كل عمل إنما يحصل بالعناية الإلهية، قال بعضهم، لا بد في كل عمل من الجذب، ولولاه ما أمكن ذلك
(١/٣٧)
وذكر رضي اللَّه عنه الأعمال واحتياج الإنسان إلى فعل الخير، وذلك يوم السبت خامس عشر شهر رمضان سنة ١١٢٤، فقال رضي اللَّه عنه، ( الجَدُّ في الجِدِّ والحرمان في الكسل ) وأن اللَّه تعالى لا يترك المؤمن في الخير من إحدى همتين، إما همة العادة، أو همة الفتوح، فهمة العادة أن يكون يعتاد شيئاً من الخير، فهو يفعله ويهتم به لاعتياده له، والثانية يعرفها من حصلت له وذاقها، وقد جاء في الحديث، (( إن الخير عادة))، فقلت، إن همة العادة ناقصة بالنسبة إلى الأخرى، فقال رضي اللَّه عنه، لا، إذا لم تحصل لك تلك فلا تترك نفسك، بل كلفها واحملها على فعل الخير بالتكلف لتعتاده، وقد يحصل للإنسان شيء من همة الفتوح، فإذا باشر مفسداتها فسدت، فقلت، وما مفسداتها؟، فقال، مجالسة الغافلين، وترك الذكر، وفضول الكلام، وأكل الحرام، والكذب، وأمثال هذه، ولها أركان، إن حصلت استقامت وثبتت، وإلا ذهبت وانمحقت، فقلت، وما ذاك؟، فقال، أكل الحلال، ومجالسة الصالحين، والذكر، وترك الخوض فيما لا يعني، أو قال فيما لا ينبغي
وقال رضي اللَّه عنه، وفي الغالب إن اللَّه سبحانه وتعالى إذا أجرى عبداً على عادة، أنه يمشيه عليها لأن عادة اللَّه جارية
وقرأت عند سيدنا يوماً قصيدته التي أولها،
إن كان هذا الذي أكابده يبقى عليَّ فلست أصطبر
فلما وصلت قوله ،
ما كادت الفانيات توقفني إلا زوته العلوم والفِكَرُ
فقال رضي اللَّه عنه، العلوم الحقيقية لا تفهم وتُعرف بالشرح، بل من وصلها عرفها، كتعليم الصغير الوقاع، فإنه لا يعرفه حتى يكبر، وأصل وضعها مع ذلك خواطر تخطر لهم
(١/٣٨)
ورأيت بخط الشيخ عبداللَّه بن سعيد العمودي ما لفظه، قال، كنت ذات يوم بمسجد الهجيرة عند سيدي عبداللَّه الحداد، وذلك في صفر من سنة ١٠٩٥ عشية ذلك اليوم بعد الدرس، وهو جالس على العادة في ممشى البركة إلى المسجد، وأنا في الضاحي، وفي نفسي يحوك أن يدعوني، إذ نادى عليَّ وعنده شريف وخادم، إذ فرقهما كُلاًّ في حاجة، وأقبل عليَّ بالكلام وقال، كم ألسُنُ الدعوة؟، فقلت، اللَّه ورسوله وأنتم أعلم، فقال، ابتداءً - أي من غير تفكر - خمسٌ، وهي، أن تدعو العامة بلسان الشريعة إلى الشريعة، وأن تدعو أهل الشريعة بلسان الطريقة إلى الطريقة، وأن تدعو أهل الطريقة بلسان الحقيقة إلى الحقيقة، وأن تدعو أهل الحقيقة بلسان الحق إلى الحق، وأن تدعو أهل الحق بلسان الحق إلى الحق، قال، وهذه الأخيرة فتح علينا بها الآن
وقال رضي اللَّه عنه، إذا دعوت لأحد فادع له بالبركة والصلاح والهداية، فإذا وُجد الدين فلا معول على الدنيا، ولن تعدم من اللَّه الكفاية، فإن وُجِدَتْ معه فالحال تمام، ولا تنفع الدنيا إذا عدم الدين
(١/٣٩)
وقال رضي اللَّه عنه، يجب على من أراد الدخول في الطريق الخاصة، طريق أهل اللَّه أن يتفرغ عن الدنيا بقلبه وقالبه أولاً، وإنما يدخر قدر الحاجة بأمر آخر في النهاية آخراً، وإشغال الأوقات كلها بالذكر والطاعة، وحفظها كلها والإقبال على أمور الآخرة بالكلية، كل هذا من الطريق العامة، وهي المهيع الواسع الذي عليه السلف، وهو الذي يسع عامة المسلمين، وأما الخاصة فهي الفراغ عما سوى اللَّه في الظاهر والباطن، والتخلي عن الصفات المذمومة بتفصيلها، والتحلي بالمحمودة بتفصيلها، والعامة هي طريق أصحاب اليمين، والخاصة للمقربين، ولا ينالها قبل إحكام الأولى ولو عاش عمر نوح، ومن لا يحكم صلاته أو زكاته أو غير ذلك كما ينبغي، كيف يصل إلى الخاصة، بل هذا عَادَهُ خَلْف الباب، لم يصل إلى قرب الدخول، ولكن من أحكم العامة في هذا الزمان، بلغ ما بلغه الخاصة المقربون، لانقطاعها فيه، وعدم سالكيها، ومن يرجو المخلوقين ويتعلق بهم، أو يرجو نفعاً منهم، كيف يحصل له الترقي في مقامات اليقين، ومن تعلق بهم فقد ترك اليقين، وتعلق بالوَهْم، وفعلُ اللَّه هو اليقين والحقيقة، وأفعالهم هو الوهم، ولا هكذا ينبغي، بل ينبغي كما هو في قاعدة الفقه، أن يستصحب اليقين، ولو طرأ الوهم والشك لا يترك اليقين لأجله، ولهذا يكون المتعلق بهم خائباً في الغالب مع الذلة وشغل القلب، قال ذلك عشية يوم الاثنين وعشرون في المحرم سنة ١١٢٣
وقال رضي اللَّه عنه، الإنسان ضعيف، ولأجل ضعفه يتعلق بالتوهمات أكثر من تعلقه باليقينيات
(١/٤٠)
وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الثاني منها، فقال، دَرَكُ الأولياء أهل الإدراك صحيح من توجههم إلى اللَّه في تحصيل ما ينفع، ودفع ما يضر، وهم العمدة في تحصيل ذلك، لكن يكون هذا إذا كان المطلوبُ لهم أو قال الرعية، مستقيمين لما طلب منهم، مجتنبين لما نهوا عنه، وأما إذا خالفوا فلا يحصّل الأولياء لهم ذلك، كمن يطلب لبناً من ثور، فلا تكون الكرامة إلاّ مع الاستقامة، كيف يطلبون حقاً لأنفسهم، ويضيعون حق ربهم، وقد ذُكِر أن بعض الدول أراد دخول البلد في وقت الشيخ عمر المحضار، فلم يقدر إذ كانوا مستقيمين، وآخر في وقت الشيخ عبداللَّه العيدروس ثلاث مرات يطلب الدخول، فلم يُمَكَّن، ثم في الثالثة تلقاه الشيخ عبداللَّه، وقال له، إنك لا تدخلها الآن، وعادك تدخلها، فلما تغيروا بعد ذلك دخل عليهم فأشغلهم
وقال رضي اللَّه عنه، أهل البرزخ من الأولياء في حضرة اللَّه، فمن توجه إليهم توجهوا إليه
وقال رضي اللَّه عنه، أحياء الأجسام ما عاد ينفعون، بل أحياء الأرواح، لكونهم قريبين من الحضرة الإلهية
وقال رضي اللَّه عنه، الصالح الحي فيه خصوصية وبشرية، وربما غلبت إحداهما الأخرى، وخصوصاً في هذا الزمان تغلب البشرية، والميت ما فيه إلا الخصوصية فقط
(١/٤١)
وقال له رجل، أريد زيارتكم، فقال، إن شاء اللَّه إن لحقتمونا، وإلا فقبورنا تنوب مَنَابَنَا، فإن الأخيار إذا ماتوا لم تفقد منهم إلا أعيانهم وصُوَرهم، وأما حقائقهم فموجودة، فقيل له، اللَّه يمتع ببقائكم، فقال، وإلى متى يكون ذلك؟، قد دنت الأمور، وإذا رأى الإنسان الضعف، وأمارات الكبر، ظن أنه قرب أمره، ومرادنا عسى أن العيال يكبرون، عسى اللَّه أن يكون منهم نائب عنا، قال تعالى، { وَاجْعَلْ لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي }، ولو ناب عنا حتى أربعون رجلاً، وقد أخذنا عن كثيرين من المشايخ، لو عددناهم بلغوا مائة وأربعين
وقال رضي اللَّه عنه، يقال، في زيارة القبور، نُجْحٌ لِمَا تَعَسَّر من الأمور
وقال رضي اللَّه عنه، قاعدة، من كان في المرتبة، يعينه أهل زمانه كلهم، ويعينه الأولياء، الظاهر منهم والخامل، ولو بالدعاء، وأهل الدوائر ما يتسببون في أمر المعاش، إنما سببهم الإيمان والتقوى، وقد قيل للشيخ أبي مدين، إن أصحابك يتسببون لمعاشهم، وأنت ما تتسبب، فقال، إني تسببت بسبب خير من سببهم، قال اللَّه تعالى، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ }
وقال رضي اللَّه عنه، إن الإنسان ضعيف، إلا إن أَمَدَّه اللَّه بقوة وَسَلْطة وكل الأمور ينبغي أن يأخذ بأوساطها، لأن عن يمينك طريقاً وعن يسارك طريقاً، فإذا كنت على الوسط، إن ملت ملت إلى أحدهما، وإن خرجت منه خرجت إلى المزلة، إلا إن شككت في الأمر المطلوب، فخذ بما فيه من اليقين، كمن يشك أنه كريم أو بخيل، فليأخذ بالكرم يفعله أو كما قال
(١/٤٢)
وقال رضي اللَّه عنه، جعل اللَّه في الإنسان قابلية لكل شئ، لكونه يريد أن يجعله محلاً لخطابه، فلو لم يكن قابلاً لكل شئ لم يكن أهلاً لخطابه تعالى، وقد قال سبحانه، { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ } الآية، وقال تعالى، { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية
ولما جلس في الضيقة خارجاً لصلاة العصر، يوم الأحد سادس شوال سنة ١١٢٦، فأول ما تكلم به رضي اللَّه عنه حين جلس، استأذنه بعض الفقراء أن يعاود بعض السادة، فقال، كيف تروح وأنت صائم؟، تريد أن تحكي لهم أنك صائم، قال، ما أحاذره، قال لو لم يكن إلا علمهم بكونك صائماً، خل عملك إذا تعبت فيه يكون مستوراً، لعل اللَّه يقبله، وإلا راح التعب بلاش، ثم التفت إليَّ وقال، فلو كان لك عبد قائم لك بالخدمة لكرهت أن يُعلم الناس بأنه يخدمك، وللشيطان على الإنسان مداخل خفية، والرياء يجري فيه مجرى الدم، أما ترى يحيى بن معاذ الواعظ المشهور، وكان من كبار تلامذة أبي يزيد البسطامي، وكان يرقى للوعظ على المنبر، قال لجاريته، إذا جئتُ بغداد إنفتح لي الكلام في الوعظ، وكان يحضره الخلفاء والأمراء وأبناء الدنيا، وإذا كنتُ في غير بغداد لم يكن مثل ذلك، فقالت له، يا سيدي هذا بسبب الرياء، واللَّه سبحانه لا يأخذ العبد حتى تقوم عليه الحجة من عمله، بحيث لو بلغ هو رتبة القضاء، وقيل له، إقض أنت فيمن عمل هذا العمل، لقضى بما جوزي عليه، وإن لم يكن هو عمله، فقال فقير آخر، إني رأيت هذا في نفسي، وتيقنت إنه الرياء لأنه كان في شهر رمضان، إذا طلعت البلاد أحس نشاطاً، ولا يجيني نوم، مع أني ما أحب أن يعرفني أحد، ولو أحرمت بركعتين في الحاوي طرأ عليَّ النوم، حتى إني لا أتمهما إلاّ بشدة، فقال رضي اللَّه عنه، هو الرياء بعينه، واللَّه تعالى خلق جنة وجعل لها درجات، وخلق ناراً وجعل
(١/٤٣)
لها دركات، وقد حكم بأن يُمْلِيَ كل واحدة منهما، ولهذا اختلفت أحوال الناس في الرياء ونحوه، وفي الإخلاص كذلك، فليس إخلاص العامة، كإخلاص الخاصة، ولا إخلاص الخاصة، كإخلاص خاص الخواص، فكل طبقة من الناس لهم رياء، ولهم إخلاص، ويكون إخلاص قوم رياء قوم آخرين، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، وكان بعضهم قد صلى في الصف الأول نحو أربعين سنة، فتخلف يوماً حتى ضاق الصف الأول حتى لم يمكنه الصلاة إلا في الصف الأخير، فرأى في نفسه حياء، حيث خالف عادته فقضى صلاته في تلك المدة كلها
وسمعت المعلم باغريب، يستأذنه في بناء مسجد في نَخْلِهِ قرب مسيلة عِدِم، بعد ما خَرَّب السيل مسجداً كان به، فقال رضي اللَّه عنه له، إن كان نيتك في بنائه خالصة للَّه، ما نردك عن بنائه، وإن كان نيتك ما هي خالصة فلا تبنه، قال، بلى إن نيتي خالصة، قال، انظر لو بنيته وتعبت في بنائه، وصرفت فيه مالاً كثيراً، فلما تم لم ينسب إليك، إنما نسب لغيرك، فقيل مسجد فلان، واشتهر بذلك وأنت ما نسب إليك، ولم تذكر به في شيء، هل ترى نفسك تطيع لذلك؟، ففكر قليلاً، ثم قال، ما أرى نفسي مطيعة لذلك، فقال سيدنا له، اتركه فإن نيتك غير خالصة
(١/٤٤)
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الفقراء وقد استأذنه في صيام الاثنين والخميس، فقال، خذ نفسك بما سهل عليك، فقال، لو لم آخذ نفسي إلا بما سهل علي، ما فعلت شيئاً، فقال، خذ نفسك بما سهل عليك وأحكِمْه، ثم ترق إلى ما هو أعلى منه، وهكذا الأول فالأول، وترق من درجة إلى ما هو أعلى منها، ولو فعلت بعضاً من هذا وبعضاً من هذا لبقي محجوزاً ناقصاً، ولكنك تِمَّ الأول، ثم ارجع إلى الثاني، وهكذا وخذ من العمل ما تطيق ويمكنك المداومة عليه، ولا تكثر حتى تمل، فتفعله مع الملل والتكلف، فإن هذا وصف المنافقين، قال اللَّه تعالى، { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} فذمهم بالفعل مع الكسل، لا بعدم الفعل، ولا تقصر بحيث لا تعمل شيئاً، فإن اللَّه ما كلف العبد بشيء إلا وجعل له من المعونة أضعافه، ونحن وإن لم نحكم كل المقامات بالعمل، فنحكمها بالعلم ونعمل بعمل العامة، ونأخذ الناس بأعمال العامة، على ما سَهُلَ عليهم وتيسر أولاً، ثم نرقيهم ونأمرهم بما يناسبهم أولاً، ثم إلى أعلى منه، وبهذا السبب تَبِعَنا ناس كثير، أكثر ممن اتبع المشايخ ممن مضى، لأنا نعلم ضعف الناس وعجزهم، ولو كلفنا الناس أن يعملوا بما نعلم، أو قال، بما نريده منهم، لنفروا عنا بمرة، انظر إلى عمر بن عبدالعزيز لم يساعده زمانه على الكلام الذي قاله له ابنه عبدالملك، وهو في القرن الأول، أفيساعدنا على ذلك زماننا هذا ونحن في القرن الثاني عشر، ولو قلنا لأهل تريم، افعلوا كذا، ونأمرهم بما أردنا، لما جاءنا منهم واحد، وهذا هو الذي منعنا من الكلام في هذه العلوم، لأن الكلام فيها يؤيسهم، وهل تحاول الغزل المبلول إذا اشتبك بما تحاول به الحبال القوية من القوة، لا بل باللطف والسهولة، فخذ من العمل ما خف وسهل عليك، ثم ترق من شيء إلى شيء، فسيروا إلى اللَّه عرجاً ومكاسير
(١/٤٥)
وسُئل رضي اللَّه عنه عن معنى الترقي الذي يذكرونه؟، وبأي شيء هو؟، وما الذي يُبدأ به؟، فقال نفع اللَّه به، هو الترقي في أحكام الإسلام وحقائق الإيمان واليقين، ويحكمها شيئاً فشيئاً، فيبدأ بإحكام الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يمازحه، لئن تُرِد عشاك من سماء الدنيا، فإن حُجتك إلا على قدْرها، فإن سماء الدنيا حد حقائق الإيمان، وتحتها خزائن النيران، ولا تظنن أن أحداً له مع الحق كلام، إنما هم عبيده يعطيهم حقه، ويثني عليهم
وقال رضي اللَّه عنه، قد بطنت علومنا الظاهرة لعدم المتلقي لها، ما هو إنه ظهرت علومنا الباطنة، وهنا أقوام يتكلمون في علوم، لا نعدهم في العلماء أصلاً، ولا نعدها في العلم
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً أنكروا على بعض الصالحين، فقال، أقوام تجردوا من الدنيا وزهدوا فيها، وأقبلوا على اللَّه، وأخلصوا له الدين وانقطعوا عن الدنيا بقلوبهم، حتى ظهرت عليهم أمور غريبة، كيف يسوغ تكفيرهم، وقد قال الإمام أبوبكر الباقلاني، إن إدخال ألف كافر في الإسلام بشبهة إسلام واحدة، أسلم من تكفير مسلم واحد، بألف شبهة كُفر، وقد ذكر ابن عربي أنه لما استلم الحجر الأسود في الحج، خرجت من فيه لا إله إلا اللَّه كالسلك، فالتقمها الحجر إشارة إلى أنه هو العهد الذي أخذ عليه لما أداه
ورأيت بخط الحبيب علوي رحمه اللَّه تعالى ابن سيدنا الحبيب عبداللَّه نفع اللَّه به، قال، تكلم الوالد في المشورة وفي نفعها ومحمود عاقبتها حتى قال، ينبغي للإنسان أن يشاور كبيره حتى في قبره بعد موته انتهى
(١/٤٦)
وتكلم سيدنا في مشورة أهل الزمان، فقال، إن مشورتهم اليوم، إنما هي استفتاء فَأَفْتِه بما تراه من حيث العلم، فمن استشارك في حجة الإسلام مثلاً، فانظر له من حيث الاستطاعة وعدمها، وإن أمكنك السكوت ولا تشير على أحد بشيء فهو أحسن، لأن النيات اليوم معلولة، لعل مراده يتخلص من حجة الإسلام، ليصلح لأن يحج بالأجرة، وإن كان ولا بُدَّ فلا تشر إلا على من تَعْلم حاله، بأن يكون من أهل بلدك ولا يخفاك حاله، ولا تبحث عنه فتصير متجسساً، أَوَ يريد الإنسان أن يحمل ذنوب غيره؟، يكفيه أن يحمل ذنوب نفسه، وما مرادهم إذا استشاروا الصالحين إلا أنهم يعرّفونهم الطريق الأَنْسَب في أمور دنياهم فيشيرون بها عليهم لتنمو وتزيد، لا أن يعرِّفوهم الصواب وليتباركوا بمشورتهم ورأيهم، وأنا من عادتي لا أشير على أحد بمسير إلى بلاده، ولا بأمر من الأمور، إلا إن طلب المسير، قلت، ذلك صواب، وأوصيه بتقوى اللَّه تعالى والإشارات الباطنة غير هذه، لأن تلك أسرار لا يجوز إذاعتها وإطلاع الناس عليها، فمن أراد سفراً مثلاً فاستشارك، وعلمت أنه بعد شهر يموت أو يقع في شيء، أو يقع عليه شيء من الأمور، أفتخبره بذلك وتأمره بالجلوس من أجله؟، لا، ولم يفعله النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ولا الصحابة، وهم المكاشفون بالحقيقة، وأَحْرى بالكشف من غيرهم، وهي أمر خاص، لا يشار بها إلا على الخصوص، وأما الإشارات الظاهرة فهي مجرد فتاوي، وهي مذكورة في فتاوى العلماء، وقد استشار رجل بعض الصالحين في سفر، فقال له، إن سافرت هذا الوقت قُتِلْتَ وأُخِذَ مالك، فاستشار الشيخ عبدالقادر أي الجيلاني أيضاً، فقال له، تروح وتجيء سالماً، فقيل للشيخ عبدالقادر في كلام الأول، فقال، إن كشفه صحيح، وإني سألت اللَّه تعالى أن يحوله في النوم انتهى بلفظه ومعناه، وهو من جملة ما تكلم به في داره التي في البلاد ضحى يوم الجمعة غرة شعبان سنة ١١٢٤، قال، وإذا
(١/٤٧)
استشارنا إنسان في شيء، ورأيناه مائلاً إليه، أشرنا عليه به وزَيَّناه له ما لم يكن مخالفاً للشرع، فإن لم يظهر منه ميل أشرنا بما نراه
ورأيت بعض الفقراء استشاره في الحج مع والدته، وذلك في أول شهر رمضان من السنة المذكورة، وقد علم منه عدم الاستطاعة، فقال له، صلِّ معها صلاة الصبح آخر جمعة من رمضان في جماعة بحيث لا يراها الرجال، واجلس معها اذكر اللَّه حتى تطلع الشمس، ثم ليصلي كل منكما ركعتين، فذلك حجة وعمرة يكفيكما
وذكر رجلاً من السادة سافر إلى الهند بعد ما أشار عليه بالجلوس فقال نفع اللَّه به، محل المشورة الأشياء الاختيارية، وما عداها فهو فيه مضطر مقهور، بأن تعلق قلبه بأمر وجزم على فعله، فلا ينبغي أن تشير عليه بتركه، فإنك إن أشرت عليه خالفك، وإن أجاب فبكُرْهٍ وتكلفٍ
وقال رضي اللَّه عنه، إن أهل حضرموت عليهم دعوة ولي بلا شك، في مسير الهند، وإلا فأحدهم ما يصدِّق على اللَّه يشوف تريم، أي ثم لم ينشب أن رجع إليها، ثم قال، الخلق مكلوفين على ما خلقوا له، فإن الحق أراد بهم وأراد منهم، فالسعيد من وافق ما أراد به الحق وأراد منه، والشقي من اختلفت به الأمور، ثم قال لي، فاحفظ هذه الحكمة إن كنت حافظاً
وشكا إليه رجل من القاطنين في الحاوي، من حاله وسوء طبعه، فقال، ما عليك، الطين اليابس إذا سُقِيَ بالماء هو إلا يلين، وإنما الذي لا يلين بالماء الحجر
(١/٤٨)
وأتاه جماعة من السادة زائرين، فلما أرادوا مصافحته قام آخر غير شريف ليصافحه قبلهم، فقلت له، تأخر عنهم ليصافحوا أولاً، فأبى إلا أن يصافحه قبلهم، وسمع قولي له ومعالجتي معه، فلما أن صافحه قبض يده بيده اليسرى حتى صافحوا، ثم قال له، لِمَ تتقدم عليهم، وقد قدمهم اللَّه عليك وكان ذلك وهو خارج لصلاة الظهر، فلما دخل الضيقة بعد الصلاة، قال لي، إنما نحن قائمين للناس في مقام الرفق، فتعلم منا الرفق واللين، فقد شكا الناس من قوة طبعك، ونحن نعرف طباعكم، يا أهل تلك الجهة أنها قوية، فلا تتغلظ على أحد، قال اللَّه تعالى لنبيه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} الآية، وإذا رأيت أحداً يسيء الأدب، فإن كان معذوراً في ذلك، بأن كان غريباً لم يعرف الحال، أو بدويَّا فنحن نؤدبه، وإن كان غير معذور بأن كان متجريَّا فتكفيه القدرة
وقال رضي اللَّه عنه لأحد رجلين من الزوار، اجلس إلى الآخر، فقال رجل آخر ممن كان حاضراً مرحباً، فقال له لا تقل ذلك، أكان الكلام إليك؟، ثم قال نفع اللَّه به، إن أهل الزمان طائشة نفوسهم، فإذا طلبت من أحدهم أن يجيء ببدنه أدبر بقلبه، ولو جاء بالبدن عشرين مرة مع إدبار القلب ما نفعه ذلك، ولو جاء بالقلب مرة واحدة انتفع وإن أدبر ببدنه، ونحن ما نطلب من الناس أن يَجُوا بمجرد أبدانهم، إنما يَطْلُب ذلك الملوك، فيجون طوعاً وكرهاً، وإنما نطلب نحن القلوب لا الأبدان، وأنشَدَنا هذين البيتين للإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى ،
فقل لأناس يتمنون أن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقل للذي أُبقيَ من بعد من مضى تهيَّأ لأخرى مثلها فكأن قَدِ
(١/٤٩)
أقول، أنشأهما الإمام الشافعي رحمه اللَّه، لما سمع أشهب من أصحاب الإمام مالك، يدعو عليه وهو ساجد ويقول، اللَّهم أمِت الشافعي، وإلا ذهب علم مالك، فذكروا أن الإمام الشافعي بعد ذلك بأيام، نحو سبعة عشر يوماً توفي، واشترى أشهب من تركته عبداً أو جارية، ثم بعد نحو سبعة عشر يوماً مثل تلك المدة، مات أشهب، واشتُري ذلك العبد أو الجارية من تركته، فذلك قوله تهيَّأ لأخرى مثلها
وقال رضي اللَّه عنه، الطريقة التي تذكر، إنما هي طريقة باطنة، وهي العقائد والأخلاق، وإنما مُثّل لها بالطريق الظاهرة، لتُعقل وتُفهم
وقال رضي اللَّه عنه، الحقائق إذا تبعتها طرائق سَلَّمْنا لصاحبها وإن كان حقائق بلا طرائق فإنما هي أخت الزندقة، والشريعة علم، والطريقة عمل، والحقيقة ثمرة وكل من الثلاثة قسمان، ولا عليك من فروعها، فإن عملت ظاهراً فثمرتك ظاهرة، وإن عملت باطناً فثمرتك باطنة، ومن أظلم قلبه عمل بالمعاصي وهي ثمرته، وكان الشيخ عبداللَّه العيدروس يمثل للشريعة باللبن، وللطريقة بالزُّبْد، وللحقيقة بالدُّهن، والزبد هو الدُّهن بعينه، ولا فرق بينهما إلا أن يطبخ الزُّبد ويكبس وصار دُهناً، وقال الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه، حكَّمت ربع أهل الدنيا، قال سيدنا، يعني أُذِن له في تحكيم ربع أهل الدنيا، ولعل هذا لأجل القدر الذي أمهر عليٌّ فاطمةَ رضي اللَّه عنهما، فقد جاء في بعض الأخبار أنه أمهرها ربع أهل الدنيا، قال سيدنا نفع اللَّه به، والذين انتفعوا بنا أكثر من الذين انتفعوا بالشيخ عبداللَّه
(١/٥٠)
وقلت لسيدنا نفع اللَّه به، ما يطلب الإنسان إلا أن يستيقظ من غفلته، ويتوب إلى ربه، فما السبب الذي يتوصل به لتحصيل ذلك، قال رضي اللَّه عنه، إعمل بما تقدر عليه ويمكنك، واتق اللَّه ولا تتعرض لما يبطله عليك، فإذا عملت واتقيت، يكون عندك شيء لم تعلمه، والاستتار في هذا الزمان أسلم، كما في قصة إبراهيم الأعزب، أنه أخذ أحوال أصحابه وقال، هذا أسلم لكم في الدنيا، ولعل ذلك بسبب تذبذبهم، قلت، فما ينفع عمل لا ذوق فيه ولا حضور، أعني إذا سُلبوا الأحوال، قال، ذلك ليس إليك، ويكفيك ما ضربه رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مثلاً لليهود والنصارى مع المسلمين
وقال رضي اللَّه عنه، ما يصح لأحد عندنا قَدَم في زهد، أو عبادة، أو فقر، أو غير ذلك أصلاً، حتى يرمي بالدُّنيا خلف ظهره بالكلية، صادقاً في ذلك، وأهل هذا الزمان لا يلازم أحدهم أحداً من أهل الصدق والدين إلا لطلب أن تحصل له الدنيا الذي قد حَذَفَ بها، وألقاها خلفه، وقَلَّ أن يصدق أحد منهم في ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، ما يكون شيخ الإنسان إلا من اجتمع قلبه عليه، حتى لا يرى أن أحداً أفضل منه، فذاك هو الذي ينتفع به، قال رضي اللَّه عنه، ومن كان منتفعاً في العلم الظاهر والعمل، إذا أذن اللَّه له في الفتوح، ما يكون إلا على يد رجل كامل، كما في قصة السيد يوسف الفاسي، وكان كاملاً في العلم الظاهر والعمل فجاء إلى الشيخ أبي بكر بن سالم فأخذ عنه، وفُتح له على يديه، ولم يجتمع به في هذه المدة إلا نحو مرتين
(١/٥١)
وقال رضي اللَّه عنه، لا يزال في كل زمان من آل أبي علوي أولياء، إلا ما بين ظاهر أو خامل، ولا يكون الظهور إلا لواحد منهم، والبقية خاملين، إذ لا حاجة إلى ظهور اثنين أو ثلاثة من بيت واحد وبلد واحد، والستر على حالين، ستر الولي عن نفسه بحيث لا يعرف بأنه ولي، وستر الإنسان عن غيره، بأن يعرف هو بأنه ولي، ويخفي ذلك عن غيره، ولا يطلع الغير منه على ذلك، وذكر سيدنا في بعض مكاتباته أن سر الولي بينه وبين اللَّه تعالى قد لا يطلع عليه الولي نفسه
انظر ما قال في سبب خمول الصالحين بتريم
وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة الأحد ثامن عشر ربيع الأول سنة ١١٢٤ في السادة آل أبي علوي، فقال، إن غالب حالهم الخمول، ولا يظهر منهم إلا واحد يُسلّمون كلهم الأمر إليه، ويُمدونه بالدعاء، وهم في حالة الخمول، فيبقى ذلك الواحد ظاهراً لإتيان الناس إليه، وقصدهم إياه بالخصوص، لكونه ظاهراً يُعرف من بينهم، فقلت، وما السبب في كون الصالحين يخملون في تريم، ويظهرون في غيرها؟، فقال، لكثرتهم فيها، فلو كان في بلدة أربعون مخزناً يباع فيها المسك هل لا تراه فيها رخيصاً؟، أفيكون مثل بلدة لم يكن فيها إلا مخزن مسك واحد؟ وقد كان في وقت الشيخ عمر المحضار في مقامه أربعون من آل باعلوي، منهم عشرون خلفه وعشرون أمامه، وقد كان في وقته سريع الانتقام، كثير الأخذ من المجترئين المتعدين، لكنه قال، ما دعوت على أحد قط، وإنما إذا أغضبني أحد بقي في نفسي إشتحان عليه، لم يزل ذلك حتى يموت، ولم يظهر من أولئك الذين في مقامه شيء من هذا، وسألته عن معنى عشرون خلفه، وعشرون أمامه، فقال، وهل أحد يدري بهذا، إنما هي أسرار، وإن كان شيء يكون عشرون معروفين ظاهرين، وعشرون خاملين، لا يُعرفون بأنهم في تلك المرتبة، وهم يدعون للآخرين ويمدونهم
ما قال في خمول السادة
(١/٥٢)
وقال رضي اللَّه عنه، الشهرة ليست من عادة سادتنا آل باعلوي، ومن أحبها منهم فإنما هو من كان أظن قال صغيراً، ثم يعودون يكرهونها تربية لهم من اللَّه عز وجل، ومن كمل لا يطلبها ولا يريدها، ومن لا يخاف اللَّه، إذا رأى أحداً على تلك الحالة ينكر عليه، ولا يعلم بما في عاقبة الأمر، ثم قال لرجل كان حاضراً من السادة يباسطه، كيف تقول يا فلان، إن كنت تحب ذلك، لو جاءك أربعون رجلاً مرتين أو ثلاثاً، ضجرت منهم، وشردت عنهم، كما لو جاءك أحد بكعدة قهوة معسَّلة، وقال، قف اشرب فإنك تستحلي ذلك وتفرح، ثم جاءك آخر بخَمْسٍ ضجرت، وخفت من مقطعتهم
وقال رضي اللَّه عنه، لا يفتقر من هو من أهل البيت، إلا إن افتقر من الدين، لأنهم مَدْعُوٌّ لهم منه عليه السلام، بعدم الحاجة، زيادة وتأكيداً على ما ضمنه اللَّه من الرزق العام لهم ولغيرهم، وإذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم لأنهم العُمْدَة
وقال له رجل، إن أهل البيت ما تضرهم الدنيا، لقوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( اللَّهم اجعل رزق آل محمد قوتا ))، يعني قدر القوت فقط، فقال رضي اللَّه عنه، يحتمل أنه أراد عليه الصلاة والسلام، من في وقته منهم خاصة، وأما اليوم فتراك تنظر إلى أناس من الأشراف توسعوا في الدنيا، وتمتعوا بها غاية ما يكون، ومنعوا الزكاة، وأضاعوا حق اللَّه اللازم
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً يدَّعون أنهم في الفضل مثل السادة، فقال، لا تسابق من لا يُسْبَق، وإلا وقعت في ثلاث خصال، لأنك لا تدركهم، فيحصل عليك التعب الشديد، والفضيحة بين الناس، والسقوط من منزلتك التي كنت عليها
(١/٥٣)
وقال رضي اللَّه عنه، ماعاد في هذا الزمان، ولا أحسن من طريقة آل باعلوي، وقد أقرَّ لهم بذلك أهل اليمن مع بدعتهم، وأهل الحرمين مع شرفهم، وما بقي المفاضلة إلا بينهم بعضهم بعضاً، وهي طريقة نبوية، ولا يستمد بعضهم إلا من بعض، فإن حصل لهم مدد من غيرهم فهو بواسطة أحد منهم قال رضي اللَّه عنه، وهذا الأمر إنما عمدته الانقياد الكلي، فبه يحصل للإنسان، وهو أن ينطرح للشيخ في كل شئ، ولا يعترض عليه في شئ، ويمتثل ما يأمره به، وإن لم يعرف وجه ذلك، وبهذا السبب قيل، إن طريقة الإمامة طريقة مظلمة، لا يُعرف معنى الشيء فيها، ومن حضر المشايخ المسلِّكين، ولا انقياد له سمع من علمهم كما يسمع الناس، وكل يأخذ ما قسم اللَّه له، وقد ذكر الإمام الغزالي، إنه لابد للمريد من شيخ صادق ينطرح تحته في كل شئ، وإن لم يكن فأخٍ صالح يحكي له بذنوبه، أو قال بعيوبه، ولا يداهنه، وهذا لأهل الرياضات الشديدة، وأما من لم يكن كذلك، فلا أحسن له من التسليم، ولا أسلم ولا أحسن من طريقة سادتنا آل باعلوي، كل يتربى بأبيه، أو من ينوب عنه، وهو تربى كذلك، وعلى هذا حتى يبلغوا والأمر قريب كالذي يستخرج الماء من قرب، وفي أمر القوت على ما رُبِيَ عليه، وفي الثياب قده ما يحصل له إلاّ وهو محتاج إليه، والفقر في الوسط
(١/٥٤)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا طلب الإمارة من لا يصلح لها، يدعو عليه أهل الدوائر من الأولياء، وقال البرزنجي، ما في آل أبي علوي، إلا أنهم يتركون بلدهم لغيرهم، فإن السادة آل باعلوي، ما أسسوا أمرهم إلا بالفقر المجرد، بقصد منهم، ولاهمة لهم في شئ من الرياسات وحظوظ الدنيا، بل تركوها لغيرهم، حتى لو أن أحداً منهم طلب الإمارة، أخرجه منها الباقون، إن كان في الأحياء كفاية، وإلا نزعه منها الأموات، وإن الحسين بن أبي بكر بن سالم لما قيل لأولاده، أتتركون الولاية لغيركم، أشار بإصبعه من قبره إلى حمار، كان مربوطاً بإزاء قبته، وقال، لو أردنا أن نوليها هذا الحمار لفعلنا
وقال رضي اللَّه عنه، من رأيت من السادة آل باعلوي، على غير طريقة أهله فإنما منعه الضعف، والضعف قد يكون في الحال والمال والقلب، ومَبْنَى أمر السادة آل باعلوي على الكرم والتقوى، ومثال الدول إذا اثنان كلاهما يريد الولاية، كثورين يتناطحان عند بقرة، يأخذها من غلب منهما فلا تكن أنت خلفهما، ولا أمامهما، ولا بينهما، والسادة بني علوي من قديم الزمن خارجين من بينهما، ولا يدنون منهما، ومن دنا خالف ما عليه سلفه
وقال رضي اللَّه عنه، مَنْ أَكْثَرَ الظلم وامتحن أهل البيت أزاله اللَّه كما هو مشاهد
وذكر رضي اللَّه عنه الضعفاء من الناس، فقال، إن اللَّه يغضب إذا ظُلِموا أكثر من الأقوياء، وإن لم تشملهم دائرة الإسلام، وإنهم كالسمك في البحر مايعيش إلا إن غمره الماء
وتكلم رضي اللَّه عنه كثيراً في أحوال الناس والزمان وقلة الحق وكثرة الباطل، فقال، اشتبهت على الناس الأمور، واختلط عملهم الحق بالباطل، لكن اللَّه يظهر الحق لأهل الحق، ويظهر الباطل لأهل الباطل
(١/٥٥)
وشكى إليه نفع اللَّه به رجل مالقيه من أمر الدولة، فقال، لو وقع للسلطان كأس أو كأسان من جانبنا أصبح لابِداً في غوضة مسجد، ودخلوا عليكم ينهبونكم من بيوتكم، أحب إليكم، اصبروا حتى يأتي اللَّه بفرج من عنده، ولايستقيم الملك إلا بمال، ولامال إلا برعية، ولا رعية إلا بعدل
وقال رضي اللَّه عنه، إذا بقي العود، فالخير يعود، وإن راح فكل شيء إنما هو للفنا، وإنما هي مقدمات، الأول فالأول
وقال رضي اللَّه عنه، الأمور مبنية كلها على الصدق، وأما من تعوَّد على الكذب فبناؤه على الماء، ومن الناس من يعرّفه اللَّه حاله قبل الموت، فيتوب منه، ومنهم من يعرفه إياه عند الموت، فيندم حيث لا ينفعه الندم
وقال رضي اللَّه عنه، الخوف طبعه الحرارة، والحرارة تستدعي الحركة، فإذا سكن القلبَ، انطبعت حرارته على البدن وانجر إلى الحركة، والرجاء طبعه البرودة، وهي تستدعي السكون، فإذا سكن القلبَ انطبعت برودته على البدن وأوجب ذلك سكونه فيسكن لذلك
وقال رضي اللَّه عنه، وحق اليقين هو علم اليقين، إلا أنه إذا شاهد الشيء حصل له زيادة علم
ما قال في الإخلاص وعزته
(١/٥٦)
وتكلم رضي اللَّه عنه في الإخلاص، فقال، لا أحد يدّعي الإخلاص، بل يلزم حده ولا يتعدى طوره، ويعتقد في نفسه الرياء، فإنه إن كان كذلك فقد وقف عند حدّه، وعَرَفَ قدرَه، ولم يتعد طَوْرَه، وإن لم يكن كذلك لم يزده ذلك إلا رفعةً وقدراً عند اللَّه تعالى، وأين الإخلاص اليوم، ومما يدلك على أنه عزيز لا يكاد يوجد، قول الإمام الشافعي رحمه اللَّه، وددت أن لو انتفع الناس بهذا العلم، يعني علمه ولا ينسب إليَّ منه حرف، فكم أعجبنا كلامه هذا ولو قلت لمصنف كتاب، امح اسمك منه، أو اكتب عليه اسم آخر، أو لا تكتب عليه رسم أحد، لأن الأجر حاصل لك، فلا حاجة إلى نسبته إليك لأَبى، وهذا يدل على عدم إخلاصه وكانت رابعة فيما سمعنا عنها يصح ذلك أو لا يصح، إنها كانت ماتستحي إبراهيم بن أدهم، وتستحي غيره كسفيان الثوري وغيره، فقيل لها في ذلك، فقالت، ماذا ترك سفيان للَّه؟ وأما إبراهيم فقد ترك الملك والدنيا للَّه، فلا عاد يطلب أمراً آخر، فقل لأقوام إذا تصدق أحدهم بربع أوقية أحب أن يُعلم به جميع الناس، ولما تكلم الإمام الغزالي في إظهار العمل، وذكر شروط ذلك، ثم قال، لا ينبغي ذلك لأمثالنا لأنا لا نطمع في الإخلاص، إذ مثل هذا مع ما كان له من الجاه والحشمة، حتى إنه يحضر درسه من أبناء الأمراء ثلاثمائة عمامة، فضلاً عن غيرهم، حتى خرج من جميع ذلك للَّه، حتى قيل، إن خروجه من ذلك عين أصابت المسلمين
(١/٥٧)
وقال رضي اللَّه عنه مامعناه، إن اللَّه لا يأمر بالإضاعة، والأشياء مربوطة بالحكمة والأسباب والتدريج، ولا يجوز له أن يدّعي أحوال الصالحين وهو بعدُ يوسوس في صلاته، ولو مع الإنسان نخلة شغلته في صلاته، وجميعها شواغل، وإنما التجرد الكلي لأقوام خرجوا من الدنيا بقلوبهم، فكل ماشغلهم منها تركوه، حتى لا يبقى لهم همة إلا نفوسهم، وقد ادَّعى أقوام أنهم مثل هؤلاء، وقالوا، إن الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا، ومع ذلك بخلوا بها واشتغلوا ولم يُخرجوا الزكاة وتخبطوا
وقال رضي اللَّه عنه، في حديث حسبي اللَّه إلى آخره، حتى قال، صادقاً أو كاذباً، ثم قال، ما كل أحد يقول ذلك، إلاّ إن الاكتفاء باللَّه شديد، قَلَّ أن يتصف به باطناً وظاهراً، وإن قال ذلك، وفي حديث، إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم أي كما ترى أقواماً يقاتلون الكفار مرادهم الغنائم وأخذ البلدان، فيحصل بهذا دفع عن الإسلام والمسلمين، وآخرين يقاتلون قطاع الطريق، وغير ذلك مما يقوى به الدين، وأكثر مايكون ذلك في الولاة، أفلا يكونوا أولئك من خير الناس
وقال رضي اللَّه عنه في حديث قول الرجل، دعوتُ فلم يُستجَب لي إن كان ما دعا به من أمور الآخرة، فمن أين يعلم أنه ما استجيب له، لعله حصل له الاستجابة في أمر يكون في الآخرة أو من أمور الدنيا، فلعله دعا في شيء لو استجيب له فيه لكان يضره
وقال رضي اللَّه عنه، جزى اللَّه العلماء عن الناس خيراً، جمعوا للناس، وصَحّحوا للناس، ونقحوا للناس، فأين يروحون اليوم إذا احتاجوا إلى مثل هذا مع انعكاس الزمان، وإذا رأيت شغل هؤلاء، عرفت أن أولئك هم المشغولون فيما ينفع، وهؤلاء كالنسوان شغلهم بما لا نفع فيه، ثم ذكر حديث (( لا تُنزِّلوا النساء الغرف، وألهوهن بالمغازل ))
ذكر ما يتعلق بالنساء
(١/٥٨)
وذكر رضي اللَّه عنه النساء وخداعهن، ثم قال، إن بعضهم قال، إذا صاحت المرأة فأدركوا الرجل
وقال رضي اللَّه عنه، من خاف اللَّه قَيَّد يديه، وإلا انطلقت جميع جوارحه، كقصة برصيصاً وهاروت وماروت، والنفس ما تقدر عليها إلا بمنعها في أول الأمر عن جميع مطالبها، وإلا أوقعتك في بليَّتين وفتنتين، الأولى، بلية وفتنة المحرمات، والثانية، بلية وفتنة المباحات، ثم إذا طلبت منها الرجوع عن ذلك لا تقدر عليه
وتذاكر رضي اللَّه عنه مع بعض السادة في النساء واستطالتهن على الرجال، فذكر له حديث الذي قال للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، يارسول اللَّه، ماذا خير لنا بعدك، بطن الأرض أو ظهرها؟ الحديث، ثم قال، لا تجعل للمرأة وجوداً، إلاّ إن كان وجودها من تحت وجودك، و لا تجعل الأمر إليها، بحيث لو أردت أن تتصدق بشيء منعتك، فإن مثل هذه قهرمانة، ما هي صاحبة أمانة، وانظر من كل شيء إلى أحسنه، وقيل، لا تُمْدَح المرأة إذا هي صالحة حتى تموت، ومنهن عطايا، ومنهن خطايا، ولا يحصل للإنسان الأجر إلا بالصبر والاستقامة، وأن تقوم عليها في حقوق اللَّه، فلا تفرط في أمور الدين فتتركها تمكث بجنابتها وتترك الصلاة، وكن معها من أول الأمر على حزم، فلا تمنعها اليوم مثلاً من أمر، وغداً تمنع فيه، فقال له ذلك السيد، إنها تحتاج إلى ما لا بد منه، أي من المداراة، فقال، لا بُدَّ لها من شيء من العدل والإحسان
(١/٥٩)
ثم قال، ومثل هذه الأمور لا يمكن العلماء فيها التفصيل، فلو فَصَّلوها لاحتاجت كل مسألة إلى مجلد وتفصيل كثير، ولكن يفصله الناس بالعقول، وهن مجربات ومعروفات بأنهن يغلبن الأخيار، ويغلبهن الأشرار، ولايسلك الإنسان معهن إلا بأحد أمرين، إمَّا باليسر إن أمكن وإلا فبالرفق، لأنهن إذا أردن أمراً، فمع الأشرار يغلبونهن، حتى يدخلن في أنفسهن ودينهن، ومع الأخيار يأخذونهن باليسر والمسامحة، فإن لم يجيء مع ذلك منهن شيء، دارَوهن وَرَفَقوا بهن، وصبروا عليهن
ومن رأى حال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مع أزواجه وكثرة شاغلهن، لم يستنكر ما يكره منهن، وإبراهيم الخليل عليه السلام أخرجته زوجته سارة من وطنه الشام إلى الحجاز غريباً مع ولده وسريته قهراً من غير اختيار منه، وهكذا عادة أهل الخير معهن، وقد قال الحكماء، ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك، المرأة والعبد والولد، أي ظلم صوري، وثلاثة لا يطاقون، جائع شبع، وشوهاء تزوجت، أظن قال وفقيراً استغنى، ومن تأمَّل فتن بني آدم من وقت آدم فأسفل، رأى كلها أو أكثرها من النساء، أو هن سبب فيها، أو لهن في ذلك شرك
وقال رضي اللَّه عنه، لاتسأل عن أعمال أهل الزمان، والزمان زمان مسايرة ومداراة وتغافل، فمن فعل ذلك معهم تمت له أموره، فإذا كان الإنسان منهم، لا يحتمل التقصي من والده، فما بالك من غيره، لكن ينبغي أن يبذل الإنسان وسعه في الطاعة وإن قلَّ، كالضفدعة أتت في فمها بماء لإطفاء نار النمرود، وقالت، هذا جهدي، فشكر اللَّه لها ذلك، وإذا رأيت الإنسان ماهمه إلا الدنيا، فانفض يديك منه، وإذا أقبلت الدنيا خذ منها أي لآخرتك وإذا أدبرَت احترز منها مثل النهار
(١/٦٠)
وتكلم رضي اللَّه عنه في أهل الزمان وقلة الأمانة فيه، وأكثَرَ، ثم قال، قال الشيخ حسين بافضل، إن أكثر الناس قوالب بلا قلوب، إن لم تقهرهم قهروك وما هم داريين، قال، وحسين هذا أخو أحمد الشهيد، كلاهما أولاد الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن بلحاج بافضل، صاحب المختصر، ذرية الشهيد في مكة، وذرية حسين في تريم
ذكر ماقال في مطالعة كتاب التنوير
وقال له رضي اللَّه عنه رجل، إني أطالع في كتاب التنوير فقال، اعرف مقصوده وفائدته وماجُعل لأجله، وهو أن ترضى بما أقامك اللَّه فيه، مع القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ومن تجريد بلا تعلق بمخلوق، بل محض توكل على اللَّه، وتَعَلُّق به ظاهراً وباطناً، قلباً وقالباً، أو تسبُّبْ مع عدم الاعتماد عليه، والقيام فيه بجميع الحقوق، فإذا عرفت ذلك فطالع فيه، ولاتكن كلحم على وضم ولكنك اخلط مع مطالعته المطالعة في الأربعين الأصل، واجعله الطعام، والتنوير خصار واستخرج الزُّبْد منهما، إن أحسنت المخض، ولا تفهم من التنوير، أن المراد طرح الأمور كلها، بل أن تتقي اللَّه فيما أنت فيه، فقد ضل أقوام بالكتب، فلا يكون الرجال إلا بالرجال، لا بالكتب
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه يحب السؤال، وإنما تركه من هو من أهل التوكل الكامل، فلا تتشبه بالأكابر، فتطرح الثوب على الجَرَب
وذكر رضي اللَّه عنه الشباب، فقال، وما ينفع الشباب مع الغفلة، إنما ينفع مع اليقظة، وإلا راح عليه شبابه ضياعاً، وبهذا السبب ضاع على الناس شبابهم، لغفلتهم، والمشيب مع هذا أحسن، لأنه يُرجعهم إلى اللَّه، من غير اختيار أي لقلة رغبتهم في المأكول، والملبوس، والمنكوح
(١/٦١)
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، أي عينيه )) إلى آخره، يختلف الأجر باختلاف الصبر، واختلاف طول المدة بعد ذلك وقصرها، فيزيد الأجر وينقص بحسب ذلك، وإذا كان ذلك في صغره أو كبره، وكان يحتاج إلى التمتع بهما أكثر، فله على قدره، وتتفاوت منازل الصبر في الدرجة الواحدة، كما تختلف في الدرجتين، وكثير من الصحابة والتابعين، والأولياء والصالحين، حصل لهم ذلك في آخر أعمارهم، كعبداللَّه بن عباس، وكعب بن مالك، والشيخ أبي بكر بن عبداللَّه العيدروس، وغيرهم لكثرة المطالعة والكتابة سيما بعد العصر والسهرُ في الصبا وكثرةُ البكاء تعمش العيون
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه سبحانه لا يعطي بالاستحقاق، إنما يعطي بالمشيئة، فإن وافق الاستحقاق المشيئة، أكمل له الاستحقاق أو قال، أجزل له العطاء، ثم ذكر، إن رجلاً من الصحابة، قال، اللَّهم أرني الجنة، فنهاه النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن قوله ذلك، وقال، قل، اللَّهم أرني الجنة كما أريتها عبادك الصالحين، ومن تأمل أحكام اللَّه تحقق أنه لا يصلح الأمر إلا كذلك، أو إلا على ذلك، كالزكاة مثلاً، قياسُ من لا بصيرة له، أنها تنقص المال، فربما منعها من ماله، فبعد قريب هلك ماله، أو انتقل إلى من لا ينفعه
ثم ذكر رضي اللَّه عنه الظلم والميل عن سبيل الحق، وعدم امتثالهم لمن يدلهم عليه، فقال ما معناه، ومن يدعوهم إلى ذلك فهو معهم، كرجل أعمى لا يعرف الطريق، يقول له بصير عارف بالطريق، اطرح يدك في يدي، وسر معي، ولا تتكلم فإني أوصلك، ولا تقل، تعال من هنا أو من هنا، ثم إنه لا يسمح أن يجعل يده في يدك، بل يستحلي ما هو عليه من العمى والجهالة، إذ لا يعرف وجه ذلك ومن رأيته في الماء، ولم يعطك يده، أو أعطاك ولم تقدر عليه، فاتركه، ولا تحمل المحفر بعروة واحدة، فينتثر، بل بعروتيه جميعاً، أو اتركه في الأرض
(١/٦٢)
ثم قال نفع اللَّه به، طريق الحقيقة طريق الخصوص، ما هي إلا في ظلمة لا يبصرها العامة لأنهم بعدوا من طريقهم، فليس من قوتهم معرفة ما يعرفون، فإن سلموا إليهم أنفسهم بلا اعتراض، وصلوا، وإلا بقوا متحيرين، أو كما قال بمعناه
وقال رضي اللَّه عنه لي مراراً وكذلك سمعته غير مرة يقول، طريقتنا طريقة الإمامة وهي طريقة مظلمة وسألته عن معنى كونها مظلمة، فقال نفع اللَّه به، المراد الطريق الخاصَّة، ومعناه أن يقتدي بمن تأهل فيها ويمتثل له، ولا يدبر معه فيها بعقله، وبما يستصوبه، فإن العقل لا مجال له فيها ويسلم له في كل ما أَمَره به، أو نهاه عنه، وإن كان يرى أن ذلك خطأ، وأن الصواب عنده خلافُ ذلك، كما ذُكِر عن بعض مشايخ مصر، واسمه قطب الدين الحنفي، أنه كان يوماً يمشي على الماء، فأخذ بعضَ جماعته يمشي معه على الماء، فقال له الشيخ، قل بسم الشيخ قطب الدين، ولا تقل بسم اللَّه، ففعل وهذا عند ذلك المريد ظلمة، فسار ساعة ثم قال المريد في نفسه لأي شيء ما أقول بسم اللَّه؟، ثم قال ذلك، وهذا عنده نور يعني قوله بسم اللَّه، فغرق فصاح بالشيخ، فالتفت إليه، وقال، ماذا فعلت؟، قال، قلت بسم اللَّه، فقال له الشيخ، ألم أقل لك لا تقل ذلك، لأنك ما تعرف اللَّه أي حقيقة وإنما أنت تعرفني، وأنا أعرف اللَّه أي حقيقة ، وما مشيت على الماء إلا باسم اللَّه، فانظر ما أبعد القياس من هذا الأمر، فلو كان في المسجد مريد مثلاً في قراءة قرآن، أو في أمر ديني، وهذا عنده أي المريد نور، فقال له الشيخ، قم اجلس في السوق، أو افعل كذا وكذا من أمر الدنيا، وهذا عنده ظلمة أي خطأ ولكنه ما علم مقصود الشيخ بذلك، فربما رأى فيه كبراً، أو كان جلوسه في المسجد لرياء، وأراد أن يكسره منه، فإذا كان في السوق وقلبه متعلق بالمسجد، أو بأمر ديني خير من عكس ذلك، وقد كان جماعة من الأكابر
(١/٦٣)
يعملون في السُّوقِ كالسريّ والجُنَيد وغيرهما وله بهم أسوة، فإذا امتثل له كذلك أوصله من الظلمة إلى النور، وأما في الأحكام الظاهرة العامَّة، فكل الناس يعملون عليها ونورها فيها، وقد سبق إلى ذلك النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وقبله في ذلك جميع الأنبياء، وإنما الكلام في الخاصَّة، فقلت له نفع اللَّه به، فعسى الخواطر المخالفة لا تضر في ذلك، أعني يصير بها كحال المنكر المعترض فقال رضي اللَّه عنه، لا، الخواطرُ الغيرُ الاختيارية لا تضر، فقد حصل مثل ذلك لسيدنا عمر يوم الحديبية، وإنما على الإنسان ما فيه اختياره، وما وراءه فأمره إلى اللَّه، ما عليه في ذلك شيء، قلت، فالاختيارية أيضا أعني ما له فيه اختيار وقدرة، من فعل الأوامر واجتناب النواهي لا يمكن الإنسان أن يأتي بها كلها، لأن نفسه تقطعه عنها، فقال نفع اللَّه به، تسير معها كما تسير مع المرأة، فتقدّرها امرأة فتداريها مرة، وتخالفها أخرى، فمرة طاعة ومرة معصية، ومرة بغضب ومرة برضى، وعلى هذا، ولكنك خذ ضابطاً وهو أن تنظر في أعضائك كلها وأفعالك وحركاتك، فإن كان أكثرها خيراً فابشر، فإن العبرة بالأكثر
وقال رضي اللَّه عنه، وضع القدم على القدم يحصل به خير كثير، ولو لم يكن التابع من أهل الباطن، فإذا وضع قدمه على قدمهم، يحصل له ما يحصل لهم، ألا ترى لو أن شخصاً من أهل الخطوة تطوى له الأرض، وضع آخَرُ قدمَه موضع قدمه في المسير كيف تطوى له الأرض بانطوائها للآخر، وإن لم يكن مثله، فإذا كان هذا في الأقدام الحسية، فما بالك إذا كان في الأقدام المعنوية، أو قال الدينية، ومقام الإسلام يجامع الأفعال الإلهية، ومقام الإيمان يجامع الصفات الربانية، ومقام الإحسان يجامع الصفات الذاتية
(١/٦٤)
وقال رضي اللَّه عنه، كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم له قوة لا يطيقها البشر، وكذلك كان قوة في الأولياء، لأنهم جاهدوا أنفسهم بالرياضات حتى اطمأنت نفوسهم بقلة الأكل، ولم يعولوا على القوت، وجميع ما تسمعه عن الصالحين ليس من الدنيا إنما هو من الآخرة، من رؤية حور، أو قصور، أو مَلَك، أو مكاشفة، أو حصول شيء من الدنيا، فلم يشغلهم عن اللَّه ونحو ذلك، فكل هذا من الآخرة، قلت له، فلو تكلف الإنسان شيئاً، ما أمكنه أن يحصل له مثل ذلك، فقال نفع اللَّه به، ليعرف قدره ولا يتعدَّ طوره، ولهذا إذا قَبِل منهم وصَدَّقهم، كان مؤمناً، وإذا أحبهم كان معهم، وأين الناس اليوم، وكم بينك في الوقت وبين وقت الشيخ عبدالقادر، إنما أنت في القرن الثاني عشر، فهل سمعت هذا القرن يذكر في شيء من الكلام، أو في كتاب، إنما حدّ ما يذكر الحادي عشر على الندور أيضاً، واليوم قد ضعفت الهمم، وضعف كل شيء عن الحال الأول، حتى الشجر والنبات، قلت، فماذا يفعل الإنسان، قال يُحكِم الإسلام والإيمان، فهذا هو الذي عليه، وإذا أراد اللَّه شيئاً فما هو ببعيد، قلت، فما يريد الإنسان إلا حصول التوحيد والعبودية، قال، ليعرف الإنسان حال نفسه، ويحبهم فيكون معهم، فتشمله المعية، ويكفيك ما قال اللَّه تعالى لموسى عليه السلام، {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}
ذكر ما قال في حرمان الرزق
(١/٦٥)
وذكر رضي اللَّه عنه حديث، (( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) فقال نفع اللَّه به، للرزق جهات متعددة، وكذلك الذنوب، فقد يكون الذنب في جهة الرزق، فإذا حصل ذنب في جهة رزق، كأن كان رزقه في البيع والشراء، فأذنب ببخس وتطفيف ونحو ذلك، حُرِمَ ذلك الرزق، بأن ذهبت بركته وتلاشى عليه فيفتقر، وحصلت له آفة أذهبته من يده، كما هو مشاهد في أهل الربا ومانعي الزكاة وغيرهم، ويحرم الرزق المقابل لذنبه خاصة دون غيره، فإن كان له رزق في الحراثة أو غيرها، ولم يذنب في جهته، فلا يحرم الرزق منه بذنبه في جهة البيع والشراء ونحو ذلك، وإن كان ذنبه فيما هو عام لجميع الأرزاق أو أكثرها كالنقد، حُرِم الرزق بذلك المعنى من جميع الجهات التي يأتيه رزقه به منها، لأن عليه مدارها، وإن أحسن في الكل حصلت له البركة والنمو في الجميع، أو أحسن في البعض ففيه دون غيره، ويجبر خلل كل واحد بالإحسان فيه دون الآخر، كما يجبر خلل العبادة بعضها ببعض، كذلك كما تجبر الصلاة بالصلاة، والصوم بالصوم ولا عكس، وإن كان الذنب بأمر خارج عن أسباب الرزق كزنا وترك صلاة وغير ذلك عم الضرر العمر والرزق، فإن توالت عليه أرزاقه مع عصيانه فذلك استدراج له، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( من أسر سريرة ألبسه اللَّه رداءها))، قال، أي حسنة كانت أو سيئة، ويُلبسه ذلك بالجملة لا بالتفصيل، وهو إنه إذا أسر حسناً حصل له القبول عند الناس وأثنوا عليه خيراً، وإن أسر سيئاً لم تقبله قلوبهم، وأثنوا عليه شرًّا، وربما برز منه قليل فاستُدِل به على الباقي من الأمرين، وعُرف به
(١/٦٦)
وقال رضي اللَّه عنه، في حديث، (( الفقر على المؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس ))، قال، ليعرف الإنسان أحكام الفقر والغنى من العلماء باللَّه، فإن الفقر المحمود ما كان مع الصبر والرضى، ولا يَغبط الأغنياء، وأما الذي يتمناها ويده منها خالية، ويضجر ويتبرَّم، فهو أخس من الأغنياء، فليعرف أحكام الفقر والغنى، والدنيا كلها لهو ولعب، فخذ من اللَّهو واللعب ما ينفعك في الآخرة
أقول، وقد حضرت يوماً مجلس السيد الكامل الفاضل أحمد بن عمر الهندوان رحمه اللَّه تعالى، فقال لي، يا الحساوي ما الفقر الذي استعاذ منه النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم فقلت، كما حفظته من كلام سيدنا، هو المقرون بالتضجر والتبرم والتسخط لقضاء اللَّه تعالى، فقال، ليس هو هذا، فاسأل حبيبك، فقلت، هكذا أحفظه عن قول حبيبي، قال، لا، إسأله عن ذلك، وكان ذلك يوم الخميس، وكنت مرتباً زيارته وحضور مجلسه الخميس والجمعة، فبعد ذلك بثلاثة أيام، وهو يوم الأحد أُمَاشِي سيدنا نفع اللَّه به في طريق السبير، وهو مشغول بقراءة ورده، إذ التفت إليَّ وقال، يا حاج، قلت، لبيك، وما كان يسميني إلا كذلك، قال، ما قط سألك السيد أحمد عن مسألة؟، فقلت، بلى سألني عن كذا، وأجبته عن قولكم بكذا، فقال، أنت ما تعرف السيد، ما سألك ليستفيد منك، إنما سألك ليرى ما عندك من العلم، فإذا سألك بعد هذه فلا تجبه بشيء، وقل، أنا مستفيد، خَلّه يحكي لك بما عنده، والذي هو عندك محفوظ، فأعجب بهذه المكاشفة العظيمة من سيدنا نفع اللَّه به، فلما كان يوم الخميس الآخر، وأتيته على عادتي، فلما استتم المجلس سألني عن المسألة بعينها، فقلت، اللَّه يحفظك أنا مستفيد، فقال، الفقر الذي استعاذ منه النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم هو خوف الفقر، فأخبرت سيدنا في طريق السبير يوم الأحد الآخر، فقال، هكذا
(١/٦٧)
ومرت في الدرس أحاديث في كتاب، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من "الإحياء"، فقال سيدنا نفع اللَّه به، عاد الناس، الدين فيهم ظاهر، والمنكر غير مقبول ولا ظاهر ولا معتَقَد حله، غايته أن يكون في آحاد من الناس، كالذين يفعلون الربا ويستحلونه بمناذرات وإقرارات باطلة، سَوَّلت لهم في ذلك نفوسهم وقادهم إليه حب الدنيا، وأقحمهم فيها أناس أيضاً، وهذا متعلق بالولاة وأمرِهم به على الفقهاء، فلا تُحْوِجْ نفسك إلى مقاربتهم، والميلُ منهم أحسن
وقال رضي اللَّه عنه، ما أفسد على الناس دينهم إلا العلماء، ولكن بعد فساد دينهم، وما أفسد على الناس دنياهم إلا الأمراء، ولكن بعد فساد دنياهم، فبفساد العلماء يفسد الدين، وبفساد الأمراء تفسد الدنيا، لأن قوام الأمر إنما هو بالرؤوس، أهل الدين لأهل الدين، وأهل الدنيا لأهل الدنيا، فإذا تغير الرؤوس تغير المرؤوس، وقد يتعدى ضرر ذلك إلى الأحكام والعقود، لأنها تصير حينئذ أحكام بغاة فتنفذ للضرورة
وقال رضي اللَّه عنه، إن الناس نزلوا في جميع الأشياء، وإذا أردت تعرف ذلك فَعِدَّ منازل أو منازع العلوم، كيف تراها، يفتون بأمور وإقرارات لا تصح، يتحيَّلون بها، وينبغي للمفتي أن يعرف قرائن الأحوال
وقال رضي اللَّه عنه في قول بعضهم، علماء السوء قطاع الطريق على عباد اللَّه، أي إذا لم يكن طريق إلى اللَّه إلا من جهتهم، وإن كان علماء عاملون، فيكون هم الطريق إلى اللَّه، دون الآخرين، الذين هم علماء انسدت الطريق منهم
انظر ما قال في الجهة الحضرمية
(١/٦٨)
وذكر رضي اللَّه عنه، ما عم في الجهة، من الاختلاف بسبب هذه الفئة فقال نفع اللَّه به، ما عاد بقي قاضٍ منصوباً على أمر الشرع ولا فتوى شرعية، إنما هي أحكام البغاة، إذ السلطان مقهور تحتهم، لا يمكنه يتصرف معهم في شيء، يكاد يلحق الناس ضرر في معاملاتهم وأنكحتهم وغير ذلك، فهذه أمور شرعية قد تغيرت، وتنفيذ هذه الأحكام إنما هو للضرورة، وهذه أشياء لا يجوز الرضاء بها والصبر عليها، ولولا إن هذه دار هجرتنا لخرجنا منها، ولا لنا موضع هجرة إلا مرباط، لكن ما يمكننا ذلك لأجل المكالف والصغار ونحوهم
وقال رضي اللَّه عنه، نحفظ عن بعض جداتنا عن أبيها، وكانت حضرت وفاته، وكان من أهل الكشف، قالت، كان يغمى عليه عند موته، فأفاق ذات مرة وقال، عادكم تقولون يا حيَّا دولة الكثيري، ومرة قال عمن قال عنه، يأتي على الناس زمان ما لهم مفر إلا ثمود أو نحو ذلك
وقال رضي اللَّه عنه في هذا المعرض، ما في تريم غير الوطن، إن الإبل تهوى العطن
وقال رضي اللَّه عنه، رأيت أفعال أهل الزمان كلها هواءً، وكل ما لا يصحبهم فيه هواء لا يعبأون به، ولا يعدونه شيئاً
وقال رضي اللَّه عنه، لا يصلح الجلوس للعبادة إلا للمتجرد المرتاض القوي، إذا لم يكن له غداء لم يَتْعب، ويقول، إذا ما وقع يقع العشاء، وإذا لم يقع يقع وقت آخر، وهو متفرغ للذكر والعبادة، لا يشغله هَمُّ الرزق ذلك، وأما الضعيف عن هذا فيكون في أغلب أوقاته في العبادة، وفي بعضها في طلب الرزق المعين عليها
(١/٦٩)
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( الزهادة في الدنيا تريح القلب والبدن )) إلى آخره، أي يستريح قلبه عن هَمّها ومحبتها والفكر في جمعها وحفظها، وبدنُه عن طلبها والسعي لها، وزهد القلب أفضل من زهد الظاهر، وأما مع الرغبة، فإذا زهد بظاهره وهو راغب يكون فتنة وبلاء على نفسه وعلى غيره فُيغتر به وأما إذا زهد في الدنيا أولاً ثم أقبلت عليه وكثرت فلم تشغله وفَرَّقَها، فهو الزهد الكامل، وهو زهد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وزهد الصحابة رضي اللَّه عنهم
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، استقو على الشيطان ولا يغلبنك فإن اللَّه سماه ضعيفاً، وما سمَّاه بذلك إلا ليستقوي عليه المؤمن ويقهره ولا ينجذب له
وقال رضي اللَّه عنه، صاحب سر الولاية ما يتظاهر بالكرامات، وأما أهل علم الحَرْف ولو كانوا أهل سر يتظاهرون بها بالتصرف بالحرف أو كما قال
وأوصى نفع اللَّه به رجلاً فقال، اللَّه اللَّه في دينك، احتفظ على دينك، حتى إذا كنت على أي حال تكون محمود الحال
وقال رضي اللَّه عنه، نحن اليوم في أطراف أيام الدَّجَّال، وفي أيامه ما يكون غذاء الإنسان إلا الذكر، يترفعون في رؤوس الجبال خوفاً من الدَّجَّال، وغذاؤهم الذكر
انظر ما قال في بلدان حضرموت
وذكر رضي اللَّه عنه بلدان حضرموت فقال، ما عاد شبام بشبام، ولا الغرفة بالغرفة، ولا تريس ومَدُودِه بتريس ومدوده، راحت الأرواح وبقيت الأشباح، كانت كلها حيَّة، ورجعت اليوم كلها ميتة، وما يهمهم اليوم إلا تحسين الثياب، فلما ذهبت الأرواح، رجعوا إلى تحسين الأشباح، فانعطفوا إلى هذا، فرجعوا من تحسين السرائر إلى تحسين الظواهر، أو كما قال
انظر ما قال في التشبه بالسلف واستدلاله بالحديث المذكور
(١/٧٠)
وقال رضي اللَّه عنه، لا عاد تحرك أهل الزمان، فإن حَرَّكْتهم ظهر من أمورهم الباطنة، أشد من أمورهم الظاهرة التي أنت مُشمئز منها، وأهل الحق إذا فسد الزمان، يتعين عليهم أن يتشبهوا بأسلافهم، واستدل بحديث، (( لِيَلِيَنِّي منكم أولو الأحلام والنُّهى ))، وكذلك السلطان والتاجر، ينبغي لكلٍّ أن يتشبه بسلفه، فإذا لم يقدروا على كمال الإقتداء بهم، والفعل بمثل فعلهم، فليقاربوهم في ذلك، لأن كل عامل من محترف أو عابد له إمام يقتدي به، ومن لا له إمام فإمامه الشيطان، فكل من يقتدي بأحد يقال له إمامه، حتى إن المتبوعين من الكفار سُمُّوا أئمة، قال اللَّه تعالى، { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}
وقال رضي اللَّه عنه، رأيت جدنا الشيخ أحمد الحبشي صاحب الشعب في النوم، وسألني فقال، ما تقول، مَنِ الرجل الحي؟، فقلت الحي من حيي قلبه، فاستحسن الجواب، ثم إنه أخرج قبعين أحدهما صغير فألبسنيه، وجاء في خاطري إنها خرقة الشيخ عبدالقادر الجيلاني، لأن أهل الجهة كانوا يُلبسونها، ثم أخرج قبعاً آخر كبيراً على المعهود، من أقباع آل باعلوي، فألبسنيه فوق الأول، ثم قال سيدنا، وكم مرائي تقع والعبرة على الخواتيم
وقال رضي اللَّه عنه، يقال، ليس العاقل من يميز بين الخير والشر، ولكن العاقل من يميز بين خير الخيرين وشر الشرين، فيعرف أي الخيرين أرجح فيتبعه، وأي الشرين أقبح فيتركه
(١/٧١)
وتكلم رضي اللَّه عنه يوم الاثنين في ٢٦ شوال سنة ١١٢٨ في رؤية الشهر، وأطال في ذلك حتى قال، هذا زمان شُبَه ينبغي الاحتياط فيها، وقد قالوا، لا ينبغي للعالم أن ينظر مع اشتباه الأمور بين الخير والشر، فإن هذا واضح كل يعرفه، ولكن لينظر بين خير الخيرين وشر الشرين، فيأخذ بالخير من الخيرين إذا استبانت، ويترك الشر من الشرين إذا اشتبهت، كمن أراد أن يضربك بعصا أوسكين، فإن كان ولا بد فالعصا أخف الأمرين، وكمن تريد تركِّبه معك وهو عاجز عن المشي، وأنت قادر، فإن نزلت وأركبته فهو الخير من الخيرين، ونحن هذا حالنا في هذا الزمان، وهو من قواعد الدين، وهو مأخوذ عن السلف كالإمام مالك بن أنس وأمثاله رضي اللَّه عنهم، ومن لا يعرف ذلك فهو جاهل وإن ظن مع ذلك في نفسه أنه عالم فجاهل جهلاً مركباً، كمن يظن في نفسه أنه كريم وهو بخيل فهو الجهل المركّب
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً الخير والشر، فقال، لا بد من المكافأة عليه، إما ممن عاملته به، أو من غيره في الدنيا أو في الآخرة، وقد يقع من وجه يطّلع عليه الناس، وقد يقع من غير ذلك، ويكون ذلك في البر والعقوق والإحسان إلى الجيران والإخوان والأصحاب والإساءة إليهم، كما قيل، ( البِر سَلَف ) والمجازاة على الخير أكثر من الشر، وذلك من فضل اللَّه فإنها تضاعف في الخير دون الشر، إلا أن الشر يعظم جداً بحسب مواضعه، فالسرقة على اليتيم والفقير ليست كما هي على الغني والقوي واجتماع الإخوان والأصحاب ما يجيئك منهم إلا واحد من عشرة، لأنه لا بد في كل واحد خصلة مليحة، يريد اللَّه أن ينفع الناسَ بعضهم من بعض
(١/٧٢)
وقال رضي اللَّه عنه، قاعدة، الرجل الصالح إذا كان له وجه وقفا، جاء الصالحون من وجهه، وجاء المتفتنون من قفاه، مثاله إذا كان الرجل الصالح يحب الشَّرح ويجالس المذمومين من الناس، فَعَل ذلك الأنذالُ، وقالوا، إنهم اقتدوا به، وإن بقي على الحالة المعروفة التي عليها الصالحون اقتدوا به
وقال رضي اللَّه عنه، إذا رأيت أحداً من الصالحين يتعاطى أموراً منكرة أي في ظاهر الشرع ، فذاك ينبغي أن يُجْتَنَب، ويُعتقد أي يُحسن به الظن ، ولا يُفعل كفعله، إلا من غلبت عليه الحقيقة كما غلبت عليه
وقال رضي اللَّه عنه، من سوء أحوال الزَّمان وأهله، أن يقتدي الإنسان بالآخر في مثالبه وأحواله المذمومة، ويترك أن يقتدي به في محاسنه وآدابه، وفي هذا بليتان إحداهما أنه تضرر باقتدائه، والأخرى أنه نبهه على أمر كان غافلاً عنه، أو غير غافل ولكن السكوت عنه أجمل، فلا تقتد إلا بالأحسن، ولا تنقل إلا الأحسن، وهذا الاقتداء على هذا الوجه غالب
على أهل هذا الزمان، فترى أحدهم لا يحسن صلاته أو قراءته، أو يُربي، فإذا قيل له في ذلك، قال وَرَىْ فلان، أو يؤخر الصلاة عن وقتها، ويقول العالم الفلاني كذا يفعل، فمثل هذا إنما تضرر ولم ينتفع باقتدائه
وقال رضي اللَّه عنه، حسن الظن بالمسلمين عموماً، هو الأمر الواجب، إلا من رأيته على باطل صريح، فيكون ذلك سوء ظن، لأنه قادح في الشريعة وأنت ساير أهل زمانك ما لم يغلبك الجواز، فإذا لم تجز المسايرة فلا تساير، قال سيدنا الشيخ أبوبكر بن عبداللَّه العيدروس ،
لا تغالب زمانك يغلبك كن مساير يسايرك الزمان
(١/٧٣)
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الفقراء، لو تلوت القرآن حق تلاوته، لزهدت في الدنيا بين يديك، والإنسان في حالة التقصير، ويرى أنه على الحال الأكمل، ويعذر نفسه ويستدل لها بأشياء باطلة، والإنسان لا يعذر نفسه، إنما يعذره غيره، لأنه لا يطلع على عيب نفسه، وإنما يطلع على عيب غيره، ألا ترى كيف يستقذر نخامة غيره، ويتحاشى أن تصيب ثوبه، ولا يستقذر ذلك من نفسه، فكذلك العيوب لا يعلمها من نفسه، وإنما يعلم عيوبَه غيرُه، فينبغي أن يجتنب كلَّ ما رآه من عيب في غيره، وهو معنى حديث، (( المؤمن مرآة أخيه )) في تأويل بعضهم
وقال رضي اللَّه عنه، خذ ما بلغك عن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن نفسه أو عن غيره، ولا تتركه لشيء، ومن نقل شيئاً فخذ به عنه، فهو بأمانته، وكلٌّ مطالب بما قال، والأمر واسع
وذُكِر له رضي اللَّه عنه بعض الأموات، فقال، أرحمُ ما يكون الرب بعبده إذا وقع أو قال وضع في قبره، وإذا رأيت عمل الرجل أيام حياته، إن كان قائماً بفروضه، وبارّاً بأرحامه قَوِيَ جانب الرجاء له، وإن كان بالعكس قَوِيَ جانب الخوف عليه، وقد كانوا إذا خرجوا مع جنازة لا يعرف المصاب منهم، لكونهم كلهم يبكون، وهؤلاء أيضاً لا يعرف المصاب منهم، لكونهم كلهم يضحكون ويلهون، فكم فرق بين من مضى ومن بقي، فالأمر اليوم كالطعم تحت العقبة، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، من أراد من الدنيا حاجته، وما لا بد له منها، لا يقطعه ذلك عن أمور دينه، بل أمور الدين تُيَسِّره وتزيّده، فمن جعل الدنيا حذاء منعته النجاسة والشوك والأذى، ونفعته وهو عزيز، فإن جَعَلها على رأسه قذّرته ووضعت من قدره وهو ذليل، بل لو جلس وهي في رِجْله ينبغي له أن ينزعها، فكيف إن جعلها على رأسه، وقد قال بعضهم، ماذا تريد بأمٍّ أمومتها يتم، وفائدتها غرم
(١/٧٤)
وقال رضي اللَّه عنه لبعض السادة يوصيه في أهله، احذروا من العلاق، فإن الشحنة كما يقال إذا ما لحقت شيئاً كسّرت القبال، وقال لآخر، نوصيك بلا إله إلا اللَّه كل وقت، خصوصاً عند الهموم والشواغل، وضيق المعيشة، فإنها توسع الرزق، ومن طبعها الرطوبة، حتى قد يحصل منها النوم، وقال لرجل من المتعلقين بعلم الظاهر، إحْيَ في قلبك، ولا تمت في نفسك، فإن القلب له صفات كالزهد والتواضع، والنفس لها صفات كالرغبة والرياء، وحب الجاه، فإذا اتصف القلب بصفات النفس، اندرج فيها، وإذا اتصفت النَّفْس بصفات القلب، اندرجت فيه، فاترك عنك الوسواس، فإنه في الظاهر مذموم، فكيف به في الباطن، ألا ترى من يوسوس في صلاته، نويتُ نويتُ، ماذا حَصَّل من ذلك، فوسواس الباطن أشد، والمتعلق بالفقه أي فقط لا يفتح عليه، فطالع في الأربعين الأصل، وخذ بما في كتب الإمام الغزالي، ولا تطلب التدقيق، فإن هذه الأشياء في هذا الزمان إلى الطي أقرب، وقد صارت العامَّة فيه خاصة وانقلبت فيه أمور لو سمعتها قبل أن تراها ما صدّقت بها، فلو قيل، إن فلاناً يفطِّر الناس في شهر رمضان، ويكلفهم ترك الجمعة والجماعة، ما صدّقت، وهو وفلان قد سكرا بخمر الظلم، فما يفيقان إلا في القبر، وفي مثلهماقال اللَّه تعالى، { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} الآية
(١/٧٥)
وقال رضي اللَّه عنه لذلك الرجل المتعلق بالعلم الظاهر، عند الإلباس وقد ألبس جماعة وهو حاضر، إنما يكون الإلباس والتلقين، لواحدٍ مرة واحدة، ولكن إذا حصل كذلك، وهناك أحد ممن قد لبس وتلقَّن، أو ممن ليس من أهله كعامي وبدوي، كما فعلنا في هود، فإنا إذا ألبسنا أحداً دخل مع من حضر تبعاً لا مقصوداً، ومن هذا الجانب قد يتكرر، وإلا فلا تكرر، لأن المقصود بذلك واحد وغيرُه تبع له، لأن هذه الأشياء عزيزة عند أهلها، فإنَّ بذلها فيه ابتذالها، ولا يجوز لأحد من المشايخ أن يبتذلها، ولو فعل مُنِع لأنها عزيزة، ألا ترى أن المسك لو كثر هان، ولو أكثرت من شمه هانت رائحته عندك، فكيف بالأمور الإلهية، وقد ذكر الإمام الغزالي أنه لا عزيز على الحقيقة إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وصفاته، وأن شروط العزة ثلاثة، أن يكون عزيز الوجود، وأن تكون الحاجة إليه داعية، وأن يعسر الوصول إليه، وما زال صاحب التلقين والإلباس حيَّاً فيتلقَّن منه، ويلبس، ومن واسطة بإذنه، ويأخذ الناس لهم ولمن أحبوا حتى أولادهم وأهلهم، ألا ترى لو وصل مركب إلى البندر، كيف ترى كلا يأخذ منه، وأهل الطريق عليها، إلا ما بين كونه بجنبك وتراه أولا تراه، أو بعيداً منك، وإذا سقطت في الطريق لا بد ما يحملك المارُّون، وهذا معنى لا يهلك مع اللَّه إلا هالك، وهو ملزم له بذلك، وإن رمى نفسه في غير الطريق، فلا يعلم به أحد وهو الهلاك، أو كما قال، كل ذلك قاله بعد ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع أول، سنة ١١٢٦هـ
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، فرّح الناس، وبشرهم عن سعة رحمة اللَّه، فإنهم يغترفون من بحر لا يُخشى منه الانقطاع، وإن عصوه فإنه لا يعجل عليهم، بل يمتعهم إما إلى مدة آجالهم ويجازيهم في الآخرة، وإما إلى أن تُقبِل عليهم قلوبهم
(١/٧٦)
وقال له رضي اللَّه عنه رجل، أريد أن أبشر بالرحمة من قولكم، فإنَّ الناس في ضيق، فقال له، إن ربك قد وصف نفسه بالرحمة، فقال تعالى ،{وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}، فَبَشِّر بالوصف، ولا تبشر بالقول، فقل لهم يسترحموه يرحمْهم، يسترحمونه بأفعالهم وأقوالهم ليرحمهم
وذكر رضي اللَّه عنه تأخر الرحمة في البلد مع حصولها لغيرها، فقال نفع اللَّه به، عسى إنما تؤخر للوقت، لا لغضب، فما خوفنا إلا من ذلك، ولو أراد أن يعذبهم بذنب واحدٍ، لكن رحمته أوسع، وهو يمهلهم لأنه واثق بأخذهم، لا يفوتونه، فمن أراد له منهم خيراً وَفَّقَهُ لتوبة وعمل صالح، ومن أراد به غير ذلك فليس يفوتونه، وعسى أن تحصل توبة وعمل صالح، فيكون مثل قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، أن يسقيهم بمن منعهم بسببه، إذ كان مُصِرّاً على معصية فتاب بينه وبين ربه، وذاك نبي يعمل بالوحي، وبنو إسرائيل فيهم أيضا تخليط، ولكن هذه الأمة لما كانت آخر الأمم، وقريبة من الساعة، ينبغي أن يكون تعلقهم بالآخرة أكثر، فإنهم آخر الأمم، وتلك أمة جاءت من بعدها أمم
وقال رضي اللَّه عنه، هذه كلمة جامعة واقعة، من تعدَّى حدَّه، رجع إلى ضده، وقال، اسلك ولا تتعمق، فمن سلك ملك، ومن تَقَصَّ هلك
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه خلق الدنيا وجعل فيها كثيراً من الشهوات، ليأكل المؤمن قدر ضرورته فقط، ويعبده في مقابلة ذلك، ويترك شهواته لدار إقامته في الآخرة، ولا يَتَعَجَّلها هنا
(١/٧٧)
وقال رضي اللَّه عنه، يوم الخميس ثالث عشرين من ربيع أول بعدما انجر كلامه في ذكر الجنة، ثم قال، لا ينبغي أن تقاس أمور الآخرة على أمور الدنيا، فلو قال قائل، كيف تكون نخلة من لؤلؤ، تثمر ثمراً يؤكل؟، فيقال له، ألا ترى أن نخلة الدنيا خشبة، تأتي بثمر يؤكل، فتلك أحرى بالثمر من هذه، والذي أخرج الثمر من هذه يخرجه من تلك، ولكن الإنسان يصدّق ولا عليه، ولا يبخل على نفسه بالتصديق، ويبتدئ أولاً بترك المحرمات، ثم فعل الواجبات، ثم ما استطاع من النوافل، والطريق في هذا الزمان فعل الواجبات، واجتناب المحرمات، واجتناب ما يقدر على تركه من الشهوات، وإنما قَصُرت أعمار أمة محمد صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وقَلَّ ما يتمتعون به من الدنيا مأكلاً وملبساً ونحو ذلك بالنسبة إلى الأمم السالفة ليستوفوا نصيبهم في الآخرة كاملاً
انظر ما قال في فضل هذه الأمة
وسأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من ربه لأمته لقصر أعمارهم، فأعطاه ليلة القدر، وسمع واحد من عُبَّاد بعض الأمم بقصر أعمار أمة محمد، فقال، لو أدركتهم لقطعت عمر الواحد منهم في سجدة، فأعطيَ نبينا صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كرامة له ولأمته ليلة القدر، ويقال، من عمل فيها اثنتي عشرة سنة فاق عمله عمل ألف سنة، لأن كل ليلة واحدة خير من ألف شهر
(١/٧٨)
وقال رضي اللَّه عنه، قاعدة، إذا كنت مسموعاً عند الناس في أمر دنياهم، فكن عندهم أيضاً مسموعاً في أمر دينهم، فإن سمعوا لك في الكل، وإلا ففي البعض، وإن سمعوا كلهم أو بعضهم، ولو واحداً أو في وقت دون وقت وهكذا وإلا كنت أحق بالعذاب الوارد في قوله تعالى،{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الآية، فيحل بك قبلهم ومن يخالط أهل الدولة، فينبغي أن يفعل ذلك معهم كفارةً لما صدر منه من مخالطتهم، ولو معنا نحن ما نتطهر به ونطهر به مجالسنا منهم فَعَلْنَا، ولا ينبغي أن يُحَرَّكُوا، فإنهم كعقارب وحيَّات ساكنة، فيزيد في سكونهم ولا يحركهم، وقد قيل، إن بعض الجبابرة قحطت أرضه جداً، فقال لنبي زمانه، قل لربك، يغيثنا، وتخصب أرضنا، وإلا آذيته، فقال له ذلك النبي، أَلَكَ قدرة على إيذائه وهو مالك السماوات والأرض؟، فقال، نعم، أقتل أولياءه، فأرسل اللَّه عليهم الغيث وخصبت تلك الأرض
وذكر رضي اللَّه عنه ليلةً أهل بلد تجاوزوا الحد، فسلط اللَّه عليهم من آذاهم وتكلم فيهم بكلام كثير إلى أن قال، يحكى عن امرأة منهم، أنها حملت ابناً لها صغيراً، وفي يده حجارة، فقال لأمه، أتجيبين وإلا ضربتك بهذه الحجارة، فلم تجب فضربها بالحجارة في وجهها، وقال الشاعر،
عاقبة الظلم مهلكة وإن تراخت مدة الأمد
كم لقمة دخلت حشا شَرِه فأخرجت روحه من الجسد
وقال رضي اللَّه عنه، ما معك في هذا الزمان إلا التعريف باللطف، بأن تحكي له وتقول، إن هذا واجب عليك، تثاب عليه في الآخرة، أو هذا حرام عليك، تأثم عليه، ومثل هذا سِرًّا، وإلا رجع عليك هو وغيره، كما لو رأيت مُدّاً فيه نقص، وأنكرت عليهم، وأردتَ منهم أن يجعلوه وافياً على المعتاد، ونحو ذلك فبيّن له الأمر الرائق، في الوقت اللاّئق، ويختلف هذا بطبقات الناس
(١/٧٩)
وقال رضي اللَّه عنه، من تحركه الرغبات الدنيوية، لم يكن للرغبات الأخروية أهلاً، كمن يسمع أن من واظب على صلاة الضحى تيسر رزقه ففعل لذلك، فلا يقل، أرجو بذلك الجنة، إلا إن كان للتبرك بذكرها، كما روي أن ابن المبارك خرج يوماً على أصحابه، فقال لهم، إني استجريت البارحة على ربي، فسألته الجنة
وذكر سيدنا رضي اللَّه عنه جملة أناس من العلماء العاملين المخلصين، ثم أثنى عليهم كثيراً بثناء حسن، فقال، نعم مثل هؤلاء من المذكورين، لا مثل هؤلاء قشاش المعاش، ولا عاد تفتش، فكان إذا فتشت لحقت جواهر، واليوم إذا فتشت لحقت بعراً
وقال رضي اللَّه عنه، لا ينبغي أن يتخذ الإنسان شيئاً يعسر عليه فَقْدُه لئلا يشتغل إذا فقده، ولهذا قطع الصالحون جميع التعلقات، خوفاً من التعب عند زوالها، وهذا يريد رياضة شديدة، ولكن مع من لا يبالي بالشيء ولا يتلذذ به، فما بقي إلا أن يتلذذ به، ويصبر عند فراقه
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي لأهل الزمان أن يجتهدوا أن يكونوا من أصحاب اليمين، بأن تغلب حسناتهم على سيئاتهم، فيكونوا إلى داخل، لا إلى خارج، ويسلموا من الكبائر، ويعتقدوا في أنفسهم أنهم لم يقوموا بشيء، فمن أحكم ذلك، صار من المقربين، وأهل الزمان يطلبون أن يكونوا صالحين مع جمع الدنيا ولا يصح من هذا شيء
وقال رضي اللَّه عنه، الأمور الغيبية الاعتقادية، كسؤال الملكين، حظُّ القلب منه التصديقُ والتسليم، ولا يُطَّلَع عليه إلا بواسطة النبوة فقط، ولا يُسأل عن كيفية ذلك، وكيف تكون صفته، فلا بلغنا عن أحد من الصحابة، أنه سأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم
وقال رضي اللَّه عنه، سمعنا فيما بلغنا أن أهل القبور يسمعون صوت الرعد، ويخافون منه جداً يخشون أنه من مقدمات الساعة، فإذا كان هذا صوت رحمته فكيف بصوت عذابه، قال، ولما سمعته ذكرت أحوال منكر ونكير عند سؤالهم
(١/٨٠)
وقال رضي اللَّه عنه، أمور الآخرة إنما هي على قدر المتكلم بها قال اللَّه تعالى ،{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}، أي إنها عند اللَّه تكون قريباً وإن بعدت
وقال نفع اللَّه به، اللَّه يستوفي مظالم العباد في الدنيا، ثم يردف لهم أيضاً في الآخرة، إذا ورد عليه بتوبة
وقال رضي اللَّه عنه، في حديث، (( اهتبلوا العفو عن عثرات ذوي المروّات ))، وفي رواية، أقيلوا ذوي العثرات، أي إذا كان إنما يعثر نادراً، وأما إذا كثر منه العثار، فليس من ذوي المروءات، فلا يقال كلَّ حين
وقال رضي اللَّه عنه، نحن ما ينكر علينا إلا مكابر، فإن كان في أمر باطن فما عاد هذا من الدين، فإن كان في أمر يريد أن ينكر فيه الحق، حاججناه بحجة اللَّه، فيحكي لنا بما عنده
وقال رضي اللَّه عنه، إني لم يُقسَم لي من المراء والجدال حظ أبداً، لأني ما أحبه وأكرهه بطبعي، فلو أردته سُلِبتُه فنسيتُه في الحال
وقال أيضاً نفع اللَّه به، نحن بحمد اللَّه قد نزع اللَّه من قلوبنا المحبة لأمور الدنيا بالكلية، وما هو إلا إن كان أحد رمى عليك شيئاً، وأردت جبره، ولكن إذا بدت لشيء حاجة تنكر إنك تريده، وتفعل في أمورها كما يفعل الناس، كما قيل، كماهم
وقال رضي اللَّه عنه، نحن الملوك والباقون لنا تبع، فإن تُركنا على ما نحن عليه، بقينا خاملين ومستترين على ما مضى عليه أسلافنا، فإن ألجأونا إلى شئ أعطيناهم ما يعجزهم ويسكتهم، فإن لم يصدِّقوا فليجربوا
وقال رضي اللَّه عنه، نحن جميع الناس يحبوننا، ولا يبغضنا إلا منافق، لأنا نحبهم، ونحب لهم الخير، ولا نضايقهم في طلب جاه أو دنيا أو شئ من الأشياء، بل نترك لهم جميع ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، إن أهل الزمان لا يحتملون شيئاً لكنا نجعله لهم في الطعام، ولو علموا ما في طعامنا لسارعوا إليه، ولازدحموا عليه
(١/٨١)
وذكر رضي اللَّه عنه شيئاً من أمور الدنيا، وأحوال الناس فيها، ثم قال، إن الصحابة ما اغتروا بالدنيا، ولا افتتنوا بها، وأنا فيما أراه من نفسي، لو أن رجلا جاءني بحُمول من ذهب، وقال، خذها لك افعل فيها ما أردت، لا أجدني أفرح بها، ولكن لما حصل الكِبَر والأهل، نأخذ ما تدعو إليه الحاجة، وقد قال أنس بن مالك، لولا أولادي ما داريت الحَجَّاج، لأنه ظالم فخاف عليهم
وقال رضي اللَّه عنه، نحن مع الناس في فائدة عظيمة بحمد اللَّه بسبب سلامة صدورنا منهم، لأنا لا نعلم أحوالهم، ولا نصدق أهل الزمان فيما ينقل بعضهم عن بعض، ولو تحققنا ما هم عليه من المذموم، أبغضناهم لأجله، وما معك يكفيك، فكيف بالإطلاع على ما عندهم
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، إذا فعل الإنسان ذنباً، أوما يَعْتَذِر منه بينه وبين اللَّه، فكلما أكثر الاعتذار من اللَّه، كان أحسن، وإن فعل ما يَعتذر منه بينه وبين الناس، فلا ينبغي تكرير الاعتذار، بل مرة واحدة، إذا لم تؤد إلى زيادته
وذُكِر له رضي اللَّه عنه رجل شرس الطبع دَعَاه رجل يحبه فامتنع، فقال رضي اللَّه عنه، محاسن الأخلاق تحسن بها الأشياء وإن كانت قبيحة، ومساوئ الأخلاق تقبح بها الأشياء وإن كانت حسنة، ومن أردته يجيك لتجبره، وتؤنسه فاعتذَرَ، فاعرف أن له عذراً، ومن العَجيب أن حَسَنَ الخلق يأكل حق الناس وهم يحبونه، وسيئ الخُلُقُ يأكلون حقه ويكرهونه، وسيئ الخلق هو الذي لا تزال تعطيه وترضيه وتترقاه فلم تبلغ رضاه ولم يزل خاطره متكدراً عليك، وجميع ما قيل في حُسْن الخلق يرجع إلى سعة الصدر والاحتمال، قيل وبذل النَّدا، وهو كل ما ينفع، وكَفّ الأذى وهو كل ما يتضرر به، وفي "الإحياء"، من صدر عنه هذا بسهولة لا تكَلُّف فيها، فهو حَسَن الخلق، فإن تكلف فيها فليس بحسن الخلق، فإن صدر عنه ضدها فهو سيئ الخلق
(١/٨٢)
وقال رضي اللَّه عنه، الأخلاق الأصلية ما فيها تغير، لكن يؤكدها العمل بمقتضاها ويُضْعفها العمل بخلافها، وإذا عُرِفَ الإنسان بطبع يعطونه الناس على مقتضى طبعه، أو قال، على قدر طبعه، وما هي إلا ساعة
ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض السادة، وكان قد خرج من مرض طال به، فقال سيدنا له، الحق إلاّ لكم علينا من الزيارة لعيادة المريض، ولكن الناس تغيرت أحوالهم، وكل أحد ادّعى بنفسه وأعجب برأيه، إذا جئنا عند أحد لأمر مقصود طالبونا بأمور غير مقصودة، فقال ذلك السيد، لأن النفوس كبرت، فقال سيدنا، نعم، ولهذا صغرت قلوبهم، فلو كبرت القلوب وصغرت النفوس لكان أحسن
وقال رضي اللَّه عنه، كلما غلبت النفوس ضعفت القلوب والأرواح، وبالعكس، وإن فُعِل خلاف ذلك فبالتكلف
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً، مَن هو حَسَن الخلق، ومَن هو سيئه، وقد جاء ذكر حسن الخلق في حديث، فقال نفع اللَّه به، لأن سيئ الخلق المُعَبِّسَ بوجهه يسئ إلى الناس وهو لا يحسب أنه يسئ إليهم، وحَسَن الخلق يحسن إلى الناس وهو لا يظن أنه يحسن إليهم
وقال رضي اللَّه عنه، جاء في وصف المؤمن، أنه هين لين، أي حسن الأخلاق في غير معصية
وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً، حَسّن أخلاقك، وعليك بسعة الأخلاق، ففي سعة الأخلاق وَفْرُ الخلاّق
(١/٨٣)
ولما أشغله رضي اللَّه عنه الزوار بكثرة المصافحة، أردت أن أؤخرهم عنه، فقال نفع اللَّه به، إن هذا منهم حسن ظن، ومِنَّا حُسن خلق، وكل منا مأمور بذلك، إلا أن الإنسان لا يبقى على حد الوسط، بل يجاوزه إلى حد الإفراط أو التفريط لأن في طبيعة ابن آدم الميل عن حد الوسط وقال بعض الفقراء، سبق مني شئ من القول، توهمت أنه وجد عليّ بسبب ذلك، لأنه قال عند ذلك عاد هنا من هو أولى منك بذلك، قال فقلت له، يا سيدنا إنه جاء عن أحد من الصحابة، إنه ربما قال للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم شيئاً، فغضب عليه السلام حتى عُرِف ذلك في وجهه، حتى قال ذلك القائل، ليتني ما قلت له ذلك، فهل يضر الصحابة أمثال هذه الأشياء، فقال رضي اللَّه عنه، أما الذين قالوا له عليه السلام تَعَنُّتاً، كان عاقبتهم أن صاروا منافقين، وأما من قال مثل هذا من الأعراب، فإنه لم يضرهم، لأن معهم سلامة وقرب عهد بالإسلام، وأما من حصل منه مثل ذلك من أكابر الصحابة، فإن أولئك قوم قد امتلأت قلوبهم إيماناً، فلا يضرهم ذلك شيئاً وأنت ميّز بين طبقات الناس، واختلاف الأحوال، والمجالس والخطاب، وبين من امتلأ قلبه من الإيمان، والإنسان ينبغي أن يقف عند حده فلا يتعداه، قال ذلك الرجل، فقلت وإن لم يعرف الإنسان حده، فقال، فربما مع الإنسان أولاده وأهله وأقرب الناس إليه، فلا يتعدى عليهم من هو دونهم، وقال سيدنا لذلك الرجل، عليك بالأخلاق، فإن الأخلاق خير أي نعمة من الخلاّق، ومن حَسُن خلقه يأكل حق الناس ومع ذلك يمدحونه، ومن ساء خلقه يأكلون حقه ومع ذلك يذمونه فانظر الفرق بينهما
وصافحه رضي اللَّه عنه رجل بشدة حركة، فقال نفع اللَّه به، اتركوا هذه الشراجة، ولو نقدر لفعلنا لكم كما تفعلون مرتين، ودَعُونا نتمتع بكم، وتتمتعون بنا، واللَّه أعلم بالصادق من الكاذب
(١/٨٤)
وقد قال الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر العيدروس نفع اللَّه به، شَمّ اليد عندي كقطعها ولولا الرغبة في طلب الجماعات والجمعات وشريف الأوقات لما خرجنا إليكم، وخذوا العلم من الكتاب والسنة
وقال رضي اللَّه عنه، بَشَّرَنا جملة من الصالحين سَمَّى بعضهم، وكلهم يوصونا بالصبر، فقلنا، إن هذه قصة عثمان رضي اللَّه عنه، لما بَشَّره عليه الصلاة والسلام بالجنة على بلوى تصيبه، لكن الحمد للَّه مَنَّ اللَّه علينا بالصبر، وجعل مؤنتنا على غيرنا، فلما فعل بنا ذلك، حَصَل لنا سَعَةُ الصدر والقوةُ كالجمل الذي يجعل عليه الحمل الثقيل، ولا يعبأ به
وقال رضي اللَّه عنه لرجل أعمى مسن يصبره، لا يكره الإنسان ما يؤجره اللَّه عليه من البلاء، فإنه سبحانه لا يُبْلي إلا ليؤجر، ولو لم يكن في ذلك إلا تكفير السيئات
وذُكِر له رضي اللَّه عنه رجل إنه ينتمي إليه، ويعظمه الناس لأجله، سيما في الحرمين، فقال نفع اللَّه به، إنه ليس إلينا، ولا نحن إليه، فقد جاء من الهند ولم يمر علينا، واكتفى بالمصافحة بعد الجمعة، وما هذا من الوفاء، وقد كان هذا الكلام في الخاطر منذ مدة أربع سنين، ولم نذكره إلا الآن لما ذكرتوه، وما يُظهره للناس من دعوى الاتصال بنا، نريد نعلمكم بمعاملته لنا، ونحن مثل أهل الزمان نتكدر مما يتكدرون به، ونحنق مما يحنقون، وإنما غلبناهم بالصبر، حتى يظنوا أنا لم نعلم بها، ولم تخطر في بالنا، ونحن عالمون بها، ولكنا صابرون عليها
(١/٨٥)
ومما عجبت من صبره رضي اللَّه عنه وحسن خلقه، بالنسبة إلى طبعنا أهل الزمان، إن موضعاً من بيته في البلاد، كان خادم له موضّعاً فيه، ويجلس ويرقد فيه من النهار، فما دخله سيدنا منذ كان فيه ذلك الخادم، حتى مات، فدخله نفع اللَّه به يوماً وجلسنا معه، ومعه السيد أحمد بن زين الحبشي، فقال له سيدنا، علمُنا بدخول هذا المحل من ولادة ولدنا علوي، وعلوي حينئذ أبو أولاد، قال، وكنا نقابل في هذا الموضع في الإحياء كل ليلة، ومنذ نزل فيه فلان ما دخلناه، واستعار منه رضي اللَّه عنه بعض الناس الجزء الأول من كتاب "مجمع الأحباب"، وكان ضنيناً به، قَلَّ ما يعيره، فلما أبطأ به، سأل عنه مراراً ثم أمر أن يؤتى به من عنده، فأتي به، فجعل يقلبه بيده، وأنا متعجب من شدة اعتنائه به، فقال لي مكاشفة منه، أتحسب أنه لو تغير أنا نعاتب عليه؟، لا، ولكن هذا مِنَّا حزم والحزم سوء الظن، نفعنا اللَّه به ورزقنا التخلق بأخلاقه، وهذا الكتاب "مجمع الأحباب" رآه رضي اللَّه عنه في بلد تعز من اليمن، سنة حج، وكان ثلاثة أجزاء بخط واحد، فلما رآه استحسنه ورغب فيه لكونه يستوفي التراجم كما ينبغي، فتعلق خاطره به نفع اللَّه به، فقال، إن شاء اللَّه إذا رجعنا من الحج نشتريه، فلما رجع وجد أنه قد بيع منه جزء، وبقي اثنان، فاشتراهما وبقي الآخر في نفسه، فقدر اللَّه أن رآه بعض المسافرين من السادة إلى صنعاء فرغب أن يشتريه ويهديه لسيدنا، ففعل فلما وصله رآه ثالث الثلاثة، فحمد اللَّه على ذلك
(١/٨٦)
ويشبه قصة هذا الكتاب قصة مسبحة أرسلها له بعض المحبين، من آشى عدتها ألف حبة من عود الصندل الأبيض، ونجارتها فوقها في كيسها مع أناس حجاج فطبعوا في البحر، وسار بها الماء، ثم في السنة التي بعدها جاء من تلك الجهة أناس حجاج، فرأوا المسبحة طافية على الماء في البحر وقد اختل منها خمسمائة وبقي خمسمائة، فأخذوها وأرسلوها لسيدنا، ولم يعلموا أنها مرسلة إليه، إنما هو اتفاق، ونجارتها أيضاً معها، وقال رضي اللَّه عنه لا تكلم من سكت عنك، ولا توقظ من غفل منك، فربما ذلك يحركه بإيذائك، كما يحكى إن رجلاً مرَّ على جماعة من اللصوص، ناموا حتى طلعت عليهم الشمس وتبدد على وجوههم التراب، فرحمهم وقال، مساكين راح بهم النوم، فمسح التراب عن وجوههم، وأيقظهم فعَدَوا عليه وأخذوا ثيابه ثم أنشد حينئذ نفع اللَّه به هذا البيت ،
أيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها ويا حاطباً في غير حبلك تحطب
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه يستوفي للصابرين على من ظلمهم، وإن صفحوا وعفوا عنهم في الظاهر، لأن حقوق العباد شديدة، وحقوق اللَّه أسهل منها، ولكن لا يَعرِف حَقَّ اللَّه من حقوق الناس إلا عالمٌ كبير
وقال رضي اللَّه عنه، صاحب الحقيقة مستغرق فيها، وجميع عمله ومشهوده فيها، وأكمل منه الجامع يضع الحقيقة موضعها باعتبار، ويضع الشريعة موضعها باعتبار آخر
(١/٨٧)
وقال رضي اللَّه عنه، ومن طبيعة الإنسان الاستعلاء، وطلب ما هو فوق قَدْره والتعدي لحده، فلو زاد أدنى زيادة طاش لُبُّهُ إلى أزيد من ذلك، ولو ارتفع نظره إلى خزانة اللَّه لمات من الهيبة، كما ذكر إن بعض خلفاء بني العباس، خرج متنكراً ودخل على بعض أخدامه فسقاه الخادم نبيذاً، ثم قال له، من أنت؟، فقال، أنا من عسكر الخليفة، فسقاه ثانياً وقد حصل له منه نشوة، فقال له هو، من أنا؟، فقال، زعمت أنك من العسكر، قال، بل أنا مقدم العسكر، فسقاه ثالثة، فقال، من أنا؟، قال، زعمت أنك مقدم العسكر، قال، أنا الوزير، فسقاه أيضا فقال، أتدري من أنا، قال، زعمت أنك الوزير، قال، أنا الخليفة، فقال له الخادم، قم فاخرج عني لئلا تدعي أيضاً النبوة أو الربوبية، ولهذا ادعاها فرعون اللعين حيث رأى من قومه امتثال ما يقول، وهل يدعي خلق السماوات أو الأرض
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ))، أي وُسْع المعرفة، وحَمْلُ الأمانة وسع علم، لا جِرم، والقلب لا يضيق بكثرة المعلومات وإن كثرت، وإنما تضيق أماكن الفراغ بما يكون فيها من الأجرام
وقال رضي اللَّه عنه، إعترف بالعبودية لربك، فإن لم تعترف بها، فإنها مكتوبة في ناصيتك، ومن قال، هذا حقنا ومالنا، فقد أساء الأدب، إذ لاملك له، وقد قال تعالى ،{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، فلم ينسب لهم إلا الاستخلاف في الملك، فمن أين له الملك، وهو مملوك
وذُكِر له رضي اللَّه عنه الفداء المعتاد في الجهة، فذمَّه وذم المتعاطين له، ثم قال، اعمل للجاهل والعامي باليقين ولكن ارفعه عن الشك، ودعه على ما هو عليه ولا تكلمه
(١/٨٨)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أعوزك وجود الخير، فلا يعوزْك القرب منه، بحيث تكون إليه أقرب من المنهمكين على الدنيا، يباتون ويصبحون مهتمين بها ويعملون فيها، وخذ من كل شيء بركته، والميسور لا يسقط بالمعسور، وإذا كانت الغايات لاتدرك، فالقليل منها لايترك
وقال رضي اللَّه عنه في قول اللَّه تعالى ،{لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً}، أي ماء القناعة والزهد، والزاهد في الدنيا المتجرد عنها، أخف تعباً وأكثر راحة من غيره، إلا إن الضعيف اليقين إذا أرسل اللَّه إليه نعمة على يد أحد من الخلق تعلق قلبه به، ويرى أنه هو المحسن إليه، ولا يمتد نظره إلى المحسن الحقيقي، ولا ينفعك أحد إلا بعد أن يضع اللَّه في قلبه ما وضع، والحركة مع السلامة من منة الناس، ما هي إلاّ بركة إن لم يكن فيها إثم
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي أن لا يخلي الإنسان يده في هذا الزمان من شيء يعيش به، إذ لا راغب في الخير ولا مبالي بمحتاج، ولعدم الشكر فيه من الغني، والصبر من الفقير، وينبغي أن يحفظ ماله ويحصنه بإخراج الزكاة
وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى ،{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} إن تفسيرها في قوله تعالى، { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الخ
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي للإنسان أن يحترز من كل ما تميل نفسه إليه جهده، خوفاً من الوقوع في الحرام من نظر وغيره، وعلامة النظر بلا شهوة أن يكون كنظره إلى شجرة سواء، فإن فرق فهو شهوة، والإنسان في هذا في تعب، قال اللَّه تعالى ،{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في كَبَدٍ}، أي مكابدة وجهد شديد، مع الداعية له إلى المخالفة
(١/٨٩)
وذكر رضي اللَّه عنه الناس وأحوالهم، فقال نفع اللَّه به، الناس فيهم ظلم، منهم المرائي، ومنهم تارك الزكاة، ومنهم المخلِّط وغير ذلك، وسواء لو تولى عليهم عادل أو ظالم، فهم على حالهم، فقال له بعض الحاضرين، يا سيدنا عاد الناس لهم بخت، حيث كنتم بين أظهرهم ويرونكم، فقال رضي اللَّه عنه، عاد في الزوايا خبايا، ولو لم يكن في الزوايا خبايا، لدكدكت بهم الأرض، لكنهم إذا كثر الظلم والفساد، يخرجون من ظهرانيهم إلى الفيافي والقفار، يسيحون في الأرض، ويستريحون منهم، فقلت، يا سيدنا هل هم في هذا الزمان قد قلوا عما كانوا عليه سابقا؟، فقال، العدد المعلوم المذكور في كلام العلماء وهم أهل الدائرة لا ينقص، وما كان خارجا منه فيه نقص
وقال رضي اللَّه عنه، قلة العلم مع العمل، يزكو على الكثير بلا عمل، إلا أن العامل قليل، فقد ذكر الشعراوي أنه لم يزل الناس سابقاً ولاحقاً كثيري العلم، قليلي العمل
وقال رضي اللَّه عنه، إذا سألت اللَّه شيئاً فاسأله أن يكون في أحسن أوقاته، وقيد السؤال بالعافية واللطف، فقد سمع ابن مسعود رجلا يسأل التوبة، فقال، هذا يسأل التوبة ولعل توبته في قطع يده، فليسأل مع ذلك العافية، وسأل رجل من اللَّه، أن يحصل له كل يوم رغيفان، ولم يسأل العافية فقدر اللَّه أن حبس، وكان قد قام له أحد من الناس كل يوم برغيفين، فتذكر بعد ذلك، فسأل العافية فَفُكَّ من الحبس
(١/٩٠)
وقال رضي اللَّه عنه، إن الإنسان في أول أمره في حال صغره مجبول على كثرة الحركة ضرورة حتى قال بعضهم، لو أُمْسِك الصبي عن الحركة لتقطعت كبده فلم يزل في زيادة من عقله، ونقص من حركته، كلما ازداد عقلاً، ازدادت حركته نقصاً، حتى يبلغ اثنتين وعشرين سنة وهذا بلوغ الأشد، وآخر ما تنتهي إليه زيادة العقل، ثم لم يبق بعد ذلك إلا التجارب، وهي من زيادة العقل، فيَفهم أن ما يضره يضر غيره، وما ينفعه ينفع غيره، وما يكرهه يكرهه غيره، وعلى هذا، ويقال لذلك عقلاً حتى آخر العمر، ثم إذا بلغ الأربعين فقد استوى، بمعنى أنه وقع له من التجارب في نفسه، ما يقيس عليه غيرُه أيضاً، وأكثرُ الأنبياء لم يرسل إلا بعد بلوغ الأشد والاستواء إلا ثلاثة، عيس ويحيى، وأوحي إلى يوسف بعد بلوغ الأشد وهو اثنان وعشرون وقبل الاستواء وهو الأربعون، فلذلك قال تعالى في حق يوسف ،{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه} ولم يقل واستوى وقال ذلك أي الاستواء في حق موسى عليهما السلام
وقال رضي اللَّه عنه، الأدب والانتفاع على قدر المتأدب والمؤدَّب به، وإذا كان الوعاء ملآن يطرحون له في أيش، ونحن أصحابنا مؤدبون بتأديب إلهي، بسبب الغربة والانقباض، ولولا أن اللَّه جعل فينا هيبة لابتذلنا الناس، ثم ذكر قصة الذي صحب الإمام مالك عشرين سنة، سبع عشرة منها في الأدب وثلاثاً في العلم، ثم قال، ليتني جعلتها كلها في الأدب وما كل أحد يعرف الأدب، وكيف يتأدب، فإن الناس فيهم جهال، وفيهم بدو وغير ذلك، أما سمعت الذي شمت العاطس بحضرة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال له عليه الصلاة والسلام، (( عليك وعلى أمك )) والذي قال له عَلّم فلان الاستئذان، وعَلّم آخر كيفية رد السلام، وما كل أحد يعفى عنه سوء الأدب، أو كما قال
(١/٩١)
وقال رضي اللَّه عنه، من تأمل أحوال أهل الزمان، لم ير معهم آخرة ولا دنيا، لأن الآخرة إنما هي بالعمل الصالح وفعل الخير، وهم لا يفعلون ذلك، والدنيا التي بأيديهم، إنما هي مجرد وسواس، وشغل في أبدانهم وقلوبهم، ويزيدون بسببها تَلهّفاً وشُحًّا
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، من كان معه شيء من أسباب الدنيا، كعَقَار وتجارة، وكان قلبه متعلقاً بذلك، فقد وقع في شبكة الشيطان، فهو متمكن منه كما يطلب، فلا يهتم به كثيراً وإنما يهتم كثيراً في اقتناص المتجردين عنها وطلبهم، ليوسوس لهم، ويشغل بواطنهم وجوارحهم بالاهتمام بأمر الرزق والوسوسة فيه، لأن هذا هو مراد الشيطان، وقد حصل له في الأولين وطلبه من الآخرين
وقال رضي اللَّه عنه، مات العلم في الصدور والسطور في هذا الزمان، لأن أهله لا يطلب واحدُهُم منه ما يلزمه في حقه وفي حق المتعلقين به
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( لو لم تذنبوا لخلق اللَّه قوماً يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم ))، يعنى أنك لا تَتَقَصَّد ذلك، ولا تنكر وجوده في الكون، فللَّه فيه حِكَم، ولو لم يكن من الحِكَم في ذلك، إلا ليكون الناس درجات بعضهم فوق بعض، ومن أنكر وجوده، أو تقصد فعله، فهو عاص فاسق، وهو كمن يتقصد شرب السم
وقال رضي اللَّه عنه، الاعتماد على المقادير بدعة، والاعتماد على الأسباب بدعة بل لا بد منهما
وقال رضي اللَّه عنه، الرضى بالقضاء هو أن ترضى بكل ما يجريه اللَّه عليك باطناً وتلتزم جميع أحكامه ظاهراً، والرضى مع تضييعها غرور وفتنة
وقال رضي اللَّه عنه، لا تخبر الظالم بظلم غيره فيزيد ظلمه، لكن أَخف ما استطعت مع المداراة، ومن لا يرحم نفسه من عذاب اللَّه، حيث وقع في الظلم والمعصية، فلا ترجو منه أن يرحمكم، ولا يدخل ذلك في خاطرك، والإيمان نور الوجود، ومن فُقد منه فهو كله ظلمة
(١/٩٢)
وقال نفع اللَّه به، من ألجأك إلى الظلم، فهو أظلم منك
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الدنيا والنفوس، يَقْوَون كلما بلغهم ما يفرحون به، وكلما تَغَذَّوا به من الشهوات، وقُوّتهم الحاصلة لهم إنما هي من قوة النفوس وغلبتها عليهم، والصالحون لا تحصل لهم القوة بما ذكر، والقوة الحاصلة لهم إنما هي قوة الأرواح فيهم، لأن قوة النفس قد أذابوها بالرياضات والمجاهدات فلم يبق لها فيهم أثر
وقال رضي اللَّه عنه، إذا كانت طاقة الإنسان دون همته، ما نَفَع، يهم بأمر لا يستطيعه
وطلبه رضي اللَّه عنه السيد زين العابدين بن مصطفى العيدروس إلى مكانه، البَدْع ثامن شعبان سنة ١١٢٨، فقال له السيد زين العابدين، عاد رؤيتكم يتمتع بها الإنسان، فقال نفع اللَّه به، لكن القُوَى ضعفت ولا يمكنها تساعد الإنسان على ما يريد، فربما نَهِمّ بالأمر، لا تساعدنا عليه القوى، فالهمة قوية، والقوى ضعيفة، والروح أقوى من الجسم، وإذا قَوي الروح حصل للجسم قوة، وإذا حصل على الروح ما يوجب الانقباض انهدم الجسم
وقال رضي اللَّه عنه، إذا وُجدت الهمة، انبسطت في البدن، فيقوى البدن بسبب ذلك، ويقوى الروح أيضاً
وقال رضي اللَّه عنه، الإيمان الصادق في قلب المؤمن كسراج في ظلمة، يضئ لمن حوله، ويستدل بضوئه، والإيمان في قلب المنافق كالسراج المكفي فوقه سفيح
وقال رضي اللَّه عنه، صاحب الجاه الجاهل، سلامته أن يحيل على غيره، ويظهر عدم علمه، ولا يتوسط في شئ، وإلا هلك وأهلك، وذو الجاه العالم، يعرف ما يزن به الأمور، وعنده نور يعلم به ويفرق، وتكون أموره في الاعتدال كلسان الميزان
(١/٩٣)
وقال رضي اللَّه عنه، اعرف أحوال الصالحين وأفعالهم وأوصافهم واعرض ذلك على نفسك وادعها إليه، فإن أجابتك إليه كله صلحت، أو إلى بعضه فعلى قدر ذلك، فإن لم تجبك إلى شيء منه أبداً فتحقق بالإفلاس، ولا تدّع ما لست من أهله، فلا أقل من الإنصاف والاعتراف، على أن أناساً يطلبون الدنيا ويخزنونها بُخْلاً وشُحًّا، ويتمتعون بشهواتها، وهم يظنون في أنفسهم أنهم إنما يأخذون منها قدر الضرورة أو الحاجة، وأنهم ما يضمُّونها إلا لمواساة المحتاجين ونفع الإخوان، وهم كاذبون فيما زعموه لأنهم لا يفعلون ما ادعوه مع قدرتهم على ذلك ووجود المحتاج
وقال رضي اللَّه عنه، اسمعُ ما يقال عن الأولين، إن من الناس من هو كثير العقل قليل العلم، ومن هو كثير العلم قليل العقل، والأول أفضل
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أعرض العبد عن اللَّه وأعرض اللَّه عنه، لا ينفعه شيء حتى يقبل على اللَّه، ويقبل اللَّه عليه، والضلالة إذا رسخت بأن تربّى عليها يعسر إزالتها، كالنخلة الراسخة، فلو أمرت أهل تريم - مثلاً - بترك ما استمرت به عادتهم لما أمكنهم، ولو قلت لهم أن يقلعوا نخلة لازدحموا عليها، فضاق بهم المكان، وعجزوا لذلك
(١/٩٤)
وقال رضي اللَّه عنه، إنا نتحفظ جهدنا من أهل الزمان، لأنا غرباء معهم، ونحن معهم مثل الذي قيل له، أتشهد بكذا وكذا، قال، نعم، ثم قيل له أتشهد بكذا وكذا، قال، ما أسمع، أقول، لعله رضي اللَّه عنه أراد بذلك قصة أبي مسلم الخولاني رحمه اللَّه، لما قبضه العنسي الكذاب بصنعاء، فقال له، أتشهد أن محمداً رسول اللَّه؟، قال، نعم، قال، أتشهد أني رسول اللَّه؟، قال، ما أسمع، تَقِيَّةً من شره أن يصرح بتكذيبه، ولعل معنى سيدنا نفع اللَّه به، أنا نرى في زماننا أشياء من الحق، فنقر بها ونشهد بها، لو استُشهدنا، ونرى فيه أشياء من الباطل، ننكرها بيننا وبين اللَّه، وعمل الناس بخلافها، ولو نظهر ذلك لانشقت العصا بيننا وبينهم، فعدم إظهارها لهم أولى، هذا ما فهمته واللَّه أعلم
وقال رضي اللَّه عنه، ما أحسن في هذا الزمان من الانقباض والصمت، فإذا جلست مع نفر منهم فقم، وأظهر أن لك حاجة دعتك إلى القيام، وحاجتك حاجة صحيحة، وهي الإعراض عنهم للسلامة مما يقعون فيه
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الأعيان من السادة، الحزم ترك مجالسة أهل الزمان، والحذر منهم، وحَدُّك أن مجالسة المغنِّي أحسن وأسلم من مجالستهم، وإذا جالستهم وتكلمت معهم، فأقلل ولا تتكلم إلا فيما لابد منه، حق التنفس، أو الاستذكار، ولا تتعب نفسك معهم، فإنَّ أوعيتهم مخرّقة
وقال رضي اللَّه عنه، كلام أهل الزمان، كقشاش خُمَّ من الدار ومليء به طبقاً، لا ترى ما ينتفع به، وقد كان الأولون لابد في كلامهم من فائدة، ثم إنهم لم ينظروا في الكلام، بل ينظروا في السِّيَر، ويتأملون فيها، وتظهر لهم فيها الكرامات، أظن قال، تحملهم على العمل، وأما هؤلاء فمجالستهم فتنة وإثم وغيبة وفضول وتضييع للوقت، فاعتزالهم أحسن
(١/٩٥)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا تمسك الإنسان وأمكن أن يتبعه أحد من أقارب أو غيرهم على الحق، فليفعل ويثبت، فإن الزمان لا يخلو من أهل الحق، فإذا فُقِد أحد من أهل الحق، لا بد أن يجعل اللَّه خلفاً في غيره، وقد يكون في من لا يخطر في البال، ولا يُظَن به ذلك، ولا يكون في الوهم استحقاقه له أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي للإنسان في هذا الزمان أن يهتم بأمر نفسه جداً، ولا يُقَصّر في ذلك، ولا يهتم بأمر غيره، ويلزم نفسه ما به نجاتها، ويجنبها ما لا ينبغي، بل يكون كراكب سفينة حصل عليه ما يخشى منه الغرق، فإنه لا يهتم إلا بأمر نفسه، ولا يعرّج على غيره، ومن لا يهتم بأمر نفسه، فلا عقل له، وهو كمن هو في معركة القتال مع عدوه، فطرح سيفه في الأرض وجلس، فلا محالة يوشك أن يسرع إلى قتله، لكنه يراعي مع غيره ما يلزمه شرعاً، قال تعالى ،{لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }، فَقَيّدها بالهداية، وما قال إذا ضللتم
وقال رضي اللَّه عنه، من الطاعات ما يقيك النار، ومنها ما يطرق لك إلى الجنة، والورع مما يقيك النار، فاستكثر منه ما استطعت واستقلل الكثير منه، ولا تستكثر القليل، والورع هو التقوى
وذكر رضي اللَّه عنه الجنة فقال، هي في اعتدالها ونورها وصفائها، كما بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، في وقت شدة الصيف إذا هبت الريح اللطيفة الباردة، التي تسمى العَليا وهي النَّعَاما، وهذا الوقت خلي من الظلمة، ومن الحر والبرد، ويوضع نور الشمس والقمر فيها، ويلقيان في النار، لأنهما عُبِدا من دون اللَّه، وفيها من النور ما لا يبلغه الوصف، حتى إن نور الرجل الواحد، لو برز في الدنيا لغطى نور الشمس، وأهل الجنة لا ينامون، بسبب النعيم الذي هم فيه، وأهل النار لا ينامون بسبب العذاب الذي هم فيه، فانظر كيف اشتركوا في عدم النوم، واختلفوا في المادة
(١/٩٦)
وذكر رضي اللَّه عنه في مجلس آخر الجنة والنار، فقال، من فاته نعيم من الدنيا لا بد أن يستوفيه في الجنة، ومن فاته عذاب في الدنيا، استوفاه في النار
وقال رضي اللَّه عنه، الإنسان في غفلة عظيمة، ويعجب هو أيضاً من كونه غافلاً، والعجب من الغفلة، مع الغفلة، عَجَب في عجب
وقال رضي اللَّه عنه، إن الناس كلهم مع اللَّه في مقام الشكر، ويظنون أنهم في مقام الصبر، فإن للَّه في كل عرق نعمتين، ومن العروق المتحرك لا يسكن، والساكن لا يتحرك، فلو تحرك الساكن أو سكن المتحرك لتألم لذلك، ففي كل عرق نعمة وجوده، ونعمة سكون الساكن، وحركة المتحرك، وفي كل شعرة نعمتان، إذ أسفلها مجوف، وآخرها مصمت، فلو انعكس ذلك لتألم الشخص، فللَّه الحمد، وعن بعضهم أنه كان عشاؤه قرصاً يابساً، يصب عليه من الماء البارد، ويفته فيأكله، ويحمد اللَّه ويقول ،
خبز وماء وظل هذا النعيم الأجلُّ
جَحَدتُ نعمة ربي إن قلت إني مُقِلُّ
وقال رضي اللَّه عنه، خفاء الصالحين في هذا الزمان، لأن بعض أهل الزمان مالهم معهم مقابلة، فما يريدون بظهورهم، لأنهم ما أرادوهم إلا لهم، والصالحون ما يكونون لأهل الدنيا، بل يكونون للفقراء عليهم، فلو قال صالح عن كشف لبعض أهل الزمان مثلاً، في الموضع الفلاني من بيتك كذا من المال، لكنك هات نصفه، أو فرقه على المحتاجين لأَبَى، وغَلَبه الطمع، ولو أنه قد كان آيساً منه، وليس على باله، وربما ساء ظنه به، وزال اعتقاده، وقال لو كان هذا صالحا ما قال لي هات منه، ثم أنشد هذا البيت ،
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها سرور محب أو إساءة مجرم
وقال رضي اللَّه عنه، السادة أهل التمييز إذا سموا شيئاً كهدية ما يغيرونه
وقال رضي اللَّه عنه، إذا رأيت مفتخراً فلا تفاخره، ولا تقره على فخره، ولا تلايمه عليه، وإذا علمتم فعلّموا وكونوا أهم بمنافعهم من أنفسكم
(١/٩٧)
وقال رضي اللَّه عنه، العلم فضيلة، لا تتكمل إلا بالعمل به للَّه
وقال رضي اللَّه عنه، الإيمان، اليقين، وتزعزعه الأوهام، وكلما كثرت ضعف وكلما قَلَّت قوي
وقال رضي اللَّه عنه، عند الصوفية، أكثر الفساد إنما هو من السماع والاجتماع، لهذا كانوا يرغبون في الصمت
وقال رضي اللَّه عنه، المداراة هي بذل الدنيا للدين وللدنيا، والمداهنة بذل الدين للدنيا وللدين، ولا بأس بالأول، ويحرم الثاني، ومِن بَذْل الدنيا في المدارة حسنُ الكلام من غير كذب ولا مجازفة، واللينُ لمن تكلمه، والمدارة هي التي نسميها المراعاة
وقال رضي اللَّه عنه، قراءة الفاتحة، آخر المجلس، عادة أهل اليمن ورآى بعضهم أن القيامة قامت، وسمع منادياً ينادي قوموا يا أهل الفاتحة، فقام أهل اليمن، وكان رجل من أهل اليمن ذا فقه وصلاح، يعتاد يختم مجلسه بها ،وكانت له زوجة تكرهه، وإخوانها وقراباتها يحبونه ويرغبون فيه لديانته وصلاحه، ويسمع منها من الكلام ما يكرهه، فيخبرهم به، فإذا سألوها، لِمَ تقول له ذلك، تنكر وتقول ما قلته، بل كَذَب عليَّ، فأتى إليها يوماً نساء، وبقيت تتحدث معهن فيه، وتتكلم بما يسوءه، فاتفق أنه كان يسمع كلامهن من حيث لم يشعرن، فبقي يكتب ما يسمع منهن ليعرضه على أهلها، فلما كان في آخر المجلس قالت لهن، تعالين نقرأ الفاتحة على عادة الشيخ، كما يفعله من قراءة الفاتحة على عادته وقراءتها، فكتبها أيضاً في جملة ما كتب، فلما عرض المكتوب، وأخبرهم بما قلن وأنكرت فقال، هو ذا مكتوب، وفتح الورقة فإذا هو لم ير في الورقة مكتوباً سوى الفاتحة فقط، فعجبوا لذلك، فينبغي قراءتها رجاء أن يُمحى جميع ما حصل في المجلس من مذموم الكلام واللغط، ومرة قال، نقرأ الفاتحة في آخر المجلس، لتكفر ما وقع فيه، فإن كان المجلس مجلس خير، فتكفر ما كان من الخواطر السيئة الاختيارية، أو كما قال
(١/٩٨)
وقال رضي اللَّه عنه، قد قلنا يعني أول العمر نريد أن ننظر، إن كان نحن من المأذون لهم في السياحة والتنقل، لا نستصحب أحداً معنا لئلا يكون بلاء وأذىً على الناس، وإن لم نكن من المأذون لهم في ذلك، فلا بأس إن لحقنا أحدٌ أن نتركه على نيته، في مخالطته لنا
وقال رضي اللَّه عنه، لو أن أحداً له قدرة على السياحة، مثل الأولين من الصالحين، وخصوصاً السياحة في الحاضرة، فإنها أسهل، لكن السياحة تريد قوة قلب وزهد، وترجع السياحة في القلب، فيسيح في قطع فَلَوات النفس، حتى يصل إلى الحق سبحانه وتعالى
وقال رضي اللَّه عنه، إن الصحابة رضي اللَّه عنهم، حَدَّث كل منهم على حسب علمه وما بلغه عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ولهذا كثرت الروايات، وذلك لاختلاف أفعاله وأحواله عليه الصلاة والسلام، ولما كثرت الروايات عنه عليه السلام وعن الصحابة المأمونين، وعن التابعين المقتدين، إتّسع العلم، واختلفت الأقوال، ومن لم يَسِر على الجادة والتقوى، لم يكن له إمام إلا منافق أو فاسق، لأن الطريق قد تخفى وقد تظهر
وقال رضي اللَّه عنه، لا تُحِلْ هذه الأمور على المقادير، بل حِلْها على هذه القلوب المنصرفة والوجوه المدبرة، قال اللَّه تعالى ،{وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الآية
ذكر ما يتعلق بالرزق
(١/٩٩)
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، من كان عنده من الدنيا قدر كفايته فقط بلا زيادة فذاك رزقه المقدر له، أو زائدٌ فما فوق ذلك فهو رزق غيره استخلف فيه، وهو عنده أمانة فليراع فيه ما يلزمه وكما ينبغي على مقتضى الشرع، ويتصدق منه ويقدم منه لآخرته، قال اللَّه تعالى ،{وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه} وإن باع منه شيئاً قنع بما تيسر له في الحال، دون احتكاره والطمع في غلاه، ومهما خرج منه شئ من يده إلى يد آخر بأي وجه ببيع أو هبة أو صدقة أو غير ذلك، فقد رجع ذلك إلى من هو رزق له، وإن بذَّر في الزائد أو أسرف فيه أو ضيعه على مقتضى هواه وشهوته، فهو متعد في حق غيره، ومسرف فيه مذموم الحال
وقال رضي اللَّه عنه، سمعنا فيما بلغنا، إن للَّه ملائكة موكلين بخزائن أرزاق العباد، وإن للعبد في كل وقت رزقاً معلوماً، فإذا أطاع العبد ربه وأحسن له المعاملة أمر اللَّه الملائكة الموكلين بخزائن أرزاق العباد أن يعجلوا له من رزقه في الوقت الآتي، مع رزقه في الوقت الحاضر، فيتسع عليه رزقه فيه، وإذا عصى وأساء المعاملة أمر الخَزَنة وقال، ادخروا رزق هذا له في الخزائن، فيؤخر إلى الاستقبال، ويبقى مقتراً عليه رزقه في الحال الحاضر
ثم قال نفع اللَّه به، لعل المراد أن الرزق شئ مقدر معلوم، على ما قسم للشخص بلا زيادة ولا نقصان، وإنما يقدم ويؤخر بحسب معاملته لربه، ولعل هذا في بعض الناس، وبعضهم وسع عليه على أي حال، وبعضهم بالعكس
(١/١٠٠)
وذكر رضي اللَّه عنه الأرزاق، فقال، الأرزاق مقدرة، ولكن إذا عصوا قال للخزنة، أخروا أرزاقهم في الخزائن، وإذا أحسنوا عجل لهم، أو يجعلها لهم فيها مرة، ثم ترد عليهم في وقت آخر لعصيانهم كما ترى كثيرا من السيول تأتي وتروح ضياعاً لا يحسنون تربيتها، هذه هي التي كانت أخرت لهم ثم أردفت لهم، مثل العبد السوء، إذا عصى يجوعه سيده نحو أربعة أيام، ثم يجمع عليه رزق تلك الأيام مع رزقه الحاضر حتى يكثر عليه ويمل الأكل
وقال رضي اللَّه عنه، سمعنا فيما بلغنا، إن اللَّه تعالى يقول، يا عبدي أطعني ولا تعلمني بما يصلحك، فأنا أعلم بما يصلحك منك، ثم فسره وقال، عليك الذي عليك، وأمسك الحبل بطرفيه، ولا تختار مع ربك، فاختياره لك أحسن من اختيارك لنفسك
وتكلم رضي اللَّه عنه يوما في أمر الرزق فقال، إن اللَّه لا يعاقب في أمر الرزق بالتقتير إلا المغترين باللَّه كثيراً، ثم ذكر، إن رجلاً قال لموسى عليه السلام، أريد أن أوصيك بوصية تبلغها إلى ربك عند مناجاتك له، قل له، إن فلاناً يقول، لا ترزقني، فإني غير محتاج لرزقك، فلما ناجاه قال، يارب أنت أعلم بما قاله عبدك فلان، فقال سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام، قل له، إن خرجت من مملكتي منعتك من رزقي، وما أعجب هذا فأين يخرج من مملكته، والأرض أرضه، والسماوات ملكه
(١/١٠١)
وقال رضي اللَّه عنه، الرزق المضمون هو الكفاف، وهو ما لا يمكن العبادة وإقامة حقوق اللَّه إلا به، وما فوق ذلك فمقسوم، والشك في المضمون كفر، ولا يجوز فيه قصد تجربة، بأن يقول، أجلس وأنظر إن كان جاءني شئ، فإنه إن كان بقي له حياة، فلا بد وأن يجيئه، وإلا فالميت لا يطعم قوتاً، بل يصرف إلى الحي، ومن جلس في داره مجرباً واشتد به الجوع، يجب عليه تحصيل حاجته بما أمكنه، وإن لم يمكنه إلا بالسؤال سأل بقدر الحاجة، وهو فيه معذور، فإن لم يفعل حتى مات جوعاً، مات عاصياً لأنه قتل نفسه، إلا إذا لم يمكنه بحال، وسمعته رضي اللَّه عنه يقول، إن السؤال من الفواحش، كالزنا والسرقة، ما أبيح من الفواحش إلا هو، عند الضرورة
وقال رضي اللَّه عنه في ذكر الأرزاق، إن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال، إذا غضب اللَّه على قوم أَخّر أرزاقهم عن أوقاتها ولا يمنعهم منها ولا ينقصها، فيرسل المطر في غير وقته والحصاد في غير وقته فإنه كذلك وليس هو على أصله بل دون ذلك، وقال بعضهم، لا يمنعهم و لا ينقصها ولا يؤخرها بل يبقيها ويدخرها لهم في الخزائن حتى يرضى، فإذا رضي أرسلها عليهم كلها بالتمام
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الخير ما لهم من يضبط لهم أمورهم، ولو كان لم يطيعوه، لأنهم لا يحبون الدناقة، وأمورهم وأرزاقهم عند اللَّه تحت العرش، يقول اللَّه تعالى، أعطوا فلاناً بقدر ما يخرج، وقد يخرج رزق يوم أو أيام في ساعة، فيبقى محتاجاً في تلك الأيام، وقد تقع لهم زرَّات في بعض الأوقات، وقد تفيض عليهم من وجوه كثيرة، وإذا أراد الإنسان من متاع الدنيا شيئا عن حاجة إليه أو ضرورة فإن اللَّه يعينه وييسره وإن أراده بطراً من غير حاجة فليقدر
(١/١٠٢)
وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة في ذكر الرحمة والتوسعة لبعض الناس دون بعض، وفي وقت دون وقت، فقال، إن اللَّه تعالى لا يسيب عباده، ولكنهم إذا سيبوا طرف الحبل، تركهم مدةً ابتلاءً لهم، ثم يعود عليهم وإن بقوا على ما هم عليه، وكيف يتركهم وهو عالم بعجزهم وفاقتهم { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ } وقد سمعنا أن رجلاً مكث في غيظة شجر ملتف بعضها ببعض، ولا معه ولا دونه فخطر بباله أن اللَّه هل يعلم بحاله في مكانه ذلك، فسمع صوت قائل يقول ،{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ }
وتكلم رضي اللَّه عنه أيضاً يوما في الرزق، فقال، جاء في بعض ما ورد عن اللَّه تعالى، أنه قال، عبدي أطعني، ولا تعلمني بما يصلح لك ولكن الدعاء مطلوب، لأن فيه إظهار الافتقار من العبد لسيده، وهناك أصناف من المخلوقات، لا يعلمون الغيب، ولا تظهر لهم أحوال الناس إلا بدعائهم، من ملائكة وشياطين، لأن الملائكة يحبون من الناس العبادة والدعاء وإظهارهم افتقارهم إلى ربهم، فيفرحون لهم بذلك، والشياطين يكرهون ذلك منهم، ويثبطونهم عنه، ويفرحون لهم بتركه، فيحصل بظهور الافتقار بالدعاء سرور الملائكة، وإرغام الشياطين، ولا يزال الإنسان مشبوحاً بين هذين الصنفين، الشياطين يجرونه من أسفل بالمعاصي، والملائكة يجرونه من أعلى بالطاعات، فإن غلبت الملائكة جرته من أيدي الشياطين من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، وإن غلبت الشياطين، إجتذبته من أيدي الملائكة من عليين إلى أسفل سافلين، والعياذ باللَّه تعالى أو كما قال
(١/١٠٣)
وقال رضي اللَّه عنه، الأسباب والحِرَف منها ما هو على صاحبه نعمة، ومنها ما هو عليه نقمة، فما يمنعه من أداء حقوق اللَّه والصلوات مثلا في أول أوقاتها وفي الجماعة فهو نقمة، وما كان لأجل الاستمساك، والاستغناء عن الناس، مع أداء حقوق اللَّه، وفعل الأوامر في أوقاتها فهو نعمة، وينبغي أن يعمل بنية نفع نفسه ونفع غيره ومن يأتي بعده، فإن معظم الناس اليوم في بيوت الأولين وفي أموالهم، وقد مَرَّ كسرى أنو شروان على رجل مسن شيبة، وهو يغرس نخلاً، فقال له، لِمَ تغرس وأنت في هذا السن، ولعلك لا تدرك ثمرته ،فقال، غرسوا وأكلنا، ونغرس ويأكلون، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقال له، إن النخيل لا تثمر إلا بعد عشر سنين، وهذا أثمر لي في ساعة واحدة، فأمر له بمثلها، وقال، إنه رجل حكيم، فقال له، إن النخل لا يثمر إلا في السنة مرة واحدة، وهذا أثمر لي في يوم مرتين، فأمر له بأربعة آلاف ثالثة، وقال لخازنه، سر بنا لئلا يتم الخزانة علينا
وذكر رضي اللَّه عنه الأرزاق والزوايا، ثم قال، كانت الزوايا فيها خبايا من صالحين وعاملين للَّه، فلما ذهبوا ذهبت الأرزاق، والدنيا إنما خلقها اللَّه تعالى إعانة لأهل طاعته، وهي لهم بلاغ، وللكفار متاع، وأهل الزمان يُنَفِّرون النعم عنهم مع إقبالها عليهم بقلة الشكر عليها، وإنما بذل اللَّه الرزق لكافة الناس، لكونهم فيهم أهل الطاعة والفقر والمسكنة، فيكون لغيرهم بسببهم، ولو لم يكن في الدنيا إلا العصاة ما أعطاهم لقمة
(١/١٠٤)
وقال رضي اللَّه عنه، اجعل الدنيا كالحذاء مطروحة لا ترفعها بل تلبسها إذا أردت موضع قذر أو حاجة ولا تضعها على رأسك، فمن وضعها على رأسه أو مسح وجهه بها، فقد أجرم جرما عظيما، ونحن ما أنكرنا على أهل الزمان في أخذ ما لا بد منه وما يغنيهم عن التكفف للناس، وإنما أنكرنا عليهم رفعها وتعظيمها والتهالك عليها، حتى ضيعوا بسببها حقوق اللَّه، كإخراج الصلوات عن أوقاتها أو عن أوائلها، أو عن الجماعة، وكان السلف لا يتركون شيئا من أمور الدنيا يتم في أيديهم، بل إذا تم من جهة، بقي ناقصاً من الجهة الأخرى، لأنها إذا تمت لابد أن تذهب، فتعظم حسرتها، وإذا كان من طلبها ليبر بها، ناقصَ عقل ودين، فكيف يطلبها لنيل الشهوات، والتمتع باللذات، وكان يشير بذلك إلى بعض الحاضرين ثم قال له نحن نعلم ما تقولون في مجالسكم وأسواقكم ،أتظنون أنا لا نعلمه، بل نعلم ما به تجهلون، قال ذلك ضحى يوم الجمعة في ٢١ جماد الأولى سنة ١١٢٤
وقال رضي اللَّه عنه، أمور الدنيا كرجلَي المحواك، كلما ارتفع واحد منهما هبط الآخر
(١/١٠٥)
وقال رضي اللَّه عنه يوم الاثنين عاشر جماد أول من السنة المذكورة، وقد بلغه فرطُ ظلم السلطان عيسى بن بدر في شبام، وجورُه زائداً على العادة، فتكلم في شأنه كثيرا ثم قال، ما له إلا الكثيب الأحمر، وهو تربة عينات، وكان حينئذ بشبام، ثم سرح منها صبح يوم الثلاثاء منحدراً إلى عينات، وخرج سيدنا ضحوة يوم الثلاثاء المذكور إلى مسجد إبراهيم بن السقاف الذي شرقي الحاوي، وبقي فيه يومه ذلك إلى أن صلينا معه فيه صلاة المغرب ليلة الأربعاء ومما تكلم به في مجلسه في المسجد المذكور ذلك اليوم، أن قال، إن الناس لا ينظرون من الشخص إلا إلى عمله، لا إلى ذاته، ومن مات وهو محسن تأسفوا عليه، أو غير ذلك فرحوا بموته، ومن مات وهو حسن العمل بعد قليل من العمر، فهذا مدة عمره، ومن مات كذلك وهو سيئه، فنقصان عمره من شؤم عمله، ومن طال عمره منهما فالمحسن زاده اللَّه في عمره ببركة عمله الصالح، والآخر هو عمره المقدر له، ليزداد من الشر، فبعد صلاة المغرب والنافلة بعدها سار سيدنا إلى الحاوي وسرنا معه فالتقانا محمد بِلْفَقْيِهْ الصعدي، الملقب بمحيود، جاء من بَلَدِه شبام، وكان خادماً لسيدنا، ويحفظ ديوانه، فصافحه وشكا إليه حاله وأحوال الناس وما حصل عليهم من الظلم الفظيع، وقال، فلان غُرِّم كذا، وفلان كذا، وأنا أخذ عليَّ خمسين قرشاً وعادتي خمسة ومثل هذا فقال سيدنا له، إذا ظلمكم حاكمكم، فماذا تريد أن أفعل، فقال، أريدكم تقبضون بحلقه فتخنقونه وتقتلونه وتريحونا منه، أو قال، من شره، فتبسم سيدنا وضحك وسكت، فكان من قضاء اللَّه وقدره أن عيسى بن بدر تلك الساعة بعينات في ضيافة له من آل الشيخ أبي بكر بن سالم، يتعشى فنشبت قطعة لحم في حلقه، فلا خرجت ولا دخلت فانقطع نَفَسُه، وخرجت روحه، ومات في الحال، وقُبِر هناك في الكثيب الأحمر، كما ذكر سيدنا قبل موته بيوم، وأظن أن كلامه المذكور في المسجد، فيه
(١/١٠٦)
إشارة إليه واللَّه أعلم
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أكثر الإنسان الظلم ولم يزل يظلم كان كالجريدة الخضراء، كلما لها ينقص ماؤها وخضرتها حتى تيبس، فعند ذلك تسرع النار في إحراقها
وقال رضي اللَّه عنه، إن انتفع أهل الزمان بشيء فَبِنِيَّاتهم، وإلا فجميع أعمالهم مدخولة، فإن لم يقروا بهذا فعليهم البيان، ومثال أهل الزمان كمثل من جاء إلى سلطان، يحمل حطباً، فماذا يستحق من السلطان، ما هو إلا أن يشب في حطبه النار، قال بعضهم، النار فيك وبالأعمال تحرقها الخ، ثم قال، من جاء بوعاء يطلب فيه سمناً أعطوه فيه، وأهل الزمان لا أوعية لهم طاهرة يطرح لهم فيها، وكان فيمن مضى، إذا جلس الإنسان إلى أحد من أهل الدين نحو ثلاثة أشهر صار داعياً إلى اللَّه، وهؤلاء لا يمكن ذلك منهم
وقال رضي اللَّه عنه لما فرغ القارئ يوماً من قراءته، في "الدعوة التامة"، ما على الإنسان إلا أن يبين ويوضح لهم، ولا عليه إن لم يحفظوه ويعملوا به، وما هو إلا كحديث أبي هريرة، لما حدث عنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حديث، (( لا تؤذ جارك، بقتار قِدْرِك ))، ما رأى منهم الإصغاء والإقبال، فقال، مالي أراكم عنها معرضين، واللَّه لأرمين بها بين ظهوركم والناس اليوم تالفين متلفين خاربين، فينبغي أن يأخذ الإنسان منهم حذره، فإنهم كالأرض المُرْضِية، يحذر أن يطرح عليها متاعه، وإن انتقل إلى الأرض التي لا أَرَضَةَ فيها فهو أصلح وأحسن، وإن بقي فيها فليحزم بمتاعه لا تأكله وذمُّ الناس على مقتضى الأكثر منهم، وإن كان فيهم بقية خير، كما يقال لقليل المال، إن ما معه مال، أي كثير، وإن كان معه قليل، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، لا يكن لك في الدنيا حسيب إلا نفسك، إن أردت خفة الحساب في الآخرة فحاسبها في الدنيا، والناس ما يبالون بك ولا يدرون ما تقول
(١/١٠٧)
وقال رضي اللَّه عنه، معنى اجعل القرآن ربيع قلبي، كما في الدعاء أي بأن يعمل في القلب من الأنوار والعلوم، كما يعمل الربيع في الأرض
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي للإنسان في هذا الزمان أن لا يتحمل، فمن الذي سلم من شواغل الزمان كما ينبغي، زمان ردي، زمان هم وغم، وفي هذا المعنى قيل، المشغول لا يشغل
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أردت أن تعرف عقل الرجل من حمقه فاسأله عن مسألة فإن أجابك عنها، ولم يزد عليها، فهو عاقل، وإن أتى بها وذكر كلما في نفسه وتكلم به، فهو أحمق، والفرق بينهما أن العاقل صحيح القصد والعمل، والأحمق صحيح القصد دون العمل، ومرة قال، والمجنون فاسد القصد والعمل، وإن أردت أن تعرف أنه ثقة أَوْ لا، فاسأله واتقَن جوابه، ثم امكث مدة ثم اسأله عما سألته أولاً، فإن تكلم ثانياً مثل كلامه أولاً، فهو ثقة، فإن زاد أو نقص أو لم يكن على ترتيب الأول فليس بثقة
وقال رضي اللَّه عنه، أهل هذا الزمان ما يسعهم إلا الجائز، وقليل فيه ونادر من يرتقي رتبة العزيمة، فلا حكم له، ومن أتانا من هذا القليل لا نصدقه حتى نختبره ونتحقق صدقه، فإن من لا فيه دين يردعه ولا عقل يحجزه فلا يبالي بما يخل في دينه ولا مروءته، فليس بإنسان
وقال رضي اللَّه عنه، من أتانا يطلب الطريق العامة، أخذنا بخاطره وآنسناه، ومن أتانا طالباً للطريق الخاصة، استخدمناه وابتليناه، مجابرة للأول باللائق بجنسه، واختباراً للثاني وكسراً لنفسه، أو كما قال
(١/١٠٨)
وقال رضي اللَّه عنه، ربما نسمع من أفعال أهل البلاد ما لا ينبغي، فإنه لا يسرنا أن نسمع شيئاً مما يتعاطونه، مما يفعل داخل البلاد، إلا كما كذا، ونحن معهم كامرأة طلقها زوجها وأخذ غيرها، ومعها له ولد، فلا بد ما تسأل عنه ويسأل عنها لأجل الولد، ولو كان كل منهما قد أَيِسَ من صاحبه، كذلك بيننا وبينهم من التعلق كما بين المرأة المذكورة وزوجها، من قرابة وصحبة وجوار وغير ذلك، فما نسأل عنهم إلا لذلك لا غير
وقال رضي اللَّه عنه، نحن مع أهل الزمان على حد قوله تعالى ،{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً لَّسْتَ مِنْهُمْ } لتعرف أحوالهم في دينهم
وقال رضي اللَّه عنه، من لم يُبَلْ بدينه لم يَبُل اللَّه به، احفظوا هذه القاعدة
(١/١٠٩)
وتكلم رضي اللَّه عنه عشية الاثنين في ٢١ رجب من سنة ١١٢٢ في ذم المعاصي والفضول من الكلام، فقال، هو ما سوى ذكر أو قراءة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو نصيحة { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيب } ولو أن أحداً أراد أن يفعل ما يُستَحْيَى منه، وعنده طفل لخاف أن يعرف ما أراد فعله ويفطن له، وبقي يلتفت يميناً وشمالاً، فكيف بمن لا يستحيي من ملائكة كرام، وهم معه أينما كان، لا يفارقونه، يحصون ما يعمل ويقول، ولا يستحيي من خالقه، فمن لا يعتقد أنه أي اللَّه ثالث الاثنين، ورابع الثلاثة، فما معك منه إلا خير، ولو جلس جماعة في محل بقدر قراءة يس، لاشتغلوا بفضول الكلام، ولا يحترمون القرآن، وسواء المسجد وغيره، ولو أنهم جعلوا للَّه من أوقاتهم بقدر ما جعل عليهم في أموالهم وقد حكي أن سليمان بن داءود عليهما السلام أرسل بعض الجن، أو قال بعض الشياطين إلى موضع، وأمر آخر بأن يتبعه، ويسمع كل ما يقول ويُعلمه بذلك، فمضى معه ولم يسمعه تكلم بشيء، إلى أن مر بسوق، وفيها كثرة من الناس ملتهين ببيعهم وشرائهم، فوقف ورفع رأسه وقال، سبحان اللَّه، ووضعه وقال، سبحان اللَّه، فأخبر سليمان بذلك، فسأله عن ذلك فقال، تعجبت من هؤلاء الفوقيين أي الملائكة وسرعة ما يكتبون، ومن هؤلاء التحتيين وسرعة ما يُملون
(١/١١٠)
وقال بعض الصالحين، لو أنهم أي الملائكة أخذوا من الناس بعض المداد والقرطاس الذي يكتبون به أقوالهم، لأقلوا من الكلام وكان أبو يزيد إذا دخل الخلا يفرش للملائكة إحرامه عند بابه، ويقول، اجلسوا، ملائكةَ ربي، يعني أنه كان في غاية الحياء من اللَّه أولاً، ثم منهم أي الملائكة، فإذا فارقوه في هذه اللحظة، فرش لهم واستراح لعلمه أنهم فارقوه إذ ذاك، فلو أن أحداً تكلم في الخلاء، لكلفهم الدخول عليه فيه، لِكَتْب ما يقول، ولا لهم أي أهل الزمان لذة في ذكر ولا صلاة ولا قراءة، ومن كان يشق عليه فعل المعصية، ففعلها مرة، سهلت عليه بعد ذلك، كما يحكى أن بعضهم كان يسير في طين ووحل من جانب الطريق رافعاً ثيابه، يتحفظ عن السقوط وعن البلل والطين لئلا يصل ثيابه، فاتفق أنه سقط فبعد ذلك أرخى ثيابه، وسار مرخياً ثيابه في وسط الطين، وجعل يبكي، فقيل له في ذلك، فقال، كنت خائفاً من السقوط، فسقطت فسهل عليّ، وهكذا المعاصي
وقال رضي اللَّه عنه، من يرى عند فعل المأمورات والمطلوبات انبساطاً وانشراحاً، وعند فعله خلاف ذلك، يرى اشمئزازاً وحزازةً في قلبه، فهو الذي يَنتفع بالنصيحة والموعظة، ثم تمثل بهذا البيت ،
إنما تنجع الموعظة في المرء إذا كان له من قلبه واعظ
وقال رضي اللَّه عنه، قد جرت عادة أهل العلم إذا ذَكَر أحدُهم عن أحد كلاماً يحكيه عن نفسه مما يكره لا يحكيه عنه بصيغة لفظه عن نفسه، بأن يكون فيه ضمير المتكلم، بل يذكره بصيغة الإخبار عن غيره، ويأتي فيه بضمير الغائب، كما لو حكى عن أحد الطلاق، فيقول، قال فلان امرأته طالق، ولا يقول، قال امرأتي طالق، وكقال فلان هو يهودي إن فعل كذا ولا يقول قال أنا، وكل ما يجري هذا المجرى
وقال رضي اللَّه عنه، إذا لم تعلم ما عَمَلُ الإنسان، فاعرف جزاءه، تعرف به عمله، إذ الجزاء من جنس العمل
(١/١١١)
وقال رضي اللَّه عنه، الضلال والهداية من اللَّه تعالى، لكنه يُضل على أيدي الشياطين، ويهدي على أيدي الأنبياء، فإذا كان الإنسان سائراً على السيرة السوية، فعرض له الشيطان، وقال له، تعال من هنا، فإن كان له تمييز به، وأراد تعالى ثباتَه، قال له، لا أتبعك فإني أعرف الطريق وقد مارستُها، ومن أراد إضلاله امتثل ما أمره به الشيطان
وقال رضي اللَّه عنه، إنه ستكون بعدنا أمور هائلة جداً، فاستمسكوا بخصلتين، الانقباض والتمسك أي بالدين، فاعملوا عليهما، واستوصوا بهما، ولعل أن يكون أحد يجهجه على الدين كما يجهجه على الزرع، ورأينا الناس اليوم إنما همتهم الدنيا فقط، وما يريدون من الصالحين إلا من له منهم حال، أن يزيل عنهم بحاله ما يُنْقِص أموالهم، مع عدم إنفاقهم لشيء في سبيل اللَّه، ومن تأمل أحوال الأنبياء ومن تبعهم من العلماء والصالحين في الدنيا، عرف أنه لم يسترح فيها ويطمئن بها إلا أحمق جاهل
وقال رضي اللَّه عنه، لا تتول إلا إذا كان عليك، واحذر أن تتولى إذا كان لك، فتخرج من الدين وتصير تابعاً للَّهوى والحظ، بل اسأل عنه العلماء المتقين، دون المتساهلين
وقال رضي اللَّه عنه، قد تعلق الإمام الغزالي آخر عمره بعلم الحديث، حتى قال بعضهم، لو طال عمره لأرخص تلك البضاعة، وإنما تعلق به لأن من تمكن في العلم اللدنّي وتبحر فيه، لا يلائمه ويطابعه، إلا العلوم اللدنية كعلوم الحديث، لأنها من عند اللَّه على لسان رسوله، أو كما قال وسمعت سيدنا يقول، كان أكثر تعلقه من كتب الحديث بجامع الترمذي، حتى روي عنه أنه قال، من عنده جامع الترمذي، فكأنما عنده نبي يتكلم
(١/١١٢)
وطلب منه رضي اللَّه عنه بعض السادة كتاب "موجبات الرحمة في اختلاف الأئمة" ليقابل عليه نسخة عنده منه، فقال له، أما أنت فنعم، وأما المقابل معك، فإن كان فلان أو فلان أو من هو مثله، وإلا فلا، ثم قال نفع اللَّه به، علمان لا نأمن متفقهة الزمان عليهما، علم الحقائق وعلم الخلاف بين الأئمة، وعندنا منهما كتب كثيرة، لكنا ما نظهرها
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، اطرح نفسك على التراب، فإن كنت تراباً فلا حرج عليك إذا وضعت التراب على التراب، وسَلِمْتَ بذلك من الدعوى، وإن كان معك شئ فلا تظن أن هذا يضعك، بل يزيدك رفعة، وما أظن أحداً في هذا الزمان، يدعي لنفسه شيئاً إلا من عدم العقل، وأما من ادُّعي له، فإنما ذلك من كثرة الكلام، وقد تكون أسباب وأغراض لمن يدعي ذلك لأحد، تحمله على أن يدعيه له، فقد قال رجل لرجل آخر لا نعده في درجة أهل الإيمان، أو قال الكامل، قال له، أنا أعتقد أنك في منزلة الشيخ عبدالقادر الجيلاني، ونحن لا نسلم لمن يدعي بما ادعاه، ولا لمن ادُّعي له بذلك، أو كما قال
(١/١١٣)
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان يحبون أن تحصل لهم الكرامات من الصالحين إذا وافقتهم على مقتضى أغراضهم، وهم لا يعرفونها بل يسمعونها في الكتب، فإذا رأوها فليفعلوا إن كان فيهم أهليَّة لذلك، وإذا ذكر لهم، إن فلاناً خَرَج من ماله للَّه، أو تصدق بكذا كذا ألف، نفروا من ذلك، فإنما يحبون منها ما يزيدهم في دنياهم، وأما ما ينقصهم فيها فلا يريدونه، ثم قال، وهذه الأشياء نادر وقوعها جداً، ولا تحصل إلا في أوقات متطاولة لغرض أو فائدة، وفي حال غَيْبة، وقد لا تحصل لأحد منهم مدة عمره، إلا نحو مرة أو مرتين، ولهذا سُمِّيَت خارقة للعادة، إذ لو غلب وقوعها لما قيل لها أمر خارق للعادة، وفي الحقيقة إنما الكرامة خرق عادة النفس، وقطع ميلها عن حب الدنيا وملاحظة الأهوى، ومجانبة الكبر والدعوى، وسائر الأخلاق المذمومة، وتحليتها بالمحمودة، أو كما قال بمعناه
وقال رضي اللَّه عنه، هذا الزمان هو الذي قال اللَّه فيه ،{ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فعلى الإنسان فيه بخاصة نفسه، يمنعها من كِبْر وحسد وغل وحقد، ولا عليه في ذلك من غيره
وقال رضي اللَّه عنه، الأوراد لا تؤثر إلا مع الحضور، ولا تنفع إلا مع الدوام
وقال رضي اللَّه عنه، أخص ما يكون من معاني القرآن، التكلم به على لسان الحق، ثم بعد ذلك الخطاب مع الحق وهو ما فيه ضمير الخطاب كإياك نعبد ثم ما كان فيه نيابة عن الحق كآيات الأمر والنهي والوعد والوعيد، وغير ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، إذا جاء في القرآن الخطاب لهذه الأمة، فهو عام فيها، ولا يختص بالفاعل، كقوله تعالى ،{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً }، أي إنها تصيب الظالم وكل من ينسب إليه ومن يجالسه أو يواكله أو يميل إليه بأي وجه، وإذا جاء الخطاب لغير هذه الأمة، فيكون لمن فعل مثل فعلهم
(١/١١٤)
وقال رضي اللَّه عنه، القرآن كلام اللَّه، سماه عزيزاً لعزة قدره، لأنه نزل من عزيز على عزيز، ولا يستلذ قراءته إلا أهل البصيرة ومن في قلبه نور، ويستثقل منه الشياطين، فمن يمل من قراءته فذلك في قلبه شياطين، لولاهم ما كان منه ذلك، إلا إن كان مع كثرة القراءة، فإن البشر من طبعه الملل، وقد قال الفضيل، لو كنت عرفت من القرآن أولاً ما عرفته منه الآن، ما نقلت حديثاً، يعني لأن جميع العلوم تتفجر من القرآن، فإذا أعطاه اللَّه الفهم فيه، فلا يحتاج إلى تحصيلها من غيره، وقد أجملها فيه، والعمدة على نور القلب
وقال رضي اللَّه عنه، من تهاون بطاعة اللَّه الظاهرة، ووقع في معصيته لابد له من الموت، عاجلاً وآجلاً، وأول ما يموت منه قلبه، وهو الموت العاجل
وقال رضي اللَّه عنه، من يضيق من الجلوس في المسجد والقراءة، قل لي ذلك لأي سبب، ما هو إلا إن في قلوبهم شياطين، يُضَجرونهم من الجلوس فيه، ومن تلاوة القرآن، مع أن التالي مجالسٌ رَبَّه، فلا تصلح قلوبهم حتى تخرج منها الشياطين والملائكة لا تتبع الشياطين، وهذا صراط اللَّه المستقيم، حيث حكى عنه أنه قال ،{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} إلى قوله ،{ شَاكِرِينَ } وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، إن لحق إلى القلب مدخلاً دخل إليه، وسببه لُقَم الحرام والشُّبَه، ومن أكل طعاماً حراماً لم يعلم بحرمته فلا لوم عليه من حيث ظاهر الشرع، لكن يحصل منه تأثير في أمر غير ذلك
(١/١١٥)
وقال رضي اللَّه عنه، قعد الشيطان لكل أحد على طريقه التي يصل بها إلى اللَّه تعالى، لأنه عدو ممارس عارف بالطرق، فجاء لبعضهم في البخل ومحبة الدنيا، ولآخر في الرياء والكبر وغير ذلك، وأهل أخلاق السوء كل منهم هو متصف بها، ويعمل على مقتضاها، وإن لم يعرف تفصيلها، ويعبر عنها كالضعيف، الذي يحب أن يكون أحسن من غيره، وإذا فعل أمراً أحبَّ أن يُرَى، فهذه الأشياء ونحوها، هو الرياء والكبر المجبول عليها، وأما أضدادها كالإخلاص، فإنها من ثمرات التوحيد، لا تهتدي العقول إليها، حتى جاءت الأنبياء، وعرّفوا الناس التوحيد وثمراته، وقد يدرك بالعقل الخالق للأكوان، ولكن لم يهتدوا إليه إلا بتعريف الأنبياء فمن نظر السماوات والأرض وغيرهما ولم يعتقد أن لها خالقاً فهو مصاب في عقله، وما أجهل ممن يفعل صنماً بيده ويعبده، وبعضهم يجعله من سكر فإذا جاع أكله
وقال رضي اللَّه عنه، الهداية بعد الآيات، ما هو ولا بد، ومن تأمل أحواله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، علم أنه قاسى منهم من التعب أمراً عظيماً، ومن مشركي مكة ومنافقي المدينة خصوصاً، وابن أُبيّ في المنافقين كأبي جهل في المشركين، والإنسان محجوج بمجرد عقله، ولو لم يكن كتاب ولا رسول، وإن كان في أمور الآخرة بُعْدٌ على العقول، لكن يلزم بالتكذيب بذلك التكذيب بمن أخبر به، وهو اللَّه ورسوله، وكنا عزمنا على وضع رسالة في الإلهيات والنبويات وأمور الآخرة، ولكن منعنا منه اشتغال الناس وعدم إصغائهم، ولكنا إن شاء اللَّه سنجعله في فصل من الفصول العلمية، أقول، وكلامه هذا في مجلس الدرس، بعد العصر في المصلى، فلما قام ودخل ودخلت معه إلى الضيقة، قال لي نفع اللَّه به، الحذر تعلق قلبك بشيء من ذلك، وإن ورد عليك شئ منه فأعرض عنه، فقلت، عسى اللَّه ببركتكم يحفظني من جميع الأسوى، قال، إن شاء اللَّه
(١/١١٦)
وسئل رضي اللَّه عنه عن حديث، (( إن للَّه في كل ليلة من شهر رمضان كذا كذا عتيقاً من النار، وفي آخر ليلة منه يعتق كما أعتق في الشهر كله ))، هل هذا يكون شاملاً للأحياء والأموات، وللإنس والجن، فقال، هذا للأحياء من الإنس والجن، وأما الأموات فقد غفر لهم، وليسوا في دار تكليف، وإذا جاء حديث يُنظر أولاً في صحته، فإذا صح نظر فيه العالم وتكلم وفصل فيه ما يحتاج فيه إلى التفصيل، وإذا لم يصح لم يحكم فيه بشيء إلا إذا هو في الوعد، فيبقى العبد على حسن الرجاء في اللَّه تعالى، وأمور الآخرة يؤمن بها كما جاءت بلا تأويل، وأمور العقيدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، الإلهيات، والنبويات، وأمور الآخرة، وللعلماء في كل قسم كلام، وأضيقها مجالاً الإلهيات، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، إنما يُستدل على كمال الشخص، بتأديته الفرائض على كمالها لأنها عمود الدين، فمن أقامها بواجباتها وسننها وحضورها من غير وسوسة، دل ذلك على كماله، وحسن عناية ربه به، وإن عكس دل ذلك على عكس ما ذكر
وقال رضي اللَّه عنه، إن أهل الكرامات من الأولياء، قل أن يُظهروا منها في هذا الوقت شيئاً لفساد الزمان وتعلق أهله بالدنيا، فلو قال ولي لواحد منهم، قم وانظر في المحل الفلاني من بيتك، تجد فيه ألف درهم، خذها واعط الفقراء منها خمسين درهماً، لبَخِلَ ولم يسمح بشيء، وأراد أن يأخذه كله، وقال، لو كان هذا ولياً لما أراد مني شيئاً، فانظر أحوالهم هذه، ما أبعدها من الصلاح والاعتقاد، وما أقربها من الطمع والفساد أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، إذا تعارض الداعيان في الإنسان، فيترجح أحدهما إما بحكم شريعة، أو بحكم طبيعة، أو عادة، إما يرجحه هو بنفسه، أو يرجحه له غيره، وكل ما تحدث به نفسك مما لا فائدة فيه، فاشتغل عنه، بلا إله إلا اللَّه والذكر والاستغفار
(١/١١٧)
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، إذا أراد اللَّه من عبد أمراً، أجراه على خاطره، وأرسل عليه داعية إلى فعله، وأنساه الأمر الآخر المقابل له، ليُمضي اللَّه فيه ما أراده منه
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه لم يجعل أسراره، أو قال ولايته إلا في من يصلح لذلك، فإنه يؤهله له وينظفه، فإذا صلح فعل، فما كان إلى اختيار العبد فعلى التدريج، وما كان إلى اللَّه ففي لحظة، كما إن أحدكم إذا أراد أن يضع شيئاً عزيزاً في مكان فإنه يخم المكان وينزهه ثم يطرحه، وربما قال، وإذا أراد للعبد خفف عليه ما هو باختياره ويسره، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، من اصطنع معروفاً إلى من يخاف من لسانه، نُظر إلى اصطناعه إلى أهل الخير والمستحقين، فإن كان نحو تسعة أعشاره، وإلا فهو رياء وكذب
وقال رضي اللَّه عنه، العلم مع الرعونة لا ينفع، كوضع المسك على الوسخ، وكان الأولون لهم حاجة إلى رياضة النفس
وقال رضي اللَّه عنه، إنهم بنوا أمورهم على العلم، ولكنهم يعلمون الأصول أولاً، وإذا احتاجوا إلى الفروع النادرة يحصل لهم فيها فتوح من اللَّه تعالى
وقال رضي اللَّه عنه، وفي قول من قال، من عمل بما يعلم أورثه اللَّه علم ما لم يعلم، هو العلم اللدني
وقال رضي اللَّه عنه، العالم إذا لم يعمل بعلمه، لا يقال له عندنا عالم، إلا أن يقال عالم فاجر، بأن يوصف بالفجور، والجهل على هذا أسلم له، وتقريبه مع هذا الوصف فيه هدم للدين أكثر
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي لمن طلب العلم أن يتعلم المسائل التي تقع غالباً، فإن حصلت مسألة لا علم عنده فيها، فيأخذها من الكتب إن أحسن أن يأخذها منها، وإلا سأل عنها العلماء أهل الدين
وقال رضي اللَّه عنه، قيل لبعضهم أيٌّ أوسع، العلم أو الجهل، فقال، العلم أوسع للمتحري، والجهل أوسع للمتجري
(١/١١٨)
وقال رضي اللَّه عنه، جامع التقوى فعل الطاعات وترك المعاصي خشية من اللَّه سبحانه ورجاء ثوابه وامتثال أمره
وقال رضي اللَّه عنه، كان الصالحون، تُستر كراماتهم وقت حياتهم، حتى عن من يطلع عليها قبل موتهم، بحيث لم يفهموا أن ذلك كرامة إلا بعد موتهم، وكذا قد تستر ما داموا في الدنيا، حتى عنهم أهل الكرامات أنفسهم
أقول، وقد رأينا منه رضي اللَّه عنه كثيراً مما لم يخطر في البال أنه كرامة إلا بعد وفاته، ولو لم يكن من ذلك إلا معرفته بدخول وقت الصلاة سيما وقت الفجر قبل أن يعرفه الناس حتى إنه نفع اللَّه به يركع سنة الفجر ثم ينزل إلى الضيقة ويجلس إلى أن يتبين للجماعة الفجر، ويركعوا، ثم يأتيه الخادم ويؤذنه للصلاة، فهذه عادته كما هي عادة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وربما أشكل على الجماعة الفجر، سيما مع شدة ضوء القمر وتراكم السحاب، فيعلمهم هو بالفجر، وكل أحد يرى ذلك منه ولم يخطر في باله أنه كرامة خارقة للعادة، لكن ظهر ذلك بعد وفاته رضي اللَّه عنه
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان تغلب عليهم العادة، سواء صلحت أو فسدت، لأنهم عدموا من يقتدون به من الأخيار، فبقوا على آرائهم، وهذا الزمان قليل الأخيار، من أخيار الدين وأخيار المروءة
وقال رضي اللَّه عنه، من لم يزهد في الدنيا كيف يطلب الجنة، فترى الإنسان يحزن على فوات لقمة أو خرقة، وعاده يحدث نفسه بحصول الجنة، فإن مثل هذا لم يكن متأهلاً للجنة
وقال رضي اللَّه عنه، الحكيم من يدبر الخوف بالحزم، ويدبر الرجاء بالأمل
وقال رضي اللَّه عنه، لا بد للقطب من أربع خصال، حسن السيرة والسريرة والصورة، هكذا رأيت في الأصل الذي نقلت منه فلا أدري أنسيت الرابعة أو كذا ذكره
وقال رضي اللَّه عنه، قال سيدنا عليّ عليكم بالنمط الأوسط، يتبعكم العالي، ويلحقكم التالي، ومرة قال، عليك بالوسط من الأمور، يُتبعك ويُلحقك بالأفراد
(١/١١٩)
وقال رضي اللَّه عنه، المطلوب من عبد ابتلاه اللَّه ببلية، أن يصبر ويظهر التجلد، رجاء الثواب، وأن يعافى من ذلك، فإن ابتلي بسبب جور أو مخالفة أمر فليجتنب ذلك ويواسي بين الأمور، فإن أظهروا المعك والخلاف، زِيْد عليهم وهذا مشاهد مجرب، وأهل هذا الزمان يعكسون الأمر، فالغالب على الأكثرين منهم التورط بهذا السبب، ومثاله بين الناس أن من أراد أن يضرب عبداً له عشرةَ أسواط مثلاً، فرأى منه السكون والتسليم، اكتفى منه بسوط واحد، وربما تركه رحمة له، وإن أظهر المعاندة والتفظظ لم يكتف منه بذلك، بل ليس ينحصر ما يحصل عليه منه، وهذا ضابط مجرب
وقال رضي اللَّه عنه، خذوا هذه الكلمة حكمة ووصية، إذا اشتبهت عليكم الأمور فاسلكوا الوسط
وقال رضي اللَّه عنه، الظلم المرتب خير من العدل المسيَّب، فما بالك بعكس الأمر فيهما
وقال رضي اللَّه عنه، كل أمر متوسط لا يضر، وكثرة الظلم وكثرة العدل لا يستحقه أهل هذا الزمان، لأن فيهم من لا يستحق الظلم، وفيهم من هو جدير به، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، الاحتكار سُحت، وقد وجدنا كثيراً من الناس فعلوا ذلك قاصدين الربح، فأصبحوا فقراء لا يجدون كفاية، إذ لا بركة في اغتنام الناس
(١/١٢٠)
وقال رضي اللَّه عنه، من تأمل أحوال الصحابة رضي اللَّه عنهم، بعد ما فتح اللَّه عليهم الفتوح الكثيرة، رآهم مع كثرة الدنيا في أيديهم، ما شُغلهم إلا باللَّه، والذي في أيديهم كأنه ليس هو لهم، ولا بينهم وبين غيرهم فيه مزية، إلا بكونهم يتصرفون فيها فقط، فقد كان الزبير رضي اللَّه عنه له ألف عبد، يؤدون له الخراج، فإذا جاءوه به في مجلس، ما يقوم من مجلسه حتى لم يبق له منه درهم، ويفرقه في الحال، وما الدنيا المذمومة، إلا ما أشغل عن اللَّه، وما لم يشغل عنه فهو زاد الآخرة، وعلى هذا قد يكون الإنسان خلياً من الدنيا وهو مذموم الحال، حيث يشتغل باهتمامه بها عن ذكر اللَّه، وقد يكون معه من الدنيا شئ كثير وليس مشغولاً به محمود الحال أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، لا يُمسك الدنيا إلا الأوعية الدنسة، لأن في إمساكها شكّاً، والأوعية الطاهرة لا تمسكها، ولا يبالي أحدهم إن أصبح بِلاَ عَشَا ولا غدا
وقال رضي اللَّه عنه، الإفراط في محبة الدنيا يغير العقل والدين، لأن طبعها الإسكار
وقال رضي اللَّه عنه، علامة اليسر في الأمور، أو العسر فيها يعرف من أوائلها، إن رأيته يسراً فالباقي كذلك، أو بالعكس فالباقي مثله
وقال رضي اللَّه عنه، محبة الطاعة دليل العناية، ومحبة الشر دليل الخذلان، فعناية اللَّه تظهر على الإنسان، وكذلك خذلانه لأن أفعال اللَّه باطنة، ولا تعرف إلا بظهورها
وقال رضي اللَّه عنه، العمدة على اجتماع الأرواح، وبالأبدان يكون الاجتماع في الدنيا، وبالأرواح يكون الاجتماع في الآخرة، ولا عبرة باجتماع الأبدان مع مفارقة الأرواح
كلمات تقال عند الوقاع
(١/١٢١)
وقال رضي اللَّه عنه، سمعنا في بعض الكتب أربع كلمات تقال حال الوقاع استحسناها ولا بأس أن يأتي بها بعد الوارد، وهي، الحمد للَّه الذي جعله في حلال ولم يجعله في حرام، وجعله في طاعة ولم يجعله في معصية، وجعله في ستر ولم يجعله في هتك، وجعله في أخيار ولم يجعله في أشرار
وقال رضي اللَّه عنه، لا يستقيم ويتيسر للإنسان أمر الطاعة إلا بخصلتين، الرغبة والفراغ، وأحدهما أبلغ من الأخرى الرغبة أنفع من الفراغ
ما قيل في حسن الظن في غير محله
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان يسمعون ما ورد في الحديث من مدح حسن الظن باللَّه، فيفعلون المعاصي ويصرون عليها، ويغترون ويظنون أن ذلك هو حسن الظن المطلوب، بل إنما هو سوء ظن باللَّه، وإن كلّمته قال، ما أنا صالح، وأنا من شق الناس، وما الذي يمنعه من الصلاح، ومتابعة نبيه؟، ويتوكلون في ترك الطاعات ولا يتوكلون في ترك الدنيا، ومن علامة المؤمن من المنافق، إن المنافق جميع ما تراه منه في أفعاله وجميع أحواله يتتبع الرخص، والمؤمن يحتاط، وهذا منافق في العمل دون الدين، وإن أنكر على من يرد عليه، فهو منافق في الدين أيضاً، ولكنك اجتهد أن لا تداينهم، ولا تطلع على أحوالهم، وإلا وقعت معهم في محنة، وإن بليت بأحد منهم فاجتهد في سلامة دينك ونفسك من شره
وقال رضي اللَّه عنه، حسن الظن في غير محله ضحكة للشيطان، كإساءة الظن في غير محله، كمن يرى عاميّاً يصلي، وقد اطلع على حاله، وعلم أنه لا يحسن شروط الصلاة، ويخل في شئ من أركانها، ثم إنه اقتدى به، وقال، حسن الظن بالمسلمين واجب وهذا من قبيله، فليس كذلك، بل إذا علم منه ما ذكر لم يصح اقتداؤه به، وهذا غالب في هذا الزمان السيء
وقال رضي اللَّه عنه، إذا لم يمكنك أن تقوم بالأمر كله، فتوسط فيه، فإذا كانت الغايات لا تدرك، فالقليل منها لا يترك
(١/١٢٢)
وقال رضي اللَّه عنه، من حصلت له عقوبة مع السيئات حصلت له بعدها مثوبة لأن اللَّه لا يعاقب إلا ويثيب
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه لم يخرج عبده المؤمن من الدنيا، حتى يُضجره منها بمرض ونحوه، ليخرج منها زاهداً فيها
وقال رضي اللَّه عنه، من لا يعرف قواعد الصوفية، يظن أنه تفاض عليهم العلوم كذا بلا شئ وهم جلوس، لا، بل لا بد من الإقامة بالكتاب والسنة أولاً، ثم يفتح اللَّه بعدُ عليهم بها، وهي علوم عين اليقين، بعدما تنظفت قلوبهم من المذمومات وتحلت بالمحمودات، وذلك حاصل من الإقتداء بالكتاب والسنة، وهو معنى المجاهدة التي وُعِد عليها بالهداية، فمنه تحصل العلوم اللدنية، ومن جلس ينتظر من غير اتباع لهما، من أين يحصل له ذلك، وقد كانوا يحصل لهم من الأنوار والعلوم والمعارف ما لم يعبر عنه، وأما اليوم فقد تغيرت القلوب من أكل الحرام والشُّبَه
وسألت سيدنا نفع اللَّه به، ما المراد بالعلوم التي ذكر الإمام الغزالي في الأربعين الأصل، إنه اختلف في سبب تحصيلها النظار والصوفية، وذكر سبب ذلك عند كل منهما، فقال رضي اللَّه عنه، تلك حقائق العلوم التي هي غاية كل علم، فإنّ كل علم له حقيقة وسبب يتوصل به إلى حقيقته، كمعرفة الملائكة وما ذكر من أمور الآخرة، فتوصّل الصوفية إلى تحصيلها بالمجاهدة، حتى بلغوا حق اليقين فيها الذي لا شك فيه فصار قولهم قولاً واحداً، وأما النظار الذين توصلوا إلى تحصيلها بالقياس والدليل، وتشبيه الشيء بالشيء فيقاس عليه، فلم يبلغوا من حقيقة اليقين مثل ما بلغ إليه أولئك، ولهذا ترى لهم في المسألة عشرة أقوال، لكون مبلغ علمهم الظن، فيقولون لكل قول من العشرة، لعل هذا هو حقيقة اليقين، والصوفية إنما كان قولهم قولاً واحداً، لما حصل معهم من تحقق حقيقة اليقين
(١/١٢٣)
وقال رضي اللَّه عنه، لا يفتح على أحد في العلم حتى يطلبه ويعتقد أنه خلي منه، لأن المظاهر الدنياوية، قد تنقص من المظاهر الأخراوية
وقال رضي اللَّه عنه، ما جَرَّ إلى خير، فعاقبته إلى خير، وإن كان في ظاهره شرٌّ، وما جَرَّ إلى شر فعاقبته إلى شر، وإن كان في ظاهره خيرٌ، والعاقبة للخواتيم أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، كأن هذا الوقت مقدمة للحشر أعني غير الحشر المنتظر
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه أمر بأداء الواجبات، من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، والعبد يفعل ويرجو القبول، وهو فيها أقرب من غيرها، لأنها دَين للَّه، واللَّه مطالِب بها، وقليل ما أحد يرد دَينه إذا أوصله المديون إليه، ولو كان فيه خلل، وأما النوافل فهي تبرع، فلا تقبل إلا إن كانت على الوجه الأكمل
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، لا يكون من الأرض شئ من المنافع والفوائد إلا وله سبب سماوي، وبالعكس لا يحصل شئ من السماء من العقوبات، من منع قطر أو عاهة أو أي شئ إلا وله سبب أرضي، وإذا اعتبرتَ رأيت جميع الخيرات الدينية والدنيوية كلها إنما هي من السماء، أو سببه من السماء، فالقرآن نزل من السماء، وهو السبب في الهداية، والماء نزل من السماء، وهو السبب في النبات
وقال رضي اللَّه عنه، العافية هي الستر للإنسان، وعليها المعوّل في طلب الدين والدنيا
(١/١٢٤)
وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً ادعى ما لم يكن له أهلاً فقال نفع اللَّه به، أحد من الناس يشمخ بنفسه، ولم يكن شيئاً، ثم قال أقل أحوال أهل الحق، أنهم يتواضعون وينصفون إذا ما رأوا صفاتهم المذمومة، وأقل ما في حال الداعي إلى اللَّه، أنه يتكلم على الناس بما يرقق قلوبهم، وإن تعددوا من قائم ظاهر للناس يدعوهم، إن كان هو القطب فذاك، وإلا فهو نائب عنه، والقطب إن كان من أهل الخمول، ينصِّب أحداً ظاهراً ويدعو له، فيعيش ذاك في بركته، ومن افترقت الكلمة بسببه يدعو عليه الباقون
وقال رضي اللَّه عنه، قيل، كل كلام يخرج وعليه كسوة القلب الذي خرج منه، فإن كان القلب منوراً خرج منه الكلام وعليه النور وإن كان الكلام مظلماً، وإن كان القلب مظلماً خرج منه الكلام وعليه الظلمة وإن كان الكلام منوراً
وذُكِر، إن الشيخ عبدالقادر رضي اللَّه عنه إذا تكلم على الناس يُسمع لهم الصياح والبكاء ويتوب كثير من الناس مما هم مصرين عليه، وكان في لسانه لُكْنة لأنه كان أعجمياً، فسافر بعضُ بنيه وطَلَبَ العلم واللغة والنحو وغير ذلك، حتى أتقن علوم الآلات، فجاء واستأذن أباه أن يتكلم على الناس، فأذن له، فلما خرج إليهم جعل يتكلم، ويتفصح في الكلام، ويجتهد في الإعراب، فصاح منه الناس، واستغاثوا بالشيخ والده
وقد قال سيدنا نفع اللَّه به في حِكَمِه، كلام أهل الإخلاص والصدق نور وبركة، وإن كان غير فصيح، وكلام أهل الرياء والتكلف ظلمة ووحشة، وإن كان فصيحاً انتهى
وقال رضي اللَّه عنه، قال بعضهم عملٌ واحدٌ في ألف شخص، أبلغ من ألف قول في شخص واحد
(١/١٢٥)
وقال رضي اللَّه عنه، إن فلاناً من السادة من أهل الشحر، يطلب شيئاً من القصائد فاختر له، قلت، إنه يريد التوالي، قال، مليح، ونحن ما جعلناها قصاراً قريبة اللفظ إلا لهذا القصد، ليسهل حفظها على من أراده، فاختر له إن كنت تحسن الاختيار، قلت، إن اخترتوا له فهو أحسن من اختيار غيركم وأولى، فتبسم وسكت قليلاً ثم قال، أنت تسمع ولا تعقل، ودائرة العقل أوسع من دائرة السمع، وقد ذمَّ اللَّه سبحانه بعدم العقل أبلغ مما ذم بعدم السمع، فقال اللَّه تعالى، { أًمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } الآية، فلو قال، ويعقلون لكان أهون، فلما نفى عنهم العقل أيضاً، مع نفي السمع كان ذلك في أقصى غاية من الذم، أما سمعت في القصيدة قولنا فيها، الجسم المشبه بالبوّ، تشوفونا ندخل ونخرج، ولا أنتم داريين، فما ترون حال من يخطر في باله أنه يصلي قائماً أو قاعداً ويتخوف السقوط كل حين، فخذوا منا القليل، ولا تطلبوا الكثير، فإن القليل ممن هذا حاله كثير، كالرجل المريض، إذا جاء عنده أحد يستند، ويتحمل بالقوة، ولكنه يغلبه ما يجد، وأهله يريدونه يأكل شيئاً، ويسقونه الماء، كل ذلك يريدون عافيته وحياته لنفعهم واحتياجهم إليه، أو لرغبتهم في حياته، وهو في ذلك مشغول عنهم بما هو فيه، فقال له رجل كان حاضراً، ما هذا إلا بخت لأهل الزمان يوم يرونكم كل حين فقال رضي اللَّه عنه، لكن أهل الزمان ما يحسنون يضمون البخت، ولا يعرفون قدر البخت، إلا فيما بعد، كالمرأة السوء ما تضم البخت، كلما مس يدها يريدها، جَرَّت برجله قلت، إن الأمر كذلك، فماذا ترون؟، قال نفع اللَّه به، خذ بالرفق لأنك خذها قاعدة، في كل أمر انبهم عليك فلا تدري حقيقته خذ فيه بالرفق، قلت، الإنسان مع خِسَّة حاله يطلب الكمال ويرجوه، قال، نعم، لا ترى الشيء خاصاً بك، كما إذا كان عندك قوت طيب، ومعك
(١/١٢٦)
ناس، فإن كان كثيراً يكفيك وإياهم فتضلع منه، وإن كان قليلاً لا تأخذه عليهم، وخذ منه قدر حصتك، وخل لهم الباقي، قلت، فإن اعتمد الإنسان على المقادير تعطل، وإن عمل ما أحسن، ولا عرف كيف العمل فقال رضي اللَّه عنه، أشياء من المقدَّرات مقدرة مع العمل، فلا المقدَّر يمنعك من العمل، ولا العمل يمنعك من المقدَّر، ولا بد لك من كلا الأمرين، فتعمل بظاهرك، وتعتمد على اللَّه بباطنك، فلا بد لك أن تزن نفسك بالأمرين جميعاً، أما سمعت الشيخ علي في الحدائق، كلما ذكر حديقة قال، وكيفية الموازنة
ما قال في القضاء والقدر
وصافحه رضي اللَّه عنه بعض الفقراء عليل الرِّجل، فقال نفع اللَّه به، الإنسان ضعيف، ما يريد بطبعه إلا العطا دون المنع، والعافية دون البلا، وهذا لا يكون، ولكن عطاء ومنع، وعافية وبلاء، وكذلك في كل شيء، ولكن إذا نزل بك شيء من ألم تريد دفعه، أو نفع ترجو حصوله، فاسع فيه بما له من الأسباب، كتداوي، حتى يجيك ما يغلبك، حتى لا تبقى لك قدرة على شيء، فحينئذ تنح عن طريق القضا والقدر، ولو كان للإنسان عبد ما يريد منه إلا العطاء الدائم وكل ما يحب، ولا يحتمل من سيده ما يكره، ضاق منه سيده وباعه في الحال، وهذا سر الرياضة والانقياد، كالزئبق لو فُتل حصل بفتله قلب الأعيان ذهباً وفضة، ونحن وإياكم على ما قال اللَّه تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام، {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ } أو كما قال
(١/١٢٧)
وقال رضي اللَّه عنه، الأشياء تكون بأوقاتها، لا بأسبابها، ألا ترى الأمور تتم أسبابها فلا تقع، وقد تقع بأدنى من ذلك، وما على الإنسان إلا أن يطلب الفرج واللطف، ولا عاد يبالي من أي وجه يجيء، وقد تكون العقوبات على أشياء سبقت وأشياء نُسِيَت، لأن العلم إليه سبحانه، وما يكون من اللَّه سبحانه مَظْهر عذاب إلاّ وترى فيه الرحمة أكثر، من أجل أن اللَّه سبحانه وتعالى سبقت رحمتُه غضبَه، كالريح، فإنه أهلك بها قوماً، وقد رحم بها على ما ذُكِر في القرآن أقواماً كثيرين
وسألته رضي اللَّه عنه، ما الفرق بين أمر القضاء والقدر، وأمر الشرع فقال نفع اللَّه به، القضاء والقدر هو الشرع، فمن أمرك بالإيمان به؟ إلا الشرع، فاعرف الحق واعمل به، واترك الباطل ولا عليك، فإن المبتدعة ضَلَّلوا أهل السنة بالقضاء والقدر، قالوا لهم أما رضيتم حتى كذَّبتم ربكم، والإعراض عن مثل هذا أحسن، فإن الغلوّ في مثل ذلك ما يحصل منه إلا التضليل، وفساد الدين، أو كما قال
(١/١٢٨)
وسألته رضي اللَّه عنه، يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة سنة ١١٢٩ عندما خرج لصلاة الظهر، أن أنقل من كتاب "اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر" للإمام الشيخ عبدالوهاب الشعراوي رحمه اللَّه تعالى أبياتاً كتبها يهودي إلى الإمام القَوْنَوي، يسأله فيها عن حكم من رضي بالقضاء والقدر، فأجابه بأبيات أخرى، وقد مر ذلك في قراءة السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي، في ذلك الكتاب في الدرس، يوم الاثنين فقال رضي اللَّه عنه، الحذر تنقلها فهي في غاية الإشكال، وقد حذَّرناك وقلنا لك لا تنقل شيئاً إلا بعد أن تشاور، ثم سكت ساعة، ثم قال، هذه مسألة صعبة جداً، ولا أحد من العلماء بلغ قعر بحرها، وقالوا، لا يتضح أمرها إلا في الآخرة، وأنت تريد أن تدخل لجة البحر من غير سباحة ولا سفينة، فما لك ولهذا الأمر، اترك الخوض فيه رأساً، ولك شغل شاغل في العمل الصالح والأخلاق عن هذه الأمور، فهل سمعت هذا من قول ابن عربي، احذروا هذه الطريقة، فإن أكثر الزنادقة ما خرجوا إلا منها، ثم قال فإذا كان علم الفقه، وعلم الحديث، في كل منهما فضولاً لا حاجة إليه، فكيف هذا، ولو أن الشعراني مثلاً استشارنا في تصنيف هذا الكتاب، كان قلنا له لا تصنفه، وقد أجملنا في "رسالة المعاونة" ما يتعلق بهذه المسألة بما فيه كفاية، وذكرنا من الكتب ما فيها تفصيل لها، وذكرنا إنه لا ينبغي مطالعة تلك الكتب، وإنّ غَلَطَ من يقول إنه يفهم أكثر من غلط من لا يفهم، فأعط الكتاب مولاه، وإياك أن تتصفحه وقل له، اطرحه في الخزانة في محله الذي كان فيه، ثم إن السيد أحمد ما عاد قرأ فيه بعد ذلك، نهاه سيدنا عن ذلك فرضي اللَّه عنه ما أشفقه على كل مسلم في دينه ودنياه
(١/١٢٩)
وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، عند قوله تعالى ،{ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال، لما بعث اللَّه موسى عليه السلام، وأنزل عليه التوراة، قال، اللَّهم إنك رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأُطعت، ولو شئت أن لا تُعصى ما عُصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى، فكيف هذا يارب، فأوحى اللَّه إليه إني لا أُسأل عما أَفعل، ثم سأل عُزَيْر مثل ذلك، فأجابه إني لا أُسأل عما أَفعل، فأبت نفسه حتى سأل أيضاً فأوحى اللَّه إليه إني لا أُسأل عما أَفعل، فأبت نفسه حتى سأل أيضاً، فقال، أتستطيع أن تصُرَّ صُرَّةً من الشمس، قال، لا أستطيع، قال، أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح، قال، لا، قال أفتستطيع أن تجيء بمثقال من نور، قال، لا، قال، بقيراط، قال، لا، قال فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه، إني لا أُسأل عما أفعل أما إني لا أجعل عقوبتك، إلا أن أمحو اسمك من ديوان الأنبياء، فلا تذكر فيهم، فمحا اسمَه من الأنبياء، فلم يذكر فيهم، وهو نبي، فلما بعث اللَّه عيسى، ورأى منزلته من ربه، وعَلَّمَه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ويبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، سأل ربه عن ذلك فقال، اللَّهم إنك رب عظيم، إلى آخر ما تقدم من سؤال موسى، فأوحى اللَّه إليه، إني لا أُسأل عما أفعل، وأنت عبدي ورسولي، وكلمتي ألقيتك إلى مريم، وروح مني، خلقتك من تراب، ثم قلت لك كن فكنت، لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، إني لا أُسأل عما أفعل، فجمع عيسى عليه السلام من تبعه وخطبهم خطبة بليغة، فقال، القدر سر اللَّه فلا تَكَلَّفوه، وبحر عميق فلا تَلِجُوه، انتهى
(١/١٣٠)
وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى ،{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية، لم يقل نبيض وجوهاً ونسود وجوهاً لأنه أحال ذلك إلى أعمالهم، لأن أعمالهم هي التي بيَّضتها وسوَّدتها، واللَّه سبحانه بعدما أعلمهم أنه خالق للخير والشر، أحالهم على أعمالهم، ولو شاء لخلقهم بيضاً وأدخلهم الجنة، أو خلقهم سوداً وأدخلهم النار، والإيمان بالقضاء والقدر واجب، والاحتجاج به بدعة، وكان بعض أصحاب بعض من المشايخ يتعاطى أموراً مُحَرَّمة فنهاه شيخه عنها مراراً، وهو يقول مكتوب عليَّ، فلما رآه مصراً على ذلك، ويحتج بهذا الكلام، استعد له يوماً بجملة أو قال بحزمة من جريد النخل، فلما رآه فعل المنهيَّ أَمَر به، فبُطِحَ، فأمر بضربه بتلك الجرائد حتى كُسِّرت على ظهره، فصاح بالشيخ، فقال له الشيخ، هذا مكتوب عليك فلا تَصِحْ ومن رأيته وهو عالم يعمل بخلاف العلم، فاعلم أن العلم لا يصل إلى قلبه، وإن رأيته يستدل لذلك، سيما علماء الوقت، فإنهم يحتجون للعامة، ويعلمونهم الحيل، ويكتبون لهم المناذرات الباطلة، وليس من شأن علماء الدين، إنما هم الذين يعلمونهم، ويهدونهم ويبيِّنون لهم الحق، ولو كنا والين على هؤلاء أو معنا وال يستمع الكلام، فعلنا لهم أشياء ما يعرفونها، وإنما يعرفون أنها حق فقط، فإنهم لا عهد لهم به، فإذا رأوه ربما ينكرون ما لا يعرفونه
(١/١٣١)
وذكر رضي اللَّه عنه الأسباب ومسبَّبَاتها، فقال، إنه مكتوب في اللوح المحفوظ، وقوع كل شئ مع سببه، أن كذا يقع بكذا، وكذا بكذا، وعلى هذا، والعالَم من أوله إلى آخره مدَبَّر على أيدي الملائكة، لا على أيدي بني آدم، حتى بنو آدم مدبَّرون بالملائكة، حتى إن الإمام الغزالي ذكر، إن في باطن الآدمي سبعة ملائكة، يدبرون غذاه، هذا يدفع القوت إلى المعدة، وهذا يستخرج الفضلة منها، وهذا يدفع الدم إلى الكبد، وعلى هذا، هذا في السفلي من العالم، وفي العلوي هذا يسوق السحاب، وهذا يحمل الماء، وإنما تدبير أمر الأرض وأحوال الدنيا بأيدي بني آدم، لإقامة أمر اللَّه وأحكامه، وإذا أردت أن اللَّه يجري بك على العادة من لطفه وكرمه، فأجر أنت على العادة من طاعته وعبادته، فإن اللَّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد اللَّه أمراً سبب له أسباباً، وظهر سبحانه في الأسباب، ولا يظهر بالقدرة في الدنيا إنما يظهر بالقدرة في الآخرة فالقدرة في الدنيا تابعة للأسباب، وفي الآخرة الأسباب تابعة لها، والقدرة في الدنيا خافية في الأسباب، والأسباب ظاهرة بها، وفي الآخرة القدرة ظاهرة، والأسباب خافية فيها، ويجعل سبحانه لكل أمر سبباً غير سبب الآخر، ليعلم الناسُ وسيع قدرته تعالى أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، رُبًّ مسخَّر للقضاء والقدر، مأجور في الشرع، ورب مسخر له مأزور في الشرع، وكل أحد مسخر للقضاء والقدر، ولكنه لا حجة لأحد، لأنه لا جَبْر، وكل الأشياء من القضاء والقدر، لا من الأسباب، والأسباب مظهر لها ومنه طول العمر بالبر، والأسباب وما تعلق بها من القضاء والقدر
(١/١٣٢)
وقال رضي اللَّه عنه، الأشياء من القضاء والقدر، لا من الأسباب، والأسباب مظهر لها، ومنه طول العمر بالبر، وقصره بالفجور، والأسباب وما تعلق بها من القضاء والقدر، فإذا بر وطال عمره، أو فجر وقصر عمره، فهو مَقْضي عليه أن يفعله، ومقضي عليه أن يحصل له من العُمُرين ما حصل
وقال رضي اللَّه عنه، مسألة القضاء إنما هي اعتقاد في الباطن، لا مسألة احتجاج بها وإظهار لها، ومن أظهر ضَلَّ، فتُعْتَقد ولا تكون في الأعمال، أليس تحريكك يدك باختيارك، فهذا هو الكسب والاكتساب، ولا يُظهرها أو يتكلم بها للعامة إلا من أراد أن يَضِلَّ و يُضِلَّ، وقد قيل، إنها مسألة غامضة لا تتضح إلا يوم القيامة، وقالوا، الرضاء بالقضاء أن تفعل ما يرضَى اللَّه به ظاهراً، وترضى بما يقضيه باطناً، فهذا هو الحق والصواب، وما كان غير ذلك فهو باطل، وماذا وقع للعامة من قولهم، في كل ما فعلوه، هذا مقدَّر علينا، وإذا جاء ما فيه هواهم وغرضهم، قالوا ذلك، وإذا جاء خلاف ذلك ضاقوا به ذرعاً، وقامت عليهم القيامة، أو كما قال
وقال له رضي اللَّه عنه رجل من أهل القارة، حصل عندنا في بلدنا ريح شديدة مع مطر، حتى إنه أصبح تحت النخيل كثير من الطيور، مات من شدة الريح، ملأوا منها زنابيل لكثرتها، فقال نفع اللَّه به، ذيبها تحدث في الوقت حوادث، ثم قال، اللَّهم اجعل مرادك فينا خيراً، لكن ما معنى هذا المراد، والمراد قد سبق، إلا إن كان بالصبر والرضاء و يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت
وذكر رضي اللَّه عنه في بعض مجالسه المشيئةَ والقضاء والقدر، فقال، القضاء والقدر بحر عميق، وقد جاء، إن اللَّه تعالى لما عصاه إبليس، قال له، بِمَ علمت أني قَدّرت الذنب عليك، قبل فعله أو بعده، قال، بعده، فقال تعالى، بها أخذتك
(١/١٣٣)
وقال رضي اللَّه عنه، مذهب القدرية خير من مذهب الجبرية، وإن كانا باطلين، لأن الأولين إنما نسبوا لأنفسهم قدرة، وأما الآخرين فإنهم عطلوا الأحكام الشرعية، وهذا هو الزندقة بعينها، ومذهب الجبرية هو الغالب الجاري على ألسن العامة وأفعالهم، فهم زنادقة إلا أنهم ما علموا بذلك، لكونهم لا يعرفون العلم، أليس أحدهم يأكل باختياره، ويفعل باختياره، وهو بقضاء اللَّه وقدره، ولكنه في ذلك مختار، وما جعل اللَّه سبحانه وتعالى للإنسان اختياراً، إلا ليختار ما اختاره اللَّه، والأسباب من اللَّه تعالى، وهو الفاعل في الفعل، فليفعل من الأمور الشرعية المطلوب، وينتهي عن المنهيات في كل ما له اختيار فيه، وإذا ذهب عنه الاختيار حصل له العذر حينئذ، فما الفرق في رجلين، أحدهما سقط في بئر مع غفلته عن ذلك ومات، حتى إنه يُصلَّى عليه ويجهز ويُدعى له، ويقال هو شهيد، وحاله ممدوح، ثم إذا سمع آخر بمدح ذلك رمى بنفسه في البئر، هل يكون مثله في المدح؟، لا، بل يكون مذموم الحال، مستوجباً للعقاب ولو عطل الناس الأحكام واعتلوا بالقضاء والقدر لبقُوا مثل الحمير والبهائم
وقال رضي اللَّه عنه في مجلس آخر، للَّه أسرار وَحِكَمٌ في ترتيب الأسباب، وارتباط منافعها بعضها إلى بعض، واحتياج البعض منها إلى البعض، وهذا عالَم الأسباب، جميع أموره تتوقف على الأسباب وهو موضع قوله ،{ كُنْ فَيَكُونُ} قال تعالى،{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً} إلى قوله تعالى ،{ مَّتَاعًا لَكُمْ وَلأنَعَامِكُمْ }، وأما عالَم الأمر فهو شئ آخر، لا حكم فيه للأسباب، ولا للكاف والنون، ولا احتياج إليها
(١/١٣٤)
وقال رضي اللَّه عنه، الناس كلهم يخدمون القضاء والقدر، لأنهم يسعون في تنفيذه ويُعرف تخصيصه بظهوره عليهم، ولو قلت لشخص سِرْ إلى البلد الفلاني لتموت فيها لأبى، ولكنه يسيرُ لقصد حاجته، وقد قُضِي أجلُه فيها، فيموت بها، وكلٌّ يسعى في نفع نفسه، فيصير النفع لغيره بسببه، وينتفع بعضهم من بعض، ولا أحد قصد إلا نفع نفسه
وقال رضي اللَّه عنه، يكفي الإنسان بعد الإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر ذكرُ الوعد والوعيد عن الخوض في مسألة القضاء والقدر، لأن فيها إشكالاً لا ينحل إلى يوم القيامة، وكل من تكلم في حَلها زادها إشكالاً، فلا تطمع في حَلها
وقال رضي اللَّه عنه، إذا انبهم عليك أمر، فسر معه حتى ينقطع طرفه الثاني، لأن الأول قد عرف، فإذا عرفت السابقة فلا تنبهم عليك الخاتمة
وذكر رضي اللَّه عنه رؤية الأشياء من اللَّه تعالى فقال، لو أن رجلاً أتاه سائل فأعطاه شيئاً، لا شك أنه يرجو عليه ثواباً، ويرى أنه فعل شيئاً، وينسى أن اللَّه تعالى هو الذي أقدره على الفعل، وأنه هو الذي يَسَّر له ما تصدق به، وأنه هو الذي ساق إليه السائل وفي المعاصي النفس تدعو إليها والشيطان يزينها له وينسيه عاقبتها ليطمئن بها قلبه وينوي العود إليها ويصر عليها
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، الأشياء كلها صادرة من حضرة الإرادة، إرادة اللَّه تعالى، ولكن الطاعة مظهر نور وخير وتَنَزُّل إلى حضرة الملائكة، إلى حضرة المؤمنين، والمعصية مظهر نار وظلمة وتَنَزُّل إلى حضرة الشياطين، إلى حضرة الفاسقين، ولا عذر مع الاختيار في تجاوز الأحسن إلى ضده أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، الناس مُسَخَّر بعضهم لبعض، ولِمَا يريده اللَّه منهم، فترى الإنسان يفعل الأمر مما ينفع غيره، بقصد وبغير قصد، ويظن أنه إنما يسعى في حاجة نفسه فقط، وإنما الحاجة أو معظمها لغيره، وحاجته من ذلك قليل
(١/١٣٥)
وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة في وصف الإنسان فقال،مسكين الإنسان، إذا قُتِّر عليه رزقه جزع وتبرم، وإذا وُسِّع عليه طغى وغفل،وفي طبعه الدعوى ورؤية نفسه،وإن لم يكن ثم شئ، وأكثَرَ نَفَعَ اللَّه به في هذا،ثم قال، ولهذا سئل بعضهم عن الإنسان، فقال،هو أنف في السماء، واْسْت في الماء
وقال رضي اللَّه عنه، الأمور بالأقدار، فإذا قامت الأقدار فانظر الشريعة هي أين، حتى تستقيم الشريعة مع الحقيقة
وقال رضي اللَّه عنه، إذا رَفَعَت الملائكة من الأرض إلى السماء أمراً لم يعرفوه، نزلت من السماء إلى الأرض بأمر لم يعرفوه
وقال رضي اللَّه عنه، ما مع الإنسان إلا جهده، والأقدار تحكم عليه، لا يحكم عليها
وقال رضي اللَّه عنه، الحق سبحانه وتعالى إذا لم يردك لأمر، قيَّض لك سبباً، وإلا فما الفاعل إلا هو سبحانه
وقال رضي اللَّه عنه، ما يحيل على المقادير إلا العاجز، فأعط الأمور حقها أولاً، فإذا أعجزتك فحينئذ كِلْهَا إلى المقادير، فلو أعطى الأشياء حقها، وساعدته بها المقادير، وقام فيها على الوجه المطلوب، كان محمود الحال إلى آخر الزمان، وأسباب الرجاء في اللَّه، الناس إلا يعرفون طرقها، ما هو إنهم ما يعرفونها
وقال رضي اللَّه عنه، إذا حَكَمَت الأقدار، تيسرت الأسباب أو تعسرت، وَقَعَت المسبَّبَات، ولم يعذر مع الاختيار، وأما إذا لم تسبق الأقدار فلم تقع، فلا عذر له أيضاً مع الاختيار، وهذه مسألة قد تخفى، فيحتج الإنسان بالأقدار مع ثبوته على المعصية، أو كما قال
واستأذنه رضي اللَّه عنه رجل في السفر، فقال، ليس هذا وقته، فاصبر حتى يأتي وقته، واحفظوا هذه الكلمة، إذا أردت أن تقطع، فاقطع على مفصل، فإن قطعت على مفصل قطعت، وإن لم تقطع على مفصل كسرت
(١/١٣٦)
وقال رضي اللَّه عنه، الخلق مكلوفين على ما خلقوا له، فإن اللَّه تبارك وتعالى أراد بهم، وأراد منهم، فالسعيد من وافق ما أراد به الحق وأراد منه، والشقي من اختلفت به الأمور، ثم قال لي، احفظ هذه الحكمة، إن كنت حافظاً
وقال رضي اللَّه عنه، ما يُحتج بالقضاء والقدر، إلا بعد ما يقع المقدور، وأما قبله فلا، وإلا تعطلت الأشياء
وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى ،{ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ } ومتى يشاء اللَّه؟، إذا كنت قادراً تفعل باختيارك فقد شاء اللَّه، واللَّه سبحانه ما يسأل الناس إذا جاءوه يوم القيامة إلا عن الأعمال، لا عن أمثال هذه الأشياء
كلامه رضي الله عنه في الحسد
وقال رضي اللَّه عنه، الحسد يدخل ـ أو قال يظهرـ على الإنسان في كلامه وأحواله، من غير شعور منه، وهو لا يظن ذلك من نفسه، بل يرى أنه برئ منه، وهو من أكبر الذنوب، وبه هلك إبليس وقابيل، ولو كان فيكم أهلية لقرأنا عليكم مقاطع القرآن، فاقرأوا،{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى} فماذا تقول لو جاء أحد من الحَسَاء فطلَّعناهم وخليناك، فماذا ترى يقع عندك، قلت، إني أَوَدُّ لو جاءوا كلهم يلتمسون منكم وينظرون إليكم، قال، لا، وهذا هو معنى قولنا لكم، إن طريقة الإمامة مظلمة لا يُهتدى فيها، قلت له، فالحاصل أن كل مجلس يفوتني من مجالسكم، ولا يحصل لي فيه الحضور، يحصل لي من فواته تعب كثير، قال، قد علمنا منك ذلك، وما خاطبناك بهذا إلا لعلمنا بذلك منك، أرأيت إن كان مجلس يضرك في دينك، أتحب أن تحضره؟، قلت، أنتم أعرف، قال، ومجالسة الأكابر كثيراً ما ننهى عنها ولذلك أكثر ما يُحرَمهم أهلهم ومخالطوهم
(١/١٣٧)
ولما ابتدأ القارئ من القراء بعد العصر، وكان عادةُ هذا الابتداءَ كل يوم، فقال له، لا تعد تبتدئ أنت كل يوم إلا مرة، ومرة، لأن هذا يحرك منك داعية الرياء، ومن غيرك الحسد، وأنتم ما تعرفون هذا الأمر، ولا رُضْتوا أنفسكم، ونحن أعرف به منكم، ثم قال، كل كلمة تخرج من الأكابر للتلميذ، فيسمعها منهم، تكون على نفسه كالحجارة، تزيد بها نفوسهم رياضة وخموداً، ومن لا يكون كذلك، لا تزيده إلا قوة نفس، ولا يزداد إلا حسداً، ويعمل بخلاف ذلك، أو كما قال، قال ذلك القارئ، واللَّه ما قط خالجني الرياء بالابتداء، إلا ذلك اليوم، فأطلعه اللَّه عليه، فنهاني نفع اللَّه به، فلما كان تلك الليلة، وهي ليلة الخميس تاسع عشر ربيع الثاني من سنة ١١٢٩، طلب مُسَمِّعاً وفعل سماعاً، وذلك عادته في أيام متراخية، ومن عادته أن لا يُحضِر أحداً ولا يتركه يحضر، كذلك سمعته يقول، فلما كانت تلك الليلة طلبني للحضور، ولم يطلبني لذلك قبلها قط، فلما صافحته، وجلست كان فيما تكلم به أن قال، ليس من عادتنا أن نطلب أحداً للسماع، وذلك من عهد قديم، ولا يحضرنا أحد إلا إن كان من العيال، أو خادم واحد يُحتاج إليه، ولكن من استمع من بعيد كما من تحت الباب، أو حيث يسمع لا نعنّف عليه ولا نلومه ولا حرج عليه ومثل ذلك في كل أمر نفعله، فهذا حالنا إذا كنا في البيت، وأما لو كُنَّا في خلاء في السبير أو غيره فنُحْضِر جماعة مخصوصين مقتربين، الذين يحصل بهم الأنس وباجتماعهم، وهنا عندنا في البلاد عادة، إن الإنسان إذا كان في داره، فَقَلَد على نفسه ما أحد يجيئه، وإذا فتح الباب ضاق بالناس المكان حتى لا يسع أحداً كما ترون في عواد وغيره، ودخل فيهم الشريف والوضيع من رعاع وغيرهم، ممن لا يعرف الأدب، ولكن الرعاع من عادتهم إذا حضروا مجالس الأشراف، فإن رأوهم متأدبين تأدبوا، وإن رأوهم على خلاف ذلك زادوا عليهم في
(١/١٣٨)
إساءة الأدب، فاحفظوا هذا لا تنسوه، ثم قرأ الفاتحة ودعا، اللَّهم احفظنا في ديننا وقلوبنا، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ثم أمره يشل، فلما تم من أول مأخذ، وسكت المسمع، قرأ سيدنا،{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } وتركه يسكت ساعة، وهو يتكلم بما يناسب الحال والمجلس، ثم أمره يُشل، فلما فرغ أمر بإحضار القهوة، فجعلت أصبها وأديرها، حتى فرغت، ثم أمره أيضاً فلما فرغ قال نفع اللَّه به لي، هل ظهر لك من هذا شئ لم يكن لك على بال؟، قلت، اللَّه أعلم، قال، هل سمعت ما لم تكن تسمع؟، قلت، نعم، ثم التفت إلى ابنه الحَسَن، وقال، إنه ما يريد إلا مثل كرامات الشيخ عبدالقادر الجيلاني نفع اللَّه به، تكون منه الكرامات الظاهرة الباهرة على التواتر، وهذه أشياء لا يجوز إظهارها، فلا هي نبوة حتى يجب إظهارها وإنما هي بحسب الحاجة والضرورة الداعية إليها، كما في قصة الحنفي مع تلميذه في المشي على الماء، وقد كان من كرامات بعض من شهد الشيخ عبدالقادر، أنه عرض عليه طبيب مُقْعَداً وصحيحاً في صندوقين ليختبره، هل يعلم أيهما المقعد والصحيح، فقال، تريد اختباري بذلك، هذا هو المقعد وهذا هو الصحيح، أو كما قال في معنى هذه الحكاية، ثم قال، وأنت لو كنت في بلادك لكذا ولكن الضوء لا تظهر مع الشمس، وذلك بالنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لا بنا، لأنه عليه الصلاة والسلام هو الشمس، ونحن الظلال، وقد أمر هو بالتمسك بأهل البيت النبوي، وبكتاب اللَّه، وقال، (( لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ))، وقد كان رجل من المتعلقين بنا انقطع فقلنا له، وانقطاعك ماذا يحصّل لك، أتندفع عنك به حجة، أو تثبت لك به الحجة، فبقي يتردد كما يتردد هؤلاء الذين يترددون، وخليناهم على تردّدهم، لأنهم كانت لهم
(١/١٣٩)
حبال، والحبال إذا ثبتت لا يجوز قطعها، ثم أمره أن يشل، وقال، اختم فلما ختم قرأ الفاتحة، ودعا ومن جملة دعائه بعد الحمد والصلاة والسلام على رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، اللَّهم يسر أمورنا وأمور المسلمين، وأنزل أمطارهم، وأرخص أسعارهم، اللَّهم الطف بنا في قضائك، وعافنا من بلائك، وأوزعنا شكر نعمائك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك، اللَّهم جَمّل أحوالنا، وأصلح أعمالنا، وطهر وحسن أخلاقنا، ووسّع وطيب أرزاقنا، واقض بفضلك ديوننا، وأصلح بكرمك شؤوننا، واجعل إلى رحمتك ورضاك ومجاورتك في دار كرامتك منقلبنا ورجوعنا ومصيرنا، فلما انقضى هذا المجلس الميمون المبارك، ونزلت من عنده، فلما وصلت إلى المكان الذي أنا فيه نازل، أعلقت السراج، وكتبت هذا الذي جاء على خاطري، وما نسيته أكثر
وحضرت مرة عنده رضي اللَّه عنه سماعاً في نخل السيد عمر الحداد، فقال المسمع في سماعه، من أبيات لبامختار هات محزم وخذ لك ألف محزم، هذا ما ظهر لي من لفظه، فرأيت سيدنا عند ذلك رفع رأسه متبسماً ضاحكاً،ثم صوَّبه وخفَّضه، وإذا به يبكي ودموعه تتقاطر
ذكر ما قاله في الإلباس
(١/١٤٠)
وذكر رضي اللَّه عنه الإلباس، فقال، الإلباس لا يُراد لصورته، ومن لبس لصورة الإلباس، ما حصَّل شيئاً، وإنما هو لمعنى فيه وهي الرابطة، وقد رأى أبو يزيد رجلاً يماشيه، فيضع قدمه في موضع قدمه، فقال له، لِمَ تفعل هكذا، فقال، لأسير على طريقك، فقال، لو سلختُ جلدي، فلبستَه ما نفعك حتى تدحق على طريقي التي سلكتها إلى اللَّه عَزَّ وَجلَّ، فقلت لسيدنا نفع اللَّه به، أيقتضي هذا أنه لا بد بعد الإلباس وحصول الرابطة أن يقتدي بمن لبس منه، قال، نعم، بما أمكنه، ولو بعض اقتداء، بحيث لا يصير مخالفاً له، ويكون منتسباً إليه، قلت، فهل يشترط في هذا أن يراه؟، قال، لا، بل بحيث يكون على الطريق لا يميل عنها، وإن لم ير السائرين عليها، فإن المائل عن الطريق لا يصل إلى المقصود، والسائر عليها وإن بَعُد عن مَن أمامه يصل، فأين نحن من الشيخ محمد بن علوي، ونحن في تريم، فقلت، رأيت في شئ من الرسائل إنكم قلتم فيها، إن طريقنا الكتاب والسنة، ولو جاءنا صادق لبَيَّنَّا ذلك له، ولوددت أنكم ذكرتم من ذلك ما تيسر، فضحك متبسماً، وسكت قليلاً، وكان ذلك عادته إذا خوطب بكلام يحب أنه لم يذكر له، ثم قال، هي الطريق، وإن اختلفت الطرق فهي عليها وهي واحدة، ولكن ما كل أحد يعلمها ويعمل بها، فلو صلى رجل مثلاً من غير طمأنينة، فلا يخلو إما أن يكون عالماً ببطلان صلاته، فهو مخالف للعلم، وإلا فهو جاهل، والزمان اليوم إلى وراء وقد أدركنا جماعة نقصوا عما كانوا عليه كثيراً، هذا بالنسبة، وأما الكامل على القدم المحمدي، فما أدركنا عليه أحداً أو كما قال
(١/١٤١)
وذكر قصة الذي ذكره اليافعي أنه مر عليه الشيخ مع تلميذ له، والطبل في عنقه، وكان في جماعة يسمون السناكم يأكلون الميتات، ويشربون الخمر، فأخذه وضربه بحزمة قضبان، ثم صلى بهم صلاة أظنها العصر، ثم فرش له سجادته، ثم أمره يجلس عليها، فجلس وسار يمشي على الماء، فيقول السامع متعجباً كما قال تلميذه الذي معه، أنا لي معك كذا كذا سنة، ما حصل لي، وهذا حصل له في لحظة، فالجواب ما قاله الشيخ من أنه ليس الأمر في ذلك إليه، بل إنما الأمر فيه إلى اللَّه لا غير، حتى قال، أنا وددت لو كان ذلك لي، وإنما أنا عبد مأمور، بل قيل لي فلان من الأبدال توفي، فأقم فلاناً مكانه، فامتثلت كما يمتثل الخدام، ثم قال، وهذا الأمر لا بد فيه من جذبة أو سلوك
(١/١٤٢)
ولما خرج رضي اللَّه عنه لصلاة الظهر يوم السبت ثالث عشر جماد أول سنة ١١٢٩، ذكر لي الكتب التي في خزانته، واستخبرني عنها، ومن جملتها الصحيحان، فقلت، أود لو حصل معي كتاب جمع بينهما لجعلت جل مطالعتي فيه، فقال نفع اللَّه به، أنت فيك فضول تحب جمع الكتب، خَلّ عنايتك بالعلم والعمل، دون جمع الكتب، إفهم كلاماً قليلاً، يغني عن كلام كثير، فما ينفع كثرة الكتب كَمَثَلِ الحمار يحمل أسفاراً، فخل همك هماً واحداً، ولا يتشعب قلبك في طلب العلم، والناس ما صحبوا أهل التصوف، إلا لهذا المعنى، ومن تتبع الشُعَب، لا يبالي اللَّه في أي وادي أهلكه ويبقى قلبه يتتبع الشُّعَب، حتى في صلاته، فيتتبع الشعب في طلب العلم، حتى يتتبعها في النساء والثياب، وما شاكل ذلك، وفي مثل هذا المعرض، قال، وكتاب واحد من كتب الإحياء يكفي من جميع الكتب، والعلم المطلوب منه العمل، وإلا فما تنفع لفلفة الكتب، فكم أناس جمعوا كتباً ولفلفوها، فما نفعهم ذلك، فلا عاد أحد يخبرنا بالكتب، فما مر عليك بعضه قد مر علينا كله مرتين أو أكثر، لأنا من سنة خمسة عشر سنة إلى الآن ونحن في الكتب ثم أنشد،
وتعليمُ زيد بعضَ علم الفرائض ومن عجبٍ إهداءُ تمر لخيبر
(١/١٤٣)
وكان رضي اللَّه عنه طالعاً يوماً من الصالح يريد مكانه الحاوي، وذلك يوم السبت ثامن عشر جماد الآخر سنة ١١٢٥، فقال، إن سَلِم الفلاني، ووصل إلى بلاده، صار لهم مثل حديث خرافة، رحت أنا مع فلان إلى مكان كذا، وجئنا من مكان كذا، وكان الأمر كما قال نفع اللَّه به، فقلت، إن كان الأمر إلا هكذا فالحجة فسلة فقال رضي اللَّه عنه، كل شئ له حُكْمُه، للظاهرِ وأمورِ الأجسام حكمُها، وللباطن وأمور الأرواح حكمُها، فما معنى قول لا عبرة بالأكل ولا بشيء من الأمور التي تتعلق بالجسم، وهو لا يسمح بترك أكلَة، وقول بعض المتصوفة، أنا أعمل لا لحصول الجنة، ولا لخوف من النار، ولا للحور والقصور، وهو متعلق قلبه بنكاح النساء، وبسائر اللّذات، فما هو إلا من حيث إن مطلوب الأرواح غير مطلوب الأجسام، أفهمت هذا القَدْر؟، قلت، قريب منه إن شاء اللَّه، ثم ذكر قصة الذي عزم على أن لا يأكل الطعام مدة أربعين يوماً، ثم اشتد به الجوع، فخرج من غير شعور منه بنفسه إلى السوق، فرأى رجلاً يقول، أشتهي كذا من الحلوى، وكذا من شهوات أخرى، فقال ذلك الرجل في نفسه، إن هذا الثقيل يتمنى هذه الشهوات، وأنا أشتهي كسرة ما حصلت لي، ثم بعد ساعة حصل لذلك الرجل المتشهي ما أراد، فأتى به لذلك الآخر وقال له، من هو الثقيل منا، الذي قطع عزمه وآذاه الجوع، أو من يَتَشهَّى الحلال، فخذ هذا واقطع الأربعين بالتدريج شيئاً فشيئاً، ما هو بمرة واحدة، فهذا كله بالنسبة إلى الأرواح والأجسام، فافهم ذلك واعرفه أو كما قال
(١/١٤٤)
وخرج رضي اللَّه عنه اليوم الذي بعده، وهو يوم الأحد إلى السبير، فتكلم في الطريق، وذكر أحوال الفقراء في الرد والأخذ، فقال نفع اللَّه به، للرد شروط لا بد منها، أَوَ كل أحد يحسن الرد، فقلت، أَوَ يشترط في الرد كما فعله من فعله أن يستوي عنده المال والحجر سواء؟، قال، نعم قلت، إن ذلك لشديد وأمر غريب، فقال رضي اللَّه عنه، كل أمور الصالحين غريبة، لأن تعلقهم وأمورهم من الآخرة، فأي شئ من أمورهم ليس بغريب، واعتمد على ذلك الكلام الذي ذكرناه لك في طريق الصالح، فإنه يفهمك أموراً لم تكن في بالك، ويحل لك مشكلات كثيرة ويوضح لك أشياء إن سألت عنها، أو قال ربما تسأل عنها، أو كما قال
وكان رضي اللَّه عنه طالعاً يوماً من الصالح إلى الحاوي، وذلك بعد الإشراق يوم الجمعة ٢٤ جماد آخر من السنة المذكورة، فسأل عن غريب قدم منذ يومين، ظاهر حاله التجرد وتقليل الطعام، حتى امتنع من الدخول مع الجماعة للعَشاء، ويصوم، فقال، هل له قيام بالليل؟، قيل، ما رأيناه، فقال نفع اللَّه به، قلة الأكل وقلة النوم متلازمان، قيل، وكثير من الغرباء عند مجيئهم يعملون على هذا، ولكنهم لا يثبتون عليه، كما قصة فلان حيث أراد أن يدخل أربعينية، واستأذنكم في ذلك، فقال رضي اللَّه عنه، ليس ذاك الأربعينية المذكورة في طريقة السابقين، وتريم فيها أربعينية؟، وإنما هي أربعينية كذا في طريقة أصحاب اليمين، وهذه الطريق ليس فيها أربعينية، بل هي طريقة سهلة، تُفضي بالإنسان إذا واظب عليها باللحوق بأهل تلك الطريقة، فربما حصل له في هذه الطريقة فتوح فالتحق بأهل تلك، وليس فيها من طريقة السابقين إلا من كل شئ جزء يسير، وهي طريقة سهلة ولا أربعينية فيها ولا مشقة ولا خطر
(١/١٤٥)
وأما طريقة السابقين فهي مُشِقَّة وفيها أربعينية، ولكنها مُخطِرة، يخشى فيها على أمور الدين من تغير العقل والعقيدة، وكثير من الناس إذا رأوا شيئاً من ذلك خرجوا من الأربعينية، كيف وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وهو مؤيد بالوحي والعصمة، (( لقد خشيت على نفسي ))، قلت، قال ذلك لما رأى المَلَك، قال، وهذا أيضاً ربما رأى المَلَك مَلَك الإلهام، لا مَلَك الوحي، وأيضاً النبوة فيها مَلَك وحي، ولا سبيل للشيطان مع مَلَك الوحي، وأما مَلَك الإلهام فربما حضر معه الشيطان، وقريش إنما استنكرت من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لما رأوه مخالفاً لهم، وقالوا، نخشى أن يكون أصابه الشيطان، وأرادوا ينظروا له طبيباً يداويه، ولا يليق بأهل هذا الزمان إلا هذه الطريقة السهلة، دون الأخرى، وأين الناس اليوم، وأكثر ما يحصل التغير في الأربعينية لمن يدخلها بغير شيخ، أو من غير امتثال، وقد كان جاء إلى عندنا رجل يعمل لنفسه رياضات، وأدخل نفسه الأربعينية، ويزن القوت بالجريد الأخضر، فقلنا له، اترك هذا، واعمل على تلك الطريق السهلة، فعل الأوامر الظاهرة، والاقتصاد في العمل مع
المداومة عليه، فأبى، فقلنا له، تكذب في عملك، هذا أنت ما بعد أحكمت طريقة أصحاب اليمين، فكيف يمكنك سلوك طريق السابقين، فسَافَرَ من عندنا، فتعوقت عليه الطريق، حتى رجع نحو ثلاث مرات، حتى تيسر له السفر فيما بعد، ونحن ما نتأسف على فعل الخير، وإنما نتأسف على كلمة صدرت منا لأحد، وكان يسعنا العفو عنه فيها والتجاوز والإغضاء، ومنذ ابتدأنا إلى الآن، ما أشهرنا أنفسنا بطريقة السابقين، لا سابقاً ولا لاحقاً، ولا سلكناها بين الناس، ولا سَلَّكنا فيها أحداً، وأين الزمان من الزمان، والناس من الناس، طالباً أومطلوباً، قلت، فإذا جاءكم أحد لا يعرف طريقة السابقين، ولا طريقة أصحاب اليمين، فماذا يفعل؟، قال، يعمل على ما نحن عليه، فما يرانا نفعله يفعله، كما
(١/١٤٦)
ترى، من إقامة الصلاة، وقراءة القرآن، وترتيب الأذكار، وطلب العلوم النافعة مع الدوام على ذلك، فهل رأيت أحداً دام على ذلك من علماء الحرمين، أو غيرهم، أو سمعت أحداً ينكر هذه الطريقة، قلت، لا، قال، هذه طريقة أصحاب اليمين، وهي اللائقة، فينبغي أن يُطلق لأهل الزمان طريق العموم، لتعذر طريق الخصوص، وإلا فكم واحد يظن بنفسه أنه مثل الشيخ عبدالقادر، وهو ما يكون مثل شوكة في رجله، قلت، فالطمع طبع، يطمع في كل شيء أن يكون له منه الحظ الأوفر، فقال رضي اللَّه عنه، الطمع يكون في أمور الدين؟،إذا كان الطمع في أمور الدنيا مذموماً، فكيف في أمور الدين
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً كلاماً كثيراً حتى قال، أكثر ما يغار الإنسان إلا من أمثاله، ولو حضر أربعة متماثلون في جنازة، لطلب كل منهم أن يكون هو المتقدم في الصلاة، ولو جلس مثلاً رجل من غير الأشراف للتدريس، من آل بافضل، أو غيرهم، لما استنكف الأشراف من الحضور عنده، ثم قال ولو قد رحت إلى بلادك، وجاء واحد ليتقدم عليك كرهت ذلك، فقلت، نعم، ولكن إلى متى الإنسان على هذه الحالة، فقال نفع اللَّه به، حتى يخرج عن حكم الطبيعة، فقلت، وبأي شئ يخرج منه، فقال، باختيار اللَّه، وليس بكسب الإنسان، وإنما هو بالبخت والنصيب، فكل ما أراد اللَّه شيئاً لا يحصل له إلا بالبخت والنصيب، أما سمعت قولهم، وما هو إلا بالبخت والنصيب
وقال رضي اللَّه عنه، إنما قيل في النفس إنها أعدى الأعداء، لكونها تنكر الشيء من غيرها وتكرهه وفيها مثله، فلو رأيت إنساناً في أمر كرهت منه أشياء، فلو قمت أنت في ذلك الأمر ظهرت منك تلك الأشياء التي كرهتها من غيرك، فيكرهها منك آخر، فالطباع سواء، والنفوس على طبع واحد في ميلها عن الصواب، ولكن يظهر الشيء ويخفى أو كما قال
(١/١٤٧)
ولما خرج رضي اللَّه عنه لصلاة العصر يوم الثلاثاء ٢٣ من الشهر المذكور، سأل عن رجل فقير غريب، سافر في هذا اليوم، وهو الذي لم يخبر باسمه، وإذا سئل عنه، قال، التراب، وسماه سيدنا أبو الفتوح الشامي، وكان من أهل حَلَب، فسأل هل معه زاد، ثم ذكر أحوال أهل التجريد فقال، كانوا إذا احتاج الرجل منهم، وعرض له شئ أخذ حاجته فقط، وَرَدّ الباقي، وإن لم تكن حاجة رد الكل، ولا يخطر في قلبه الحالُ، في الوقت المستقبل، ثم ذكر قصة ذلك الرجل المتجرد الذي احتاج فجاءه رجل بحاجته، وقال له، إني رأيت النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في النوم يقول لي اذهب بكذا وكذا إلى فلان في المكان الفلاني، فإنه محتاج لذلك، فأتيتك به، وقال له، إذا احتجت فتعال إلى عندي، أقضي حاجتك وأنا في المكان الفلاني، فقال له، لا آتيك، فإذا أنا احتجت، يأتي بك أو بغيرك من أتى بك الآن، الحكاية بمعناها، فقلت، إن مثل هذا وقع بصيغة خرق العادة، من حيث الكرامة، ولا يكون ذلك إلا نادراً، فمتى يكون مثل ذلك في كل حين، والضرورة تتكرر في كل حين فقال رضي اللَّه عنه، نعم إذا خرقت من نفسك العوائد، انخرقت لك العوائد، وهو أمر قد ذكر الإمام الغزالي إنه لا يوصل إليه بالهوينا، بل بعد اللُّتَيَّا واللتي، فقلت، يعني به شدة الصبر على مثل ذلك، قال، نعم، إذا صبر عليه لأجل اللَّه، كتقوية اليقين، لا لأجل هوى، وإلا ترى رهباناً وفلاسفة ونحوهم يتخلون ويتريضون ما حصلوا شيئاً، أما سمعت قول بعضهم، قف على الباب لا لتفتح لك الأبواب، تفتح لك الأبواب، واخضع لا لتخضع لك الرقاب، تخضع لك الرقاب، فقلت، إن هذا أمر عسر جداً، وكلٌّ غافلٌ عنه، ومع ذلك كلٌّ يريده، فقال نفع اللَّه به، هذه الأشياء إنما هي بالبخت والقِسَم، ولما استخلف منه ذلك الغريب المذكور، مسافراً في ذلك اليوم، قال سيدنا له، مع اللَّه نتلاحق إن شاء اللَّه تعالى في مكة، ثم
(١/١٤٨)
عَقَّب ذلك بقوله، إما في اليقظة وإما في النوم، واللَّه اللَّه في دينك، واحذر من الرياسة، لا يكون لك بها تعلق، وخل الأمور تمر عليك، ولا تخطر ببالك، وكن في الإقامة حيث ما يستقيم قلبك، ودم على لا إله إلا اللَّه إما باللفظ أو بالقلب حسب الفراغ، إلا إذا كان لك في وقت ورد معين لذلك الوقت، فاشتغل به فيه، وأمر الدنيا لا يخطر ببالك، وإن دخل يدك منها شئ فخذ منه حاجتك، وإن خرج من يدك فلا تخالف، أو كما قال وطلبت من سيدنا نفع اللَّه به الدعاء، وذلك ليلة الأحد في ٢٩ شهر رمضان سنة ١١٢٩، بعد ما فرغ من ختم مصلى الحاوي، لما دخل الضيقة يريد الدخول إلى الدار، فقلت، ياسيدي اللَّه اللَّه فِيَّ بالدعاء، ادعو لي في هذه الليلة المباركة، فقال نفع اللَّه به، ادع أنت لنا ولنفسك، لأن لك حق الغربة، وحق الطلب، فإنك غريب وطالب، ولا تدع لنفسك إلا بأن اللَّه يتولاك مع اللطف والعافية، وإلا فإن الولاية الخاصة فيها ابتلاءات كثيرة، قلت، دعاكم لي بصلاح القلب بالخصوص، وغيره بالعموم، فقال، اللَّه يتولاك بولايته، اللَّه يتولى الجميع، أو كما وقع وخرج رضي اللَّه عنه يوم الثلاثاء في ٦ ذي الحجة سنة ١١٢٩ بعد الإشراق، من دار آل فقيه، إلى دار آل عمر حداد، فكان فيما تكلم به وهو يسير قابضاً بيدي، إذا عاش الإنسان زماناً طويلاً، أنكر ما يراه من الناس، لأنهم جاءوا بعده فينكر أفعالهم وأحوالهم، يراهم يطلبون غير ما يطلب ويفعلون غير ما يفعل، ويهوَون غير ما يهوى، فهو مباين لهم في كل شئ، فانظر إذا عشت بين أهلك، كيف تستنكر أمورهم، فتكون وأنت بينهم كأنك مفرد عنهم وحدك، أو كأنك غريب عندهم، قلت، فما يصنع الإنسان مع هذا في حال نفسه، وما يتعلق بالناس؟، فقال رضي اللَّه عنه، ففي حال نفسه يتبع الحق وما أمر به، ولا يميل إلى الباطل فاعتبر بنفسك، ومعهم تسايرهم بالتي هي أحسن، وتقيم عليهم حق
(١/١٤٩)
اللَّه، إن كان لا عذر له منهم، بأن كانوا أهله وقرابته، وإن كانوا غيرهم، فمن له منهم بدٌّ فيجانبهم، ولا يتابع أحداً إلا فيما يجوز، ويتحرى لنفسه الصواب وما فيه الاحتياط، وهذه الأمور لا يلزم النظر فيها إلا من كان من الخلفاء، إما خلفاء الظاهر أو خلفاء الباطن، لأن اللَّه سبحانه وتعالى جعل أحداً في الخصوص وأحداً في العموم وأحداً في الخصوص والعموم، وما خلقهم على حالة واحدة، ولا دبرهم تدبيراً واحداً، ولا عيَّن للفعل وجهاً، فيختلف النظر باختلاف التدابير، ولا يجوز أن يدبر العالَم تدبيراً واحداً، ولو كان كذلك، لحصل من الضرر والفساد والاختلال شئ كثير، بل دبره سبحانه وتعالى تدبيراً شتى، ولو عيَّن فعلاً على وجه مخصوص للزم الأخذ به، ولا جاز لأحدٍ يتعداه أو كما قال بمعناه
وجلس إليه نفع اللَّه به الوفائي فشكا إليه حاله وما به من الابتلاء والفقر، فقال له سيدنا رضي اللَّه عنه، من ساعة إلى ساعة فرج، فتزود فيها من الطاعة، ومن التقلل من الدنيا، فقال، وأي دنيا عندي، وما تمنيتها ولا طلبتها، فقال، أحسن، وما القل من الدنيا إلا قربة، أَوَ ما عليك ذنوب تستغفر منها، قال، بلى، قال، لكن إذا أعطيت من غير سؤال فخذ، قال، فإن قيل لي أتريد كذا وكذا، فقال، لا، إنما هذا مشاورة، ثم التفت إليَّ نفع اللَّه به وقال، وكم عطية بلية، وكم من بلية عطية، احفظ هذه ياحساوي
(١/١٥٠)
وسأله رضي اللَّه عنه، عبداللَّه بن فلاح، ما السبب في أن الإنسان في بعض الأوقات يحس في نفسه نشاطاً للطاعة وداعية إليها، وفي بعض الأوقات خلاف ذلك، يكسل عنها، وتميل نفسه منها، فقال رضي اللَّه عنه، إن كان الباعث على فعل الخير من جانب الحق، بأن شاهد في نفسه أمراً من جانب الحق تعالى، فذلك إلى اللَّه سبحانه وتعالى لا مدخل للعبد فيه، وإلا فهو رجل دنياوي، لا قَدْرَ له، بأن كان إذا تيسرت له أمور الدنيا وتوتّت له، نشط للعبادة، ورغب فيها، وإذا تعسرت عليه وانقبضت عنه أمور معيشته، كسل واشمأز من الطاعة، فإن باعثه ذلك باعث دنياوي، وهو خسيس الهمة، لكن النشاط في الطاعة مليح، وخذ نفسك بالتي، كالغريم الظالم، خذ منه كل ما سمح واتفق، والنفس إلا غريم ظالم
وكان يوماً رضي اللَّه عنه خارجاً من البلاد إلى الحاوي، وهو يوم الثلاثاء ١٨ محرم سنة ١١٣٠، فقال رضي اللَّه عنه، النفس تحتاج إلى الترويح والفسحة، تستجم ويقوى الإنسان وينشط، ولو كان دائماً كذا، وذكر كلاماً كثيراً نسيته في الطريق، معناه دائماً يكد نفسه وذهنه في أمور الجد، بلا تروح في بعض الأوقات، لكان يخشى على مزاجه ودماغه، ولكن التروح في بعض الأوقات ينشطه للأمور الجدية، كما قال بعض الصحابة لعله ابن مسعود، إني لأستجم نفسي بشيء من اللَّهو، ليكون عوناً لي على الحق، أو كما قال الصحابي، وذكر بيت ،
ما ينفع النفسَ إذ كانت مُدَبَّرةً إلا التنقلُ من حال إلى حال
(١/١٥١)
فقلت، لكن النفس فيما يلائمها وتشتهيه تألفه وتعتاده بسرعة، ولو كان في أمر خير وطاعة لم تألفه وتعتاده إلا بمشقة، فقال نفع اللَّه به، نعم، لأنه خلاف طبعها والأصل فيها الهوى وخلاف العمل بالطاعة واتباع الشهوات، فإذا جاء خلاف ذلك، كان غير مستقل حتى يعتاد ويثبت، وإذا غلبت النفس العقل كان الحكم لها، وإذا غلبها العقل كان الحكم له، والنفس والعقل كالرجل مع المرأة، فإذا كان الرجل تابعاً للمرأة في كل ما تريده، كان التدبير تدبير امرأة، وبالعكس، (( ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) وأخرج اللَّه النفس للإنسان من نفسه عدواً ضاراً، أو قال قريناً ضاراً، كما أخرج حواء من آدم، فصارت هي عليه سبب الشر، حتى قيل إنها سقته الخمر، حتى أكل من الشجرة والإنسان ولو قد خرج من أسر نفسه بالرياضة والتهذيب، فيحتاج أن يتعهدها، ولا يغفل عنها، وقد ذكر الإمام الغزالي في رسالته إلى الفتح الدمشقي، إنه فتش عن حال نفسه، وتقصى عن حالها، وكذلك الذي طلبت منه نفسه الجهاد، أو كما قال بمعناه وفي ليلة الاثنين في ١٦ جماد الأول سنة ١١٣٢ سادس نجم الصرفة، أشرف من الغيلة إلى المصلى، وناداني، وذلك حين بقى من الليل نحو الربع، وقال، استغفروا اللَّه من هذه السيول الهائلة، فإنها بلاء أصابهم بذنوبهم، واقرأوا يس بنية دفع الضرر
(١/١٥٢)
وقال رضي اللَّه عنه، الطالب الصادق يجئ، فيأخذ ما يكفيه، ومن جاء بحسن ظن وصدق، ومع أدب، مثل من يحمل من الماء ما يكفيه، ويشرب حتى يروى، ومن كان ليس معه أدب كالذي يشرب ويحمل، ثم يبول في الماء، ومن يعمل الأعمال الصالحة ليَظْهَرَ فضلُه فهو مذموم، فقلت، إنما يريد الإنسان الاستقامة على الصراط المستقيم للَّه تعالى ويطيعه كما يجب، فكيف الوصول إلى ذلك، فقال نفع اللَّه به، بما أنت عليه من ظاهر الصلاة، ومن الباطن ما أمكنك أي من الخشوع، وتُعَلِّم متعلم، واللَّه سبحانه هو المعطي، فقلت، إنما مددنا منكم، فقال، إنما المدد من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ونحن ما مددنا إلا منه، وذكر هنا قصة الذي يحفظ قصيدة الشيخ أبي بكر العدني، وكان عَشَّاراً، فرؤي بعد موته ومَلَك من ملائكة العذاب قابض يده ليدخله النار، فاعترضه مَلَك آخر، وقال، خلِّ سبيله، إنه يحفظ قصيدة الشيخ أبي بكر، فقال، إنه يغلط فيها، فقال، أما يحفظ منها مستقيماً قوله ،
وذكر العيدروس القطب أجلا عن القلب الصدا للصادقينا
(١/١٥٣)
قال، بلى، قال، فخلِّه، ولو لم يكن فيها إلا هذا البيت أو كما قال في القصة، فقلت، إذا سمعنا كلامكم في الرجاء لمثل هؤلاء، لا يكاد يقطع الرجاء من أحد، وإذا رأينا أفعالهم يكاد الرجاء ينقطع منهم، فقال نفع اللَّه به، أُرْجُ لغيرك ما ترجو لنفسك، وأرج لنفسك ما ترجو لغيرك، فقد يكون ما في نفس الأمر خلاف ما في الظن، كما رأى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، قُطْفَ عنب في الجنة لأبي جهل، فأحزنه ذلك فقال، وما لعدو اللَّه أبي جهل وللجنة، حتى ظهر تأويله بإسلام ابنه عكرمة واستُشْهد، لأن الأمور بالخواتيم، إلا إنك جانِبْ أهل المعاصي، وعظهم وذكرهم، من غير أن تتكبر عليهم، أو ترجو لنفسك خيراً منهم، ثم سألته حينئذ عن حال رجلين، أو رجل في إحدى الحالتين، أيهما أحسن وأحب إليكم، أحدهما غائب منكم وهو متعلق بكم كثيراً، وآخر عندكم ولكنه ليس كالأول في التعلق، فقال رضي اللَّه عنه، المتعلق أحسن حالاً من الآخر، وإن كان حاضراً، لأن في التعلق منافع كثيرة، لا تحصل بدونه، وإن حصل مع الحضور منافع أُخَر، فقلت، ما يحصل للحاضر من رؤيتكم، والاجتماع بكم، والصلاة معكم، والتعلم منكم، وغير ذلك، لا يقابل تعلق الغائب، فقال، لا، لأن مع المخالطة لا يكاد يستقيم له شئ يحصل، بل يفوت بسبب المخامرة، كالذي يكون مشتاقاً للطعام، فإذا شبع مَلَّهُ، وفي البعد تغلب رؤية الخصوصية على البشرية، وفي الاجتماع تغلب رؤية المماثلة والبشرية على رؤية الخصوصية، وقد قال الشيخ أبو بكر بن سالم، لو سألت اللَّه أو قال شَفَعت في أحد من الكفار، ولعيالي وأخدامي، لرجوت الإجابة لأولئك الكفار، دون الآخرين، لأن المخامرة إذا قلت هات كذا، أو افعل كذا، تذهب الاحترام، ولهذا كانوا إذا جاء الطالب يمكث شهراً أو أكثر، لا يكلمونه بكلمة، خوفاً أن يألف الكلام معهم، ويقل احترامه، أو كما قال، كل ذلك بمسجد إبراهيم يوم الثلاثاء
(١/١٥٤)
ثاني ربيع ثاني سنة ١١٢٦، وسألته رضي اللَّه عنه مرة عن حال الرجل، يكون في البعد متلهفاً إلى الشوق إليكم كثيراً، وفي الحضور سالياً عن هذا، وفارغ البال منه، أيُّ الحالتين خير، فقال نفع اللَّه به، حالة الحضور خير، وليس في ذلك من الخصال المحمودة، إلا التلهف والشوق إلى الاجتماع فقط، وهذا يزيد عليه ببقية الخصال، وإن كان خالياً من التلهف الحاصل لذاك، لأن الإنسان في الطبع، لا يشتاق إلى الحاضر، فلهذا لا يكون الشوق في الجنة، وإنما يكون فيها الاشتياق، قال ذلك ضحى يوم السبت لعله في ٨ صفر سنة ١١٢٨
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً من مجاهدات الأكابر الذين سلفوا كالشيخ أبي بكر بن سالم، فقال، كانوا أيضاً يترصدون لملئ الحيضان في الليل حتى لا يراهم أحد، ويقيمون الليل بالصلاة والتلاوة، ومرادهم بهذه الأشياء كلها وَجْهُ اللَّه تعالى، فيخفونها عن الخلق، فقيل له، فما هذه الهمة التي كانت لهم، فقال، بهذا حصل لهم ما حصل، أَوَ أعطاهم اللَّه ذلك بلا تعب، أَوَ يجلسون جالسين ويطلبون ذلك، كان سَوَّى اللَّه بين الناس، ولم يتميز أحد منهم على أحد، فقلت، إنه قد أعطاهم هذه الهمة العظيمة، فبها سبقوا غيرهم، فقال، عرفوا الحق فطلبوه، من عرف ما يَطلب هان عليه ما يَبذل
وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً، طريقة السادة آل باعلوي، العقيدة التامة، والتعلق بالشيخ، والاعتناء من الشيخ، والتربية بالسر، وهي طريقة السلف، كالحسن البصري وغيره، وليس من شرطها الأربعينية ولا بأس بذلك، وقد فعله كثير منهم، ومن لم يجتمع قلبه بَعْدُ على شيخ معين، فلا يختص بأحد منهم ولا ينتسب إليه، بل يكثر من لقاء المشايخ، ويتبرك بهم ما دام كذلك حتى يجتمع قلبه على واحد، فحينئذ يلزمه ويختص به، وينطرح تحت نظره
(١/١٥٥)
وقال لي رضي اللَّه عنه عشية الخميس في ١١ ربيع الأول سنة ١١٢٥ من طلب وأراد شيئاً من أحوال الصالحين، فيطلب ذلك ويستثمره بالأعمال الصالحة الخالصة، والأخلاق الحسنة، ويطلبه من اللَّه بذلك، ولا يطلبه منه بغيرها، ثم يطلب منه لها الزيادة والترقي، فإن هذه الأمور تثمر له ذلك، إن كان له نصيب، واللَّه هو الفاعل، إذ ما كل حبة تجيء بسبول، فتراك ترى كثيراً من الناس، ياصلاة، ياصيام ، أي يكثر منهما، ولا حصلوا شيئاً لعدم ترقيهم، فإنهم بقوا جامدين على ذلك، ولم يطلبوا الزيادة والترقي، ولكنهم على خير لا يخلون منه، ولا عاد نوصّي إلا بالإحياء، كما أوصى بها السلف، وفي الفقه، المنهاج، لأنه مُغَرْبَلْ، وفي كل كتب الحديث خير، "البخاري" أو "مسلم" أو "رياض الصالحين"، أو "الأذكار"، إلا أنه لا يمعن جداً، أو قال لا يتقعر، لأن ذلك يزيد قوة في الإدراك والفهم والتحقيق، وما ندري ماذا يصير الأمر بعدنا، ولكن احفظوا عنا ما ذكرناه ضحوة وقت القراءة من أمر الدجال، لأن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال، (( إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإلا فكل حجيج نفسه ))
وقد ذكر رضي اللَّه عنه ضحى هذا اليوم في مجلس القراءة المسيح الدجال، فقال نفع اللَّه به، ما جاء أنه يمسح الأرض لا يلزم من ذلك أنه يعمها كلها، بل يطلق هذا على الأكثر، ويحصل به العموم، لأنه جاء أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، وفي الجبال حصن حصين منه، فعلى من خافه بها، إلا إن كان يرسل لمن بَعُدَ منه، لكن ما له رسل ولا طلائع يبعثهم، وإنما هو مفرد برأسه، وقد مر علينا في آثار ضعيفة جداً، أنّ مَن كان في الأموات، ممن لو حضره لأجابه، يجيبونه من قبورهم، ولكن لا يصح هذا، أو كما قال
(١/١٥٦)
وقلت لسيدنا نفع اللَّه به، لو أن رجلاً اجتمع ببعض المشايخ، ولم يكن معه إذ ذاك همة في العبادة، فبعد مفارقته للشيخ حصل له باعث العبادة، هل يكفيه اجتماعه بذلك الشيخ، عن لقاء شيخ بعد ذلك، ويكون ذاك شيخه، وينسب إليه، فقال رضي اللَّه عنه، نعم يكفيه ذلك، ويكون شيخه، وهو تلميذه، والطريق معروفة، ولا عليه إلا أن يسلكها، والفتوح من اللَّه يأتيه، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، اعملوا ولا تستعجلوا، وجزاء العمل إنما يكون في آخر العمل
وسألته رضي اللَّه عنه، ما معنى نسبة أمور إلى العبد لا اختيار له فيها، كأمره بالإخلاص واليقين، وغير ذلك من الأمور الباطنة، التي هو يتمناها ولا يقدر عليها، فقال نفع اللَّه به، هذا لأجل النسبة، أمر نسبة يعني ينسب ذلك إليه مجازاً
وسألته رضي اللَّه عنه، عن كلام تكلم به، في مجلس القراءة، في الداعين إلى اللَّه، القطب أو من ينوب عنه، وكان السؤال يوم الأحد في ١٣ صفر سنة ١١٢٤ في السبير داخل بستان الليمة، فقال، القطب إذا لم يتأهل للظهور في الدعوة يستنيب من فيه أهلية، وذكرنا كلام الشعراوي، وهو إلا في من كان شيخاً، ومعه تلامذة، وجاء آخر ومعه تلامذة كذلك، ودعوتهم مختلفة، فيدعون عليه لأنه معترض باغ، ولهذا لا يجوز إمامان في وقت واحد، وإن كان قصدهم كلهم الدعاء إلى اللَّه، فيسلِّم أحدهم الأمر للآخر، ويصير تابعاً له، حتى إن بعض الداعين إلى اللَّه من مشايخ مصر يقال له الحسن، أتاه شيخ يقال له يوسف، وكلاهما على الطريقة، قال الحسن ليوسف، إما أن تكون تابعاً لي، وإلا أنا أكون تابعاً لك، واختار الحسن أن يكون تابعاً، فبقي كأنه من تلامذته
(١/١٥٧)
وحكي إن موسى عليه السلام، لما كثرت عليه بنو إسرائيل، وتدافعوا على بابه، سأل اللَّه أن ييسر له من يدعو إلى اللَّه معه، ويعينوه على ذلك، ويخفُّوا من تزاحمهم عنده، فأوحى اللَّه في تلك الليلة إلى مائة أو مائة وعشرين، فكان حينئذ هؤلاء أنبياء، فتفرقوا عنه حتى لم يبق عنده منهم أحد، واجتمعوا على أولئك الأنبياء، فلما رأى ذلك غار، فدعا عليهم، فماتوا كلهم في ليلة واحدة، ولما بعث اللَّه إلى موسى عليه السلام ملك الموت لقبضه، ثقل عليه الموت، فأوحى اللَّه إلى يوشع بن نون فنُبِّي، وقال اللَّه تعالى، لا تعلم موسى بأنا أوحينا إليك، فرأى موسى كأن اللَّه أوحى إلى يوشع، وأمره أن لا يعلمه، فلما أتى يوشع إلى موسى، سأله موسى، بماذا أوحى اللَّه إليك؟، فأبى أن يعلمه، وقال له، أما كان يوحى إليك قبلي، فلا تعلمني بما أوحي إليك، ولم أسألك عنه، فلِمَ تسألني؟، فقال موسى عليه السلام، أما الآن فلا طيبة لي في الحياة ونحن إذا رأينا من يدعو إلى اللَّه على الطريقة العامة، ويُعَلِّم الناس، وإن لم يكن صَحِبَنَا، نفرح بذلك، وإنما نتكلم على من يدّعي أنه من أهل الطريق الخاصة، ويرى أنه من أهل الباطن، ويدعو إلى ذلك، فننظر إن كان حقاً ما يقول، فيسلم لمن هو أكمل منه، وإلا كان مفتناً، وإن قدرنا على منعه منعناه، ثم ذكر قصة سيدنا علوي بن الفقيه مع الغريب الذي جاء إلى تريم، وموَّه على الناس، وادعى الصلاح، وأظهر لهم خوارق، فاعتقدوه واجتمعوا عليه، إلى أن افتضح على يد سيدنا علوي المذكور، إلى آخر القصة، ثم قال سيدنا رضي اللَّه عنه، وقد جاء رجل من جماعتنا، يعني من السادة آل باعلوي من الحرمين، ومعه إجازات من جملة مشايخ، وقال، اجتمعت بفلان وفلان، وجاء إلى تريم يريد يصير صاحب طريقة، وبقي يتلقّط الذين قد صحبونا، فقلنا له، إن هؤلاء قدهم مربوطين، فخذ ممن لم يصحبنا، ولم يجتمعوا
(١/١٥٨)
بأحد، فبقي على ذلك، فرأيت في النوم كأني خارج من مسجد الهجيرة إلى الطريق، وهو ضيّق، وإذا بالشيخ محمد بن علوي صاحب مكة قائم في الطريق، وذلك الرجل ومن معه قائمون في جانب الطريق، فقال لي السيد محمد بن علوي، أنا أمر وأنت مر بعدي، فمر السيد محمد بن علوي، ومررت بعده ولم يمر أولئك وبقوا، وبعد هذه الرؤيا ما استقام لذلك الرجل أمر، فرجع يُقَرِّي في الفقه، ونحن ما بيننا وبين الناس شيء ومن يدعو لنا في جميع أقطار الأرض، ويحبونا أكثر من الذين يبغضونا، لأنا ما نازعناهم في شيء من أمور الدنيا، ولا طلبناهم أموالهم، وتكلم كثيراً، ثم قال، أمسكوا الحبل بطرفيه، ليمتسك لكم الأمر، وإن أخذتوه بطرف واحد انتثر عليكم، أو كما قال
ما قاله من المقابلة لتصحيح النقل والتوصية بذلك
وكنت يوماً أسايره خارجاً من البلاد إلى الحاوي، وذلك يوم الثلاثاء خامس ربيع الثاني سنة ١١٣٢، وكان قبله بنحو أسبوع وصل اثنان إخوان من بغداد، وهما من أولاد الشيخ محمد الرَّحبي مفتي بغداد، وطلبا أن ينقلا شيئاً من القصائد من الديوان، فقال رضي اللَّه عنه حينئذ، لا تخلي أحداً من الأغراب الذين يصلون إلى عندنا، إذا حصّل شيئاً من الرسائل أو من القصائد يسافر به إلا حتى تقابله بيدك، واكتب عليه بلغ مقابَلة على يد فلان، واذكر اسمك واسم المصنف، أو الناظم، وأن هذا من نظم فلان أو تصنيف فلان، لأنك معروف بتحصيل الكتب، وأي شيء ينفع الكتاب المغلوط، وربما زاد حرف أو نقص حرف أو زادت نقطة أو نقصت أو غير ذلك، فقرأه على الخطأ ونسب ذلك إلينا ولم يعرفوه، فالحذر تخلي أحداً يكتب شيئاً ويسافر به حتى تقابله، وتكتب اسمك على مقابلته، واسم المصنف أو الناظم
(١/١٥٩)
وقريء على سيدنا نفع اللَّه به في شيء من مؤلفاته، فاتفق تقديم بعض الكلام وتأخير بعضه، فأمر بإصلاحه، ثم قال رضي اللَّه عنه، إنه قد يحصل الابتداع في الدين بزيادة كلمة أو نقص كلمة، ومثل هذه الأشياء هي التي أوجبت الإنكار والطعن على الأكابر، وقرأ ممن كان يقرأ بحضرته، قارئٌ كان يقرأ في "رسالة المذاكرة" في فصل، وأما ضعف الإيمان إلى أن قرأ إلى غير ذلك من الأخلاق المشومة، فغلط وقال، المسمومة، فقال سيدنا عند ذلك بعد ما ردَّ عليه غلطته، أكثر ما أنا خايف من أحد ينقل هذه الرسائل، وفيها الغلط والتحريف فينقله عنا، ويقول، قرأته على المصنف، فاشهدوا على ذلك، وإنما نحن خُدّام الشريعة، فمن أتانا فنفعه اللَّه بنا أو بكلامنا فلا نكره، وإلا فلا حاجة لنا بأحد، فمن سمع منا بكلام غير مستقيم، أو مخالف للكتاب والسنة، إما لغلط، أو اعوجاج في لسانه، فلا يُصدَّق، والغَيَار كله من قلة الفهم أو العجلة، حيث يسمع بعض الكلام، ويفوته البعض، فينقله، فينبغي أن يسمعه كله ويفهمه، قال ذلك عشية السبت سلخ ربيع الأول سنة ١١٢٩هـ
(١/١٦٠)
وقال لي رضي اللَّه عنه يوماً، عاد آل فلان أرسلوا لك، قلت، نعم، واعتذرت، فقال رضي اللَّه عنه، إذا كان لك في شيء هوى، ماعاد تعرف الصواب من الخطأ، وأنت امتثل ولا عليك أن تعرف وجهه، فإن الطريق العامة، والطريق الخاصة، كل منهما مظلمة، لا يهتدي الإنسان بنفسه فيهما إلى الصواب، فيحتاج أن يجعل يده في يد العالم بذلك، ولا يتكلم، كالأعمى أو مَن هو في ظلمة يجعل يده في يد البصير، أو مَن هو أعرف منه، ونحن جميع أقوالنا وما نتكلم به مع الناس في هذا الزمان إنما هو في طريق العامة، ومعنى كونها مظلمة أنك لو قلت للرجل منهم، في صلاة أو زكاة ونحو ذلك، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، اشْتَغَلَ مِنْ ذلك، ولا يحب من يُذَكِّره ويعلمه، وقد نَجِدُ في نفوسنا على أحد من الناس من هذه الحيثية، حتى على أغراب وفقراء، لكنا بحمد اللَّه لا نظهر شيئاً من ذلك، وأما الطريق الخاصة، فقد قال بعضهم، إنها قد اندرست منذ زمان بعيد، ومن لم يسلِّم لذلك، قال معنى دروسها، إنها كلما تأخر الزمان، زادت خفاء، وأنت طالِبْ نفسك بحق اللَّه عليك، وهو التقوى واليقين، ولا عليك تكليفها ما وراء ذلك، ومرادنا نعلِّمك حتى تعرف الصواب، فتنتفع وتنفع، فقد مر بعض المشايخ بعبد أسود في عنقه طبل، يشرب الخمر، ومع الشيخ تلميذ له، وذكر القصة إلى تمامها، فقلت، هل التقوى من أول الطريق الخاصة؟، فتبسم وسكت ساعة، وهذه عادته إذا كُلِّمَ بما لم يُرِدْهُ، أو بما بَعُدَ عن المعنى، ثم قال، أولها الاعتقاد الصحيح، ثم قام إلى صلاة العصر، وكان ذلك الكلام في الضيقة
(١/١٦١)
وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً، خذ في كل ما يشكل عليك في حق اللَّه ويوهمك فيه، شيئاً بالتسليم وتَرْكِهِ على ما هو عليه من التنزيه له سبحانه عن صفات الحدث، وقد جاء في القرآن والسنة كثير مما يوهم ذلك، ولكن للسلف فيها طريقان، التسليم والتأويل مع التنزيه، وأين الرب سبحانه من صفات خلقه، ففي وصف أحد من الملائكة من الأمور ما تعجز العقول عن إدراكها، فكيف بالباري سبحانه أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، مَن راعَ رُوعِي، أنت تريد من اللَّه أن يراعيك، فراع حقه أنت حتى يراعيك، ومن لم يكن في وقته الحاضر صاحب خير ويقظة، لا تَسْهَن له في باقي الوقت يقظة، واليوم ما معهم مما مع أهل الزمن المتقدم، حتى غباره، لكن أردناهم يستيقظون لأنفسهم، إذا كان الإنسان على قهوة يقرأ ما تيسر من القرآن ولو جزءاً، ومثل هذا، ولا يضيعون أوقاتهم بلا شيء، فإنا نعرف رجلاً كان بعد الفراغ من الدرس، بعد القراءة قبيل المغرب، يأتي بألفي تهليلة، وهؤلاء ضَعُفَت هممهم، حتى سهل عليهم تضييع أوقاتهم، مع أنهم يسمعون العلم، ولا ينهضهم، فيصير حجة لهم، إلا إذا كان لهم هوىً فعلوا كما يفعل النساء من الإعطاء، ولم يفعله أزواجهن، وهم أولى بذلك، لكن هذا مليح ينتفع المعْطَى، وإن لم ينتفع المعطي، وهو أحسن من لا شيء، ورَغَّبَ رضي اللَّه عنه في الإطعام، فقال، باللُّقَم تُسْتَدْفَع النقم، ومرة قال، تُتَّقى النقم، ولكن مع كثرة التخاليط قل أن ينتفع الإنسان بشيء، إلا إن كان من حيث لا يحتسب، وإنما حصل للأولين بأعمالهم ما حصل، لخلوص نياتهم وزكا أعمالهم، ومن رأى أفعاله تعالى الرحموتية والجبروتية خافه، فيعرف أنه يأخذ في ساعة، ولا جاء في بالي أن مع هذا الهملة، أي المطر الخفيف يجيء هذا السيل الهائل، وفيه كمال التنبيه، لأنه سبحانه أول ما يُخَوِّف ويُنْذِر، ثم يأخذ، وهذا بسبب المظالم التي هم
(١/١٦٢)
مقيمين عليها من قديم إلى الآن، واختلط الحلال بالحرام، ولا تناهَوا فيما بينهم، فقد أهلك اللَّه قوماً من بني إسرائيل، مع انتهائهم عن المحارم، ونهيهم عنها، إلا أنهم ما جانبوا أهل المعاصي، فأخذهم اللَّه معهم، لكن عسى في هذا كفارة للذنوب ومذكر بالآخرة
أقول، والسيل المذكور، هو المسمى سيل الحوت، الذي أخذ النخيل، وكان ضحى يوم الأربعاء في ٢٦ شهر رمضان سنة ١١٢٤، وقد تكلم سيدنا رضي اللَّه عنه في أمر هذا السيل بكلام كثير في مجالس متعددة، وسيأتي إن شاء اللَّه كثير منه مجموعاً في موضع واحد من هذا المجموع، وقد اتفقت لي رؤيا قبل السيل المذكور بيومين، وذلك يوم الاثنين بعد صلاة الصبح، كنت في حلقة نقرأ القرآن في مصلى الحاوي، وسيدنا حاضر جالس في المحراب، فبعد ماقرأت المقرا غَطَّني النوم، فرأيت قبة في وسطها قبر، وفيها ثقبان، قبلي وشرقي، وكأن عتْم ماء يدخلها من القبلي ويسفح على القبر ثم يخرج من الشرقي وينفذ إلى نخيل وبساتين يسقيها، وكأن القبرَ قبرُ النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فوقفت على القبر متعجباً كيف يُترك الماء يجري على القبر الشريف، وأقول في نفسي، هذه البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة، أفضل من العرش والكرسي ومن كل شيء، ويترك هكذا، وكأني أتمثل بهذا البيت من قصيدة البكري ،
لِمَا حَوَتْ والفَلَكُ الأكبَرُ قد حَسَدَتْها سدرةُ المنتهى
وطالت بي الرؤيا حتى وصلني المقرأ، فَنُبِّهْتُ له، فتعجبت من هذه الرؤيا، فلما فرغنا من القراءة بعد طلوع الشمس، وركع سيدنا الإشراق، ثم دخل ودخلت معه إلى الضيقة، فأخبرته بالرؤيا، فقال، سبحان اللَّه، هذا بايقع أمر ما يتحمله إلا هو صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فلما كان ضحى الأربعاء جاء هذا السيل الهايل كما قال
(١/١٦٣)
وقال رضي اللَّه عنه، أشرنا على فلان، رجل سَمَّاه، بشيء، فلم يفعل، وذلك لغباوة فيه لا مخالفة، والغباوة يفوت بسببها من الإشارات أكثر مما يفوت بالتعمد، لأن المتعمد مخالف، وهو كمن يصب الماء، وأما الغبي الذي لم يفهم، فله حال آخر، وهو معذور، وكلام أهل الحق كله إنما هو بالإشارة، ولو أشاروا على أحد بشيء فخالف، ثم قال، باأرجع أفعل بالإشارة ما قال لي فلان، وفعل، فما عاد ينفعه
وقال له رضي اللَّه عنه رجل من السادة، ادع لنا، فقال نفع اللَّه به، وما مع الإنسان ما يصل به أخاه إلا الدعاء، والدعاء علامة المحبة، ولم يجعل اللَّه دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب مقبولاً، إلا لما فيه من الإخلاص المقترن بالمحبة، ولهذا جاء الترغيب في ذلك، والأشياء إنما تعرف بأصولها لا بالفروع، فإذا أخذتَ بالفروع، فترق منها إلى الأصول، ولا عكس، فإذا أخذتَ بالأصول لا ترجع إلى الفروع
ثم قال له يوصيه، خفف على نفسك من العلائق، ومن اتخاذ الدَّين، فليس الشأن من العاقل إذا وقع في الأمور أن يتخلص منها متى شاء، إنما الشأن منه أن لا يقع فيها أصلاً، ثم قال له، أتعلم سورة الملك كم آياتها ثلاثون، وتعلم الجُرز كم هي تسع وعشرون، وللَّه في القرآن من حيث الحروف والآيات والسور أسرار وحكم، وإلا لاستغنوا عن التنزيل، واكتفوا بسورة واحدة
ما قال في من يرث الولي إذا مات
(١/١٦٤)
وقال رضي اللَّه عنه، لم توضع الأسرار إلا في الأوعية الطاهرة النقية، لا الملآنة من القذر والتخليط، ولو كان هو أولى بإرثه من غيره، فقد يرثه غيره لوجود هذا الشرط في ذلك الغير، وخلو ذلك القريب منه، فقد يكون صاحب السر في حضرموت مثلاً، ويرثه إنسان بمكة، أو في غيرها من الأماكن البعيدة، ولا يرثه القريب، ثم حكى إن الشيخ أحمد بن علوي باجحدب علوي نفع اللَّه به لما مات، ما عُرِف في البلاد مَن وَرِثَه، أو قال من أقيم مقامه، فبقي بعضُ السادة يتقصى عن ذلك، فلم يظهر له، فأمر خادمه أن يقف على باب الجامع، يوم الجمعة، وينادي من حفظ منكم الضالة، وبقي كذلك ينادي ساعة، وفهم له بعض السادة، وكان هو، فقال، إنها محفوظة، فعرفوه حينئذ، وتوفي بتريم بعض الأعيان من أهل الأحوال، وقيل له أي سيدنا، إن فلاناً لم نعلم له من وارث، فهل يكون أحداً من الملازمين له والمنسوبين إليه، فقال رضي اللَّه عنه، قد يكون الموروث هنا والوارث في الصين مثلاً، وأما المنسوبين إليه فلا ورثه منهم أحد، لأنهم لم يتربوا ولم يتأهلوا، وقد كانوا إنما يجيء أحدهم إلا عند فراغه، فقيل، بأي شيء يُتأهل لذلك، فقال، بالإقتداء بهم واحترامهم وتأويل ما يشكل عليه مما يصدر منهم مما ينظره إنه يُنكر شرعاً، ولا يقتدي بهم فيه، ومحبتهم وامتثالِ أوامرهم ومراعاتهم ونحو هذا
(١/١٦٥)
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، إخلص العمل، لتأخذ أجرك من ربك، وإن لم تخلص قيل لك خذ أجرك ممن عملت له، ومن كان مُعْتَقَداً يعسر عليه الإخلاص، وخصوصاً فيما يؤكد الاعتقاد فيه كَشَلِّ الأذكار والرياسة لها سُكْر، كسكر الخمر، ولكن عندنا قلة اعتقاد الصالحين والتعلق بهم، نفعت العاملين، وإن تَقَمَّحَ غيرهم، وويل لمن راح وخسر من عمل الآخرة، اشترَوا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون، قال الشيخ أبو بكر العدني، رياسة تريم، منوطة بأوباشها، فأف لرياسة تناط بهم، أف لرياسة تناط بهم، أف لرياسة تناط بهم
قصة أصحاب السفينة
وقال رضي اللَّه عنه، يُراعى حال الأكثر في كل أمر، فلو كان عشرة يريدون أمراً يضطرون إلى فعله، سوى واحد منهم يتضرر بفعله فيُراعَون دونه، وقد كان جماعة عابرين في سفينة وفيها مسلمون وكفار عددهم سواء، فحصلت عليهم شدة احتاجوا أن يرموا ببعض العابرين، لسلامة الباقين، فبقي كل من الصنفين، يريد أن يرمي بالآخرين، ويَسلمون هم، ففعل رجل كان فيهم مسلم عاقل هذا البيت وقال ،
ويرزق الضيف حيث كانا اللَّه يقضي بكل يسر
أقول، وفي القصة أنهم لما تشاجروا في أيهم يرمى به، قالوا، نقترع، ومن وقعت القرعة عليه ألقيناه، فقال لهم ذلك الرجل المسلم العاقل، ليس هذا حكماً مرضياً، وإنما الحكم، أن نعد الجماعة، فكل من كان تاسعاً ألقيناه، فارتضوا بذلك، فصفهم حلقة على ترتيب حروف البيت المذكور، حروفه المهملة للمسلمين، والمعجمة للكفار، فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار أجمعين، وسلم المسلمون وابتدأ العدد من أول الأربعة المسلمين، ثم بأول الاثنين منهم، وهكذا على حسب الترتيب المذكور، انتهى
ما قال في طلب المريد الطالب للقراءة
(١/١٦٦)
وقدم رجل على سيدنا نفع اللَّه به، فقال له حين قدم، أريد أن أقرأ، فقال له، لا تعجل، ما هكذا يكون الطلب، فقد كانوا يأتي الطالب ويمكث سنة لا يُعرف به، لأن أمور الدين عزيزة عند أهلها، متقبضين عليها، وأما أمور الدنيا، فإن كان عندهم منها شئ، فهو مبذول، وهذا هو الفرق بين أهل الدين وأهل الدنيا، إن الدنيا مبذولة عندهم، أقل الحال المأكول والمشروب، ولو كل من أراد القراءة خليناه يقرأ، لامتلأ منهم المسجد، ولكنهم قرأوا وما حصلوا وقد كان تكفي أحدهم النظرة، لكون قلوبهم ملآنة من العقيدة والتعظيم وحسن الظن، والمدد في المشهد، ونحن بواطننا سليمة على أهل الزمان، وما بيننا وبينهم شيء، وأتى رجلٌ ذا النون المصري، يطلب الاسم الأعظم، فمكث عنده سنة أظن قال لا يكلمه
وقال عبداللَّه القرشي، كنت آتي شيخي وأجلس تحت سور البلد سنة لا يعرفني أحدٌ، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه لذلك الرجل يوصيه، كن رجلاً مليحاً لربك، يكن كل شيء لك مليحاً، فمن كان مليحاً لربه، كان له كل شيء مليحاً، ومن كان بخلاف ذلك، كان كل شيء له كذلك، لأن الأشياء تابعة لخالقها
ما قال في آداب مطالعة الإحياء
واستأذنه رضي اللَّه عنه رجل في مطالعة الإحياء، فقال نفع اللَّه به، إذا أحكمت التواضع، ما ننهاك عن مطالعة الإحياء، ومن لا يعرف حقيقة التواضع، تكبر بمطالعة الإحياء، فإن أردت أن تتواضع فطالع فيه، وفيكم يا أهل الزمان، فَشَار من غير حقيقة شيء، وإذا رأيت كتاب الغرور خلاك قائماً بلا شيء، وصفوة الإحياء ربع المنجيات، لأن الإمام مخضه حتى انتهى إليها، جعلها خلاصته، ونحن مع حضورنا في أوقات فاضلة، واجتماعنا بناس أهل فضل، لم يخطر ببالنا أن نقرأ على الشيخ فلان المعروف بالخصوص
(١/١٦٧)
ثم تكلم رضي اللَّه عنه كثيراً في أحواله في تلك الأوقات، وذكر جماعة ممن كان فيها، حتى انتهى إلى ذكر أهل هذا الوقت الحاضر، فذمهم وذم أحوالهم وأعمالهم، فقال، إذا جاءك أحدهم فقال أريد أن أقرأ في الكتاب الفلاني، وقلت له، خل هذا واقرأ في كتاب آخر، حنق، فما بُعْدَ هؤلاء، ولكنا ما بالينا بهم، وما استأنسوا معنا، ولا نبالي بمن حنق ومن لا يحنق، ولكنا نأخذ البعض منهم بالبعض، ثم أعطاه كتاب "المنجيات"، فقال له، طالعه واجتهد في العمل به، والاتصاف بما فيه، واحذر أن تفوش وتتكبر، فإن إبليس أول من فاش وتكبر
وتكلم رضي اللَّه عنه في أهل المناصب، فقال، من هو في هذا الحال ينبغي مداراته، للإبقاء عليه، ومثلها كمثل النار، كلما زاد لهيبها، زاد إحراقها، فالعاقل هو الذي يأخذ خيرها ويترك شرها، فإن لم يتميز له الأمران تركهما جميعاً أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، إذا قيل فلان أخذ عن فلان، ليس معناه أنه أخذ عنه في كتاب، أو قال قرأ عليه في كتاب، إنما معناه، إنه اقتدى به في سيرته، بأخلاقه وأفعاله وأقواله، فإذا فعل ذلك فذاك شيخه، وهو له مريد
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي أن يأخذ الإنسان من الأعمال على قدر ضعفه وضُعْف زمانه، ولا يدَّعي القوة في غير موضعها، لأن أمور الدين كالمسك، كلما ازددت له شما نقصت رائحته
وقال رضي اللَّه عنه، من له تعلق وميل إلى أحد من الصالحين، حصل له المدد من جميع الصالحين، لأنهم لا مشاحنة بينهم، ولا مشاحة في شيء أبداً، بل لو قال هذا المتعلق بأحد منهم لآخر منهم، أريد أن أترك فلاناً وألازمكم، لم يطعه ولم يوافقه على ما قال، بل يقول له، كن متعلقاً بشيخك الأول والمدد لك منا يحصل، أو كما قال
(١/١٦٨)
وقال رضي اللَّه عنه، من رأيت له أدنى تعلق بطاعة وإن قلَّت، أو ميل إليها أو بأحد من الصالحين أو ميلاً ما إليه، فارج فيه الخير، وذكر قصة الرجل من أعوان الدولة الذي يحفظ قصيدة الشيخ أبي بكر العدني
وقال رضي اللَّه عنه، ما جَرَّ إلى خير فعاقبته إلى خير وإن كان في ظاهره شراً، وما جر إلى شر فعاقبته إلى شر وإن كان في ظاهره خيراً، والعاقبة للخواتيم
وقال رضي اللَّه عنه، سبحان اللَّه، الرجل من أهل هذا الزمان، فيه الأخلاق السوء والأعمال السيئة، ثم مع هذا يظن ذلك في غيره، ولا يظنه في نفسه، فينبغي أنه إذا كان فيه هذا النقص، أن لا يظنه بغيره، فيكون نقصاً آخر، ولكن كأن النقائص يتبع بعضها بعضاً، ومثل لذلك بالرجل يترك الزكاة، ثم إذا دخل المسجد، ورأى الجابية غير حارة، فيقول، يأكلون الوقف ولا يقومون بالمسجد، وأنه ما قال ذلك إلا لمجرد هواه، لا إنكاراً للمنكَر
وذُكِر له رضي اللَّه عنه أن أناساً وزعوا أموالهم، وفرقوها وتعسر الزكاة على هذا فقال، لعل لا نية لهم في إخراج الزكاة، فإذا أردت تعرف ذلك فانظر إلى صلاتهم كيف يؤدونها، فبذلك تعرف قلة رغبتهم في الدين
وقال رضي اللَّه عنه لرجل جاء من الحج، هل حججت قبلها؟، قال، نعم، إلا إني كنت إذ ذاك ما معي شيء، وأحب ما يحصل لي بلا شيء فقال له نفع اللَّه به، الرزق والمال كله لربك، ولا فرق بين أن تعطي غيرك أو يعطيك غيرك، فكلكم عبيده، والذي في أيديكم رزقه، يُعْطي منكم من شاء بالآخر، ويعطي بعضاً على يد بعض، فالرزق من حيث الحقيقة واحد، وكل الناس فيه سواء، وإنما اختلف وضاق الأمر فيه من حيث الشريعة أو كما قال
(١/١٦٩)
وقال رضي اللَّه عنه، صار الناس اليوم غنائم بعضهم لبعض، هذا يَمُدُّ يده في مال غيره، والآخر يمنع الحق من ماله، وما كان هذا عادة الأولين، إنما كان أحدهم يمنع يده من مال غيره، ويرى أن أخذه للتمرة منه جمرة نار يأخذها، والآخر يعطي الحق من ماله، ويرى أن التمرة يخرجها من ماله جوهرة يحتسبها، وكلاهما يغدو ويروح لما طلب
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، كيف أنت؟، أمستريح؟، ثم قال نفع اللَّه به، ما المستريح في الدنيا إلا من لا يُعوِّل بأمورها، ولا يقول أريد ذا كذا، وذا كذا، وكان الجنيد لا يهتم بها، فقيل له في ذلك فقال، إنها بنيت على التعب، فلا أستنكر شيئاً، ونعلم أن كل راحتها تعب، وتعبها راحة
وذكر رضي اللَّه عنه الحياء فقال، إن لسيدنا علي فيه كلاماً، ومنه، إن الحياء المفرط باب الحرمان، وهو مانع من الخير، والطالب لا ينبغي أن يستحي وإن استحيا المطلوب منه
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي لمن يريد التوبة، أن ينظر ما خلفه وأمامه أولاً، وأن لا يُخاف عليه أن ينكث التوبة، قال ذلك لرجل بعد أن قال له سيدنا، تبت عن الحَظِي، ثم نكثت وعدت إليه، فتُزَيِّن به الدنيا للناس، فيرغبوا فيها ويحبوها، وقد شكا إليه حينئذ تعطل حرفته منذ مدة، وما بقي ينتفع منها، فقال له، خذ مخزن فإن فيه بركة، والقليل منه كثير
وقال رضي اللَّه عنه، لابد إذا فعل الإنسان شيئاً، أن يجازى به في الدنيا قبل الآخرة من خير أو شر، كما ذُكِر إن بعضهم كان على حمار، فجعل يضربه، فقال له الحمار، ضرْبك على رأسك، أكثِرْ منه أو أقلل
وذكر إن رافضياً كان والياً في بعض البلدان، وكان ظالماً، وهناك يهودي، فمات الرافضي ولم يصبه شيء في الدنيا، فمضى ذلك اليهودي إلى بعض الصالحين، وأسلم على يديه، وقال، ظننت أنه لا يموت حتى يقطّع، ولكن هذا ببركة الإسلام، ويكون نفعه في الآخرة أكثر
(١/١٧٠)
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يخاطبه بهذا، ما كان بينك وبين أهلك فهو صالح على أي حال وإن كان على غير ذلك، ولكن اجعل ما بينك وبين الناس يكون صالحاً
وذكر رضي اللَّه عنه المرا والجدال، فقال نفع اللَّه به، هو الذي نسميه المعاشاة، وهو أن تقول أنت، الأمر كذا، ويقول الآخر، لا إنما هو كذا، وكل منكما يحتج بقوله، يريد ظهوره سواء كان حقاً أو باطلاً، فإن كان صاحبك محقاً فاتبعه، وإن كان مبطلاً فاتركه، حتى يتبين له الحق في وقت آخر، وإنما يبنى للمحقِّ بيت في أعلا الجنة، لكون السكوت من المُحِقِّ شديدٌ، وأما سؤال المريد شيخه، فعلى ما قررنا في رسالة المريد، لكن بشرط إن قال له اترك السؤال، أو عادك تسأل في وقت آخر، أو أنه سيأتي في الكتاب، أن يمتثل، وهذه الآداب عند أهل الباطن دون غيرهم، كما استدل فيها بقصة موسى والخضر، وقصتهما أيضاً إنما هي لبعض أهل الباطن، لا كلهم، وأيضاً بعضهم إنما رأيه موافقة أهل الظاهر لأجل سلامة نفسه منهم، ولسلامتهم أيضاً من الإنكار، والوقوع في الإشكال، وقد شرط على موسى أن لا يسأله، فلما لم يوافق ذلك العلم الذي هو عليه، لم يمكنه السكوت أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، كل علم له أصول، إذا ضبطها تكاد تنضبط له الفروع، ومن أراد أن يتبحر في فن فليأخذ بأصوله لتتبعها الفروع
(١/١٧١)
وقال رضي اللَّه عنه، من يقرأ القرآن لا يمكنه أن يقول بالجهة، فيفرق بين معراج النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وكلامه تعالى لموسى من الشجرة، لأن الأمور الإلهية لا يدركها أحد، وما أوهم إشكالاً من كلام المحققين، فلا ينبغي أن يسارع إلى الإنكار عليهم، بل يَدَعُهُم، ويسعهم الكتاب، ويجعلها من قبيل المتشابهات الواردات في الكتاب والسنة، ولِمَ جاءت هكذا حتى احتاج الناس فيها إمّا إلى التسليم وإمّا إلى التأويل، والصوفي لا ينبغي له أن ينكر على أحد بل يترك الإنكار يصدر من غيره، وإنما هو يوجه ويؤوِّل، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، إنما الإيمان في الأمور الغيبيّة، فلو كان إلا في الأمور الحسية، لما احتاج إلى التنبيه عليه، وفي هذا تفاوت بعيد، ثم قال، ولا تستبعده وإن كان منك قريباً لأنه أمر غيبي، فانظر إلى حال النائم بجنبك كيف يرى الرؤيا، وإنه كذا وكذا، وأنت لا تعلم به وربما صاح فتظهر لك
وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً مات وأوصى بوصايا باطلة وحِيَل فاسدة، حتى جعل ماله، بِنُذْر لأولاده الذكور دون الإناث، فقال نفع اللَّه به، هذه الأموال جاءت من وجوه حرام، فراحت في وجوه حرام، وهذه قاعدة، إذا أشكل عليك مال أحد هل هو حلال أم حرام، فليُنظَر فيماذا يصرف، فإن صرف في حرام فهو كذلك، أو حلال فهو كذلك، وكل ما خالف الشرع لا تحسب أن فيه بركة، وعاد هؤلاء إن طال بك زمان، إلى نحو عشر سنين تراهم يبيعون ما معهم، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، العلم بتقرير المسائل، وأن يذكر مع كل مسألة ما يناسبها لا بمجرد مرور الكتاب، ولو أن أهل الزمان ما معك منهم شيء، إلا أنه ما عاد منا شيء للتطويل، وشيء من الكتب قد قرئت علينا، ونسينا حتى اسمها، وأمّا الإحياء فقد مَرَّ علينا تامّاً ثماني مرات، غير الأبعاض
(١/١٧٢)
وذكر رضي اللَّه عنه الإخلاص والرياء، فقال، على الإنسان أن يعمل ويلوم نفسه ولا يغالطها، وإن حصل التقصي بطل العمل حتى هنا في الدنيا، فضلاً عن حالة الوقوف بين يدي اللَّه تعالى
واستأذنه رضي اللَّه عنه رجل في الحج، فقال له، اعزم على ذلك، ولا تعلق نفسك بأخذ الأجرة فيه، وأمر الخير إنوه، فإن كان قد قدر لك وقع، وإلا فالنية ما هي قليل، وكذا إنو كل فعل خير بَعُدَ وقته أو عَسُرَ عليك فعله وذكر الحديث، (( ليس له من صيامه وقيامه )) الحديث
وذكر رضي اللَّه عنه وادي دوعن فقال، فيها آثار من الصالحين، وآثار علماء، ولهذا لا ترى أحداً يروح إليها ولو لقضاء حاجة إلا بنية الزيارة، فظاهر أمره الزيارة، بخلاف وادي عمد، فلا يروح إليه أحد للزيارة، بل لغير ذلك، وسبب ذلك ما ذكرناه من آثار الصالحين فيه، لأن بهم تحيا كل أرض ينزلون بها سواء كانوا أحياء أو أمواتا، لأن في الأحياء مع الخصوصية البشريةَ، وفي الأموات مجرد الخصوصية
وذكر رضي اللَّه عنه القراءة على القبور، فقال، من أوصى بهوى وغرض لا ينفعه، فمن لا نفعه عمله لا ينفعه عمل غيره، فلا أحد يحدث نفسه بذلك
وقال رضي اللَّه عنه، ما كل علم ينتفع به كل أحد، ولا كل علم يَحْسُن من كل أحد، ولا عذر للجاهل أن يَسْكُتَ العالمُ بجهله، أو يسكت عنه لذلك، ولو قال كم يموت كل يوم، فماذا تقول، ما معك إلا ما شاء اللَّه، وذلك موكول إلى علم اللَّه، حتى الملائكة لم يكن ذلك من شأنهم، لأنهم مخلوقون لأمور جعلت عليهم، منهم في الأرض، ومنهم في السماء، حتى الحفظة على الإنسان، ما دام حيّاً، هم على عملهم في الأرض، فإذا مات رجعوا إلى ملائكة السماء، حتى يبعث، فإذا هم قيام عليه بعمله، فمن كان سائلاً فليسأل عما يحتاج إليه ويعنيه
وقال رضي اللَّه عنه، الدين بصائر، ومن قال ما سيبك مني، ما عليك له كلام، إلا إن كان معك قهر تقهره
(١/١٧٣)
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، استمد واستعد للإقامة في القبور أطول من الإقامة في الدور
وقال رضي اللَّه عنه، الرجل قبل التزوج قنديل، وبعده زنبيل
وقال رضي اللَّه عنه، الرجاء أوسع من الخوف، لأن النفس مغرورة، ومن لا معه معرفة بقدر خوفه، يخشى عليه الانقطاع، إن وضع على عبده عَدْلَه ما نفعه عمل، وإن عامله بفضله يرجى له السلامة بأدنى شيء، أو نحو هذا أو معناه، والخوف أهم من الرجاء، لأن فقده مضر ويسوق إلى المعاصي، والنفس كالمرأة السوء، كن شديداً عليها في الظاهر، مع التحنن عليها في الباطن، وهي قط لا تدعو إلا إلى الشر، ومِنْ لازِم الرجاءِ الخوفُ، وَوُسْعُ المعرفة، وأما هؤلاء فيرجون بلا خوف ولا معرفة، وقد قيل، الخوف كله للراجين، والرجاء كله للخائفين
وقال رضي اللَّه عنه، طبيعة النفس طبيعة أجنبية، ما هي من طبايع الدين، بل هي طبيعة جاءته من جهة الطين، وأُحوِجَ الإنسان إلى قدر الضرورة من الدنيا، ولو اكتفوا عنها مثل الملائكة لاستراحوا، وأولئك، قد كانوا ضعفوها بكثرة الأعمال الصالحة وأعمال الدين، وأنت اليوم كلما لك تجدد على نفسك ما يشغلك ويؤذيك، وما زاد على الضرورة فهو عندك بمنزلة الأمانة وعاد متعلق به شواغل وأمور أخرى، ولكن لم يتم لك شيء، فإن الإنسان خلق محتاجاً، وخلق مبلي، ومثل ذلك قد أسسها لهم آدم، إذ أخرجه الشيطان من الجنة، ولكن عليك بتذكر ما يُسليك، فإذا لم يُعَزِّك أحد فعز نفسك
وقال رضي اللَّه عنه، إذا نصحتَ شخصاً فذَكَر لك عيبك أو تعلل، فدع منابذته، كما إذا لم تره يصلي، فأمرته بالصلاة، فقال، وأنت لِمَ لا تفعل كذا أو أطعمني أو أكسني، وأصلي، فمثل هذا لم تمكن محاججته، فاتركه، ومثل ذلك في كل أمر بمعروف أو نهي عن منكر
(١/١٧٤)
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه عن بعضهم أنه قال، استحسان المصافحة بعد صلاة الصبح، وصلاة العصر، رجاء أن توافق المصافحة، نزول الملائكة الحفظة الموكلين بحفظ بني آدم، فقد ورد، إنهم ينزلون عليهم في صلاة الصبح وصلاة العصر، ويقولون، أتيناهم يصلون وتركناهم يصلون، فليس تخصيصها بهذين الوقتين من السنة إلا أن يؤخذ ذلك من العموم
وشكا إليه نفع اللَّه به رجل ضعف بصره، فقال له، نور اللَّه بصيرتك، فإنه إذا استنارت البصيرة، لا يحتاج من البصر إلا إلى قليل منه، ونور البصيرة هو العمدة
(١/١٧٥)
وقال رضي اللَّه عنه، الزمان زمان جهل، وإذا رجع الإنسان ما رجع إلا إلى جهل، وكان في الناس أهل علم وتقوى، إذا رجع الجهال إليهم أرشدوهم إلى الحق والصواب، واليوم لا يَهْدُونهم إلا إلى الحيل والمخادعات، كما فعل بنو إسرائيل في حيلهم ومخادعاتهم في قصة الاصطياد وغيرها، ولو قَدّرنا أن أهل البلاد أرادوا أن يتوبوا ويتحاللوا، ما عاد لهم إلا الإسلام واليد، فمن يده على شئ، ولم يُعلم له فيه شريك، فاليَدُ له، ولو أن والياً على يتيم له عنده عشر نخلات في جملة ماله، ما يميزها له، ولا عاد ينفع في ذلك منهم إلا السيف ورد الأموال المجهولة إلى الفقراء والمساكين والأمور العامة، وما مع الإنسان إلا الدعاء بالخلاص لنفسه ولهم، كما قال بعضهم، اللَّهم سلم، ثم قال آخر بعده بزمان، اللَّهم خلص، لأنه إنما يطلب السلامة من لم يقع، وأما من وقع فإنما يطلب الخلاص وقال له نفع اللَّه به رجل أتى بأهله للزيارة وقد عَرَّضَ بالاستشارة في الإقامة بهم أو المسير، فقال له رضي اللَّه عنه، كلا الأمرين من حيث الدين سواء، ولكن انظر ماذا يرجح منهما طبعك، لأنه إذا اتفق الدين مع الطبع في طلب أمر مستحسن، فمن كان يغلب طبعه ينبغي أن يراعي من حيث الدين ويراعي أيضاً من غلبه طبعه، لأن غلبة الطبع تدعو إلى أمور فضول لا فائدة فيها، وان استوى أمران في الدين فليراع الطبع
وقال رضي اللَّه عنه، إن الإنسان خُلِق متحركاً، وطُلِبَ منه السكون، فعسر ذلك عليه، فكل ما قيل لك إنه زال فصدق، وإن قيل لك إن الطبع يزول فلا تصدق
وقال بعضهم، إن الإنسان خلق كالكرة على الصفا لم يزل يتحرك ويتدحرج إلى أن يمسكه شئ
(١/١٧٦)
وقال رضي اللَّه عنه، ما دام الإنسان معه خبر عن نفسه، فما هو شيء أصلاً، ولأن يكون معه خبر عن الخلق خير له من أن يكون معه خبر عن نفسه، والخبر عنهم أن يسمعهم يروون عنه، ويعرف ذلك عنهم من خارج، والخبر عن نفسه على هذا الوجه، أن يرى أن له منزلة أو أنه خير من غيره، أو يذكر فضائله أو كما قال
وقلت له نفع اللَّه به، هل ظاهر كلام الشيخ ابن عِرَاق، حيث يذم المتعاطين للسماع، إنه ينكره فلا يقول به أصلاً، أو ينكره من أحد دون أحد فقال رضي اللَّه عنه، إنما ينكره إذا صدر من غير أهله، على غير الوجه المطلوب منه، ومع المداومة عليه واتخاذه عملاً، وعلى هذا الوجه، حتى من يقرأ القرآن، ويَذكُر على غير وجهه، مذموم حاله، فكيف بالأشعار ونحوها، والشيء المنهي عنه، قد يكون لذاته، وقد يكون لعارض، فإذا فُعِل الشيء على وجهه، عُرِف الحكم منه، من كونه مباحاً أو منهياً عنه أو مندوباً إليه، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه في علامات المنافق الثلاث، ما هو أنه لا يَصدق أبداً، فقد يصدق ويوفي ولا يخون، ولكنه لأدنى غرض يكذب، ولأدنى داعية يخون، ولأدنى عذر يخلف، وذلك لعدم التقوى فيه
ذكر العقيدة
وقيل له رضي اللَّه عنه، لفلان فيكم عقيدة فقال نفع اللَّه به، عقيدة هؤلاء في ألسنتهم، فإذا أردت تعرف اعتقاد أحد، فانظر إلى فعله، واعتقادهم تبع لأهويتهم، ومن له عقيدة في بعض الصالحين، ثم زالت، فلا عاد يسأله الدعاء، إذ لا ينفعه الدعاء حينئذ، لعدم الواسطة، كالمطر يرجى حصوله من غير سحاب؟، وسحاب الصالحين تعلق القلوب
وأوصى رضي اللَّه عنه إلى بعض الظلمة من ولاة الجهة، بأنه إن سألك عنا فقل، إنه ما يسلم عليك، ولا هو راض عليك، ويقول لك، الواسطة التي بينك وبينه قد انقطعت عنك من العام، ثم قال، ومن له عقيدة إلى آخر ما قال آنفاً
(١/١٧٧)
وذُكِر له رضي اللَّه عنه رجل اشتهر بالعلم، فقال، هل رأيت أحداً مثل المذكورين في "مجمع الأحباب"، وكل من رأيته مشغولاً بنفسه فلا تعده شيئاً، إلا أنه لا يخلو من خير، لأن الخير له أطراف وحواشي، كالجند الذين يمضون إلى الجهاد، ودرجاتهم شتى، بعضهم أعلى درجة من بعض، وليسوا في درجة واحدة، فكذلك الخير بعضه أعلى من بعض
وذكر رضي اللَّه عنه ضعف الناس في طلب العلم، فقال، ما يربي الناس في أمر دينهم ودنياهم إلا الملوك، تربيهم بسيرهم وأحوالهم، وكذلك تفسدهم، فإذا رأيت فساداً فابحث عنه، تجد سببه من الملوك الظلمة
وقال رضي اللَّه عنه، من أراد الهلاك فليظلم، ولا عليه، لأن الظلم كالمغناطيس في جذب الشر، والعدل كالمغناطيس في جلب الخير، ألا ترى كيف يرد اللَّه المراكب في البحر إلى ظفار وغيرها، لظلم فلان وقد سماه
وقال رضي اللَّه عنه، ومن كلام الحكماء، إذا لم يكن في البلد أربعة، تسارع إليها الهلاك، طبيب، وسلطان، ونهر، ومفتي
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً من أهل الجهة، في حالة تعب شديد، فقال، كأن البلا إلاّ يدوّر لأهل حضرموت من أين كانوا، فترى الإنسان يؤذَى ويُشغل، ثم يؤخذ ماله، وولاة الجهة خاربة، وإذا أردت خراب بلد فدلهم عليها، فيغيرون حتى قبالها، وتصير كما في قصة عمر بهم المساجد الداثرة، والذي ينبغي للولاة، أن يسعوا في إصلاح البلدان، ولكن هؤلاء زبانية الدنيا
(١/١٧٨)
وأمر رضي اللَّه عنه يوماً بنخلة مثمرة أن تسقى، وأخرى لا ثمرة لها أن لا تسقى، وقال، إذا راعيتها ولم تثمر فاقطعها، وافعل ذلك في المثمرة، كالصاحب الذي لا يراعي من يحسن إليه، إذا أساء إليك مع إحسانك إليه، فاقطعه، ويكون الإحسان في شاكر أحسن منه في غيره، إلا أن تخاف شره، أو كان ذا رحم، فلا تقطعه لإساءته، والأشجار والدواب في أوائل درجة الآدمي، فيُعاملن بما يعامل به الآدمي، وقد قال سفيان الثوري، أخسر الناس من يفعل المعروف مع غير أهله، أو كما قال
وألبس رضي اللَّه عنه يوماً أناساً الخرقة، فقال، لبسناها من الشيخ عمر العطاس، لكن بالشدة ما طاع يُلبسنا إلا بمعالجة، وأرادنا نحن نُلبسه، لأنه كان متواضعاً جداً، والتواضع وإن كان حسناً من كل أحد، لكنه من أهل الفضل أفضل وأحسن، فالمنظور بين الناس ليس تواضعه كتواضع واحد من أطراف الناس، أقول، سمعته رضي اللَّه عنه يقول، ما ألبسني كوفيته حتى ألبسته كوفيتي، وكل منا ترك كوفيته للآخر، ولهذا كل منهما يَعُدُّ الآخر شيخه
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً كرامات الأولياء وغاراتهم، ثم قال، قد قيل إن كرامات الأولياء وغاراتهم قد طويت، حتى إنه روي أن بعضهم جاء بحزمة سيوف إلى آخَر منهم، وقال، هذه أحوال الصالحين، قد طويت
ثم قال نفع اللَّه به، ما الإنسان يريد الصلاح ولا الصالحين لأجل هذه الأمور، إنما يريد ذلك لطاعة اللَّه والدار الآخر
(١/١٧٩)
وقال رضي اللَّه عنه، الصالحون خاملون في حياتهم وموتهم، وإنما أشهَرَهم ملوكُ الناس، إذا أشهروا أحداً اشتهر عند الناس، مثل ابن عربي فما أشهره إلا آل عثمان، لأنهم بلغهم عنه الإخبار بأن بعض أجدادهم سيملك فبنوا عليه قبة، وشهروه، وكانوا إذا ظهرت منهم الكرامات يوصون من علم بها أن يكتمها، ولكن عدمت في هذا الزمان الكرامات، وإنما مُنِعوا الأسرار، لعدم كتمهم الأسرار، لو رأى أحدهم رؤيا راح يحول بها، فلما لم يكن إسرار، كذبوا بادعاء الأسرار، أو كما قال
وذكر رضي اللَّه عنه ليلة الاثنين حادي عشر شوال سنة ١١٢٥ هـ كرامات الأولياء، فقال، أهل الزمان ما هم بشيء، فلا تظهر لهم كرامات الأولياء، وهم لا يريدون منها إلا ما يزيد في دنياهم، ولو كان أحد من المكاشفين، فرح بكل ما يحصل لهم من نقص في دنياهم، والكرامات لا تظهر إلا لأسباب، وإذنٍ من الحق تعالى، إما لتحصيل التشمير لمن يراها، مثل من ظهرت له، أو ليعترف من نفسه، ويتحقق أن ما معه شيء
وذكر بعضهم، أنه ذكر الكرامة لأحد من السادة المتقدمين فقال، فيها مضرتان أحدهما، أن يغتر من هو من ذريته ويتكبَّر بكرامة جده، والثانية، أن يقول من لا عقيدة له، انظر كيف لما كان جدك صالحاً ظهرت له الكرامات، وأنت لما فَسَدْتَ لم تظهر لك، وأهل الزمان مثل قوم وقعوا في نهر وغرقوا فيه، ولكن استنقذ اللَّه قليلاً منهم، وقليل ما هم، وما دام الروح في الجسد فلا ييأس من رَوْح اللَّه، وهو سبحانه وتعالى قادر على أن ينقذه
وقال رضي اللَّه عنه، إنما فائدة بلوغ الإنسان حد التكليف، الترقي، فإن لم يترق فموته قبل ذلك أحسن، لأنه لم يبلغ الحِنْث، ويكون حينئذ على الفطرة
معنى الطُرُق إلى الله
(١/١٨٠)
وقال رضي اللَّه عنه في معنى قولهم، ( الطرق إلى اللَّه بعدد أنفاس الخلائق )، هي أعمالهم التي يتقربون بها إلى اللَّه تعالى، فكلٌّ أعماله طرائقه، بل لو سبح مائة تسبيحة مثلاً وقُبِلَت، يقال، هذه مائة طريقة، وعلى هذا
وقال رضي اللَّه عنه، ما عليك إلا أن تَسْلَم من شواغل الخلق، وشواغل خواطرك ونفسك، ويتنزل لك الأمر إن كان فيك بأنه على قدر حالك، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، إياك أن تضع الدنيا التي هي عدوة اللَّه في قلبك، بل ضعها في رجلك كالحذاء، فإذا فُقِدت تكون حذاء بدل حذاء، وأهل الزمان تعلقوا بالدنيا جداً، فتفاخروا بها وتحاسدوا عليها، فصارت لهم محبوباً، ومن كانت هذه حالته، يوشك أن تكون هي معبوده من دون اللَّه وقد كان السابقون عرفوا الدنيا باللَّه، وهؤلاء عرفوه بالدنيا
وقال رضي اللَّه عنه، أصول المعاصي ثلاثة، الكبر، وهو أصل معصية إبليس حيث تكبر على آدم، فقال، أنا خير منه، والحرص وهو أصل معصية آدم، حيث حَرِصَ على الأكل من الشجرة، والحسد وهو أصل معصية قابيل، حيث حسد أخاه فقتله
وقال رضي اللَّه عنه، خذ من دينك بيمينك، لأنها للأمور الحَسَنَة، وكذلك الآخرة، وخذ من دنياك بشمالك، لأنها للأمور القذرة، وكذلك الدنيا
وقال رضي اللَّه عنه، تراحموا تُرحموا، وارحموا فقراءكم، فلو أتاك فقير وغني، كل منهما يطلب حاجة، فالأولى تقديم الفقير، وقد دخل الهوى على الناس حتى في طاعاتهم، ولكن إن سبق الدين ولحق الهوى أبطله، أو بالعكس فزلزلت قواعده
ما قال في التأني والعجلة
وقال رضي اللَّه عنه، تأنَّ في كل أمر تحاوله، فإن الشرع أطلق المدح في التأني، والذم في العجلة، فإن كان من طبعك العجلة، فريِّض نفسك وكلفها التأني، فإن لم تنفع فيك الرياضة في ذلك، فاترك كل أمر تضر فيه العجلة لا تفعله، وليفعله غيرك
(١/١٨١)
وقال رضي اللَّه عنه بعدما فرغ القارئ من القراءة في كتاب الزهد من الإحياء، ما عاد في الناس أحد ظاهر في مقام الزهد على هذا الوجه، إلا إن كان أحد في البراري والقفار، لأن هذه الأمة أمة مرحومة، وإنما هم إلا بين راغب وأرغب، ومَن أنشَبَ مخاليبه في الدنيا، أمره مخطر، والمنهمك فيها كالنائم الذي يخط، ودونه الذي يتحرك، ودونه الذي يمسح وجهه من النوم، ومثل هذا، وكلهم يشملهم النوم، والصالح من أهل الزمان لا تراه حتى متزهداً، بل إنْ حَسُن حالُه يكون ليس منهمكاً وغارقاً فيما غرق فيه أهل الدنيا، ونحن لا نحب من يذكر الرجاء حتى يفرط والخوف حتى يفرط، إنما نحب الوسط فيهما
ما قال في الهمة
واستودع منه رضي اللَّه عنه رجل ضعيفٌ حاله يريد الحج فقال له، اللَّه اللَّه في الهمة، جد الهمة، واعزم ولا تتردد فتقول ليتني ما هممت، أو ليتني ما خرجت، فإن التردد في الهمة يُضْعف أمر الثواب، إن تطلبه أو تصبر عليه، إلا أن يضرك في دينك، وما دامت الهمة قوية يأتيه المدد من اللَّه تعالى، فإذا ضَعُفَت الهمة، دخل الشيطان يغويه
وقال رضي اللَّه عنه، معاملة اللَّه كلها ينبغي أن تخرج فيها بكليتك من حج وجهاد فتخلص له حتى يزلفك، وإلا فهو غني عنك وعن عملك، { وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الآية، والتردد فيها كالارتداد، بخلاف أمور الدنيا، فإن التردد فيها يكون كفارة لها، كأن كان خادم دولة، فقال، ليتني ما خدمتهم
ومد له رضي اللَّه عنه فتىً يديه يمسح عليهما، وبهما ألم، فقال له، لعل ذلك من عين، فإنها حق، وفي الحديث، (( إن العين تُدخِل الرَّجُلَ القبرَ، والجمل القِدْرَ )) وأكثر ما تكون من فرط التعجب، إما من محب كالأب والأم والأخت والخالة ونحوهن، أو حاسد، إلا أن المحب مستكثر مع مَحَبَّة، والحاسد والمبغض مستكثر مع بغض
(١/١٨٢)
وقال رضي اللَّه عنه لرجل مستخلف مسافر، لا تخل الزيارة إن أمكنك، وإلا فلا تعجز عن الكتاب، واللَّه اللَّه في طلب العلم النافع، ومطالبة النفس بالعمل به، فإنها قد تطلب العلم ويسهل عليها، ولكن العمل به عليها شاق
وقال نفع اللَّه به لآخر محترف صوَّاغاً، اللَّه اللَّه في النصيحة في حرفتك، على قدر جهدك، واحذر فيها من الغش، ففي الحديث، (( أشرار أمتي الصواغون ))
وقال رضي اللَّه عنه لآخر، استعد للنوائب، سورة يس، وإذا ظُلِمتَ فلا تنتصر لنفسك، وسلم الأمر لربك لينتصر لك، فإن من انتصر لنفسه لا يكون له من اللَّه نصير
وذكر رضي اللَّه عنه أخذَ الأجرة على الحج، فقال، اجعل الحج والمسير إلى الحرمين للدين لا للدنيا، إلا ما كان ضرورة للدَّين، ولا تجعل أمور الدين وسيلة إلى أمور الدنيا، وأمور الدنيا إنما هي سُلَّمٌ لا يحسن المقام فيه، وإنما هو وسيلة إلى الطلوع إلى المكان المقصود، وكل من زاد على المحتاج إليه في ذلك فهو ناقص، ولولا ذلك لما رَغَّب اللَّه تعالى في الآخرة، وزَهَّد في الدنيا، ولَكَان رَغَّب في الدنيا، أليس كلهما ملكه
وقال رضي اللَّه عنه، أمور الدنيا كالبيوت، لا يثبت بناء القصر إلا بعد إحكام الأساس، كذلك الدين أساسه كلمة التوحيد، والتصديق، ثم الأحكام الواجبة، ثم قراءة القرآن، ثم ما يُندب بعد ذلك، قال تعالى ،{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } إلى آخر الآية، فالتأسيس بإثبات العقائد والنيات والصدق، ثم البناء يتم لك بعد ذلك، وخذ أصل العلم الذي لا بد لك منه في نفسك، ولا تفتن الناس بطلب العلم بلا عمل
ما قال في طلب العلم
(١/١٨٣)
وحض يوماً رضي اللَّه عنه ورغب في تعلم العلم وتعليمه، ثم قال، كنا سابقا نسأل عن العالم العامل بعلمه، فإن لم يكن به عاملاً لم نعبأ به، وأما الآن فنحن نسأل عن العالم، وإن لم يعمل، لما رأينا من غلبة الجهل والغفلة عن التعلم وعدم الهمة في طلب العلم والرضاء بالجهل والعمل على مقتضاه، وإن عمل به فهو الغاية، وإن لم يعمل فيعلّم الناس ويهديهم إلى الصواب، فينتفع به غيره، وإن لم ينتفع هو في نفسه
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي أن يعرف الإنسان العلم وقواعده، وبعد ذلك إن أراد اللَّه له توفيقاً عمل بذلك وعلَّم، وإن لم يرد له ذلك وأراد له الخذلان والعياذ باللَّه، كان على الضد فلا يعمل، ولا يعلِّم، بل ولا يتحقق في معرفة العلم، وربما اجتنب بعضُ الجهال أهلَ العلم ومجالس العلماء، خوفاً من أن يعرف ما يلزمه العمل به، يظن أن في ذلك عذراً له، وهيهات إنما ذلك يزيده تشديداً ومطالبة، لأنه أعرض عن أحكام اللَّه علماً وعملاً، فهو أشد، وغاية العذر في أشياء تكون لمن رُبي في البادية، وفي بُعْدٍ عن أهل الإسلام، ومن هو مسلم وآباؤه مسلمون ونشأ بين المسلمين أَنَّى له العذر
ما قال في الاغترار بالكرامات
وذكر رضي اللَّه عنه شيئاً من مناقب الصالحين، ثم قال، طلب المناقب شأن الصغار، وفراكات المغازل، والكامل إذا سمعها أحسن الظن، واعترف له بالفضل، واحتقر في جنبه نفسه، وفيها خصلتان تغرّ العامة، وتجرّي السفهاء، فيقول من له أب صالح هو يكفيني، ولو كفاه لكفى الناسَ جميعَهم النبيُّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لأنه أبو الكل، ويقول المتجري، إن كان فيك شئ إفعل مثل آبائك، وأين تروح من الأعراب، أولاد نباشة القبور، وإذا بلغك عن أحد منقبة، فابحث أولاً، إن كان قد قدم شيئاً لأن الأشياء لا تجيء إلا بالتعب، ولو أنك غرست نخلة لا بد لك فيها من تعب ومقاساة، فكيف هذا الأمر
(١/١٨٤)
وإنما المناقب، التقوى، والزهد، والحلم، والصبر، والتواضع، والخمول، وما عدا ذلك ففتنة، وأنت أدفن نفسك في الخمول، فإن كان فيك شئ فهو ينبت، وإن لم يكن أعطيت أمراً حسناً، وإن كنت متسبباً في شئ فتسبب في الخمول، فإن أُظهرت من غير اختيار منك فلا عليك
ما قال في الخمول والشهرة
وقد شكينا الشهرة لما حصلت علينا للشيخ عمر العطاس، فقال، إن بعضهم اعتقده الناس وازدحموا على تقبيل يديه ورجليه، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك قَبَّلوا حافر بغلته، فقيل له في ذلك فقال، إنهم ما عظموني، إنما عظموا اللَّه فلا أمنع أحداً من تعظيم اللَّه، ثم قال، إنهم عظموه للَّه لا لشيء آخر، ثم قال، وفي هذا إشارة إلى أن تعظيمهم له، إنما هو للَّه
(١/١٨٥)
ثم ذكر سيدنا حكايةً، إن رجلاً من أهل الخمول، من السادة من آل باعبود في تريم، إذا أراد الجامع يمر في السوق، فلا يقوم يصافحه رجل واحد، وله صاحب من آل بافضل، معه مخزن يبيع فيه، ويعتاد هذا السيد التردد إليه ويجلس عنده في مخزنه، فقال له صاحب المخزن، أنا متعجب من حرمان أهل البلاد، كيف تمر في السوق ويرونك ولا يقوم لك رجل واحد، ولا يصافحك أحد، فقال، وما تريد بمصافحتهم وقيامهم، فأما إذا قلت هذا، فانظر، فإذا الناس قد ازدحموا عليه في المخزن في الحال، حتى لم يسعهم، وضاق بهم المكان، فلم يتمكن من الوزن والبيع، وبقي صاحب المخزن يدفعهم وتأذَّى بهم، وقال، يا حبيب، إن كان إلا هكذا فاخرج من المخزن فقد ضيقتوا علينا، فقال، هذا كله منك، لتعرف أن المنع منا لا منهم وبلغ السيد محمد بن علوي ما شكونا للسيد عمر، فأرسل إلينا رسولاً، وقال، قل له يقول لك فلان، عليك بالخمول جداً، فإنا قاسينا من الشهرة مشقة شديدة، وكان هذا حال السيد محمد المذكور من هذا المقام أي الخمول، فقال له الرسول، إنه يُقلّد بابه، ويصل الناس إليه ويرجعون ولا يفتح لهم، فقال، ولو كان، عادك قل له، يقول لك، الحَذَر
وقال رضي اللَّه عنه، لو ترك أحد الدنيا واشتغل بما لا بد منه، أتاه منها ما يحتاج إليه، وهذا مجرب
وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى ،{ أُولئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنيَا بِالآخِرَةِ }، هذا يتحقق في حق الكافر، وأما المؤمن فلا يخلو عن شيء منه، إما نفاق أو شيء من المعاصي الظاهرة، أو الباطنة كرياء وعجب وغير ذلك
(١/١٨٦)
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي أن يسير مع اليسر والإحسان في كل الأمور، من أمور الدين والدنيا، وإلا فما معنى يتنفل ويترك الفريضة، حتى لا يحصل له ثواب بكل فرض ولا نفل، فإن من ضيع الفرض واشتغل بالنافلة، لا يقبلها اللَّه منه، وما ينفع الكلام فيهم، والشيطان قائم لهم في المرصاد، فمن حيث شق عليه الدخول عليهم من جانب دخل من جانب أسهل منه، حتى إن له كما ذكر الإمام الغزالي سبعة مداخل التي يدخل منها على الإنسان، ذكر منها العجلة في الشيء، حتى لا يحسنه، وليس للشيطان مراد إلا أن يضل الإنسان بأي وجه كان، إذا لم يتبعه من هذا الجانب دخل من الآخر، بخلاف النفس، فإنها تطلب منه مطلباً واحداً لا تتعداه وتصمم عليه
(١/١٨٧)
وسئل منه رضي اللَّه عنه الدعاء بالرحمة، وألح عليه في ذلك، فقال، ادعوا ربكم فإنه سبحانه يحب كثرة القرقعة على بابه، ولعل المانع من ذلك ذنوب الناس، ولكن يرجى منه سبحانه أن يرحم المذنبين لأجل البهائم والصغار، فإن كان أولئك ليس فيهم خير، فهؤلاء ليس فيهم خير، وأيضاً ليس كل المكلفين أهل معاصي، بل فيهم أهل الخير، وقد بلغنا إن البهائم كل يوم تشكو إلى ربها من بني آدم، وتقول، إنما مُنِعْنَا الرحمة بذنوبهم فإذا أردتم الرحمة فأطيعوا ربكم، فإن الرب ما يرحم إلا أهل الطاعة، والطاعة ما تكون إلا فيما يخالف هوى النفس، وما ينفع القلب والدين من الأعمال إلا ما لم يكن للنفس فيه هوى، وخزائنه سبحانه كلها مملوءة، ولا بد من مطر في الدنيا كل ليلة من ليالي السنة، إلا إن كانوا مطيعين، جعل اللَّه الغيث حيث ينفعهم، وإن كانوا عاصين قال تعالى، أخروه في الخزائن، وما بالناس إلا المداينات، ومظالمهم بعضهم لبعض، وقد ورد، (( إن البهائم إذا قحطت تدعو على بني آدم، وتقول، إن اللَّه واخذنا بذنوبهم ))، إذ ليس لهن ذنوب ولم يمنعهم سبحانه إلا ليؤدبهم، فإن العبيد إذا لم يكونوا مستحقين فالسيد الكريم يؤدبهم، وذلك لأنفسهم لا لنفسه، ليؤدبوا بذلك غيرهم، فإن الآدمي محتاج إلى الرزق، وإلا لجعلهم كالملائكة غير محتاجين للأكل، وعدم الاحتياج إلى الشيء إما لكون بُنيته لا تقبله، كالملائكة لا غذاء لهم في الطعام، أو لكون اللَّه تعالى لم يجعل له فيه غذاء، وجعله في غيره كالبُرِّ قُوتُ الآدمي، والقَضْب قوت الدواب، وإنما قوت الملائكة الذي يتلذذون به القُرْب، وهذا شأن الأرواح، كما إن الأكل شأن الأجسام، ولذة الأرواح في غير ما تلتذ به الأشباح، ولا يلتذ الروح بما يلتذ به الجسم، إلا من حيث المجاورة، وكل ما يذكر من معاني القرب واللقاء، وكونه لا يشتاق إلى جنة، ولا يخاف من نار، ونحو ذلك مما قد
(١/١٨٨)
يجري في كلام القوم، فكل ذلك من صفات الروح لأنه لا يأكل، وإلا لاحتاج إلى أكل في القبور، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، من فيه خيرية وكان ذا دين، لم يزل يستفيد من خَيِّر وشرِّير، لأنه يرى فائدته فيأخذها، ولا ينظر إلى من سمعه منه
وقال رضي اللَّه عنه، نحن ما نمشي إلا على الطريق الأكبر المستقيم، التي لا يكون فيها اعتراض لأحد، وهو المهيع الواسع قال اللَّه تعالى ،{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، والسبل هي الأمور الخفية، يكاد من يسلكها أن يقع في البدع، ومن وقع فيها فاعترض عليه أحد، فلا لوم عليه، إلا إن كان له حظ، فمن اعترض على ذي صلاح، واعتراضه بشرع ممتزج بحظ، كأن أراد تنقيصه أو حط مرتبته بين الناس، فهذا يهلك، إلا إن كان اعتراضه لمجرد الشرع، ويكون ظاهره وباطنه واحداً سَلِمَ من المعترض عليه، وإلا هلك، فقد ذُكِر إن ابن المقري، ما سلم من إبراهيم الجبرتي إلا لكونه ليس له حظ في اعتراضه بل لمجرد الشريعة
وقال رضي اللَّه عنه، علوم المكاشفات غير مخالفة لعلوم المعاملة، لأن معانيها صحيحة، إلا إنها تختلف باختلاف المجاهدات، ومن أمكنه مطالعة علم يَنْتَفِع به في دينه ومعاشه، وهي كتب الإمام الغزالي، خير من التعرض للشتم، وقد طَوَى علومَ المكاشفة، وقال، إنها لا تسطر في الكتب، وقد حوت كتبه ما في كتب غيره
وسألته رضي اللَّه عنه هل الاعتقاد الحق منحصر في عقيدة الأشعري، وما خرج عنها فهو باطل، فقال نفع اللَّه به، عقيدته هي الحق، وما خرج عنها فيه حق وباطل، وإنما فاق غيره لكونه قال آمنت باللَّه، وبما جاء عن اللَّه، على مراد اللَّه، وفوض الأمر إلى اللَّه
(١/١٨٩)
وذكر رضي اللَّه عنه الأولياء يوماً، وهو يوم الأحد ١٥ صفر سنة ١١٢٥هـ وذلك في طريقه سائراً إلى السبير، فقال، الأولياء يقلون ويكثرون في كل زمان ومكان، ولا يبلغون عدد الأنبياء، إلا إن كان الولاية العامة، من كل مؤمن، فيبلغون أكثر، وأما الولاية الخاصة، من كونه مؤدياً للواجبات، تاركاً للمنهيات أو قليلها فلا، وقد كثروا في وقت الشيخ عبدالقادر، وما بلغ قدرهم إلا إثني عشر ألفاً، وأهل الزمان إنما يطلبون الكرامات لأهواء نفوسهم، فيريدون أن يتمكنوا من قلب الأعيان ذهباً وفضة، ليستكثروا من الدنيا، ومن هو على هذا الوصف، فسَتْر الكرامات عنه رحمة به، ومن مُكِّنَ منها وفعل نحو هذا سُلِبَ، فلا بد من فَعَل ما لا ينبغي له، أن يُقَيَّضَ له أحد من الصالحين فيسلبه، وكل من سُلِب منه حاله منهم، إنما هو لسوء أدبه فيه، والكرامة ما كانت ثابتة، وإنما الكرامة الاستقامة، قلت له، إنما يطلب الإنسان قوة اليقين، والخروج من غوائل النفس، فقال نفع اللَّه به، اليقين إنما هو من السماء، فاطلبه من اللَّه تعالى، ولا تُعْرَف غوائل النفس إلا عند التجربة
وسألته رضي اللَّه عنه عن رجل صحب بعض المشايخ، قبل تحصل له الهمة في طريق القوم، ثم حصلت له بعد فراق الشيخ، هل يحتاج حينئذ إلى شيخ، أو تكفيه صحبة الأول، فقال نفع اللَّه به، تكفيه إذا قد رباه بظاهر العلم، ولكن إذا أمكنه صحبة من ينتفع به أيضاً وتحصل له منه فائدة فحسن، فقد كان فلان وذكره، وهو أكبر تلامذة أبي مدين، قال له، إمض إلى الشيخ عبدالقادر واصحبه، فلما صحبه قال له الشيخ عبدالقادر يوماً وزوى له الأرض، ماذا ترى من هنا؟، قال، أرى الكعبة، قال له، ومن هنا، قال أرى شيخي أبا مدين، فقال، تريد أن تصل إليه، قال، نعم، قال، تريد ذلك في لحظة أو كما جئت، قال، كما جئتُ فودعه فسار
(١/١٩٠)
وصحب ابن عربي جملة مشايخ، والشعراوي نحو مائتي شيخ، وإذا صحبت إنساناً وثبتت لك معه الصحبة، فلا بأس أن تتردد إلى من ترجو منه البركة، ولكن بعد أن تتمسك
ما قال في انتفاع السادة بعضهم من بعض
وقال رضي اللَّه عنه لبعض السادة، وإذا اندفنتَ، فلا يظهرك إلا منكم، أي السادة بعضهم من بعض، وقد ذُكِر إن عبداللَّه بن أحمد بلفقيه، لما صحب الشيخ أحمد القشاشي، وعلم به السيد محمد بن علوي، حنق عليه كثيراً، كيف يروح إليه يصحبه، وهو موجود فلا يصحبه أولاً مع اعترافه له بالفضل، فقلت لسيدنا، لا يكون انتفاع السادة إلا من بعضهم بعض، فقال، نعم، لأنهم مرتبطون بسبب النسب، من حيث إن هذا أبو هذا، أو أخوه، أو عمه أو قرابته، ونحو ذلك، وعقيدة البعض منهم متعلقة بالبعض، وقد يأخذ الرجل منهم عن أبيه، أو قريبه، ثم يروح يأخذ من آخر، إذ كان في الأصل، ما أخذ الناس إلا عن الناس، قلت، وهل يكون ذلك منهم لغيرهم أيضاً، قال، نعم، يكون ذلك منهم لغيرهم، فقد قال الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه، أُذِنَ لي في تحكيم ربع أهل الدنيا، وقال جده الشيخ عبدالرحمن السقاف رضي اللَّه عنه، من لا له شيخ فأنا شيخه قلت، ولا يمنعهم تغير الزمان من ذلك، قال، لا، ويكون ذلك على قدر الحال، والنخلة في ابتداء أمرها لا تكون كما في آخره، وما على الإنسان إلا الأهلية، فإذا تأهل حصل له مقصوده في أي زمان كان، قلت، وما الأهلية، وبأي شيء تكون، فقال، بفضل اللَّه، قلت، لا حيلة لنا في ذلك، قال، الحيلة منه وإليه ولا بلوغ إلى شيء من المقاصد إلا بتوفيقه، وإصلاح النفوس في هذا الزمان المعكوس يعسر قلت، كيف الحيلة في تذليلها، قال، لا يمكن إلا بإعانة وتوفيقٍ، واذكر قوله تعالى ،{ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} الآية، كلما استعصت عليك، وقوله تعالى ،{لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ
(١/١٩١)
اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ}، ولا أحسن للإنسان في هذا الزمان عند ورود عُجُب أو كبر أو نحو ذلك من الاستغفار كلما ورد عليه، ويكون ذلك عند وروده في الحال
ثم قال رضي اللَّه عنه، ما مقصد الصالحين بعد رياضاتهم ومجاهداتهم إلا مُلْكُ نفوسهم وقتلُها، فإذا حصل لهم ذلك منها، وقعوا على الإكسير الأعظم، لأنها في هذا الباب أعظم الأجزاء، ولا يتم الأمر إلا بقتلها، وهي فيه كالزئبق في الكيمياء، ولا يحصل المقصود منه إلا بقتله، ويعسر قتل كل منهما، ولا يحصل المقصود من كل واحد منهما في بابه إلا بقتله، فقلت له، إنما نتشفع إلى اللَّه بعد رسوله في حصول أمر مّا في وقتنا بكم، كما إن من أراد من اللَّه شيئاً في زمنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جاء إليه يدعو اللَّه له به، فقال، تلك خصوصيات له عليه السلام، قلت وتلك الخصوصيات أيضاً يكون منها في ورثته، فقال، عهدة ذلك عليك، ونتوقف فيه حتى نرى عليه دليلاً وتكلم إذ ذاك كثيراً، فقال بعض الحاضرين من الغرباء المقيمين، إني لا أرى أثر النبت ظاهراً علي، فقال، إن هذا أحسن خوفاً من الإعجاب، وقد نَبَتَّ وبَقِلْتَ وغصت أيضاً زيادة، ولكن قاعدة، إنه لا يظهر على الإنسان ما دام في حضرة من تعلم منه، ولكن إذا سار إلى بلده ونشر ما علم، حصل له الفتوح في أرضه، وإذا أردت أن تسير نجعل لك إن شاء اللَّه وصية، تكون لك قائدة كالحبل في عنق الدابة كلما بَعُدت عن مربطها جرها حتى تعود إليه انتهى ما حصل في هذا المجلس المبارك، وذلك عشية الأربعاء ٢٤ صفر سنة ١١٢٤ وكان مجلس فسحة وتبسط
(١/١٩٢)
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان قَلَّ ما تتم الشروط فيهم، إلا إن حصلت كلها فُقِدَ واحد، فتعطل جميعها لذلك، فلم يحصل بسبب ذلك المطلوبُ، كما في علم الكيميا إذا أتى بشروطها، وبقي شرط تعطل عليه عمله، والكيميا أحد خصلتين، إما أن يؤتيه اللَّه زهداً فيستوي عنده الذهب والتراب، وإما أن يؤتيه اللَّه الكفاف ويشغله بطاعته
ونحن نقول، الكيميا قل هو اللَّه، والعمدة على صفاء القلب، واجتماع الأرواح، وإلا فكثافات الخلق لا حاجة إليها، خذ ما صفا لك ودع أمر الخلق يكون وراء
وقال رضي اللَّه عنه، فلان إذا أراد أن يسير إلى بلاده، نأذن له أن يُحَكِّم لنا لا لنفسه، ويُلبس الخرقة، ونحن ما أذنَّا لأحد أن يلبس مطلقاً، بل يُلبسوا من أرادوا من أهلهم وأولادهم أو كما قال
ما قال في معنى حديث، إن الله جميل
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( إن اللَّه جميل يحب الجمال ))، معناه، أي ينبغي للعبد أن يتجمل، لكن بحيث لا يحب التزين ويَتَشهَّى كل ما يرى، ولا يحب أن يُرى متجملاً ولا يفاخر في ذلك ولا من هو كذلك، بل المؤمن لا يحب إلا ما يحبه اللَّه، فإذا كان كذلك فليفعل ما يليق ويَحْسُن ويأخذ الأمر بأوله وآخره، ولا يتبع هواه في أمثال هذه الأشياء ويستدل بهذا الحديث، لأن فيه إتلاف النفس، وإتلافها عسر
وقال رضي اللَّه عنه، المزاحمة في الدين مطلوبة، زاحموهم بالرُّكَب، وبعض الناس غلبت عليه العوائد، أي المزاحمة في أمور الدنيا، من جاه ومال ونحوهما وحتى يثقل عليه أن يقال له حال الزحام، تأخر قليلاً، ويضيق حاله من ذلك
وأمرني رضي اللَّه عنه يوما أن أقرأ عليه مقصورة ابن دريد، وبعد تمامها قال، إنها تصلح للمهمومين، أو قال المغمومين من الحكماء
(١/١٩٣)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا حصل عليك أمر تكرهه، لك فيه خِيرة فلا تحزن، ولو كان سارق سرق عليك شيئاً وأنت من أهل الحق في أمان، ولا تأمن أهل الباطل
وقال رضي اللَّه عنه، كلام الأكابر يحتاج إلى تأمل، ولا يزال يردده ويتأمله، حتى يظهر له
وذكر رضي اللَّه عنه ابن الفارض يوماً عندما قرئ عليه شئ من قصائده، فقال، هو كلام قلب حي في جسم ميت
وقال نفع اللَّه به، لا يتم النشيد إلا بثلاثة أمور، حسن الصوت، والنظم، والإعراب، قال، ورابع ولعله طيب الوقت
وأنشد بين يديه رضي اللَّه عنه بشيء من نظم ابن الفارض فيه غزل فقال، كل هذا مليح، ويُنَزَّل على الروح وعلى الجنة، لا على الحقيقة الإلهية، خالق الكل
ومرة قال، وإذا تكلم المخلوق، بوصف المخلوق فاللائق به أن يكون في المخلوق
ثم ذكر نفع اللَّه به ابن عربي فقال، فَنُّهما واحد، إلا إن ابن عربي الغالب عليه الصحو، والغالب على ابن الفارض الاستغراق وذُكِر لابن عربي كلام ابن الفارض، فقال، كلامنا واحد، وإنما كلامه ميدان لكلامي
وذكر رضي اللَّه عنه ابن الفارض فقال، إنما عمره ٥٥ سنة، لأن أهل الأحوال الغالب إنهم ما تطول أعمارهم، بل تأخذهم الأحوال، كالشيخ أبي بكر السكران، وابنه الشيخ عبداللَّه عمره نحو ٥٥ سنة وغيرهما والأحوال المقلقة، شوق، أو خوف، ونحو ذلك، هذه هي الأحوال، ومن لا معرفة له يحسب أن الأحوال غير هذا
وأمرني سيدنا أن أنشد وكان ذلك ضحى يوم الجمعة ثاني ربيع الأول سنة ١١٢٤، فكان مما أنشدت به قصيدته، محب ليس يدري من يحب الخ
فقال رضي اللَّه عنه، هذه الأبيات التي أولها، إذا هبت، وإن سجعت، وإن مرت، وإن عرضت، هي معنى ما ذكرناه في التائية
يذكرها العهدَ القديمَ سماعها لترجيع تالٍ للمثاني الكريمة
أي الروح إلى آخر الأبيات
(١/١٩٤)
ثم قال نفع اللَّه به، إن الإنسان مازال محجوباً بكثافات نفسه، وعوارض جسمه، فحُجُبه كثيرة، أو قال كثيفة، ولا يمكنه أن يلتذ بما يسمعه من الأصوات الموزونة، والنغمات الطيبة، ومعرفتها من علم الموسيقى، ومتى خرج من ذلك بالمجاهدة، والرياضة، لم يزل يترقى في معرفة الأشياء، حتى يطَّلع ويعرف ما لم يكن يعرفه أولاً، وحينئذ ربما سمع دوران الأفلاك، ويحصل له فيها من اللذة ما يستغرقه ويذهله عن شهوة الأكل، لأن لذلك لذة يجدها الروح، حُجِب الإنسان عنها بشهواته الحسية، ولأي شيء يسكر الإنسان عند سماع شيء من تلك الأصوات، لأن فيها بعض لذة له حينئذ، ولا يُشَبَّه بينها وبين لذة الفلَك، وإن حصل له شيء من الأمور الإلهية، فيحصل له فيها من اللذة والاستغراق شيء عظيم، لا يقاس بلذة الأفلاك، وفي هذه الأشياء ترقٍّ وتَنَزُّل، ولهذا لما أراد اللَّه تعالى أن يبلِّغ النبيَّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم غايةَ الكمال، لم يزل يرقيه ويُطْلِعه على الموجودات شيئاً فشيئاً حتى بلَّغه إلى درجة التكلم معه، وأهَّله لسماع كلامه مشافهة مع قرب، وتَنَزَّل لموسى عليه السلام حتى أسمعه كلامه من الشجرة، فانظر الفرق بين الأمرين الإلهيين ولا تنظر ما بين النبيين، وإن كان كل منهما في مرتبة عالية، وعلى هذا التنزل والترقي، ما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام من رؤية الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس، ثم التوجه إلى الحضرة الإلهية، حضرة الذي { فَطَرَ السَمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ } هذا ما حفظته مما تكلم به في المجلس المذكور
وأمرني رضي اللَّه عنه أن أنشد، وذلك بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء في ٢٨ ربيع أول المذكور، من السنة المذكورة، في مسجده الأوابين، فأنشدت بقصيدته التي أولها،
يا هل لخيرتنا من جملة الناس يا هل لأحبابنا يا هل لجيرتنا
(١/١٩٥)
فقال نفع اللَّه به، إن في خاطري أن أسأل عن هذه القصيدة، وكنا نظمناها منذ أيام، ولا بقي معنا خبر عنها، فاتفق أن أنشدتَ بها، وهذا منك ما هو مكاشفة إنما هو نور التوفيق وكان السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي حاضراً، فقال له، أكتب ما ظهر لك وفهمته من معنى هذه القصيدة، وأرناه لنرى كنه فهمك، فتناول النسخة من يدي حينئذ، وكتب تحتها ما فهمه، وأسمعه سيدنا فاستحسنه
ما تكلم به السيد أحمد بن زين على قصيدة سيدنا
(١/١٩٦)
وهذا صورة ما كتب، وهو قوله، قل (لأحبابنا) من نحبه ويحبنا، (والجيرة) المجاورون في الأمور، والأحوال، والديار، (والخيرة) من يختار وينتخب، (والوسائل) جمع وسيلة وهي الواسطة، و(المقاصد) جمع مقصد، ومقصود، و(المدخر)، لغير الملائم المعد للبؤس والبأس، يسمى ذخيرة جمع ذخائر، ثم طلب من اللَّه المنفرد بالعطا والكرم، أن لا يوحش منهم لكونهم أنسه ثم طلب المن بالإيناس ممن ذِكْرُه ينير السرائر التي هي محل السر، ويميط الهم والوسوسة عن الصدر الذي هو صدر البدن ورئيسه، بانشراحه بنور السريرة، فلا يبقى فيه غير الحق الجلي، فتنزعج النفس عن غفلتها، بتجافيها عن دار الغرور، ورجوعها إلى ربها بالرضى، فحينئذ يبطل كيد الشيطان لضعفه في نفسه، وإنما قَوَّاه في المؤمن إلا غفلة النفس، فلا يبقى لوسواسه شر، ولا استتباع للقلب، لانزعاجه ورجوعه إلى ربه، وإذا ذهبت الشياطين، جاءت الملائكة بخواطر الخير ولوامعه وطوالعه للمجانسة حينئذ لطهارة القلب للملائكة بالأصل، و(الميمون) هو المبارك، و(المَلَك) هو المرسل بالخير، الذي لا يُقبِل إلا بالخير من الخير، و(المرؤوس) التابع كالرأس المتبوع، و(صعود الروح) ترقي القلب بخلوصه عن القيود الجسمية، والصفات البشرية، والصور الهيكلية، في رَوْح التَّروحن، ونَفَس الانطلاق، فإذا صعد الروح وترقى إلى معهده الأصلي الأمري ورجعت النفس إلى حالها الأصلي، الذي قبل نزولها إلى تدبير الجسم والانقهار والانفعال لمطالبه الطالبة بحالها لتدبيره، وحفظها إياه وفعلها به، فإذا رجعت الروح إلى ربها، لَقِيَته وتبوأتْ حضرة عنديته، وسعدت بواردات حضرته القدسية، وذلك لا يستقيم إلا للمستقيم المتوجه إلى الحضرة الربانية بإقامة العبادة الخالصة، وتحقيق التقوى، واجتناب الشبهات، ومِلاكُ ذلك هَوانُ الحظوظ العاجلة والأمور الفانية على القلب وصلَّى اللَّه على من هدانا به، محمد وآله وعترته
(١/١٩٧)
وعلينا معهم وسلَّم اهـ
وقال رضي اللَّه عنه، كل ما يكون من كلام الغَزَل، فيحمل على مخاطبة النفس للروح، ولا يُحْمَل على الأمور الإلهية، لأن أمرها عسر غامض لا يكاد يفهمه إلا الأكابر الصديقون، ولا تطيقه القوى البشرية، فقد حكي، إن رجلاً جاء إلى نبي من الأنبياء، وسأله أن يدعو اللَّه له أن يرزقه ذرة من محبته، فدعا اللَّه له بذلك فأخر إجابته إلى وقت آخر، وأَعْلَم النبيَّ بالوقت، فلما جاء وقت الإجابة، حصل على الرجل غَيبَة وأُخِذَ عن حسه، ولم يبق يهتدي لشيء، فرجع يستغيث بالنبي، فسأل النبيُّ ربَّه عن ذلك، فأوحى اللَّه إليه، إن مائة ألف رجل سألوني ما سألتَ له، وأخرت إجابتهم إلى هذا الوقت، فلما جاء قسمت بين الجميع ذرة من محبتي، فهذا سهمه ومعاني المحبة تَلْطُف وتجل جداً عن إمكان التحدث بها، لأن العبارة لا تأتي على معانيها، ولا يمكن التعبير بالمعاني بحال لأنها لا تدركها العبارة، ولهذا ترى أهل المحبة لما أدركوا من معانيها ما يجل وصفه، ولا يمكن كشفه، واحتاجوا بسبب ذلك إلى التنفس والتروح، إنما يعبرون عنها بقوالبها التي هي صورها، والمعاني أرواح قائمة بها، فلما عجزوا عن التعبير بالمعنى، عبروا بالقوالب والصور، وذلك كتغزلهم بليلى وسعدى، ولَبنى، وهند، ودعد، وغير ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، إذا شكا المحب الجورَ من محبوبه، فالجور إنما هو منه، لا من المحبوب، لأنه يطلب منه هوى نفسه، وهو ما يعطيه كل ما يهواه، احفظوا ذلك
وتكلم رضي اللَّه عنه، ليلة في ضُعْف الهمم عن فعل الخير، فقال، من كان له هوى في الشيء، لو نهيتَه عنه ما انتهى، وإذا لم يكن هوى فكأنك تجره في شخر، ثم أنشد للمتنبي،
إذا صادفت هوى في الفؤاد إنما تنجع المقالة في القلب
(١/١٩٨)
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان أفرط بهم حب الدنيا، وقد ذم اللَّه تعالى من سَوّى بين محبة اللَّه ومحبة غيره، وأثبت لهم محبة اللَّه بقوله ،{ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ } وخرج بهم حب الدنيا من البر إلى البحر، لأنهم الآن في بحر، والبحر قد أكل دوابه بعضها بعضاً، وليس شيء من الحيتان يقتات من البر
وقال رضي اللَّه عنه، من رُبِّي على الإحسان خرج منه الإحسان، ومن رُبِّي على العدل خرج منه العدل، ومن رُبِّي على الجور جرى منه الجور
وقال رضي اللَّه عنه، القربات لا تغني عن الشهوات، فإذا اشتغل قلب الإنسان مثلاً من الجوع، فالطاعة فاسدة، إنما تُسَلِّي عليه، والسماء غير الأرض، إشارة إلى إن المعارف من الأمور العلوية، والشهوات حسية، وهي تراب، غير إن الأرضين سبع، فتكون مثلاً العليا كالمباحات
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أقيم الولي في مقام الرحمة العامة، فيكون إذا علم برحمة قوم فرح لهم فيرحمون برحمته لهم، وإذا عَلِمَ بالتشديد على آخرين، رَق عليهم وساءه ذلك، فيرحمون على حسب ما يَطلبه، وحينئذ تبقى شائبة الطبع فيه ضعيفة، والرب سبحانه عليه قول (كن)، والملائكة عليهم المباشرة، ولكنهم لا يتصرفون في شيء إلا بأمره، ومع ضعف داعية طبعه لا تذهب، ولا يمكن ذهابه بالكلية، وإنما يكون ضعيفاً، وأفهم كلام الإمام الغزالي، أنه لو فقد، وجب تحصيله، وكُلٌّ فيه هوى، وليس الشأن أن يذهب الهوى، إذ لا يتصور ذلك، بل الشأن أن يعمل على خلاف ما يقتضيه مع وجوده، وهذا يضعفه، وكلما ازداد من العمل على ذلك ازداد ضعفاً، حتى ربما يتوهم عدمه، وليس بمعدوم، بل ضعيف جداً، والعمل على موافقته يقويه، وكلما ازداد من ذلك ازداد قوة ورسوخاً، وكلما كملت خصوصية الشخص، قلَّت دواعي نفسه، وكلما قلت الخصوصية كثرت دواعي النفس
(١/١٩٩)
ومن خط ابنه علي زين العابدين، قال، تكلم الوالد يوماً مع الحاضرين فقال، إن العقول قلت، والنفوس كبرت، والحق خفي، والباطل ظهر، اللَّهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال، ومن فضول الكلام وسوء الانتقام، ونعوذ بك من زوال النعم وحلول النقم وضعف الهمم، اهـ
ما قاله في النفس
وسألته رضي اللَّه عنه يوماً وكان في بستان الليمة بالسبير، ما الشاهد الذي يعلم به الإنسان صدق نفسه فيما تدعي من فعل أمور طاعة، أنها أرادت بذلك وجه اللَّه والتقرب إليه به فقال رضي اللَّه عنه، ليس لها صدق أبداً، بل هي كالمرأة السوء، والعبد السوء، والطفل، لا يُؤمَنُون، وإنما يستجلبها ويتهمها دائماً، أما سمعت قصة الذي دعته نفسه إلى الجهاد، فأبى أن يسير إليه فلم يزل يتهمها حتى ظهر له أنها أرادت أن يُقْتَل، ويُعرَف أنه قُتِل في الجهاد، وطلبت حصول الريا بعد الموت، وقال صاحب القصة، إنها قالت له نفسه، إنك كل يوم تقتلني بمخالفة هواي مرات متعددة، وفي الجهاد تحصل لي قتلة واحدة أتخلص منك بها، ويحصل لي الاشتهار بالشهادة، والنفس عدو محبوب، وسارق في الدار، فإذا كان سارقك في دارك ومن أهلك، فأمره مُشْكل، ولا يقدر عليه إلا بأمر من اللَّه
وقال نفع اللَّه به مرة، إنما قيل في النفس إنها أعدى الأعداء لكونها تنكر الشيء من غيرها وتكرهه وفيها مثله، فلو رأيت إنساناً في أمر كرهت منه أشياء، فلو قمت أنت في ذلك الأمر ظهرت منك تلك الأشياء التي كرهتها من غيرك، فيكرهها منك آخر، فالطباع سواء، والنفوس على طبع واحد في ميلها عن الصواب، ولكن يظهر الشيء ويخفى
ومرة قال نفع اللَّه به،نفسك عدو لك من أهلك، فإذا كان العدو من أهل بيتك فأمره مشكل
(١/٢٠٠)
وقال رضي اللَّه عنه، قد يكون العبد العاقل، والخادم والولد، إذا أمرته بأمر وعلم أن الصواب خلافه يجيبُك على قدر مرادك الذي أردته، ويخبر عنك خلافه، ثم بعد إذا ظهر لك وتبين أن الصواب هو ما عمله، خلاف ما أردته منه، فتحمده حينئذ، وإذا وجدت من العبيد والخدام مَن هذه صفته، فأمسك عليه
وقال رضي اللَّه عنه، يداري الإنسان نفسه، فإذا أحس منها بعض رغبة في خير، وإن قل، ويستجلب منها الزيادة، ومن تدعوه نفسه إلى معصية وهو يمنعها، فهو مجاهد، وأما الصالح فلا تدعوه نفسه إلى معصية، ولا تخطر بباله أبداً
وقال رضي اللَّه عنه، القلوب الدنسة المشغولة بالنظر إلى الخلق، والتزين لهم، وبمرائاتهم، ومحبة المنزلة عندهم، متى تطهر؟، لو جئت بوعاء وسخ لرجل تريد منه سمناً أو عسلاً أو نحو ذلك، قال لك، رح اغسله أولاً، هذا في أمور الدنيا، فكيف توضع الأسرار في القلوب الوسخة، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، تعلق القلوب بمهماتها إذا صلحت، رجعت دينية
وقال رضي اللَّه عنه، الأمور الإلهية كلها ترفعك، وعليك بقراءة القرآن، وإن عجزت عنه لا تعجز عن الذكر، فهو يوصلك إلى حيث أردت من أمور الدين، والصعود إلى العالم العُلوي عَسِر، كما يطلع الإنسان البئر، إلا أنه فرق بين من يطلعه بحبل يُشلونه به، وبين من يطلعها بلا حبل، وهذا هو الفرق بين السالك والمجذوب
وقال رضي اللَّه عنه، إنما لم تظهر كرامات الأولياء في هذا الزمان، لأنهم ما هم شيء، فلا يستاهلون ظهورها، ولهذا أنكروها، كيف وقد قال رجل في حضرة السقاف، وقد قريء عنده "روض الرياحين"، واتريماه ما فيها من هؤلاء واحد، وأهل الروض قد خالفوا نفوسهم من قبل، حتى ارتاضت، فلما كان بَعْدُ لم يحتاجوا إلى رياضتها، لأن رياضتها ومخالفتها عَسِرة جداً، لو احتاجوا إليها حينئذ لقطعتهم عن أمرهم
(١/٢٠١)
وقال رضي اللَّه عنه، وظيفتنا الذكر، ونحن به مشغولون عن غيره، أو قال مستغرقين به عن غيره، وإنما نقرأ مع الجماعة لنيل فضيلة القرآن، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي ينبغي، فإن من تجرد لشيء اشتغل به عن غيره، وهو الذي دعا أهل "الروض" إلى التجرد عن أهلهم وأولادهم، لما تجردوا للَّه اشتغلوا به عن من سواه، وينبغي لكل أحد أن يأخذ وظيفة في الخير يستغرق بها وقته، ثم يأخذ من كل وظيفةٍ غيرِها طرفاً أو كما قال
مفاضلة الأولياء
وسألت سيدنا رضي اللَّه عنه عن أولياء كل زمان، هل يفضل أحد منهم أحداً بسبب تقدم زمانه،قال، نعم يكون الزمن المتقدم متوفرة فيه الخيرات ودواعيها، فينال فيها أكثر من المتأخر
وقلت له نفع اللَّه به، هل الأقطاب كذلك، يفضل المتقدم المتأخر، فقال، المرتبة معروفة، مرتبة القطبية، فكل من هو فيها فهو قطب، وإنما يتفاضلون بسبب فضيلة أخرى، تكون في الفاضل، ولا تكون في المفضول، فَضَلَه بسببها، كمن يكون عالماً بالظاهر والباطن، وانتفع الناس به، أو يتعدى منه نفع إلى الناس، ولم يكن ذلك في الآخَر، فيفضل بهذه المزايا الأُخَرِ، لأن النفع المتعدي أفضل من اللازم هذا في القطب الواحد، الذي هو الغوث، ولا يكون إلا واحداً، وأما في غيره فكل من فاق غيره في فنه، فهو قطب ذلك الفن، كما يقال، الإمامُ الغزالي قطب العلوم، والشيخ سهل بن عبداللَّه قطب الأحوال، ونحو ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، كل من الصالحين إنما يستعظم ما وهبه اللَّه، ولا يرى ما وُهِبَ لغيره، وإن كان الكل حقاً، ولهذا قال بعض الصالحين في ابن الفارض وأمثاله، إنهم ملأوا الدنيا زعاريط بلا شيء، لأن لكل من الروح والنفس تَيَهان، إلا أن تيهان الروح بحق، وتيهان النفس بباطل، كما فعل فرعون
(١/٢٠٢)
أقول، كل تائية ابن الفارض الكبرى مشحونة بأحوال الحقيقة التي يصعب إدراك معناها، وكان سيدنا نفع اللَّه به، لا يقرؤها في الملاء مع كثرة ما يقرأ عليه الديوان كله من أوله إلى آخره، كلما فرغ منه أمر بإعادته، وذلك عشية كل يوم ثلاثاء، ويأمر القارئ بتجاوز التائية الكبرى
ما قال فيمن ينتسب لابن علوان والرفاعي
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً يدّعون أنهم فقراء للشيخ أحمد بن علوان، وآخرين أنهم فقراء للشيخ أحمد الرفاعي، يقال لهم الرفاعية، يتعاطَون أموراً، فقال، إنهم دَفّاعية، لا رفاعية، والشيخ أحمد الرفاعي مناقبه عندنا، ليس فيها هذه الأفعال، وإنما هي بدعة، وإذا رأيت بدعة فتَقَرَّب إلى اللَّه بمخالفتها، وكان غاية ونهاية في التواضع، وما سمعنا عن أحد في التواضع ما سمعنا عنه، والتواضع هو التقلل من كل شئ من ملبس ومسكن ومركب وكلام ونوم، وجميع ما يحتاج إليه يقتصر منه على الحاجة إلى القلة
ما قال في التواضع
وقال رضي اللَّه عنه، الانطراح مع التواضع يحمد، إذا خلى من الذلة والطمع، وأما معهما فقد يفعل أشد من ذلك ولا يُحمد للمؤمن، ومن تكبر ترى الناس يشمتون به، ويبغضونه ويفرحون بمصيبته، ويقولون يستاهل لذلك، وما وقع عليه إلا بشؤم كبره، والمتواضع يرحمونه ويرثون له، وإذا نزل به مكروه توجعوا عليه ودعوا له، فكم فرق بينهما
قصة صاحب الشجرة
(١/٢٠٣)
وقال رضي اللَّه عنه، من تعلقت همته باللَّه، حصل له مطلوبه، ووقع في بحر ما له طرف، وإن علت همته، وضعف بدنه حصل له بها ما لا يقدر عليه بدنه، وتعجز عنه قوته، وذكر عند ذلك قصة صاحب الشجرة الذي أرسله ملك العرب إلى ملك الصين، ليسأله ما سبب طول بقائكم في الدنيا وتمتعكم بالملك وأنتم كفار، ونحن مسلمون لا يحصل لنا ذلك، فجاء به إلى شجرة قوية راسخة، وقال، لا أجيبك حتى تسقط هذه الشجرة، فاستبطأ الجواب، وأراد الرجوع بسرعة، وتعلقت همته بسقوط الشجرة، لما توقف جوابه على سقوطها، فبقي أياماً يتردد إليها ويتمنى سقوطها، حتى إنها سقطت، فقال له، هي جوابكم، فسار إلى مرسله فأخبره بأمر الشجرة فأطرق مفكراً، ثم قال، قاتله اللَّه، ما أحذقه، فقال له رسوله، ما معنى ذلك، قال، معناه يقول إنك رجل واحد، تعلقت همتك بسقوط هذه الشجرة القوية، حتى سقطت، وأنتم تتعلق بكم همم الناس كثير، تظلمونهم، كيف يطول بكم البقاء والتمتع بالملك، هذا لا يكون، أو كما قال
ما قال في العقيدة
وقال رضي اللَّه عنه، إذا كنت ماسك الحبل بيدك فَسَيَّبْت فاللوم عليك لا على الحبل، فمن سَيَّب سُيِّب، فإن الأولياء والصالحين يعتنون بك، بقدر اعتنائك بهم، حتى إن رجلاً قال لأبي عيسى المرسي، خاطرك معي، فقال له، خاطرك أنت معي، لأن أهل مراتب الولاية لهم نواب، يقومون في مراتبهم عنهم من حيث يشعرون، ومن حيث لا يشعرون، ولا ينتفع إلا صاحب القلب القوي المنور، وذو القلب الضعيف والقلب المظلم، لا ينتفع
ثم ذكر نفع اللَّه به قصصاً من كرامات الأولياء، ثم قال، من قال لك إن عاد في هذا الزمان شئ من الكرامات، إلا إن كان من نور النبوة، فقد وَهِم أو كما قال
(١/٢٠٤)
وذكر لي رجل من أهل الشحر عن جماعة من أهل الحَسَاء، جاءوا من البصرة، أنهم أصابهم في غبة فارس طوفان عظيم، كاد البحر أن يبتلعهم بمراكبهم، وهي ثلاثة مراكب، وأنهم استغاثوا بسيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به، ففي الحال طَفَرت سمكة من عند سكان المركب الذين استغاثوا ومرت كأنها سهم في وسط المركب، بين الحبال من جَانب الدَّقل، حتى وقعت في البحر من عند صدر المركب، فعند ذلك في الحال انقطع عنهم الطوفان، وسلموا بفضل اللَّه، فأخبرت سيدنا بهذه القصة فقال رضي اللَّه عنه، المراتب لها خدام، ولم يزد على هذه الكلمة
وقال رضي اللَّه عنه، الأمور الخارقة للعادة، ما هي بعيدة في كرم اللَّه وقدرته لمن أكرمه، ولا هي بعيدة من أفعال الشياطين، والعمدة على الاستقامة، وإن ذُكِر عن أحد الطيرانُ في الهواء، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب في لحظة، ولا يفعلها من صح له قدم في الولاية إلا لضرورة، كتقوية مريد، كيف يفعلون ما فيه هوى النفوس، وهم يجتهدون في قطع هوى نفوسهم
ما قال فيمن له في العمل وجهان
وقال رضي اللَّه عنه، إذا رأيت إنساناً يعمل عملاً له وجهان، وجه يدل على الخير، ووجه يدل على الشر، فسلم الأمر، وأحسن الظن، وإن كان إنما له وجه واحد يدل على الشر، فما لحسن الظن وجه إلا أن تظن أنه لا يصر عليه، بل يتوب عنه ويستغفر منه، وَأْمُرْ، وَأنْهَ على حسب ما بلغك، ولا تَتَقَصَّ عن بواطن أحوال الناس، وإذا تبين لك بطلانه فانْهَ، وتَرْكُه للحياء أو إنهم حبايبنا ما نقول فيهم إلا خيراً، ليس هذا بِدِين، وهو معنى لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، وخذ من الطاعات ما هو ظاهر من غير خلاف، وأنه طاعة، واجتنب من المناهي ما هو ظاهر، مع الاحتياط بما تقدر عليه في الأمرين، فبذلك تدرك درجة أصحاب اليمين، إن لم تقدر أن تكون من السابقين
(١/٢٠٥)
ثم أَكْثَرَ نفع اللَّه به من ذكر اختلاف الأزمان، واختلاف الآمرين والناهين فيها، فذكر، إن رجلاً دخل على سفيان الثوري، فرآه يبكي والدم يخرج من حلقه، فقال له في ذلك، فقال، انفتحت في الدنيا قناة، فأردت أن أسدها، فانفتحت منه أبحر، هذا وهو في القرن الثاني، وهو قريب العهد برسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم والصحابة
ما ذكره عن السيد عبدالرحمن بن محمد الجفري صاحب (تريس)
وذكر رضي اللَّه عنه مَنْ أَمَرَ ونهى في القرون الماضية، حتى وصل إلى ذكر القرن العاشر، فذكر عن الشيخ عبدالرحمن بن محمد الجفري، صاحب تريس، فقال، إنه كان قد طلب العلم، وعمل وسَلَّك، ولقي المشايخ، وكان إذا أمر ونهى لا يبالي بمن يأمره أو ينهاه كائناً من كان، وإنه رأى رجلاً في المسجد يقرأ القرآن، وهو لا يحسن القراءة، فبعد الصلاة سأل عنه، فقال له رجل من أصحاب الدولة، إنه ألثغ وهذا مقدوره، فقال له، وأنت يوم تصلي ولا تطمئن، يا فاعل، يا تارك، وبقي يصيح عليه، حتى انهزموا من المسجد، وكان يكتب لبعض سلاطين الجهة، إلى فُلَيِّن مردم جهنم، وأما زماننا هذا فما بقي للدين فيه ذكر، ولا معول، ولا نسبة بينه وبين ما قبله من الزمان، أو كما قال مما ذكره في مجلس القراءة عشية يوم الاثنين حادي عشر شعبان سنة ١١٢٤
ما قال فيما هو في وقت السلف
وقال رضي اللَّه عنه، ما مضى عليه السلف، من قبل الشيخ عبداللَّه العيدروس، إلى وقته، ما يسعنا إلا تقليدهم والإتباع لما مضوا عليه، وما كان من زمنه إلى وقتنا هذا فلا نتبع إلا ما مَرُّوا عليه، ومن ابتدع شيئاً فعلى مبتدعه
وقد استأذنه رضي اللَّه عنه المعلم باغريب بأن يجعل في الغَبْرة جابية كبيرة، تجمع ماءها ليكون قلتين فأكثر فأبى عليه، وقال، شيء مضى عليه السلف الصالحون لا نغيره، فاتبعوهم فلستم بأعرف ولا أورع ولا أتقى منهم
(١/٢٠٦)
وسمعته نفع اللَّه به مرة يقول، قال لنا السيد أبو بكر بافقيه، إن هذه التكابير لا تنبغي، لأن فيها هتكاً للمروءة، فقلنا له، لا تخوضوا لنا في الأمور التي مرت على السلف والأكابر، والذي لا يحسن النظر في الجليات، لا ينبغي له أن يخوض في الخفيات، ثم ذكر قصة الذي قال للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، علمني من دقائق العلوم، الخ والسِّماية قد مرّت على أكابر أيضاً، يقولون، إن السِّماية تهتك المروءة، فلا فرق بينهما
وقال رضي اللَّه عنه، وقد قالت بنت أخي السيد عمر بن أحمد المنفر، يا عم ترى شيابة يرقصون، وسمى أي سيدنا أحداً منهم، فقال لها، عمك ما عاد يقدر، وإلا كان قام معهم، ومثل هذا هو اللَّهو واللعب الذي كانوا يتنفسون به عند الملل والضجر
وذكر رضي اللَّه عنه زيارة النبي هود على نبينا وعليه السلام، فقال، كل من روَّح ما له زيارة، لأنه خالف ترتيب السادة وما درجوا عليه، فكأنه مراغم لهم، وما جَعَل الشيخ أبو بكر بن سالم الحضرة إلا ليجتمع الناس ساعة، ويذكرون اللَّه، ويدعونه، ويقرأون مولداً لحصول البركة بالاجتماع، ومن سَرَح بعدما حضر الحضرة فله نصف زيارة، ومن نفر فله زيارة تامة، فربما شيء من الأمور الإلهية، مرتب على ما رتبه السادة
وذكر رضي اللَّه عنه شيئاً من فتوح العارفين، فقال، ومن دخل الأربعينية، قد يرى لدوران الأفلاك وحركاتها لذة عظيمة، فربما رأى شيئاً يفزعه، ومثل هذه الأشياء لا ينبغي تطلبها، لأن في طلب تحصيلها خطراً، بل الأحسن أن يتركها، وهي تأتي من حيث هي تكون، وقد أدركنا الناس متعلقين بهذه الأشياء، فيقولون، فلان دخل الأربعينية، وفلان خرج منها، وفلان حصل له كذا، وأما اليوم فصار الناس في عالَم آخر، إنما يقولون، فلان سافر إلى كذا، وفلان جاء من المكان الفلاني
(١/٢٠٧)
وذكر رضي اللَّه عنه ذات ليلة الناس وقلة حصول الغيث لهم، مع كثرة دعائهم بذلك، فقال، إنما منعوا الإجابة لكثرة ذنوبهم، والأمر لا يتم إلا بالأمور الخَلْقية، والأمور الحقية جميعاً، وإذا حصلت التي من الخلق، حصلت التي من الحق، وأمور الخلق أجسام، وأمور الحق أرواح، فهل تستقيم أجساد بلا أرواح، ولما كان ذلك كذلك احتاج الخلق إلى الأكل والشرب، ولم تحتج إلى ذلك الملائكة، ثم قال نفع اللَّه به، ومن عظيم لطف اللَّه أن جعل الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، وجعل كاتب الحسنات وكيلاً على الذين يكتبون السيئات، وهذا من سر كون رحمته تعالى سبقت غضبه
وذكر، إن سليمان عليه السلام أرسل بعض الشياطين إلى موضع، وأمر آخر بأن يتبعه ويُعْلمه بما يقول، فمضى معه ولم يسمعه يتكلم، إلى أن مر بسوق، وفيها كثرة من الناس، ملتهين ببيعهم وشرائهم، فوقف ورفع رأسه، وقال، سبحان اللَّه، ووضعه وقال، سبحان اللَّه، فأخبر سليمان بذلك فسأله عن ذلك، فقال تعجبت من هؤلاء الفوقيين، وسرعة ما يكتبون، ومن هؤلاء التحتيين، وسرعة ما يُملون، وقد مرت هذه الحكاية في أول المجموع، فانظر حال سليمان عليه السلام، وما أعطي من الوحي والنبوة، ما علم الحال من هذا، حتى سأله عنه، ليُعْلَم أن علم الغيب مختص باللَّه تعالى، ومن ادعى أنه يعلم الغيب، يكذبه اللَّه تعالى لأنه ادعى شيئاً لم يَدَّعِه الأنبياء، وكذلك موسى عليه السلام، عندما يكلمه اللَّه، إنما يمضي إلى طور سيناء فيغشّيه عند ذلك بالسكينة، فيعلم خطاب اللَّه، إلا أن كلام اللَّه له على قدره، وليس خطاب الكليم، كخطاب الحبيب عليه الصلاة والسلام، فإن اللَّه كلم موسى عليه السلام في الأرض من الشجرة، وكلم نبينا محمداً صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في السماء بين قاب قوسين أو أدنى، فانظر الفرق بينهما
(١/٢٠٨)
وقال رضي اللَّه عنه، صاحب العادة لابد فيه شيء من الحقيقة، إلا إنه ضعيف، والعادة فيه أقوى، وصاحب الحقيقة لا بد أن تكون فيه عادة، إلا إنها ضعيفة، والحقيقة فيه أقوى، وكلما قويت الحقيقة ضعفت العادة، حتى ربما يُتوهم فقدها، ولا يمكن أن تفقد بالكلية، وإنما تضعف، فكلما قويت إحداهما ضعفت الأخرى، والإضافة إلى أحدهما بحسب الأغلب والأقوى، لأن من أكثر من شيء عرف به، ومن عُرِف بشيء نسب إليه
وحضر بين يديه رضي اللَّه عنه ذات ليلة رجل، فبكى وكأنه متشمم لشيء، فقال له، البكا إنما هو للنساء، والرجال إنما تبكي قلوبهم، والأحوال لا تحصل بالبكاء، إنما تحصل بالمجاهدة
ثم قال نفع اللَّه به مخاطباً لجملة الحاضرين، لابد للأولياء من أحد خصلتين، فمنهم من يحفر على كنز، ومنهم من يتعلق روحه بالعرش، لابد من أحد هذين، ومن الأولياء من لا يحمل حالَه إلا أربعون رجلاً، ومنهم من يقسم حاله على ستين، ثم قال لذلك الرجل، ابق على حالك، وهو يأتيك نصيبك من الكتاب
وقال رضي اللَّه عنه، الشيخ أبو يُعَزَّى المغربي، والشيخ أحمد البدوي في المقام الموسوي، عليهما هيبة وجلالة، حتى إن الشيخ أبا مدين لما أتى إلى أبي يعزى ليأخذ منه الطريق بمجرد رؤيته له غشي بصره، وهذا معنى كون الولي في مقام النبي، فيكون مشابهاً له في الدرجة الأولى، وإلا فلا يقام الأولياء في مقام الأنبياء، وأكملهم من يقام في المقام المحمدي، ويكون كرامة كل ولي مثل معجزة ذلك النبي، وأعظم معجزة لنبينا صلَّى الله عليه و آله وسلَّم القرآن فمن كان في مقامه، فيكون قائماً على حكم الكتاب أو كما قال
(١/٢٠٩)
وقد ذكر الشيخ عبدالقادر باعشن، لسيدنا نفع اللَّه به رؤيا رآها وهي، إنه رأى أنه زار بعض الفضلاء، فرآه متغشياً بغشاء، وإنه كلمه أولاً ثم رفع غشاه، فَغَشَاه عند ذلك نور عظيم، حتى لا يكاد يطيق فتح عينيه، فانتبه وفي قلبه حلاوة لقائه، فقال سيدنا في جوابه، والرجل هذا يكون في المقام الموسوي، لأن النور الظاهر كان يغلب على موسى عليه الصلاة والسلام، حتى إنه بعد رجوعه من المناجاة يتبرقع من شدة نوره، وقد أقيم في هذا المقام السيد الشريف، أحمد البدوي شيخ مصر
وقال رضي اللَّه عنه، ما تُعرف الرجال إلا بالرجال، حتى قال باهارون، لو سمعت كرامات الأولياء ما صدقت بها، حتى رأيت كرامات خالي، دحيِّم باهارون فعرفت كراماته فصدقت بها من سائر الأولياء وكان الشيخ أحمد باجحدب يقول، إن دحيم باهارون في مقام الجنيد
وقال رضي اللَّه عنه، الناس يجعلون الصالحين حجة لهم على أنفسهم، وأهل الزمان يجعلون الصالحين حجة لأنفسهم للذب عن دنياهم فيطلبوا منهم أن يذبوا لهم عنها
وقال له رضي اللَّه عنه بعض السادة، إن كل ما نقل عنكم من مصنف أو كلام، نقل على وجهه، من غير اختلاف في ذلك، فقال، لأن صاحب الزمان ينطقه اللَّه بما يوافق أهل زمانه، ويباشرونه ويرونه، ويأخذون عنه مشافهة، لا كمن يُنْقَل عنه ويُرْوَى، وقد مضى أقوام من المشايخ أكبر وأقدم منا، ما انتفع بهم إلا القليل، ومن أقاربهم أيضاً فضلاً عن غيرهم، حتى إن الشيخ عبداللَّه العيدروس مع مناداته على نفسه، ما اشتهر ممن أخذ عنه إلا السيد عمر صاحب الحمرا وكذلك الشيخ أبو بكر بن سالم، مع أنه متأخر
ما قال في كثرة من انتفع به
(١/٢١٠)
وسمعت سيدنا نفع اللَّه به غير مرة يقول، الذين انتفعوا بنا أكثر من الذين انتفعوا بالشيخ عبداللَّه العيدروس، فقيل، ولا أولادهم؟، فقال، ما عليك، أما في الأولاد، فيتبعون لا عذر لهم، ولو في غير الحق، لأجل القرابة، ألا ترى إلى بني هاشم وبني المطلب، كيف حبسوا أنفسهم مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الشعب، ولو حارب أحداً قاموا معه، وهم مع ذلك على الكفر كل ذلك بسبب القرابة، فاتباع الأولاد ونحوهم ما يستكثر، فما الذي منع أن لا يكونوا نحو العشرين من آل باعلوي أخذوا عن الشيخ عبداللَّه أقل الحال
ومرة ذكر مثل هذا ثم قال، ولو جلس مثلاً رجل من غير الأشراف للتدريس من آل بافضل أوغيرهم، لما استنكف الأشراف من الحضور عنده
ما قال في باجابر
قلت، فَلِمَ كثر اللابسون والآخذون من باجابر لما دخل تريم، في مدة ثلاثة أيام، فأخذوا عنه ما لم يأخذوا من الأشراف فقال نفع اللَّه به، لأنه دخل بإشارة شيخ البلاد، وبالضمانة، يعني الشيخ أحمد بن علوي باجحدب، وقوله بالضمانة، إنه ضمن له اثنان من السادة، أحدهما من أهل الظاهر، السيد محمد بن حسن بن الشيخ علي بن أبي بكر، والآخر من أهل الباطن، السيد أحمد بن الحسين بن الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر العيدروس، وإنه لا يمكث أكثر من ثلاثة أيام، لا يزيد عليها، وأمره أن يبقى في مسجد بروم المدة المشروطة، ثم عند تمامها خرج مسرعاً إلى بلده عَنْدل
(١/٢١١)
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان إنما هم على التشبه والرسوم، ومن تشبه ولا معه شيء من الدعاوي الكاذبة فهو على خير، وإلا الأشياء التي تذكر عن الأولين قد طويت، إلا إن كان في الزمان خبايا، وللَّه تعالى أخلاف، ما زال الدين قائماً والبيت قائماً لا بد منهم، ولو أنهم حتى في القفار، ما ترى هنا، القرآن يرفع، والدين يرفع، فهذه مع البقايا وإن اختفوا، وما المؤمنون إلا سابق ومسبوق، والمؤمنون على خير، مَن لقيَ اللَّه مؤمناً دخل الجنة، أو عليه شيء من الذنوب أدخله اللَّه النار بقدر ذنوبه ليطهره، والناس بالنسبة إلى اللَّه أهل تقصير كثير، وإن فعلوا ما فعلوا، فإذا كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يعترف فكيف بغيره، وأنت أعبد اللَّه بقدر ما عندك من العلم والنور، واترك الاغترار والتعلق بصالحين قد مضوا كما يفعله كثيرون، فالذين اعتمدوا عليهم، لأي شيء لم يتركوا العمل، وفي مجلس آخر قال، كأنهم يظنون بأنفسهم أنهم خير منهم، فإنهم لم يبلغوا ما بلغوا إلا بالعمل، وهؤلاء يريدون أن يبلغوا بلا عمل
وقال رضي اللَّه عنه يخاطب رجلاً من الحاضرين، والإنسان يَنْهى ولا ينأى، بل إذا نَهَيْتَ وهناك خيرٌ إلزمه إلا من يَرُدُّ الدين أو يعترض على أهل الدين فلا تخض فيه بل اتركه، فإنه كالذي يريد أن يرمح، ومن الناس من لا يمكنك أن تجذبه إلى الخير إلا بترغيب في الرياسة، بأن تقول له، أنت فلان، ومن رآك تفعل هذا سقطت من عينه، أو إن لم تفعل كذا استحقرك الناس، قال ذلك الرجل، لا تروا علينا، فإن السكوت عن هذا أقرب إلى الأدب، قال، لا بأس بذلك فإنك تحيي المذاكرة وأنت كالصائد، ونحن ما نحابي، إذا كان المجلس وقت فسحة ويحسن ذلك تكلمنا، وإلا قلنا له، اترك الكلام إلى وقت آخر
(١/٢١٢)
وقال رضي اللَّه عنه، الزمان زمان نكد وتشويش، لا تكاد تسمع إلا ما يسوء، وقد كانوا إذا أخبروا بشيء تتقدمه أشياء ومقدمات تسهل ذلك، وأما اليوم فيجيك الأمر، وكان الصالحون في أحوالهم كلامُهم إلا في الآخرة، تشوفهم يتعاطون أموراً ما تدخل تحت طاقة البشر، وانطووا في معرفة القضاء والقدر، وهؤلاء لا يعرفون القضا والقدر، ولكنهم لا يصبرون كصبرهم، طبعُ البشرية
وقال رضي اللَّه عنه، ما الإنسان إلا ضايق من الدنيا، فإنه لا يرى ولا يسمع إلا ما يكره، ولو كنت في صفا وطاعة، شوشوها عليك، وهذا زمان صبر، القوي فيه ضعيف، ولا مساعد هناك
ما قال في الصغار وتربيتهم
وذكر رضي اللَّه عنه الصغار يوماً فقال، اللَّه الحافظ، ولكنك مؤاخذ بالاستطاعة، وعندنا يقولون، الصغير إلى سبع سنين هو في رقبة أمه، وقد سقط صغار من سطوح عالية، ولا يضرهم شيء بلطف اللَّه، والفصل في هذا أن تكلف ما كُلِّفْتَ على قدر وسع الدائرة، وما دخل تحت الأقدار فذاك بحر واسع لا تدخله، فلا مدخل لك فيه
وقد قال سيدنا علي، القَدَر بحر واسع فلا تلجه
وقد سأل رجل بعضهم عن القَدَر، فقال للسائل، هل خلقك لِمَا أراد أو لما أردت ؟، فقال، لِمَا أراد، قال، فيستعملك أيضاً فيما أراد، لا فيما أردت، ولا يحصل للداخل فيه إلا الاحتجاج للنفس على الرب
وأُخبِر رضي اللَّه عنه بصبي صغير أنه يريد الحج في تلك السنة، فقال له نفع اللَّه به، لا تحج هذا العام، وصحح أولاً أركان دينك التي هي عليك أَلْزَمُ من الحج، فصحح صلاتك وزكاتك وصومك، فإذا صححت هذه كما ينبغي، فأتمها بالحج، لأن الحج إنما هو تكميل للأركان، قال اللَّه تعالى للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه، بعد ما تمت حجتهم ،{ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم } فمن لا يصحح الأركان الأُوَل، ولم يأت بها على الوجه الأكمل، فما يصنع بإتمامها قبل إحكامها
(١/٢١٣)
وقال رضي اللَّه عنه لرجل شكا إليه، لا تَدْعُ على من ظلمك، فإنك إذا دعوت عليه انتصرت لنفسك، وإلا عاد دعاؤك عليك، ولكنك ادع له بالصلاح والهداية للصواب، وأن يؤمنهم في أوطانهم، ليعود دعاؤك لك
وذكر رضي اللَّه عنه أحوال أهل الزمان في وضوئهم وصلاتهم، فقال، لو أمسكت برأس الرجل في صلاته حتى يطمئن في الركوع والسجود القَدْر الذي لا بد له منه، ما صلى الصلاة الثانية إلا باطلة، فيأتي بها باطلة عمداً، وسبب ذلك عدم الرغبة، وإذا لم تكن رغبة ولا لذة، كيف يأتي بها كما ينبغي، فينبغي ويحتاج أن يُعَلَّم فضيلة الصلاة والوضوء، ليرغب في ذلك، فيحصل له في فعل ذلك رغبة، وكانوا يأتون بذلك، وقلوبهم مفتوحة راغبة في الخير، ويربون صغارهم على ذلك، يعلمونهم إياه، وأما هؤلاء، فلا يعلمون صغارهم إلا الرغبة في الدنيا ومحبتها، والصغير إذا فسد باطنه، بأن تأمل أحوال الدنيا أو النساء أو نحو ذلك، فلا، كالدمل إنما ينتظر افتقاشه فلا ينبغي أن يكون في المجالس التي لا تنبغي من أسواق، أو مجالسة المبطلين، ويعود ثمر هذا شوكاً، وإنما ينبغي أن يكون ملازماً لمجالس الخير كالمساجد وأماكن القراءات ومجالس الصالحين
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، اللَّه للَّه في الهمة والصبر، فإذا لم تج الدنيا إلا بالصبر، فالآخرة أولى
وقال لآخر، عليك بالصدق، واتباع الشريعة، والشريعة كالبحر من طبعها الإغراق كالبحر، فينبغي للإنسان أن يتطرف وإلا خُشِيَ عليه الغرق
ما قال في الخمول
(١/٢١٤)
وقال رضي اللَّه عنه، كانوا يحبون الخمول والخفا، مع وجود الشيء، وهؤلاء يحبون الظهور والشهرة بلا شيء، لكن بماذا يظهر، أبحب الدنيا والتنافس عليها، وكان سادتنا آل أبي علوي ما طريقهم إلا الخمول، حتى إن الفقيه المقدم كان يحمل السمك من السوق، فيمر به على المجالس، فإذا تعدَّى عليهم أعطاه أول من يلقاه من الفقراء، وأول من سمي منهم شيخاً الشيخ عبداللَّه بن علوي، وكان يغضب إذا قيل له يا شيخ، ويقول للقايل الشيخ أبوك، وكان شيخاً في الحقيقة، شيخاً في العلم والنسب والسن
وقال رضي اللَّه عنه، كل الأشياء بَغَت ميزان، ولهذا كثر ذكر الميزان في القرآن
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً سافروا، فقال، فرحتهم عند سفرهم كفرحتهم عند مجيئهم، لأن أمور الدنيا كلها موزونة، ولهذا كثر ذكر الميزان في القرآن، وهو معرفة مقادير الأشياء، بأن تقابل الخير بالشر، أو بالخير، لتعرف قدره
(١/٢١٥)
وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة الخميس في ١١ ربيع أول سنة ١١٢٥، فذكر أقواماً دخلوا في الطريق، منهم من هو من أول عمره، وحصل له التجرد التام فنفذ، ومنهم من هو في آخر عمره، ولم يحصل له هذا التجرد، فلم يحصل له منها كالذي قبله، وقد قال الإمام الغزالي بعد كمال جده واجتهاده وبعد ما ساح، لم يحصل لي منها مثل ما حصل لمن لم يتعلق بالعلوم الظاهرة، لأن شرطه أن ينساها، ويتجرد القلب عنها، ولهذا إن الإمام الرازي لما كان ممعناً فيها لم يبلغ الأقصى من هذا الأمر، ولعدم التجرد الكلي من الدنيا لأنه كان صاحب ثروة ثم قال نفع اللَّه به، لا أحسن للإنسان في هذا الزمان إذا أراد سلوكها من تصحيح أصول التوحيد، وفعل الواجبات وترك المحرمات، والإتيان من السنن على مقتضى الكتاب والسنة، من غير أن يتعداهما، فإذا أثمرت له هذه الأشياء حصل له خير كثير، وأما أمور المكاشفات فلا تنبغي في هذا الوقت، ولو ظهرت فيه على أحد تأسف عليها، وتمنى أنها لم تكن ظهرت له، لأنك لو كشف لك عن أحد مثلاً، أنه يبغضك ويشتمك، كيف تفعل معه هل تقوم تضربه، لا، بل الستر أحسن، فقد كان بعض الصالحين، ارتاض كثيراً فرأى جماعة واردين على ماء، فرأى بعضهم على صورة كلب، وبعضهم على صورة خنزير، وغير ذلك، فأظهرهم اللَّه له على صورهم المعنوية، فسأل اللَّه أن يستر ذلك عنه، ومن لا يمكنه إذا أشرت إليه بكلمة سر أن يكتمها بل يضيق صدره منها ويفشيها، لا تظهر عليه هذه الأشياء، لأن سَتْرها واجب، وشرط من أُهِّل لها أن يسترها
قلت، فإن كان في نحو طعام، إنه حرام أو شبهة ليتركه كان في هذا فائدة، فقال، لستَ بمكلف بما لا تعلم، فإذا كان كله حرام، هل تجلس بلا أكل، وفي هذا توسعة من اللَّه تعالى
(١/٢١٦)
وقال رضي اللَّه عنه، مثل الإنسان في الدنيا، كمثل رجل في بيت يُحْذَف بالحجارة فيُخاف عليه كل حين أن يُرضخ رأسه، فسبحان اللَّه كيف يقر الإنسان وهو كل حين يشيع ميتاً، وكل الناس مجمعون على أن الدنيا فانية، وكل الملل مجمعة على ذمها، وكل الأمم التي بعثت إليها الملل مجمعون على محبتها، ولعل ثلث القرآن جاء في ذمها، وأبلغ آية في التزهيد فيها، قوله تعالى، { وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } إلى قوله ،{ لِلمُتَّقِينَ}
حكاية الطبيب
(١/٢١٧)
ثم ذكر حكاية، إن رجلاً من أهل المشرق أصابته علة شديدة، فطلب طبيباً ماهراً، فدُلَّ على طبيب نصراني في جهة المغرب، وإنه لا يمكنه أن يداويه إلا هو، فمضى إليه، وإذا به يعني الطبيب علة شديدة، ولم يداو نفسه منها، فقال، لو هذا طبيب لداوى نفسه، وأراد أن يرجع، ثم قال، لما إني عنيت له أَنظُر ماذا عنده، فذكر له علته، فقال، لا أداويك إلا بنصف مالك، وكان ذا مال كثير سار به معه، فأبى أولاً ثم رضي لما لم يجد بداً من ذلك، ولم يسأله الطبيب حينئذ عن اسمه، فداواه وصح لكن بقي أثر من تحشيف، فقال، هات المال، فقال، هذا ما طاب فقال، ليس هذا علي إنما داويتك بقدر ما أعطيتني، فإن أردت أن أداوي هذا، فأعطني نصف ما بقي من مالك، وهو الربع فأعطاه وداواه، وصح، وأراد الانصراف فسأله الطبيب حينئذ عن اسمه، ومن هو وما دينه فأعلمه، وقال، ديني الإسلام، فقال، من أعلمكم به، فقال، بعث اللَّه إلينا نبياً صفته كذا، وعلمنا الدين والإسلام، فقال، ما أخبركم نبيكم إنك ستموت، فقال، بلى أخبرنا إن كلاًّ ميتٌ، وإن الدنيا فانية، وإن الآخرة باقية، وهي خير وأبقى، وكان هذا الطبيب عاقلاً، فقال له، أنت مع إيمانك وتصديقك بما أخبركم به نبيكم، تحب الدنيا وتحب طول البقاء فيها، وتحب المال، حتى أتيتني من مسافة بعيدة تطلب صحة بدنك، وبذلت فيها مالك، وأراك حريصاً،
وهو مع كفره لما جربت الدنيا، وعرفت أنها زائلة زهدت فيها، فهذا بدني عليل ماداويته، وهذا مالك الذي أعطيتني خذه مني، فلا أريده، وسر عافاك اللَّه، إنما أردت أن أختبرك
ثم قال سيدنا نفع اللَّه به، والدنيا فانية بكل حال، إمَّا وَلَّت عنك، وإمَّا وَلَّيتَ عنها، وكثيراً ما سمعته نفع اللَّه به يقول، من عرف الدنيا زهد فيها، ولو كان ما يؤمن بيوم الحساب
(١/٢١٨)
وقال رضي اللَّه عنه، محبة الدنيا كلها سوء إن كان ذلك من مسلم أو من كافر، وإن اختلفت المزية، فالكل مذموم، وهم سواء في الذم، لأنهم اشتركوا في محبة العاجل وهو مذموم في جميع الشرائع
وقال رضي اللَّه عنه لرجل من أهل بلدة شبام حين استودع منه، الحذر تغبط أهل الدنيا، وتُوَدِّي أن تكون مثلهم، فتحاسب في الآخرة حساب الأغنياء وأنت ما معك شيء، وأُنشِدَ في لسان حال المولود في صياحه حين يوضع ،
لما تؤذن الدنيا به من همومها يكون بكاء الطفل ساعة يوضع
وإلا فما يبكيه منها وإنها لأهون مما كان فيه وأوسع
ما قال في الذي يضيق من القراءة
وقال رضي اللَّه عنه، إن أهل الزمان في قلوبهم شياطين، ولهذا يضيقون من قراءة القرآن، والجلوس في المساجد، ولولا ذلك ما ضاقوا، ألا ترى إلى المصروع الذي دخله الشيطان، أو قال الذي فيه الجني، إذا قرأت عليه القرآن كيف يصيح
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان ليس في أجسامهم قلوب ولا أرواح، إنما فيها نفوس شيطانية، ويعرف هذا بحركاتهم الظاهرة، لأن الأمور الغيبية لا تعرف إلا بالحركات الحسية، على مقتضى ما تدعو إليه، وعلى لسانها، كما يتكلم المدخول من الجان على لسان الجني الذي فيه
ما قال في العدل بعد المائتين
وقال رضي اللَّه عنه، سُئِلَ بعض السلف عن شيء من العدل يكون بعد المائتين؟ فغضب وقال، كيف يكون ذلك، وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ((من استطاع منكم بعد المائتين أن يموت فليمت))
ثم قال سيدنا، رأينا في حديث مشهور، أنه تخرج شياطين بعد المائتين كان حبسهم سليمان عليه السلام، فيطلقون حينئذ، ويحدثون الناس بما لا يعرفون، فيأخذون بما يقولون لهم
ما قال في النفس
(١/٢١٩)
وقال رضي اللَّه عنه، لا تأمن نفسك وتطيعها، وقدك مَعَها على شفا، فتَهْلِك أنت معها، ولا يدّعي القوة عليها إلا مغرور وما معنى قولهم ظلم نفسه مع أن نفسه هي التي ظلمته، لكنه حيث يفعل الأسباب التي تقوده بها وتهيئها له
ومرة قال، لا تأمن نفسك في الأمور التي بينك و بين الخلق حتى تتحقق صدقها في الأمور التي بينك وبين اللَّه، فإنها إذا لم تصلح وتصدق فيما بينها وبين اللَّه، فلا شك في عدم صدقها فيما بينها وبين الناس
وقال رضي اللَّه عنه في وصف الرجل من أهل هذا الزمان، إنه لا صدق فيه ولا تقوى، فلا يصدِّق بوجود أحد فيه صدق وتقوى لعدم ذلك فيه، وإقدامهم على الحرام يضاهي إعراض الأولين عن الحلال، لأن الأولين أعرضوا عن الحلال احتياطاً للسلامة ولا بالوا، وهؤلاء وقعوا بالقصد في الحرام ولا بالوا، ومثلهم كالهِرار في بعض الأماكن إذا شمت ريح اللحم هاجت ولم تمتسك ما لم تأكل منه، حتى يدهنوا فمها بقليل من السمن، فتسكن عند ذلك قليلاً
وقال رضي اللَّه عنه، الإفراط في محبة الدنيا يغير العقل والدين، لأن طبعها الإسكار
(١/٢٢٠)
وقال رضي اللَّه عنه، لو مَكَّنَنَا الناس من أموالهم، أخرجنا منها ثلثها برضاهم، لأنه لا يمكن دفع ما هم فيه عنهم من الشدائد والمصائب إلا بذلك، لأنها لم تحصل عليهم إلا بسبب الأموال، يتحاسدون عليها ويتنافسون فيها، ونضعها في أرحامهم وأقاربهم، إذ الإنسان منهم يبات قريبه جائعاً وهو يقدر أن يشبعه فلا يفعل، وإذا تأملت أفعال الفقراء، رأيتها أحسن من أفعالهم، وقد كان أهل الجاهلية إذا وقعوا في شدة، جمعوا أموالاً، وقالوا دعونا نرضي ربنا، فإنه سَخِط علينا، حيث أوقع بنا ما وقع، ثم يفرقونها على المحتاجين منهم والأقربين، هذا وهم كفار، وأما هؤلاء أهل الزمان، إذا وقعوا في شيء تكالبوا على الدنيا وبخلوا، وجعلوا يقبحون الأولياء والصالحين، الأحياء منهم إن كان أحد، والأموات، وقالوا أصابنا ذلك فلم يحمونا منه
وقال رضي اللَّه عنه، سبحان اللَّه العظيم، في صلة الأرحام خاصية في نما الأعداد، وفي نما الأموال، ولو كان ذلك من كافر
وقال نفع اللَّه به، هذا آخر الزمان، والناس في دهليز القيامة، إلا أنه سبحانه، تفرد بعلمها، والناس اليوم في علاماتها
وقال رضي اللَّه عنه، مِن الناس مَن أعطاه اللَّه كمال الروح، وهو الذي عليه العمل، ومنهم من أعطاه اللَّه كمال الجسم فقط، وهذا ناقص، ومنهم من جمع اللَّه له كمال الروح والجسم، وهو النهاية والغاية وذلك لأن اللَّه أراد أن يعمر بهم مراتب الوجود، وكثّر أهل الأجسام لعمارة الدنيا بهم، ولا يتم الكمالان إلا لمن أهله اللَّه للإرشاد، وجعله داعياً إليه ولذلك لا يحصل إلا للآحاد من الناس
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الحق لا يزالون يتوارثون، أو قال يتواترون ويستترون، إلى أن يخرج المهدي، ولهم سير باطن إلى اللَّه، حتى منهم من يُرى كصفة المجانين وغيرهم بخلاف الجهال والعامة
ما قال في الأمانة
(١/٢٢١)
وقال رضي اللَّه عنه، من الخيانة في الأمانة، أن يحدث بها وصاحبها لا يرضى بذلك، ومازالت خيانة خفية فهو منافق، فإذا ظهرت كان فاجراً، فالخفاء نفاق، والظهور فجور، وعند عدم العدالة والأمانة تسقط الثقة به، وبكذبه تسقط الثقة بقوله
وقال رضي اللَّه عنه، كثير من المنكرات العادية، والمنكرات الدينية، لو قدرنا على إزالته لأزلناه، وما بقي من السُّنَّة مع ما حصل من الحوادث إلا كقدر الملح في الطعام
وقال رضي اللَّه عنه، ذكر الإمام الغزالي، إن العلم الذي هو نتيجة العمل، وميراث التقوى أفضل من هذا العلم، لأن ذاك هو الأصل، وهذا وسيلة للعمل الذي ينتجه، والعالم بهذا العلم ربما جرَّى العامة على ارتكاب النهي، إذا رأوه يعمل على خلاف علمه
وقال رضي اللَّه عنه، ذكر الإمام الغزالي رحمه اللَّه، أنه لا فضل للعلوم العملية على العمل، إلا من حيث التعدي، فإن لم يتعد، فالعمل أفضل منها، وإنما يكون الفضل لمجرد العلم فقط، إنما هو في العلم باللَّه، الذي يفيده العمل الصالح، أي الذي يحصل بسببه
وقال رضي اللَّه عنه، أصلح الصالحين، من لا يرى أنه من الصالحين
وذكر رضي اللَّه عنه أهل الغفلة، فقال، من كان منهمكاً في محبة الدنيا، إذا وضع في قبره، ومكث نحو ساعتين تَنَبَّه، وقال، هل أنا مت؟، من شدة غفلته
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه ))، الخ، إن هذه المذكورة في الحديث كلها مما يقتضي إجابة الدعاء، إذ ورد، (( أن دعاء المسافر مستجاب))، و، ((كم من أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على اللَّه لأبر قسمه ))، ولكن مع أكل الحرام لم تنفعه تلك الأشياء في حصول الإجابة، وإذا لم يُستجب دعاؤه لذلك فكذلك صلاته
(١/٢٢٢)
وقال له رضي اللَّه عنه رجل من السادة، ادعوا لنا، فقال نفع اللَّه به، أنتم ادعوا لنا فإنكم عادكم خفاف، وأما صاحب القافلة المحملة والسفينة المشحونة، فإنما يسأل الدعاء من غيره، وقد كان المشايخ المتقدمون، إذا بدت لأحدهم حاجة، سأل الدعاء فيها أحداً من المريدين
وذكر رضي اللَّه عنه، صحيح البخاري، فقال، إنه لم يعرف إلا من غيره، فإن بعض العلوم يعرف من نفسه، وبعضها إنما يعرف بمعرفة غيره، كالإحياء حيث قال مصنفه، إنما وضعته لسماسرة العلماء، من السمسرة، التي تجمع الأمتعة، وسمي الدلال سمساراً لما يجتمع عنده من الأمتعة
المرأة لا تكون بدلاً
وقال رضي اللَّه عنه، الصالحات من النساء تكون في مرتبة الأبدال ولا تكون بدلاً، وقال مرة، لا تكون المرأة قطباً ولا بدلاً، وإنما امتنعت سلطانة الزبيدية من الزواج بعدما خطبها أناس من السادة، لأن الصالحين مايحبون أن يدخلون في حكم المَلَكة والقهر، لأن في التزوج حقوقٌ كثيرة تصيرها كالمملوكة، فلعل هذا هو المانع لها من ذلك
ما قال في القرآن
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً في الفهم في الكتاب العزيز، فقال، إنه غبن فاحش أن يموت الإنسان وما عرف شيئاً من أسراره وعجائبه، وهذه الأشياء إنما تحصل لأقوام قد أعطاهم اللَّه في أصل الفطرة قريحة وقَّادة، وعقلاً صافياً، ثم إنهم أزالوا كدورات العقل باختيارهم
(١/٢٢٣)
وقال رضي اللَّه عنه، إن اتسع لك النظر بنفسك فانظر أنت، وكل أمر يشكل عليك فهو في القرآن، وإذا لم يظهر لك شيء، فابق على الطريق المسلوكة لمن قبلك، ولا تَتَّبع الطرق فتضل، وهي السبل التي قال اللَّه ،{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } الآية، فكل طريق ماتعرفها لا تجئها، إلا إذا تغلقت عليك الطرق، فإذا كان كذلك بقي في الحيرة، ومثل ذلك يظهر للإنسان في القبور، فإذا قيل له، كيف ماعلمت أحكام الصلاة ونحوها، قال ما أحد علمني، فيقال له كيف والقرآن عندك، وقد فصّل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم الدين، ولكن وسَّعه العلماء بتطويل الكلام فيه، والإنسان مُتَّجرٌ لنفسه، وكل الأمور مشروحات في القرآن، ولكنه يحتاج إلى البيان
وقال رضي اللَّه عنه وذكر العمل بالعلم، إن لم يمكنك تعمل به فتفعل الطاعات، وتترك المنهيات، فافعل من الطاعات ما تيسر مع العزم على فعل الباقي، واترك العمل ببعض المعاصي مع العزم على ترك الباقي، فانو ذلك فقد يحصل بالنية ما لا يحصل بالأعمال، حتى يقل تحسره في الآخرة إذا رأى درجات العاملين، إذ لو ترك جميع ذلك لطالت حسرته ومعلوم أن من ترك العمل وجلس عاطلاً باطلاً طال في الآخرة حزنه، ولا يكون فيه خير ولا بركة، ولو أنكر على أحد في صلاة أو زكاة أو غير ذلك، وهو متلبس بما أنكره، فماذا ينفعه علمه، فتكثر حسرته، سيما إن انتفع بعلمه غيره، فهذه قاعدة، إن كل ما جاء به الشرع، إذا لم يعمل به كله تكثر حسرته، أو بعضه فأقل من ذلك، ويجري مثله في أمور الدنيا، فلو رأى من معه مال كثير فاستثقل أن يتسبب، مثل ما تسبب، أو كان معه مال فضيعه أو أعطاه من لا يحمده، فإنه يرجع يسأل أو يتعطل بلا شيء، فيتأسف على ما صنع، فما المراد أنه لا يُدْبِر بالكلية، فإن الزمان زمان سوء، وهذا وصف المدبرين، ولكن يكون مرة كذا ومرة كذا
(١/٢٢٤)
وقال رضي اللَّه عنه، إنما الدينُ بعد كتاب اللَّه الحديثُ، إلا إنه قَلَّ من يحفظه اليوم إلا في جهات بعيدة، وأحد يطلبه لذلك الأمر
ثم ذكر قول عمر رضي اللَّه عنه، حيث تمنى أنه سأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن ثلاثة أشياء منها أبواب الربا والكلالة، فقال نفع اللَّه به، نعم، لأن الميراث يصل إلى أقوام مع وجود أقرب منهم، كما يرث ابن الابن مع وجود العمة، وليس لها من الميراث شيء، والأمور الإلهية ما هي على قياس عقول الناس، ولهذا أوقعت أناساً قياساتُ عقولهم، حتى وقعوا في الربا باستحسانهم بيع القهاول من الطعام بقهاولين
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، عادك في زمن التحصيل، وللإنسان مرتبتان، إحداهما أعلا من الأولى، إذا وصلها كان يُنتفع به، ومادام في الأولى، فهو طالب الانتفاع، ويمكنه أن يطلب ذلك في كل واحدة منهما
وأمر رضي اللَّه عنه بعض الزائرين بالتحول من مكان إلى مكان آخر ثم قال، كانوا يكونون في الدار الواحدة خمس محالٍّ وأكثر، وكانت عيونهم مغضوضة عن النظر، وآذانهم ممنوعة من الاستماع، حتى إن الرجل لا يعرف زوجة أخيه وعمه، فأعضاؤهم ملجمة عن المعاصي، وأما هؤلاء فيطلقون جوارحهم في المعاصي، ثم يجحدون المعاصي، ويجحدون الشهوات، تجعلهم من كبار الصالحين
وقال رضي اللَّه عنه، الشر كالنار، أو كالبحر يجر بعضه بعضاً، فمن لم يتورع عن النظر مثلاً، فلا يملك قلبَه وفرجَه، وإن قال إنه يملكهما ولم يملك عينه يكذب، فمن عجز عن القليل يعجز عن الكثير لا محالة ومن لم يتورع عن الدرهم الواحد، فلا يتورع عن العشرة فأكثر
(١/٢٢٥)
و ذكر رضي اللَّه عنه يوماً أهل الدنيا فقال، في هذا الزمان قد ذهبت الدنيا عن أيدي الأخيار وصارت في أيدي الفجار، أو قال الأشرار، والفقراء كالمتاع في البيت، هو الذي يحتاج أن يحفظ، والأغنياء كالحجارة، ولو أقبل الناس كلهم على الدنيا، ما استاهلوا أن يحفظوا، وإنما يحفظ اللَّه خلقه بفقراء وصغار وشيبان، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( إنما ترحمون بضعفائكم، وأبغوني فيكم الضعفاء))، وفي أحد الوجهين في قوله تعالى ،{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ } الآية، ولولا الضعفاء رحم اللَّه بهم الكافة لأصابهم العذاب
ما قال في الحِظاية
وكلمه رضي اللَّه عنه إنسان حظَّا، فقال له، أتعلّم الناس الحظيّة، وتحسِّنون الدنيا، والذي يحسِّن الدنيا أسفل وأخس عند اللَّه من الذين يعمرون الدنيا، لأن العمران لها قد تدعو إليه الحاجة كالخياطة، وإذا قد ورد ذمُّ عمران الدنيا فكيف بتحسينها
وقال رضي اللَّه عنه، يقال إذا أردت أن تعرف حال أحد، فاسأل عنه أهل بيته وأهل خاصته، لأنه ما يستحيي منهم، ويعاملهم بما يفعله في خلوته، والولي ما يكون مستوراً إلا عند العامة والمحجوبين، وإلا فهو ظاهر عند أمثاله، وعند نفسه، والولي ما همه ومطلوبه إلا الخفا، وإن أحب الظهور سُلِبَ، ولا تتتبع إلا إن رجوت خيراً، ودع الناس تحت ستر اللَّه، والأولياء لا يحبون الاجتماع عليهم، ومن أحب ذلك فعنده شبهة رياء، حتى إن من أحب كثرة الجمع في جنازته، فهو مُرائي طالب شهرته بعد الموت
(١/٢٢٦)
وقال رضي اللَّه عنه، لا تعُدَّ شيئاً من يعدُّ نفسه شيئاً، وإنما الشيء من لا يَعُدُّ نفسه شيئاً، ومن قال، أنا أهل وإن كان كذلك، قيل له، لست بأهل، ومن قال، لست أهلاً وهو كما قال، قيل له، أنت أهل، والطرايق الباطنة غير الطرايق الظاهرة، هذه شيء وهذه شيء آخر، كالذي قال، إن الشيخ عبدالقادر ما رأيت له في الملكوت شيئاً من الأمور، ورُوْحوا قولوا له، فكوشف به الشيخ، فقال له، أنت تدخل من الدركات السفلى، وأنا في الدرجات العليا، فلم ترني، وإنك ما وقع لك الأمر الفلاني إلا بشفاعتي، فصدقه حينئذ، وهذه أمور ينكرها الظاهر، ولا هي منكرة
وقال رضي اللَّه عنه، قِلَّة العناية بالشيء أمره مشكل جداً، ولا يحصّله، وإن كان متأهلاً له، وإنما يدركه بالعناية، إنْ ما أدركه في الزمن القليل، أدركه في الزمن الطويل
وقال رضي اللَّه عنه، لولا فتنة تكون قبل خروج المهدي، لأحببنا أن ندركه، ولكنا نكره حضور الفتن
ومرة قال، المتردد في الفتنة، كالذي يتردد ماشياً في الرمضاء، وسط النهار
وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً كان بينه وبين آخَرَ شيءٌ، فقال، إنه سليم يصدّق بكل ما سمع، والأحسن للإنسان اليوم الاحتياط، خصوصاً في هذا الزمان، فلا يُصَدِّق من يمدح، ولا من يَذم، فإنهم مفتونون، يصلحون الفاسد، ويفسدون الصالح
وقال رضي اللَّه عنه، لا يقال في النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إنه انتقل من حالة نقص إلى كمال، بل هو في الكمال في جميع أحواله، ومسيره كله في الكمال، حتى إنه عند ولادته ولد رافعاً بصرَه إلى السماء، وحتى مات في الكمال
ما قال في الأمراء
(١/٢٢٧)
وذكر رضي اللَّه عنه الأمراء وأحوالهم، فقال، معاد يقوم الأمر إلا بالسيف، ولا السيف إلا بالعُدد والمعاونين، ولكن الحمد للَّه جعل اللَّه في الأمر سعة، فتُدْرَأ الحدود بالشبهات، وإلا لو كان الحكم أن من عمل ما يوجب الحدَّ، فإذا علمت بفعله ذلك، اسع في تحصيله وهاته كائناً ما كان، وإلا فأنت مثله ولا عاد تفتش، فكان إذا فتشت لحقت جواهر، واليوم إذا فتشت لحقت بعراً، وهؤلاء البدو الذين يقتلون بالقتيل رجلاً من قبيلة القاتل، فما هم في طيب عيش ولا حياة، ولو قتلوه بنفسه حصل الأمان، ووافق الحق
ما قال في عدم قبول الملوك والأغنياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخلاف الفقراء
وقال نفع اللَّه به، اسمع، لا عاد في أهل الملك ولا في أهل المال بركة، إلا إن كان قليل، فلا يُستثنى إلا فيهم، وأما الفقراء والمساكين فلو قلت لأحدهم تعال صَلِّ وأُعَشِّيك، جاك ولا خالف، إن لم يج للصلاة جاء للعَشَا
وقال رضي اللَّه عنه، العلم مشتمل على أصول وفروع، فالفروع ترجع إلى الأصول، ولا عكس، وأنت اعمل على ساقيتك واترك العمل على دَجلة، فإنك لا تصل في ذلك، وإذا عملت على ساقيتك تيسَّر لك، وإذا كان معها عشرون ساقية، فلا تصل فيها كلها، لأن فيها الكَدِرة والمالحة، ولكن العمدة على الورع بالوسط من غير إفراط ولا تفريط، إذ لا تحصّل مع أحدهما، والأمور تشعبت وتوسعت، فأين من وقتك إلى عهد رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم فلا يمكنك أن تطْلع إلى طالع الغيلة من هابط مرة واحدة، حتى تقرقع مرتين ثلاثاً، ثم يفتحوا لك، ثم تدخل الضيقة وتجلس، ثم تطلع شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الغيلة
وقال رضي اللَّه عنه، ومن العلم العمل والاتصاف، والاتصاف أشرف من العمل، فإذا كنت مثلاً تعلم أحكام الصبر وتفاصيله، ثم إنك إذا وقعت بك مصيبة قامت عليك القيامة وجزعت فما نفعك ذلك، وكأنك لم تعلم
(١/٢٢٨)
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يوصيه، لا تُقْدم على أمر حتى تتفكر فيه، وآت الأمر الذي تطلبه من وجهه الذي يُطلب منه، فإن من دخل داره أو داراً فيها متاعه من غير بابه أنكر عليه في ذلك، لا لكونه دخل داره أو أخذ متاعه، بل لكونه دخل من غير الباب، وقد تكون أمور مرتبة يقدم بعضها على بعض
وقال رضي اللَّه عنه، ما عاد للناس هوى في الطاعة، ولو أنك علَّمت أحداً مقصراً في صلاته، أو قراءته، أو شيء من دينه، ترك المكان الذي أنت فيه، وإن علَّمته في مسجد ترك ذلك المسجد، فما عاد معك إلا تقيس فعله ذلك بتركه، أيهما أحسن وأولى، فتطلب ذلك وتراعيه منه، ولم يزل الناس يتناقصون، حتى يبلغ الكتاب أجله، ولو بقوا على حال واحدة، لما قامت الساعة
وقال رضي اللَّه عنه، أمر الخير لا تخليه يضجر بك، خذ منه ما استطعت، فإن النفس تمل حتى في أمور الدنيا إذا أكثرت منها فكيف بأمور الدين، ومن كلام سيدنا علي، إن القلوب إذا أُكْرِهَتْ عميت، وعماها عدم رغبتها في الخير
وقال نفع اللَّه به، الزهد في الدنيا والخلقِ عنوانُ الولاية
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي أن يُتوسط بين الخوف والرجا، لأنه إذا اشتد خوفه انقطع، ألا ترى لما ذكر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بعث النار كيف جزع الصحابة، حتى ذكر لهم ياجوج وماجوج، ومن قد دعاه اللَّه إلى الدين فهو على خير، إذ لو لم يُرد له ذلك، لما دعاه إليه، ولكن لا يغتر ولا ينهمك في شهوات الدنيا، فإن أقل الحال يشتد عليه الموت بسبب ذلك
ما قال في كلام ابن الفارض وابن عربي
(١/٢٢٩)
وسئل رضي اللَّه عنه عن كلام ابن الفارض، هل كان السادة متعلقين به، فقال، نعم لأنه نظم، والنظم سهل ولا عسر فيه، وأين الحقائق الإلهية من يقين الموقنين، فضلاً عن وهم الموهمين، وهذه الأشياء المشكلة تُنَزَّل على الروح والنفس الزكية، أو ما أراده القائل، وكم حد المخلوق، ولا بُعد فيها، فإن الإنسان قد يذهل في أمور الدنيا فيشطح، فكيف بأمور الآخرة، وأكثر ما يطلقون في تغزلهم على الروح المحمدية أو المقامات العلية، لأنه عليه السلام مخلوق، والخطر في المخلوق سهل، وإن عظمت منزلته عليه السلام، مع الغاية في تعظيمه واحترامه، ومن اعترض عليهم فإنما الشيطان لقي له مجالاً في قلوبهم، فلبَّس عليهم، وألقى عليهم ما هو سبب في الاعتراض، كما ألقى في قلوب الكفار لما رأى منهم آذاناً مفتوحة لقوله، حين تلا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم سورة النجم، فتمثل لهم بذلك القول، حتى سمعوا من قراءته عليه السلام، بلا شعور من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لذلك ولا علم فاعترض لهم ما بين لسانه عليه السلام، وآذانهم، وقلوبُهم التي أذعنوا بها لعبادة الأصنام أضلُّ من قلوبهم التي كذبوا بها الأنبياء، وكلام ابن الفارض أسلم خطراً من كلام ابن عربي، لأن هذا نظم فيه تسامح وسلاسة تغطي ما فيه، وذاك أكثره نثر وكلامٌ غير منظوم، والنظم فيه نادر بالنسبة إلى النثر
(١/٢٣٠)
وذكر رضي اللَّه عنه ابن عربي فقال، شرط العارف، أن يمضغ بكل أضراسه ورحاه وشقيه، كابن عربي يتكلم في الحقائق مع مبالغته في تعظيم الشريعة، ومعرفتِه في كل علم، فإن من كان مثلاً يعرف الحِرَف كلها، فهو حيك وصبَّان وحرَّاث وغير ذلك، جامعاً للجميع، فيجيئه واحد، ما معه منهن إلا واحدة، فينكر عليه فكيف ينكر على من هو أعرف منه في فنه فضلاً عن غيره ومن أين يعلم المنكِر أنه في ذلك غير مغلوب، ألا حملوا قوله على قول القائل، حيث قال لما وجد الراحلة، اللَّهم أنت الخ، حيث أخطأ من شدة الفرح، كما في الحديث، وهذا أيضاً في القول إن صح عنه، وإلا ففي باطن الإنسان خواطر هي كفر صريح، والرجل مستقيم في فعله غير مستقيم في قوله، لأنه إذا سيَّب سُيّب كالمدفع
ذموه بالحق وبالباطلِ ومن دعا الناس إلى ذمه
وعقيدته وفعله على غاية الاستقامة دون كلامه، وكلامه أقرب إلى السلامة من كلام ابن الفارض، لأنه ما يذكر حقيقة إلا ويذكر لها عشر كلمات في الاستقامة، والحاصل، أن الضعيف لا ينبغي له أن يتعرض للبحور لئلا يغرق فيها
وأمرني سيدي رضي اللَّه عنه بقراءة "رسالة القدس في مناصحة النفس" عليه نفع اللَّه به لابن عربي، فلما أتممتها قال لي، لا تَعُد تُمِرُّ نظرك فيها، لأن كلامه مظنة الفتنة، وإن كان في نفسه في غاية الاستقامة
وقد سئل بعضهم عن من ينكر على ابن عربي، فقال، هو جدير بالإنكار عليه لكن ممن هو فوقه، لا ممن هو في السناديس، ولكن النفس تميل إلى كلامه، وتنفر من الكلام الذي فيه دواؤها، وبه يحصل لها شفاؤها، وهو كلام الإمام الغزالي، لأن من طبع النفس أنها تنفر عما ينفعها، وتميل إلى ما يضرها، كما تنفر من قول الطبيب الحاذق الناصح إذا وصف لها الدواء
(١/٢٣١)
أقول، هذا مع ما كان نفع اللَّه به يمدح هذه الرسالة، ويأمر بمطالعتها، ويقول، ما في كتبه أوضح منها، ولا أسلم من الشبه، ولا أبين للصواب مثلها، ومع ذلك قال فيها ما قال شفقة منه رضي اللَّه عنه
ما قال في تنزيل الغَزَل
وقال رضي اللَّه عنه، لا تتعد في تنزيل ما تسمعه من الغزل نفسك، بل تنزله على روحك أو على الكعبة، لأنه لا خطر في ذلك، ولا تتجاوزه إلى النبوة، فضلاً عن الملائكة، فضلاً عن الأمور الإلهية، فإن حد ما ينتهي إليه علم الملائكة سدرة المنتهى، فيجدون أمر اللَّه عندها، ولا يتجاوزونها وقد ورد، إن على جوانب العرش مِأتَيْ شمس، أو قال، مِأَتيْ قمر، ينطمس في كل واحد منها نور الشمس والقمر، لا يستطيع أكابر الملائكة كجبريل، أن ينظر إليه، وهو صورة العرش، فما ظنك بغير ذلك، وهذه الملائكة فكيف بالآدمي مع ضعفه
وقد قالت سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، كيف رأيت ربك ليلة المعراج يارسول اللَّه فقال، نورٌ أَنّى أُراه
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً صحبوه أول العمر، وقرأوا عليه، منهم من قرأ الإحيا، ومنهم غيرَه، ثم تنفس الصُّعَداء وقال سبحان اللَّه، ما أطول الدنيا وما أقصرها
وقال نفع اللَّه به، ما عمدة الإنسان إلا اليقين والصبر، فإذا حصلا له تحمل من الشدائد ما لا يتوهم أنه يحمله
وقال رضي اللَّه عنه، أمر الباطن إنما هو في لحظة
ما قال في علماء الزمان
(١/٢٣٢)
وتكلم رضي اللَّه عنه في علماء الزمان، فقال، علماء الزمان ضحضاح، وضحضاح من نار أيضاً، وعلماء الزمان كحُجاج الزمان، إذ يحجون للصلاح للأجرة، فربما حجته للإسلام على هذه النية لا تصح، ولم يتعلم العلماءُ العلمَ إلا للدنيا قال بعضهم في علماء السوء، يوم يذمون الدنيا ويُرَغِّبون في تركها، ويَرْغبون فيها، كأنهم يقولون للناس، اتركوا الدنيا لنا، نأخذها نحن وحدنا، ومن تعلم علماً لا يحتاج إليه ولا ينتفع به هو ولا غيره، فكأن العلم مات في صدره، فينبغي أن ينظر من أول أمره العلمَ الذي ينتفع به، وينتفع به غيره، فيحصّله، ويَدَع ما سواه، ولا أقل في العلم الظاهر من العمل به، وما مرادنا ممن يقرأ علينا إلا الاستعمال، والانتفاع، والدعاء، ونحن ندعو لهم بالاستعمال والانتفاع، فإن من توضأ غير مرتب ما انتفع بالعلم، وإن عرف ذلك
أخذ العلم من المتأهل
وقال رضي اللَّه عنه، يحتاج أن لا يأخذ الإنسان العلم إلا من المتأهل للتعليم، ومن أخذ من غير متأهل، له أن يعمل به في نفسه، ولا يعلمه الناس، لأنه يحتاج في تعليمه إلى قواعد، ولا يمكن إيرادها إلا بالتأهل، ولا يتأهل له من لم يكن شيخه متأهلاً، وإن تأهل لبعض العلم دون بعضٍ عَلَّمه
ولما مر وقت الدرس في قراءة الإحياء ذِكْرُ أركان المجاهدة والرياضة الأربعة التي بها صار الأبدال أبدالاً، قال نفع اللَّه به عند ذلك، إن الصوفية أمعنوا فيها، وأخذوا بالحظ الأوفر منها، بحيث لا يكاد من يسمع ما نُقِل عنهم فيه أن يصدق به، ومن دخل طريقتهم فليأخذ منها بحظ على قدره، بحسب قوته واستطاعته، فمن مقل من ذلك ومن مكثر، وإلا فليكن إلى وصفهم أقرب من غيره
انظر طلبه أيام بدايته
(١/٢٣٣)
وقال رضي اللَّه عنه، قد أدركنا في جهة حضرموت من أهل الفضل الأخيار، أناساً كثيراً أدركناهم، وتبركنا بهم وزرناهم، من أشراف وغيرهم، وأدركنا منهم في كل قرية من قرى حضرموت جماعة، كشبام والغرفة وسيؤون، حتى المسفلة وعينات واللِّسك والواسطة، وكنا نتردد لزيارة أهل الفضل، الأحياء والأموات، وكان يتبعنا ناس كثير، فإذا جئنا إلى بلدة طلبونا أي للضيافة ومن لَحِقَنَا، فيلزم من هذا التثقيلُ على الناس، حتى وصلنا مرة إلى الهجرين، ومعنا نحو ستين رجلاً، لكنَّا بعدُ قلنا، إن كان أُذِن لنا في التردد للزيارة، مثل الشيخ عمر العطاس، لأنه كان كثير التردد لها، تخلينا من جميع من يلحقنا، وبقيت أنا وواحد الذي يمسك الدابة فقط، لأجل التخفيف، ولو تركونا ولم يتعرض لنا أحد بالدعوة لما فعلت ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، ارفع رأسك إلى ربك، وعامله ولا تقصر إذا قصر عنك الخلق، فتكون إنما أنت معامل لهم، واصفح عن تقصيرهم، وإن كان يجوز لك مقابلتهم بذلك، فقد سماه تعالى سيئة بقوله ،{ وَجَزاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}
وقال رضي اللَّه عنه، قَوِّ همتك وارفعها، واجعلها للَّه تعالى، وأخلص نيتك، وأصلح عملك، واقصر نيتك على أمرين، لا تتعداهما، الأول أن تكون جميع أفعالك وحركاتك وسكناتك وأحوالك ظاهراً وباطناً للَّه تعالى، أو فيما هو وسيلة إلى ذلك، والثاني، اجعل ميزانك في الآخرة، يرجح بما هو للَّه تعالى على ما هو لنفسك، لتكون ممن ثقلت موازينه، فأولئك هم المفلحون، ومن ثقلت أمور نفسه على ما هو للَّه، فأولئك الذين خسروا أنفسهم
ما قال في طبع النفس
(١/٢٣٤)
والنفس طبعها طبع الماء، إذا سيبت إنما تسير إلى أسفل، لا إلى أعلى، لكن يمضي عمر الواحد، ما قهر نفسه للَّه، ولا قام بحقه كما ينبغي منهم، بل تَرَكوا حقّه وراحوا إلى أمور لا فائدة فيها، لأن الشيطان قعد لهم على الصراط المستقيم، فلا يصلون إلى اللَّه إلا منه، ولكن منعهم منه الشيطان، فإذا كان لا يدخل الجنة داخلها، ولا يدخل النار داخلها، إلا بالصكاك لهم في ذلك، أفيحسبون الأمور سائبة؟، ومعرفة اللَّه خصوصٌ لخصوص والشيطان لما لعب بنفسه، وعلم أنه ليس له توبة، رجع يلعب ببني آدم حتى إنه لم يسأل اللَّه إلا أن يُنْظِرَه لذلك يلعبُ بهم، حتى يحرمهم الخير، ويُلقيَهم في الشر، فلما لعب بأبيهم آدم حتى أخرجه من الجنة جعل يلعبُ كذلك ببنيه، وإبليس يتنقل في سخط اللَّه، فيخرج من سخط إلى سخط، من كبر إلى حسد، إلى غير ذلك، حتى إنه سأل من اللَّه الإنظار، ليعمل في ذلك، فأجابه اللَّه لذلك زيادة في نكاله، واستكثاراً من غضبه، فإنه قد آيسه من رحمته، فلا مطمع له فيها، فلما علم أنه كذلك جدّ فيما يقربه إلى غضب اللَّه، ويدعو من اتبعه إلى ذلك، وأما آدم فإنه لا يزال يتنقل من رضى إلى رضى، من بكاء على خطيئته، ثم إلى إخبات ثم إلى تواضع
وقال رضي اللَّه عنه، غلبت الغفلة على أهل الزمان، حتى عمت في أمر دينهم ودنياهم وصلواتهم، وسائر أفعالهم، مع أنهم يسمعون الكتب، ويقرأونها، لكن إذا فتح أحدهم كتاباً كحِجَاب، يريد أن يرفعه
ما قال في حديث النفس في رمضان والسجود
وذكر رضي اللَّه عنه معنى حديث، (( إن مردة الشياطين، تُغَلُّ في شهر رمضان ))، فقال، ولكن هذه الخواطر التي تَعرِض، قد كانت معجونة في الإنسان من الشيطان قبل دخول رمضان، وذكر ابن عربي، إنها من النفس، وذكر، إن خواطر السجود في كل وقت من النفس وإن الشيطان إذا سجد ابن آدم يشتغل بنفسه ويعتزل يبكي
(١/٢٣٥)
ما قال في سهر كل الليل في رمضان
وقال رضي اللَّه عنه، سهر كل الليل في رمضان بدعة لم يفعله السلف الصالح
ودعاني رضي اللَّه عنه يوماً في رمضان بعد صلاة الظهر، لكتابة ورقة، وكنت نائماً فقمت وتوضأت وأتيته وصافحته، فقال، توضأتَ؟ قلت، نعم، قال، نمتَ بعد الظهر؟، قلت، نعم، قال، ونمتَ أيضاً قبل صلاة الظهر؟، قلت، نعم، فقال، إن اللَّه يمقت على نومتين في اليوم، إلا إن كان من شدة سهر، ولم يحصل له قرار نوم في الأولى من تشويش وكان الأمر كذلك
وقال رضي اللَّه عنه، لا يطالب العبد في العبادات بإقامتها في الباطن، حتى يقيم الصورة الظاهرة، فإذا أقامها وأحسنها فخض معه في الباطن، ولا يمكن إقامتها باطناً إلا بمقدمات، ورياضات، وترك الخوض في شيء قبل فعلها، ولولا فضل الجماعة ما صلينا صلاتنا هذه، لَكُنَّا نصلي في الخلوة
وكان رضي اللَّه عنه يبالغ جداً في النهي عن الكلام حال انتظار الصلاة، وينكر أشد الإنكار على من يفعله، حتى إني سلمت عليه يوماً وهو خارج للصلاة، من رجل أوصاني له بالسلام، فنهاني عن ذلك بعد الصلاة، فقال، لاَ قَطُّ تسلم علي من أحد حال خروجي للصلاة، فإنا نخرج للصلاة باجتماع وحضور، وقطع الهم عما سواها
مسئلة فقهية
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي أن يقرأ المأموم الفاتحة بعد ما يؤمن على قراءة الإمام الفاتحةَ في الحال من غير تخلف، فإن أتى بها تامة في سكتة الإمام فهو الأحسن، وإن بقي منها قليل، يتمها بعد ما يشرع في السورة، ثم يستمع قراءة الإمام، ولا يمطِّطها حتى يبطئ ولا يمكنه سماع قراءته السورة، فمن فعل ذلك فهو عاميٌّ مخالف، وقد كنا أردنا أن نفعل نبذة في الصلاة للمصلين، لكن رأيناهم معرضين عن الصلاة فتركنا
(١/٢٣٦)
أقول، وكثيراً ما ينهى نفع اللَّه به، عن الجهر بالقراءة خلف الإمام، ويذم من يفعله، وعن الجهر البالغ في تكبيرة الإحرام، وعن التطويل والبطء بالنية، سيما عندما يدرك الإمام راكعاً، وعن الكلام وقت الجلوس للحِزْبِ، أو بين الأذانين، لانتظار الجماعة، وعن التلهي حال الحزب بذكر أو غيره، حتى لا يشعر بالغلط ليرده، ويقول إنه لا يمكنه الاجتماع في واحد منهما، لا ذِكْره، ولا الحزب، فاشتغاله إذ ذاك ضائع
ما كان يقرأ في السكتة
وأسمعه رضي اللَّه عنه دائماً يقرأ في السكتة بين الفاتحة والسورة، في الصلاة الجهرية، في الركعة الأولى ،{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } إلى، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}، وفي الثانية ،{رَبِّ أَوْزِعْنِي} إلى، { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِين}، كما سيأتي في الخاتمة من ذكر السور والآيات التي كان يواظب عليها في الصلوات
ما قال في المواساة
وقال رضي اللَّه عنه، لبعض السادة وكان صاحب ثروة، لا تشذ واتبع طريقة أهلك، فمن شذّ عمّا هم عليه شذ إلى النار، وتريم كانت مؤسسة على السنة، وإنما تغيرت الأمور بسبب الحوادث القريبة، فلا تشك في ذلك، وسر على الطريقة، ودع السبل وهي تتبع الرخص، وما يسهل، أهو يصح أن يأكل اللحم ثلاث ليال وصاحبه أو جاره لم يذقه، سيروا مثل سيرة عبداللَّه باعلوي، هذا هو العيش، لا غير ذلك، وكان يلتمس بطون المساكين، يتحسس إن كان بهم جوع فيواسيهم، وكان جيرانه من شدة حيائهم منه، لكثرة عطائه لهم، يوقدون التنور وهم طاوين، يوهمونه أن عندهم عشاء، وكان إذا علم بهم كذلك يغضب كثيراً، ويقول، تريدون أن يخسف اللَّه بنا، اللَّه يحللكم يوم تباتون بلا عشاء ولا تخبرونا وهؤلاء يُخَبون ما معهم ويجيئونك يطلبون
(١/٢٣٧)
وذكر رضي اللَّه عنه أحوال الناس في طلب الدنيا وكثرة سعيهم لتحصيلها، فقال، أحسن أحوالهم بعد الصدقة الراحة من متاعب الدنيا، فإنه ليس لهم منها إلا فائدتان، إحداهما التصدق في سبيل اللَّه تعالى، خالصين في ذلك للَّه، والثانية الراحة فيها، وأهل الزمان خالفوا اللَّه ورسوله، ولا عدلوا في أنفسهم وأهلهم وجيرانهم، وهم على هذا، ويطلبون والياً عادلاً فمن أين لهم ذلك، لو طلبوه في النار ما وجدوه، لكن سلط اللَّه، عليهم ظالماً بلا كيل، لأن والي الأمر لا بد له من نظر، إن لم يكن نظر دين كان نظر دنيا
وقال رضي اللَّه عنه، من العجائب أن يتمنى الإنسان أهل الخير، وهو ليس فيه خير، وقد مضى جميع الناس إلا يتأسفون عليهم، ومن تأمل الكلام وأشعار العرب، عرف ذلك، وإذا رأيت الإنسان قائماً بنفسه لك فلا تطالبه بحقك
وقال رضي اللَّه عنه، تُجَيْبَزْ، ولا تخلي الأمور الباطنة تظهر عليك، وإذا وقعت في مصيبة، فاذكر النعمة تسهل عليك، والأمور الباطنة هي كالغضب، والحقد، والحسد، والعجب، وغيرها
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا ما هي إلا كاس بكاس، والدنيا منذ خرجتَ من بطن أمك وهي وراءك وأنت مدبر عنها، والآخرة أمامك وأنت مقبل عليها، ولا أحسن للإنسان في هذا الزمان من سلاسة الطبع والمَيْلة فينبغي له أن يأخذ بذلك
وقال رضي اللَّه عنه، بلغنا أن بعض الناس قال، ما في تريم إلا الفقيه المقدم في التربة، والسيد عبداللَّه الحداد في الأحياء، فنعم الفقيه المقدم، إنما هو قبر، والذي هنا هو الباب، وليس الباب كالقبر، ولا يعرفون الباب حتى يفارقهم ويصير قبراً، وبعدما تنفتح عليهم الأمور، فإذا رأوه قالوا، هذا هو الباب الذي كانت تنفتح علينا الأمور منه
(١/٢٣٨)
أقول، مراده بالأمور المذكورة أولاً التي تضرهم وتكربهم، والمذكورة ثانياً هي التي تنفعهم وتفرج لهم من الأولى، ولكن لا يعرفون الباب الذي هو باب الفرج، حتى يصير قبراً، فلا عاد يبقى متلق للأمور النازلة عليهم، وكان الأمر بعده كما قال نفع اللَّه به
ما أشار به إلى وفاته
وقد أشار رضي اللَّه عنه في مجالس كثيرة إلى وفاته، قبلها بأربع سنين، وتَغَيُّرِ الحال بعده ونسينا ما أشار إليه، وما ذكرنا إلا لما رأينا المعاينة كالخبر، وذلك سنة ١١٢٨ كقوله لي في ربيع الأول منها، في كلام كثير، لو قد سافرنا إلى مكان، وقلنا لك اجلس أنت في تريم، لا تسافر أتجلس؟، قلت، لا بد لي من امتثال أمركم، فأجلس بمشقة وتكلف، قال، فإن قلنا لك سافر أنت؟، قلت، أسافر أيضاً بمشقة وكلفة، قال، فلو سافرت تكاتبنا؟، قلت، نعم، ولكني لا أحب أن أسافر إلا إن عشتُ بعدكم، لأني لو مكثت غائباً عنكم نحو سنة أو ستة أشهر، اشتغل خاطري بألم الفراق، قال، نعم، لكن ليس الصادر كالوارد، فسفر الآخرة مثل سفر الدنيا فلو قد متنا تسافر؟، قلت، نعم، ولا أجلس يوماً واحداً إلا لعجز، قال، فإن قلنا لك ابق ولا تسافر؟، قلت، امتثلت ولا بد، قال، فإن عَيَّنا لك مدة؟، قلت، لا عذر منها، قال، نعم، لا نأذن لك في السفر حتى يستقل من معك، فلا نأذن لك في السفر حتى يستقل أحد من العيال، ثم بعد ذلك نأذن لك، وقد استقلوا حينئذ بحمد اللَّه وخاب سعيُ من ناواهم
(١/٢٣٩)
وكذلك في شعبان منها قال لي في المدرس، عشية يوم ٢٧ منه، أتحفظ أبياتاً لأبي تمام، ذكرها الشَّرَجي في "طبقات الخواص" في ترجمة شيخه، فلم أحفظها، فسأل عنها الحاضرين في المدرس، فما منهم من يحفظها، فقال نفع اللَّه به، احفظوا وعوا، وإلا فما ينفع رفع كتاب، وحط كتاب، وتسويد الأوراق، فترى الأوراق مملوءة سواداً كثيراً، فقد جاء في الخبر، إنهم كانوا يتعلمون القرآن على أربع آيات، يُلَقَّنُها الرجل، ولا يُلَقَّن غيرها حتى يتقنها حفظاً وعلماً وعملاً، فَفَتَحْتُ الخزانة، وأخذت طبقات الخواص، واستخرجت ترجمة شيخه أبي بكر بن محمد العُسْلقي، قال وكانت أيامه كلها خضرة، وأوقاته كلها نضرة، فاللَّه المستعان على تلك الأيام كما قال أبو تمام ،
كانت لنا أعوام وصل بالحمى فكأنها من طيبها أيام
ثم أعقبت أيام صد بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
فانظر إلى هذه الإشارة القاطعة، الجاعلة الشك يقيناً، والخبر عياناً، وغير ذلك كثيراً، حتى إني لما رأيت ما دهم بعد وفاته من الهموم، لم أطق الجلوس في مكان أَلِفْتُه معه في حياته، فأزعجني ذلك للسفر إزعاجاً لم أطق أخالفه، وأرجو من حبايبنا العذر والدعاء لي بصلاح الحال والمآل
ومن تلك الإشارات، أنه رضي اللَّه عنه قال يوماً في مجلس القراءة عشية، من منكم يحفظ الأبيات التي سمعت في عمر بن الخطاب، ويقال إن منشدها كان من الجن، فلم يستحضرها أحد من الحاضرين، فقرأتها يوماً عليه من كتاب "حياة الحيوان" وذلك عندما خرج لصلاة العصر يوم الثلاثاء في ٢٦ ذي القعدة من سنة ١١٢٨ في الضيقة، قال في ذلك الكتاب، أنشدها منشد من الجن، في أيام منى فما لبث بعدما رجع إلى المدينة أن ضربه العِلْج وهي ،
عليك سلام من أمير وباركت يد اللَّه في ذاك الأديم الممزق
(١/٢٤٠)
فمن يسعَ أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما قدَّمْتَ بالأمس يُسبقِ
قضيتَ أموراً ثم غادرتَ بعدها سوابق في أكمامها لم تُفَتَّقِ
فلما قرأتها عليه من الكتاب قال نفع اللَّه به، ما مرادنا إلا نعلمك الاستحضار عند المذاكرة، وأما أنك تجيبها في الكتاب فذاك سهل، وكل يعرفه، فقال السيد عبدالرحمن بن حُمُدِّه عيديد، وكان حاضراً، ما أحسن فلاناً، لو كان حاضراً لَفَهِم، يعني به سالم بافضل بلحاج، فقال سيدنا نفع اللَّه به، ما عليك لكن من ربيناه يفوق غيره، إلا أنه لا يظهر أثره مع من رباه، كالسراج في النهار، لأنا نربيه تربية لا يعلم بها، وإن كانوا أحسن منه بديهة، فهو أحسن منهم بذلك، وإن كانوا خيراً منه في الكلام، فهو خير منهم بالأوراد، والكلام فيه إظهار للنفس، ثم إن التعلم ممكن، ولكن إنما العلم بالعمل، فإذا علمت شيئاً فأجهد نفسك في العمل به، لتعرف النفس أن العلم بلا عمل لا ينفع، وأن ذلك هو المقصود منه، انظر إلى ابن علوان كيف لما اجتهد في تعلم العلم والأدب، حتى أحكمه ليكون في منزلة أبيه عند السلطان، وما نفعه إلا لما حصلت له من اللَّه العناية، رجع إلى العمل بعلمه، فانتُفِعَ به، فقال السيد عبدالرحمن، نعم هكذا مليح، إذا حصل بالغَرْف من غير كد، فقال سيدنا، نعم، ولكن أصلِح وِعاك من أسفله، وغَطِّهْ من فوقه، لئلا يسقط ما فيه أو يتَطيَّر، فيسلم لك ما فيه ويحتفظ حتى إن احتجت إليه نفعك، وإلا بقي لك عُدة كالخزانة، ثم قام نفع اللَّه به إلى الصلاة، وهكذا كلامه على عادته، إذا جلس في الضيقة خارجاً للصلاة، فإذا نهض منها داخلاً إلى الصلاة، فلا عاد يقبل الكلام، ولا يُحب إن أحداً يكلمه حتى يرد السلام، اهـ ما أردنا ذكره من تلك الإشارات الحاصلة منه نفع اللَّه به بالتعريض في هذه السنة، وإلا فهي كثيرة فيها، وفي غيرها لكن أكثرها فيها، حتى إنه رضي اللَّه عنه قال لي في شعبان
(١/٢٤١)
منها، إذا حججت فلا تجاور، وسر إلى بلادك بَرّاً، فكتبت ذلك في وريقة كالأصبع خوف النسيان، ومن حين كتبتها لم أدر أين وضعتها، وضاعت علي فلما كنت عشية يوم بالمدينة المنورة، والحاج العُقَيلي يريد المسير بعد صلاة الصبح، وفي عزمي الإقامة بالمدينة أربعين يوماً، وكنت ناسياً أمره لي بالسفر براً، فبيننا إذ ذاك أقلب أوراقاً، والشمس قد اصفرت، وإذا بتلك الوريقة واقعة في يدي من غير قصد مني لها، فلما رأيت فيها ذلك، ولا يمكن إلا مع الحاج العقيلي المذكور، عزمت على المسير معه
(١/٢٤٢)
وقد مرض سيدنا نفع اللَّه به سنة ١١٣٠ وابتدأ به المرض في ٢٧ شهر رمضان، وبقي يتزايد عليه إلى ليلة ثامن ذي القعدة منها ثم جعل يخف قليلاً قليلاً إلى ليلة عيد النحر، فخرج رضي اللَّه عنه ليلة العيد إلى المصلى وصلى فيه وحضر حلقة قراءة القرآن، وقرأ معنا من أول الأعراف إلى وما تكون في شأن من سورة يونس، ثم دخل، وبقي مدة السنتين متعافياً فلما كان يوم ٢٧ من رمضان من سنة ١١٣٢ ابتدأ به المرض وبقي يتزايد وتختلف عليه أنواع من المرض، كما سيأتي تفصيله عند ذكر وفاته نفع اللَّه به، إلى ليلة ثامن ذي القعدة منها، فانتقل إلى رحمة اللَّه ورضوانه وقُربه، فقال لي ابنه السيد الحسين، لعل هذه السنتين هما اللتان، أعطاهما لحسين بافضل، لما استوهب له من أعمارهم، فكل من أصحابه أعطاه شيئاً، وإن سيدنا أعطاه هاتين السنتين، فعاش حسين المدة التي وُهبها، وإن مرض سيدنا الأول هو مرض الموت، ثم رد اللَّه تعالى عليه تلك السنتين كرماً منه ورحمة للعباد، فعاشهما سيدنا والحمد للَّه، ويشهد لِمَا قال السيد حسين، كون المرض في المرتين بسابع وعشرين رمضان، وأنه يتزايد إلى ثامن ذي القعدة، ثم جعل يخف المرض في الأول قليلاً قليلاً، إلى أن بريء منه، وفي الثاني جعل يتزايد كذلك إلى ليلة ثامن ذي القعدة، ثم انتقل فيها، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك
وطلبه رضي اللَّه عنه صهر له أن يَمُرَّ عليه، فقال نفع اللَّه به، لا، ما عاد نقدر على ذلك، فتعالوا أنتم إلى عندنا لأنكم أخف منا، فأنا اليوم في فَيء العَشْوة، فاسأل فلاناً كيف كُنَّا أولاً في مراحنا ومجيئنا، وهذه الأمور قد مضى حِلّها، وقد شبعنا من كل شيء إلا من أمور الدين، وأما أمور الدنيا فلا رغبة لنا فيها، ولكنا أيضاً قد شبعنا منها، وما نحب اليوم من يتردد إلينا إلا لأجل أن يسمع كلمة ينتفع بها في دينه، أو كلمة عِظَة أو عبرةً تنفعه
(١/٢٤٣)
وقال رضي اللَّه عنه، بلغنا أن رجلاً قال للسيد أحمد الهندوان، إن فلاناً أي سيدنا سَلَبَكَ، فقال، إذا لم يسلبني إلا فلانٌ فبركة، حيث لم يكن غيره، وإذا كان إلا هو، الحمد للَّه، فحقنا عنده محفوظ، ونحن أي سيدنا ما معنا إلا ما قاله اليافعي في قصيدة يصف نفسه، ( فقير ضعيف يافعي مخلّط ) وكل أهل اللَّه يرون أنفسهم كذلك، ومعنا محبة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه وأهل البيت والأولياء الصالحين، وليس معنا ما نُسْلِب به، إذ لا يَسلُب صاحبَ السيف إلا من معه سيف أقوى منه
وسألته رضي اللَّه عنه عن سبب تكرير الشيخ علي في البرقة إلباس الخرقة لعياله وأهله، ومن ذكر معهم، فقال نفع اللَّه به، لا بد في كل موضع من معنى، لكن البليد لا يتنبه للمعاني، فقد ذكر الإمام الغزالي، إن البليد إذا أَكَدَّ نفسه فقد يدرك القليل في الزمن الطويل مع التعب الكثير
ما قال في محمل كلمة الصالحين
وإذا سمعت كلام أهل الخير، فما دمت تجد له محملاً في الخير، لا تخرجه منه، حتى إلى المباح، ونحن لو جاءنا رجل من أهل النفوس، وصَافَحَنا وكَلَّمَنا كلمناه، ومررنا على حالنا، ولكن لا بد ما يخطر في باله شيء فيقول ما درا بي، أو ما بالى بي، وربما يعزم على عدم الاجتماع بعد ذلك، فلا بد ما يخطر في بال الرائي شيء من هذا، وكل ينفق مما عنده، مثل الأسواق والمخازن، منها ما يباع فيه المسك، ومنها ما يباع فيه غيره، فلا يستوي العطار والبيطار، والكلام يتفاوت بتفاوت الناس، وتفاوت الحال، وتفاوت المجلس، وتفاوت حال المخاطب، وتفاوت الزمان
ما قال في طبع الصغر
وقال رضي اللَّه عنه، من وقت صغر الإنسان يظهر عليه خلقه المطبوع عليه، وطبع الإنسان الذي ينسب إليه هو ما غلب عليه
(١/٢٤٤)
ثم ذكر قصة الشيخ أبي بكر بن سالم، ودَفْعه القروش إلى أولاده، يختبرهم، وأن ولده الحسين من دون إخوانه، ربط ما أعطاه إياه في ثوبه، والبقية لعبوا بها حتى راحت عليهم، وفي اليوم الثاني سألهم عن ذلك فأخبروه والحسين قال، هاهو مربوط في الثوب، فقال له، تضم الدنيا، ستقع عليك الدنيا من السقف، ثم بعدما كبر وقام في مجلس أبيه، فبينما هو جالس مع أصحابه، إذ وقع في المجلس وِجْبُ تمر من أوجاب مصفوفة في الدار، فقال الحسين، اليوم تَمَّ علينا ما وَعَدَنا به الوالد، إنه ستقع عليك الدنيا من السقف
وقال رضي اللَّه عنه، لا تَعُدَّ علماً إلا ما كان محفوظاً، وما لم تحفظه فهو علم غيرك، لأنك تنقله عنه، وإنما يربي الناسَ علماؤهم، وتربيهم ملوكهم، وتربيهم شيابتهم، واليوم ما شيء من هذا، وأكثر العلوم ما تلقيناها إلا من الأولين على ألسنتهم، كحضور المجالس، وإتيان الصلوات، وإجابة الدعوات، ونحو ذلك، والتأدب مع الجلساء، ومعرفة منازل الناس، ومراعاة حقوقهم ومعرفتها، وتنزيل كل إنسان منزلته
وذكر رضي اللَّه عنه حضور المساجد، مع أكل ذي الريح الكريه، فذمه جدًّا وأنكره، وأنكر وذم من يتسبب في ظهور رائحة كريهة في الجابية، وذمّ أيضاً من يَجهر خلف الإمام، ثم قال، هذه العلوم التي على الألسنة، وإن كان في طاعة فيحصل بسوء أدبه ما لا تقابله طاعته، والأدب ما هو إلا ما تربى عليه الإنسان من صغره، وأخذه قليلاً قليلاً حتى يتربى عليه ويتقنه، ثم يقيس عليه ما في معناه
والحاصل، إن التغافل والتجاهل في هذا الزمان ما أمكن هو الذي ينبغي ويحسن، لئلا يتربوا ويخرجوا إلى الباطل
وقال رضي اللَّه عنه، الأدب أن لا تؤذي أحداً، وإن أوذيت صبرت، وحسن الصحبة والمجالسة بما أمكن، ثم أنشد هذا البيت ،
صيّرت ذاك المجلس صفَّ النِّعال إذا جلست مجلساً بلا أدب
ما قال في إنكار بعض العوائد
(١/٢٤٥)
وقال رضي اللَّه عنه، علوم الأولين كلها سهلة، إنما هي حديث وأثر وكلام السابقين، فهذه كانت علومهم، والعلم يزكو إذا كان من الطرفين، وهو أن يأخذ ذو العلم القليل، من صاحب العلم الكثير، وهو أيضاً يعلّمه ولا يمتنع من تعليمه، وما عاد اليوم إلا عد النخيل والنخاش والتقصيف يسمى تقصيف الأظافير، وهو إخراج الثمرة من النحر، ولو بقيَتْ أكلها طير فكانت من رزقه، ولو وُلِّيتُ أمرَ البلاد أو أطاعني الوالي لَطَرَّبت على أشياء من العبادات، وأشياء من العادات، أن لا تُفعل إلا في بعض الأوقات، كالسرعة بتخبير النخل، وأن يكونوا فيه كعادة السلف، فإن المال مال اللَّه مُسْتخلف عندهم، ويريدون يمنعونه الفقراء والمساكين، بل حتى الطيور، ويجمع الإنسان ما يكفي جماعة، ويجعله عند امرأة، وتحت نظرها، وما عاد الدين إلا لازق، كالطينة تلزقها في الحائط، فعسى حسن الخاتمة، وأنا مؤمل مثل هذا يحصل من بعض من يلي أن يساعدنا عليه، والناس اليوم إنما هم عبيد العصا، وما معهم سيوف ورماح يقاتلون بها، فيحصل منهم الرجوع إلى الصواب قهراً، كما أطاعوا في أخذ أموالهم قهراً، وكنا مؤملين مثل هذا لكن هذا الرجل ما لزق، فإذا كان الولاة بأنفسهم يتعاطون الربا، ويفتيهم في ذلك علماء السوء، كيف الحال؟، وهؤلاء إنما هم أعداء الدين لا ممن ينصر الدين، فالولاة طلبوا الولاية ليَظلموا، والعلماء تعلموا العلم ليتولَّوا على الأوقاف وأموال اليتامى، فيأكلوها، ويفتوهم بِحِيَل يَسْتَحلُّون بها الربا ونحوَه مما حرم اللَّه عليهم
وقال رضي اللَّه عنه، إن أهل الزمان نسوا اللَّه بترك حقوقه، فسلط اللَّه عليهم ما يشغلهم، حتى لو دعَوا لم يستجب لهم، وتُنْكِرُ أصواتَهم الملائكة، لأنهم لم يألفوها بسماع ذكر أو غيره من أمور الطاعة، كما ورد في حديث، (( فأنى يستجاب لذلك ))
ما قال في المضطرب في المحنة
(١/٢٤٦)
وقال رضي اللَّه عنه، قيل إن المضطرب في المحنة كالمضطرب في الحبل، كلما تحرك ازداد شنق رقبته، وأنشد هذا البيت ،
مُتْعِبَةٍ خيرٌ من الصبر ليس لذي محنة مؤذيةٍ
ما قال في الماء المسخن على النار
وقال رضي اللَّه عنه، إنه لم يبلغنا عن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فيما بلغنا أنه توضأ بماء سخن على النار
وقال رضي اللَّه عنه، لا ينبغي أن يُترك دخول السوق تكبراً، لأن اللَّه تعالى ذكر الأنبياء بدخول الأسواق، وذكر الكفار بإنكارهم ذلك عليهم، فيدخله لقضاء حاجته، أو كان طريقه عليه، وإنما تركوه تجنباً وتنزهاً من أماكن الشياطين واللغو
وقد كان السلف يدخلونه يأخذون حوائجهم منه، واشترى سيدنا علي منه قميصاً وسروالاً
وقال رضي اللَّه عنه، متى فرحت بشيء من أمور الدنيا، واطمأننت به، فأنت ناقص عقل ودين، وزيادة أحدهما أو نقصه يستلزم مثله في الآخر، ولا أحسنَ أهلُ الزمان تدبيرَ دينهم ولا دنياهم، بل هم في دنياهم كالعين العوراء ضعيفة النظر، وفي دينهم كالعين العمياء ليس تُبصر أبداً، فكلما دار الزمان قليلاً تغير أهله، فترى الإنسان يَقْصُر عن مماثلة أبيه، ويعجز في دينه ودنياه، حتى في القوة والهمة، ويعرف الإنسان مرض قلبه، ونقص دينه وعقله، وهو أعرف به من غيره، ثم لا يهمه ذلك أن يقصد طبيباً من أطباء القلوب يداويه، ويُسَلِّم الأمر إليه، ولو وقع له أدنى مرض في بدنه لاهتم له، وطلب المداوي، ويقال، إن المريض أعرف بالعلة من الطبيب، أو كما قال
(١/٢٤٧)
وقال رضي اللَّه عنه، لا ينبغي للطالب أن يقول مروني بكذا أو أعطوني كذا، فان هذا طالب لمطلوب نفسه، بل يكون كالميت بين يدي الغاسل، إن أقاموه في شيء ابتداءً منهم فليمتثل، وإلا فليقف، فإنه لا يدري بما يصلح له، وهم أعرف بذلك منه، فإن الناس مختلفون، أحد لا يصلح له إلا خدمة الشيخ، وأحد لا يصلح له إلا خدمة الفقراء، وأحد يصلح له غير ذلك، على حسب اختلاف غرائزهم وفِطَرِهم فقلت له، فإن أقام الطالب عند الشيخ، وطالت المدة ولم يُقمه في شيء، فقال، في الطاعة بركة، ولكن يمتثل فإنه مادام يطلب شيئاً بنفسه، لم يحصل له، فإن الأشياء موزعة لكُلٍّ ما يصلح له، ثم ذكر قصة الإمام الغزالي حين مضى يطلب، فجاء إلى بعض المشايخ فقال، أريد عندكم خدمة، فقال، ما عندنا لك إلا حجر الاستنجاء تغسله كل يوم
وقال رضي اللَّه عنه، أكابر الأولياء كالشمس، وقابس النار، إذا أتاهم الطالب، فإن كان متأهلاً للشيء، أقدحوه في لحظة، وإلا أقاموه حتى يتأهل، ثم إنهم مختلفوا الأحوال، فمنهم من هو كالقبس الصالح العامل يُوري من أول مرة، ويؤثر معه ذلك، ولكنه لا يظهر عليه له أثر في حياتهم، كما إنه لا أثر للسراج مع طلوع الشمس، ومنهم من لا يُوري إلا بعد مرار متعددة، ومنهم من لا يوري بحال كالعُطُب الدويل الذي ما فيه رائحة الدوى، ثم بعد الإيراء، منهم من يثبت فيه ذلك كما تقدم، ومنهم من ينطفي في الحال، ومنهم من يقيم معه ثم ينطفي على حسب الصلاحية لذلك وعدمها، وقد سمعت سيدنا الحبيب نفع اللَّه به يوماً بعدما فرغ القارئ من قراءته في رسالة المريد، يقول، إنا لم نُسَمِّ من ألَّفْناها بسببه، لأنه رجع بعد ذلك عن الإرادة
وقال لي الأخ العزيز عوض بن صباح، سمعت سيدنا الحبيب نفع اللَّه به يقول، من جاءنا ومعه السراج والعشمة، ما علينا إلا نَعْلق له لا غير
(١/٢٤٨)
وقال لي رضي اللَّه عنه يوماً، أوصيك بهذه الوصية، وأوص بها أنت، إذا دخلت في أمر ديني أو دنيوي فاجتمع عليه
وقال لي يوماً أيضاً نفع اللَّه به، الرجل الصالح لا يكلف أحداً إلا بما وافق عنده، ما لم يكن إثماً، أما سمعت قول شعيب لموسى عليهما السلام، {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }، إذ لم يُعيِّن على موسى ما شق عليه بل ما هان وخف، ولو قال من الصابرين، لدل على أنه ما يراعي في الأمر أحداً
ما قال في شدة الشوق مع البعد بخلافه مع القرب
ثم ما قال في العراق
وقلت له رضي اللَّه عنه يوماً، وذلك يوم المولد الشريف، بعد الظهر سنة ١١٢٥ وكان مجلس أنس وبسط، ما لنا في البعد عنكم نحس للقلب إليكم ميلاً كثيراً، فإذا كنا عندكم لم يبق لذلك أثر، فقال نفع اللَّه به، إن الصالحين يحبون قلة تعلق الناس فيهم، أو قال بهم، ويريدون منهم أن يجتمعوا للَّه ورسوله، لأن اللَّه تعالى يغار إذا رأى عبده متعلقاً بغيره، وكذلك الرسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وقد ذكر أهل الاعتقاد، إن المتعلِّق مع المتعلَّق به كالشمس، يُتَمكن من النظر إليها مع البعد أكثر منه في القرب، ثم ذكر أبياتاً من قصيدة ابن بنت الميلق ،
والمرء إن يعتقد شيئاً وليس كما يظنه لم يخب واللَّه يعطيه
وليس ينفع قطبُ الوقت ذا خلل في الاعتقاد ولا من لا يواليه
(١/٢٤٩)
فقلت، فعسى إن بُعْدنا عنكم يحصّل الاجتماع بعد ذلك، فقال نفع اللَّه به، إن الجسد قبرُ الروح، والقَبْرَ قبرُ الروح والجسد، الجسد ماكث فيه، والروح يتعهد، فإن رأيتنا في القبر الأول، وإلا ففي القبر الثاني، والسادة آل أبي علوي يحبون تلك الجهات، لأنها كانت أصل موطنهم ومهاجرهم، وهم هنا أغراب، حتى إن الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر العيدروس، في أوقات غيباته حالة السماع، يذكرها يقول، حَضَرت في المكان الفلاني منها، واسألوا فلاناً اجتمعت به في المحل الفلاني، وَبَدَنٌ عندكم، وقلبٌ عندهم في العراقات والشامات، وفي أهل تلك الجهة من أصحاب سيدنا علي رضي اللَّه عنه، وهم الذين صبروا معه، ونحن نطرح الأمور على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهو يجعلها إلى اللَّه، قلت، ونحن نجعلها عليكم، قال، إن شاء اللَّه
وقال رضي اللَّه عنه، نود أن ننفع جيراننا وأصحابنا ونحوهم بما أمكن، ولكن خَالَفت الظنون اليوم، ومن نعرفه لا نسمح به للنار والعار، والزمان زمان حيرة، فينبغي أن يسمى، مخيّب الظنون، وهذا بسبب أهله، وأما الزمان فهو ليل ونهار، والميزان موجود بلا شوكة، وكل يطرح من الكفة هذه، ومن الكفة هذه، ولو تركوه من غير طَرْح عُرِف الوزن، فعسى اللَّه أن يلطف، واللَّه من ورائهم محيط
وقيل له نفع اللَّه به، إن الناس اليوم لا يسمعون كلام الأخيار، فقال، لأنهم ما هم أخيار، وهل الحمار يساير الخيل وقال، طرق التصوف وإن تعددت، فهي طريقة واحدة وهي مجاهدة النفس، والخروج من كل ما تدعو إليه، وهذا أمر عسر، ولكن ربما تكلم بعضهم في مسألة وأكثر فيها الكلام، فنسبت إليه
(١/٢٥٠)
ومر في القراءة في "قوت القلوب" وقت الدرس ذِكْرُ التوكل، وأحوال المتوكلين، فقال، مثل هذا يتيسر للمتجردين عن العلائق كلها وما ذلك ببعيد في حقه، ويمكنه أن يكون بحيث لو مر على وادي ذهب لم يأخذ منه إلا قدر حاجته، وأما من ورط نفسه في العلائق، فلا يمكنه ذلك، وإن حدث نفسه به كان مطالباً بأشياء دونها نَزْع الروح، فَلْيَرض بدرجة أصحاب اليمين، والغالب إن الرجل المصلح اليوم في أول درجة أصحاب اليمين، إلا إن كان أحد خامل مضمر للصبر واليقين وحسن الافتقار
وقال رضي اللَّه عنه، في قولهم في المتوكل، أن يكون بين يدي اللَّه كالميت بين يدي الغاسل، قال، أي يكون كذلك في الباطن لا في الظاهر
وقال رضي اللَّه عنه، أمور الدين وأمور الدنيا كلها إذا رَخُصت هانت، وقد ضعفت كلها، ولا عاد بقي منها إلا رسوم كالزرع الذي صُرِب وبقي أصوله
وقال رضي اللَّه عنه، الهَلَع مع الفقر عيب، كالبطر مع الغنى، وينبغي لفقير هذا الزمان، أن يكون أخف من العُطُب على الناس، وإلا أثم فيهم وأثموا فيه، وعلامة الزاهد في الدنيا إنه إذا دخل عليه شيء منها فوق حاجته يستوحش منه، فيرد الزائد أو يخرجه في الحال بلا مهلة، وهذا أقل الزهد، وعلامة الراغب فيها أن يستأنس بما يحصل له منها، ومن عرف الدنيا زهد فيها، ولو كان ما يؤمن بيوم الحساب، وقد أجمعت جميع الملل على ذمها وأجمعت جميع الأمم التي جاءت إليها الملل على حبها، ومعظم آيات القرآن في ذم الدنيا، ومرة قال، نحو ثلث القرآن في ذم الدنيا والتزهيد فيها، وأبلغ آية في ذمها قوله تعالى، {وَلَولآ أَنْ يَّكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا } إلى قوله، { لِلْمُتَّقِينَ }
انظر ما أخبر عن حاله
(١/٢٥١)
ونحن بحمد اللَّه لا نبالي بما يفوت منها مما في أيدينا، إلا إن كان في غير محله، غارة عمريَّة، وما هي عندنا إلا كحيثة جِربَة، سَهْلٌ علينا إخراجها، ولم نخش إلا من عدم الإخلاص
ومرة قال، لو كان للدنيا عندنا قَدْر ما ولَّيناها فلاناً، يعني خادماً له كان كثير النسيان فربما أعطاه قروشاً يشتري بها حاجة فيضعها في طاقة فينساها فتفوت
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا، وما هي الدنيا؟، قال بعضهم، إذا أردت أن تعرف الدنيا فاسأل عنها أحداً في سكرات الموت
ما قال في التروح والتنقل
وقال رضي اللَّه عنه، كانوا إذا دخل آذار، يحبون التفرج والخروج من الديار، إلى الخلا والقفار، تنزيهاً للخواطر، وتروُّحاً للقلوب، لأن الروح في الجسم محصور، فإن انحصر الجسم أيضاً اجتمع حصران، فيتولد من ذلك ضعف المزاج، وهذا طبعنا نحن، والذي نحبه ونفعله، إلا إن حصل مانع منه، وينبغي للإنسان أن لا يستقر به مكان، بل يسير في أرض اللَّه، لعله أن يرى أكمل منه فيقتدي به إن قدر على ذلك، وساعده الحال والوقت، أو يرى معتَبَراً فيعتبر، أو يفيد أو يستفيد، ثم أشار إلى أبيات ،
تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرّجُ هم واكتسابُ معيشة وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته يعيش بها ما بين واش وحاسد
وأهل الزمان لو تعب أحدهم في شيء من أمور الدنيا غاية التعب، وعَرِق فيه عشرين عرقة ما عَدَّ هذا تَعَباً، ولا يبالي بذلك، ولو كان شيء من أمور الدين، رأى السهلَ عسيراً، والقليل كثيراً، وقال، من يقدر على هذا
(١/٢٥٢)
وذكر رضي اللَّه عنه، بعض الأشياء من علم الفلك واختلاف الزمان على الإنسان، واختلاف الأحوال عليه بسبب ذلك، ومعرفة شهور الروم، وما تدخل به من نجوم الشبامي، وما يناسب في كل شهر منها من مأكول وغيره، ثم قال، أردنا فلاناً يحفظ هذه الأشياء، فما أمكنه، والإنسان إذا حفظ في صغره، يرجع ينتفع بمحفوظه في كبره، سيما إذا صار له مظهر، وقد جعل اللَّه للإنسان بداية ونهاية ووسطاً، فيحفظ الإنسان المهم ويذاكر بغيره
وقال رضي اللَّه عنه، الأشياء لها عسر ويسر، فخذ باليسر في الأمور التي تعرفها، حتى يساعدك الناس، لأن الطريق معك فساير أهلك وأصحابك بما يمكنك، وفيما لا لوم عليك فيه
ما قال في السادة آل باعلوي
والسادة إلا طاهرين فلا تنجس نفسك، وهم خاملون ما يظهر أحد منهم إلا بالدين والزهد وأصل الإقبال والتوجه، وبيتهم معمور، وليس المعمور كالخارب، وقد قال السقاف، أولادنا كمن يحفر في طينة طيبة قريبة الماء، وغيرهم كمن يحفر في أصل جبل، أو قال سبخة، أو نحو هذا
فتن آخر الزمان
وقال رضي اللَّه عنه، إن فتن آخر الزمان مثل النار تحت الرماد، فليفرح الإنسان مادامت مندفنة تحته، ولا يحركها فتظهر، وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( الفتنة نائمة، لعن اللَّه من أيقظها ))، والفتن موعود بها في آخر الزمان، وآخر ما تأتيه جزيرة العرب
وقال رضي اللَّه عنه، إنما يُستدل على كمال الشخص بتأديته الفرائض على كمالها، لأنها عمود الدين، فمن أقامها بواجباتها وسننها، وحضورها من غير وسوسة، دل ذلك على كماله، وحسن عناية ربه به، وإن عكس دل ذلك على عكس ما ذكر
(١/٢٥٣)
وقال رضي اللَّه عنه، ثلاث مقامات الدين مُترتِّبة، لا يحصل للإنسان الثاني حتى يُحكِم الأول، مقام الإسلام، ومقام الإيمان، ومقام الإحسان، ولا تكلمْ أهل الزمان حتى في التوكل والزهد، إلا إن كان مر ذلك في كتاب، ومن لا يحسن الإسلام ولا قام بواجب صلاة ولا زكاة، كيف يمكن معه ذلك، ومن لم يكن معه لبن، من أين يستخرج الزُّبُد والسمن، وتراهم يقصرون في إخراج الزكاة، أحد يعطيها للأشراف، وأحد يجعلها ضيافات، يتجمل بها، ويحسبها من الزكاة، ولا تحرك من رأيته في هذا الزمان يسيّب، أو ساكتاً فقد كانوا إذا حُركوا يخرج من تحريكهم قطعة الذهب والجواهر، وأما هؤلاء إذا حُركوا لم يخرج إلا العظام، أو جهمومة الشاة
وقال رضي اللَّه عنه، لا يَهاب أو لا يَجبن مِن أُمُوِّ الآخرة والكرم إلا خسيسُ الأصل، والبخيل هو الذي لا يتصدق مما في يده ويقول، لو جاءني كذا وكذا من المال لتصدقت، فإنه كاذب، لو جاءه ما أراده مَنَعَهُ منه ما مَنَعَهُ مما عنده الآن من وساوس النفس، وتقدير الحاجة إلى كذا، وإلى كذا، ويعزم على أمور لم يعزم عليها قبل ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، لم يتأسف الإنسان إلا على عمره إذا ضاع بلا فائدة دينية، وأما أمور الدنيا فكلما أقل منها كان أحسن، وأنشد هذا البيت ،
ضَيّعت صفوك في أيامك الأُوَلِ يا وارداً سور عيش كلُّه كدر
وإذا رأيت الشمس على الجبل عادك تقول، أسير إلى الوادي، لا، إنما تقول، غدوة، والموت ما له غُدْوة، وما غدوته إلا القيامة وليلة البرزخ
(١/٢٥٤)
ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض السادة فسأله، كيف حالك وقوَّتك، ثم قال، نعم أيام القوة والراحة ما هي مثل أيام الشدة والضعف، فتراك إذا حصل لك قبض في باطنك، تحس أعضاءك ضعيفة، وما فائدة العمر إلا الطاعة، والشريف أدنى شيء يؤثر فيه، فينبغي أن يبقى على طهارته، ولا يتدنس بشيء من الأمور، وكانت الأوقات مضبوطة، وكلٌّ لازمٌ طَوره ولا يتعداه، واليوم كلٌّ متعدٍّ، وكلٌّ غيرُ مضبوط
ثم ذكر نفع اللَّه به البرد، وإنه حصل به بعض منفعة لزرع البُر، فقال، إن اللَّه سبحانه لم يدبر شيئاً إلا وفيه صلاح، يدبر الأمر، يدبر الأمر، فإذا دبر الأشياء هو سبحانه، فما لك أنت والتدبير
ما قال في الأدب مع المرموقين بالخير
(١/٢٥٥)
وقيل له رضي اللَّه عنه، قد جاء إلى هنا السيد فلان وقيل له، إجلس إلى الظهر، فضحك، وسكت قليلاً، كذا عادته إذا لم يستحسن كلام المتكلم، ثم قال، لا عاد تمصّع النصاب المبلولة، وإلا قيل لك، إفتلها، وكل من كان عنده أحد من المرموقين في الدين أو في الدنيا يحتاج إلى أدب، وإلا ما حصّل شيئاً، ونحن نعرف أهل الزمان، وأنهم مثل الدابة، إذا وردت الماء ظمآنة ما تلبث إذا رويت أن تبول فيه، وأنت إيش لك في الفضول، تقول للناس، إجلسوا، وماذا عليك منهم، اتركهم وما أرادوا، ومن جاء عند أحد من أهل التصوف مستفيداً أو قال زائراً، فجلس إليه يحادثه بطلت فائدته، قال ذلك الفقير، فأعلمونا أنتم بالأدب، وإلا فعقولنا ما تهتدي إليه، فقال نفع اللَّه به، اترك كل ما لا يعنيك، ولا تسأل عما لا يتعلق بك، فإن جاء أحد من جهة أحد تعرفه، فاسأله عنه، والزيادة على ذلك فضول، قال، فإذا جاء أحد نحب له الاجتماع بكم، ما نقول له؟، قال، قل له تعال العصر، وقد جعلنا لهم مجالس، اللَّه يبارك لنا ولهم فيها، ونحن نيتنا فيهم رجاء أن ينفعنا اللَّه بهم، خير من نيتهم فينا، ومجالسنا مع الناس يلزمنا فيها أمور ليست تلزمكم، أقل الحال نسأله هل تزوج، وهل جاءه أولاد، وكيف هم، ومثل ذلك تضييع وقت، وقد قال لنا بعض مشايخنا الذين أخذنا عنهم، إذا صافحكم أحد، فلا تسألوا عنه، فقلنا، إذا جاء إنسان من بُعْد يحتاج إلى السؤال عنه، وكل أحد يريد منا كلاماً، والشيخ عبداللَّه العيدروس، مع أنه ما عاش في الناس إلا خمساً وخمسين سنة، ما مات حتى ترك زيارة التربة بسبب الناس، وكثرة شاغلهم، حتى إنه يصل إلى طرف التربة، ويقرأ الفاتحة ثم يرجع، فهل سمعتم عمن بلغ سننا هذا كان يجالس الناس كثيراً، ويخالطهم مثلنا، فقيل له، هذا أمر قد اختاره اللَّه لكم، قال، فاللَّه يبارك لنا فيما اختاره لنا، قال ذلك وهو جالس في
(١/٢٥٦)
الضيقة، خارجاً لصلاة الظهر، يوم الخميس حادي عشرين ذي القعدة سنة ١١٢٨، وسنه إذ ذاك نفع اللَّه به ٨٥ سنة، تنقص شهرين وستة أيام
ونُووِلَ يوماً رضي اللَّه عنه ماء، وكان الوقت شتاء، فقال، سبحان اللَّه، أين تلك الحلاوة التي كانت في الماء أيام الصيف، الجنة ليس فيها برد ولا حر، البرد والحر في النار، الحر في مدنها، والبرد في أوديتها، ولا تلك الحلاوة فيه إلا إذا كان بارداً، ويمثّل به في شدة الحلاوة، فيقال، أحلى من الماء البارد للظمآن، ثم لا يقيد بكون ذلك في الصيف، لكون المطلق في كلام العرب، يحمل على المقيد عرفاً وعادة مفهوماً عندهم في لغتهم في كثير من الإطلاقات
ما قال في الصبْر
(١/٢٥٧)
وقال له نفع اللَّه به رجل من السادة، أخي يسلم عليكم، وادعوا له، وكان ضعيف الحال، وابتلي في ماله من بعض ظلمة الجهة، فقال سيدنا في حقه، ما عاد ينفعه إلا الصبر، وهو عماد المؤمن، ويقدّر ما وقع عليه، أنه وقع بعد موته، فإنه لا علم له منه، ولا شغل ولا تعب، ولو كان له تريم بأطرافها، لا يبالي بذلك، فلما أن حصل له ذلك وهو في الحياة، فإنما ذلك ليثاب عليه، لأن حصول الثواب إنما يكون في الحياة، ولو كان ذلك بعد موته لم يحصل له الثواب، ويقدر كل شيء نزل به أنه ما نزل، كما قيل لحاتم طي، وكان مشهوراً بالسماحة والكرم، ما الذي يسهل عليك الكرم، فقال، أقدّر الشيء أنه ما كان، وبلغ من كرمه، أنه أصابتهم سنة مقحطة، أذهبت الخف والظلف، ولم يبق معه إلا فرسه، فورد عليه ضيف فلم يجد له ما ينحر له، فذبح له الفرس، فقالت له زوجته في ذلك فقال، وما نكرم به ضيفنا، فلم يألُ بذبح الفرس لإكرام الضيف، مع أنه ليس معه غيرها، وكان يضرب به المثل في الكرم، ثم انجر الكلام إلى ذكر علو الهمة، فقال نفع اللَّه به، مع علو الهمة تصغر في عين الإنسان جميع الأشياء الدنِيَّة، ولا يهمه إلا المقصود الأعظم، وذلك كالشجاعة فإن الشاجع لا يبالي بما يَعرِض له، ويُحتاج كثيراً إلى سعة الصدر، فمع ضيق الصدر قلَّ ما يحصل على شيء، وكان الشيخ عبداللَّه العيدروس كثيراً ما ينشد هذين البيتين ،
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وقال رضي اللَّه عنه، الفرق بين التأني والتواني، أن التأني التوقف حتى يتبين الأمر، والتواني مع تبينه يقف عنه، ويتساهل فيه ويتركه، والتأني في الخير محمود، والتواني فيه مذموم، وقد يتبين لك الأمر ولكنك غير مستعد له عدته، فلا ينبغي لك الإقدام عليه
ما قال في القاضي
(١/٢٥٨)
ودخل عليه رضي اللَّه عنه قاضي البلد، فبعد السلام والتحية كلمه بكلام يؤنسه، فقال له، لابد للإنسان من أمرين، الصبر والتقوى، لأنه ما يجيء عند القاضي إلا متخاصمون، ولو تبين لهم الحق، لأنه لو كان فيهم تقوى ما احتاجوا إلى الترافع للقاضي، فلا يرفع إليه إلا من بينهم مشاقة وخصومة، فالعمدة لك إنما هو الإصلاح، فاعتمد ذلك وتجنب الحكم ما استطعت، لأن الحكم عسر، فأصلح بين المتخاصمَين، واصرفهما عنك متراضيَين، وقد كان القاضي باهارون في وقته، جميع أحكامه إلا إصلاح بين الناس، وقد قال من تتبع قضاياه سنة كاملة، ما رأيت فيها حكماً واحداً، وإنما كلها إصلاح، وأين أنت اليوم وحكم الشرع، وقد قال الشيخ علي بن أبي بكر في وقته، لا يغرك قول من قال امش بنا إلى الشرع، فإنهم أخرجوا من الشرع عينَه، فبقي شَرٌ بلا عَيْن، فإذا أَرَيتَ اللَّه تعالى من نفسك الصبرَ، والورعَ، والتقوى، يرجى لك السلامة وتحرَّ ما استطعت وذكر قصة، إن رجلاً كان يمشي في طين ووحل على طرف نهر، وهو متحفظ على ثيابه، ورافعها خوفاً عليها من النجاسة، فزلقت رجله فسقط، ووقع طرف ثيابه على الماء، فسيبها كلها، وجعل يجرها في الماء والطين، وهو يبكي، وقال، هكذا الإنسان ما يزال يتحفظ في دينه، حتى يقع في أمر ثم يغرق فيه بكله، فينبغي أن يكون القاضي من حين يجلس على نية صالحة، من إكشاف الحق وتبيينه، وإصلاح بين المسلمين، وما لم يظهر لك تتركه على غيرك، كما كان بعض قضاة تريم يخلي واحداً يقوم عنه بسيوون
ما قال في ذم تمني البلاء
(١/٢٥٩)
وقال رضي اللَّه عنه، لا تقل وأنت في عافية، لو ابتليتُ صبرتُ، فإن الغالب إن من يدعي الصبر مع اللَّه يُبتلَى، ولكن اسأل اللَّه تعالى العافية، فإذا ابتليتَ فاصبر، ولا تغتر في نفسك بأحوال أقوام بلغ بهم البلاء كل مبلغ، فصبروا، فلعلك لو ابتليتَ لم تصبر، فكم من قائل، لو ابتلاني اللَّه لصبرتُ، فلما حل به البلاء لم يصبر، فتراه إذا تحرك له ضرس، أو ضَرَب عليه عرق، بات سهراناً، وأما أولئك الذين صبروا، فإنهم انكشفت لهم الآخرة فشاهدوها، فلم يبالوا بالبلاء، ودانوا أنفسهم فلم يعبأوا بالرفاهية واستوت هي والشدة عندهم
واعتذر إليه رضي اللَّه عنه بعض الفقراء، ظن أنه رأى عليه في شيء، فقال نفع اللَّه به، لا عاد يقع في خواطركم إن في خواطرنا عليكم شيئاً، لأنا أصبر منكم، وأوسع أخلاقاً منكم، وقد جربنا الزمان، وجربنا الناس، فمن فيه عشرة أخلاق وفيه خُلُقان تُعْجُبِنا منه عفونا عنه الباقي، قيل له، فإن لم يكن في الإنسان شيء يُحمد، قال، نرضى منه بقضاء حاجة، أو فتح كتاب، ونحو ذلك، ولو علم الناس بصبرنا على فلان، في قضاء الحوائج، لكان تعجبوا منا، فالحذر تظنون أنه يقع في خواطرنا على أحد شيء
ما قال في كلمة لا إله إلا الله
(١/٢٦٠)
وقيل له رضي اللَّه عنه، خاطركم بالدعاء لفلان بالثبات وهو شخص كبير السن، فقال، إذا أراد الثبات فليعَضَّ على قول لا إله إلا اللَّه، ويلازمها، فإن الطريق قريب جدًّا، وإن كان فيه مشقة، كطريق العقبة، تشق مع قُرْبِه، وإنما البعد على من دار عن الطريق، ولا ترى أحداً يَفتِن أحداً في دينه، إنما يَفتن من فَتَن أحداً في دنياه، فلا يكاد أحد من الرافضة، ونحوهم من المبتدعة، أن تسمعه يتعرض لأحد ليمنعه عن دينه ليدخله في مذهبه، وهذه الكلمة أي لا إله إلا اللَّه سهلة قريبة، فإذا رضي اللَّه ورسوله بقولها مرة واحدة، بعد كفر كذا كذا سنة، فأحرى أن يقبلها ممن لازمها مدة عمره، وإن كان عليه شيء من الكبائر، فمن لقي اللَّه بها يُرجَى منه تعالى له المغفرةُ ببركتها، وهي التي يشاغب الشيطان عليها، ويحرص أن يقطع الإنسانَ منها، وقد طلب النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من عمه أبي طالب أن يقولها مرة واحدة يشهد له بها، وكذلك الدجال لعنه اللَّه، إذا جاء يدعي الربوبية، مع كثرة ما يجيء به من الفتن، إنما يرضى ممن تبعه أن يقول له بكلمة واحدة، بأن يقر له بالربوبية، فكذلك جميع الفتن وإن كثرت، ففي كلمة التوحيد للإنسان مخلص كاف من جميع الفتن
وسمعته رضي اللَّه عنه يوصي بعض السادة فقال، إن أردت تنوير قلبك فعليك بلا إله إلا اللَّه في جميع أوقاتك، واجعلها شغلك، ولا تخرج منها إلا إلى قراءة القرآن، أو قول، اللَّه اللَّه
ما قال في المهدي
(١/٢٦١)
وأمرني رضي اللَّه عنه أنشد، فأنشدت بقصيدته على ريم وادي الرقمتين سلامي، وفيها ذكر المهدي، وذلك في مسجده الأوابين، يوم الثلاثاء ٢١ صفر سنة ١١٢٨، فقال نفع اللَّه به، هذه الأخبار التي وردت في المهدي، وتقريب وقوعها، بمعنى إنها واقعة لا محالة، وإن بَعُدَت، ولما ذكر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من أمر الدجال وقَرَّب فيه وبالغ في قرب خروجه، ظن مَنْ سَمِعَه أنه خارج في وقتهم، بسبب تقريبه لهم، وكذلك ما أخبر اللَّه تعالى من قرب الساعة، وتفصيل ذلك وتقريبه، وإخبارُ اللَّه تعالى على قدره لا على قدر الخلق
(١/٢٦٢)
وأنشدت بها أيضاً بأمره بين يديه، يوم الثلاثاء في دار آل فقيه في ٢٤ محرم سنة ١١٢٩ فقال نفع اللَّه به لأحد الحاضرين، أسمعت ما فيها من البشارة بالمهدي، وقد بُشِّر به من قديم، ولكن أمر اللَّه تعالى على قدره، والزمان قد كثر فيه الظلم وتَفَاحَشَ، وسنة كَثُرَ الخريف قلنا لولا أن في الخبر تتقدمه فتن كثيرة، لقلنا إنها من سنين المهدي، ولكنه خارج ولا بد، وإذا ظهرت الشمس ذهب الظِّلال أو قال الظلام، وناس يتمنونه، ويَدْعُون بخروجه، كل ذلك لأجل الدنيا، ولو كان يعطي الناسَ حقَّ الناس، ما كان عادلاً، وكان جائراً، وإنما هو يقسم بيت المال بين الناس بالسوية، ولا يعطي أحداً حق أحد، ولا أحسن من سؤال العافية، مع ملازمة أمور التوحيد، الخاص للخصوص، والعام للعموم، والمهدي جامع بين القطبية والخلافة كما سيدنا علي على مقتضى الظاهر والباطن، وهو مجدد لهذا الدين، ومعنى التجديد تقرير أمور من الدين بين أيدي الناس، طال بها العهد فيهم حتى اختَلَف فيها اجتهادهم، فيقررها على الحق، لا أنه يخترع من الكتاب والسنة أمراً لم يكن قيل فيحتاج إلى إلهامٍ من الحق، يعرف به الحق من الباطل، أو تقرير الصواب، قال، لكن كشف الأولياء لا يعمل به في الشرع، قيل، فالمهدي قال، أما المهدي فيلزم العملُ بقوله، لأنه مقرر من الشارع، وعلومه كلها وهبية، يفتح اللَّه عليه معاني الكتاب والسنة، فيقرر الأحكام الشرعية على أكمل وجوهها، وعلى الوجه المحبوب عند اللَّه ورسوله، وهذا هو علم أهل البيت النبوي، كما قيل لسيدنا علي رضي اللَّه عنه، هل خصكم رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بعلم دون غيركم، قال، لا، إلا فهم في كتاب اللَّه
(١/٢٦٣)
وحضر عنده رضي اللَّه عنه جماعة جاءوا من الحج، فقال، الناس مشتاقون إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أكثر من شوقهم إلى البيت، ولكن يمنع من ذلك الضعف، وقلة الطاقة، وذكروا من رخص أسعار الحرمين، فقال، إذا صلحت أمور الحرمين، صلحت جميع الجهات، لأن جميع الناس إنما هم على اللَّه ورسوله
وذكر رضي اللَّه عنه أشياء من أمور الأولين، خلفاء وغيرهم، فقال نفع اللَّه به، أمور التواريخ لا يحتملها ذو العقل الضعيف، لأنه يحصل له من ذلك عِبَرٌ ومذكِّرات، فلا يبلغه عن أحد فاضل ولا مفضول، إلا وله حساد، وعليه نمّامين، وناس يريدون الغدر به، مع أن الزمان صالح، والناس أهل دين، والخير ظاهر أظهر من الشر، فكيف في زماننا هذا
(١/٢٦٤)
أقول، فلهذا كان سيدنا نفع اللَّه به، لا يثق بأحد من أهل الزمان، حتى يأخذ حذره منه، وقد قال رضي اللَّه عنه، حصل لي مرة بعض مرض في الدماغ والرأس، فجاءني فلان بدهن الورد، فلم أقبله منه، وهو لنا صديق، غير كرهته لِمَا نعلم من ضعف عقله، فلم نثق به، ونحن لا نقبل من أحد دواء إلا أن يكون فيه خصلتان، العقل والنصيحة، فلا ينبغي أن يأمن كُلَّ أحد، لأن الطبائع تختلف، والجهات تختلف، والأدوية تختلف، والمقاصد تختلف، وقد حصل بيننا كلام وبين رجل ركب معنا في البحر، عندما سرنا إلى الحج بسبب الماء، لما رآنا نأخذ منه، ويعطونا أكثر مما يعطونه، فقال للنوخذا له، هذا ماء حملوه معهم، وقد حملنا معنا مَلاَء جحلة، أو قال أكثر، فقال، أريد النزول، ولا صبر لي على هذا، فنزل ليلاً، فلما كان الصبح جاءنا رجل في المركب، بقدح فيه ماء مذاب فيه سكر أبيض، وكان الوقت صيفاً، وقال، هذا لكم هدية من بعض المحبين، يبرد عليكم، فقلنا، لعله أن يكون من ذلك الرجل، فأخذت منه قليلاً، ثم ناولته لآخر لعدم ثقتي به، لما وقع بيننا وبينه فسألت عنه فقيل، قد نزل من الليل، وكان ذلك من غيره، وكذلك الملوك لا يأكلون طعاماً، ولا يشربون ماء، حتى يأخذ منه الذي أتى به خوفاً من وقوع شيء، وهذا في مقابلة ما يأخذونه من نعيم الدنيا، فإنها منغصة، وأيضاً فَالْوَهْمُ قد يعمل مع الإنسان في شيء ما منه شيء
تحري النية في الأمور المباحة
(١/٢٦٥)
وقال رضي اللَّه عنه، الأمور المباحة ينبغي أن يتحرى لها الإنسان نية، فإن لم يجدها من نفسه، فليسأل عنها أهل العلم المأمونين، وأَخْبِرْهُ بأمرك الذي تريد فعله، من بناء دار أو خلع نخل، وغير ذلك، وكانوا يتحرون النية، ويتعلمونها كما يتعلم الصغار القرآن، وقد أدركنا منهم جماعة، بنوا غرفاً بقَدْر حاجتهم إليها، يبنون قدر ما يحتاج إليه في الحال الحاضر، فإذا تزوج أحد من العيال، واحتاج إلى منزل وحده، بنى ذلك، فإذا تزوج آخر فكذلك، وعلى هذا تصير الدار كبيرة، بتكرر الاحتياج
ما قاساه من أهل تريم، وقصة آل باكثير
(١/٢٦٦)
وذم رضي اللَّه عنه ما يتعاطاه بعض الناس، من التهاون بالصلاة والزكاة، ثم قال، قد قاسينا من أهل تريم من شرارهم مقاساة شديدة، لأنا جلسنا لهم مجالس لم يعرفوها ولو رأينا منهم قابلية، بانتفاع في دينهم، كنا جئناهم إلى بيوتهم، وما معنا ومعهم شيء إلا إن كان بالعناية، نحن وإياهم، وإلا فقراءة الكتب ومطالعتها، قد فعلنا من ذلك ما شاء اللَّه، وما جئنا بشيء، وما عاد مثلنا ومثلهم إلا مثل حكاية عن أحد من آل باكثير، ناموا في بيتهم ليلاً وتركوا الباب مفتوحاً، فدخل سارق يدوّر في البيت شيئاً يسرقه، فلم يجد شيئاً، فأحس به بعضهم، فقال له، ماذا تريد، نحن أعرف ببيتنا منك، وقد دورنا فيه نحن قبلك في النهار، فما وجدنا شيئاً، فلا عاد تتعب نفسك بلاش، فقال السارق، أسحقكم اللَّه فلأي شيء جلوسكم في هذه الخرابة، فهذا مثلنا نحن وهم، وما رأيناهم إلا مخلِّين بصلواتهم، وزكواتهم، ومن أخل بذلك فهو ظالم، ورأيناهم مرائين، ومن لا ينتفع بما يسمع من العلم فلا عاد يروح يدور عالماً ينتفع به، ويوم تِنَبّون عليهم حتى يأخذوا منهم زكاة عشرة أرطال، فمن أي شيء هذا إلا من ظلمهم، فإن اللَّه سبحانه لم يطرح حجره على بعرة، وستر اللَّه جميل، ولكن من لا عرف نفسه ما يعرفه أحد، أو كما قال
(١/٢٦٧)
ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض السادة ثامن نجم النطح، فقال سيدنا نفع اللَّه به، في الوقت بُريد، وفيه فائدة، ولو لم يكن من فائدته إلا أنه يذكِّرك نعماً تحصل لك، وقد كنتَ فيها، والفكر أفضل الأعمال، ولا محل الفكر إلا الدنيا، وأما الآخرة فلا محل له، وإن وجد فيها فما هو إلا حسرات، كما حكى اللَّه عنهم، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِير}، لأنهم ضيعوا الفكر في وقته، والقرآن فيه كل شيء، إلا إنه ما يعقله إلا العالمون، وعهدة بيانه إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم على الإجمال، وتفصيله إلى العلماء وهو الاستنباط، وشيء بيَّنه للناس هذا البيان، لأن الاستنباط ليس كالوحي، والإنسان مأمور بالتفرغ للدينيات، ويصطفي منها ما هو الأحسن، لأن أمور الدين مختلطة، تستخلص بالفكر، والأمور ما تبغا إلا همة وفكر وفراغ
ما قال في قوله تعالى، سنفرغ لكم، الآية
وما قال تعالى، { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ }، إلا أنه سبحانه أمرهم بأشياء، وطلب منهم أن يتفرغوا لها، فلما لم يتفرغوا كافأهم اللَّه بما يناسب حالهم، أو قال مثل عملهم
ما قال في عقائد أهل حضرموت
(١/٢٦٨)
وذكر رضي اللَّه عنه ما يُتعارف بين الناس في لغاتهم وعوائدهم، مما لا مخالفة فيه للشرع، فقال، اعمل على الأمر المعتاد بين الناس، ولا تشذ عنهم حتى يتبين لك بطلانه، فحينئذ إتبع الحق ولا تشذ، فإن من شذ شذ إلى النار، لأنك ما عندك علم تُعوِّل عليه، ومثل هذا يحتاج إلى علم، وأهل الجهة قدهم مؤدبين في عقائدهم فقد كان فيها علماء، والعلم فيهم ظاهر، ألا ترى العامي يقول لخصمه، حسيبك اللَّه، واللَّه مُطّلع عليك، والنصيف اللَّه منك، ونحو ذلك، فهذا هو الاعتقاد فيُكتفى منهم بما اكْتَفَى به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من العامة وأجلاف العرب، فلا تذكر لهم البرهان، وكلام أهل الكلام، فإن ذلك يشككهم، وأين الناس اليوم، فإنهم موتى، لو جَرَّيت برجْل أحدهم ما علم، فلا تخض مع الناس في أمور الاعتقاد وأمور الآخرة، إلا فيما يوجب الخوف وتأكيد الاعتقاد
وقال رضي اللَّه عنه، اليوم ما يذوق بالفضائل إلا من هو من أهلها، أو قريب من أهلها، أعني الفضائل الظاهرة، خَل الباطنة فما فيها خوض، والأشياء إلا بالحظوظ، حتى إن رجلاً من أهل الكشف، ذكره الشعراوي اسمه الفرغل، وهو عامي لم يقرأ، فسمع قارئاً يقرأ، فبعد ساعة قال له، غلطت، قال، وما علمك؟، قال، كان يخرج من فيك نور، ثم بعدُ لم أره يخرج، فنظر فإذا هو قد انتقل من مقرأ إلى مقرأ، وهذه أمور السماع، ما يذوق بها إلا من يَعْرِف، إنْ ما ذاق بالصوت، ذاق بالمعنى
ما قال في بامخرمة
(١/٢٦٩)
وذكر رضي اللَّه عنه بامخرمة، وقال، في كلامه حِكَم، ولو هو على هيئة كلام العامة، فإنه عالم صوفي، صاحب رياضة، ما هو صوفي جاهل، قلت، هل كان في عسكر فلان الكثير ي لما دخل تريم؟، قال، نعم، وقد قيل له في ذلك، فقال، ما تبعته، إنما تبعت السَّعد وهو معه، كما إن الشيخ عبدالرحمن كان من حيث الغيب في عسكر فلان الكثيري، لما دخل شبام، حتى قال الشيخ معروف باعباد، لبعض جماعته، انظر من معه من الصالحين، فنظر فقال، معه الشيخ عبدالرحمن، فأهل الباطن لهم أحوال، تعرف من قصة الخضر فاستمد منها
ما قال في طلب العلم
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي للإنسان أن يتبحر في فن من العلوم، حتى يُنسب إليه ويُعرف به، قال سيدنا علي كرم اللَّه وجهه، مَن أَكثَرَ من شيء عُرِف به، ويتطرف في البقية من كل فن، ويأخذ مجامعها وجملتها، حتى إذا سئل عن شيء، فإذا هو معه فيه معرفة، ولا يكون جاهلاً، ولهذا صنف الإمام السيوطي النقاية وشرحها، وإذا حفظ علماً حفظ جميع العلوم المتعلقة به، بحيث إذا اقتصدتَ واقتصرتَ فيه كنت فيها كذلك مقتصداً ومقتصراً
وقاعدة، من كان عارفاً بعلم ومتحققاً فيه، إذا سمع من يتكلم في ذلك العلم الذي يحسنه ينبغي له أن يسكت ولا يتكلم، فيظهر نفسه، فإذا تكلم فإن ذلك يُعَدُّ منه سخافة، وكثير ممن معه باب أو عشر مسائل يتكلم مع كل من سمعه يتكلم في شيء من المذاكرة، وخير لك أن تحسن عشر مسائل وتتقنها من أن تقرأ كتاباً تامًّا لا تتقنه، وقد جاءنا رجل وكان يغلب عليه السكوت، لا يكاد يتكلم، مع أنه يسمع المذاكرات فلا عُرِفَ، فإذا هو يدِّرس في المذاهب الأربعة
(١/٢٧٠)
وقال رضي اللَّه عنه لرجل من السادة يريد السفر، آل باعلوي ما هم إلا بالمسابح والأوراد، وما هذا، يعني الأسباب إلا حق الضرورة، الذي لا بد منه، ومن خَرَج عن طريقة أهله، صار مثل الغراب، أعجبه مشي القطاة، فأراد أن يمشي مثلها فلم يحسن، ثم رجع إلى مشيته، فلم يعرفها ونسيها، وما يحسن بالإنسان إلا طريق أهله، فقال ذلك السيد، قد بَعُدنا منها، قال سيدنا، مازلت قريباً منها، فأنت عليها، ومن تركها بالكلية، فهو الخارج منها و اللَّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وما على الإنسان أن يحفظ إلا دينه وطريقته، والطريقة ما هي إلا القراءة والتسبيح والصلاة الجائزة، ما هو إذا نزل المنزل غفل ولَهَا، وجعل يهذي، ويصلي صلاة غير جائزة، أو أخرجها عن وقتها، وأَعِدَّ (يس) لكل مهم، وفيها سر عظيم، وعليها مدار كبير، حتى على ألسنة الناس، والسادة آل باعلوي ما يحسنون يربون الجاه، لأن أصلهم الفقر والمسكنة، وأهل الجهة لا يعرفون أمور الجاه، وإن حصل شيء منه أتلفوه، والجاه ما يكون إلا على جماعة مقتربة، فإن قَوِيَ عنها، كان على بلدان، فما هو إلا ولاية، ما يقوم بها إلا ولاة الأمور، والأمور اليوم تفلّتت عن قواعدها المعتادة، فالجاه يبغى عرف، والمال يبغى عرف، فإن فات العرف فاتت الأمور، وقاعدة، أوائل الأمور تكون سهلة ثم يكون الإشكال في أوساطها، كالبحر أول ما تدخله يصل إلى الكعب، ثم إلى الركبة، ثم إلى الوسط، ثم تحتاج بعد ذلك إلى السنبوق، ثم إلى المركب الكبير، إذا توسّطت فيه الغبة، والغريق لا ينجي الغريق، فإن طلب منه أن ينجيه راح هو وإياه، قيل، فعسى ببركاتكم تتيسر الأمور، فقال، بركات الفقيه خير، وذاك مع انتظام الأمور، وأما حكاية من يقول أنا أمير، وأنت أمير، فمن يرعى الحمير، والاستعجال ما يحسن، ومن في نفسه شيء ينبغي أن يطويه، ومن كذب في شيء لغير غرض فأحرى
(١/٢٧١)
أن يكذب إذا كان له غرض، وإن اللَّه لينتقم بالظالم من الظالم، ثم يرجع ينتقم منهما، كما قال الشيخ عمر بن أحمد، هي تقع إلا ما بين عاجل وآجل، فقد كان آل باغوث خيراً من هؤلاء، ولا فعلوا عشر فعلهم، فجعلهم اللَّه عبرة، حتى صاروا سُوَّالاً، يطلبون على الأبواب، ولا أحد يرثى لهم، والعقوبة ما شرطها أن تقع على يد من تسلط بسببه، ولكن يكون ذلك لا محالة، على يده أو على يد غيره، ونحن ما بيننا وبين آل فلان وحشة، حتى في كلمة واحدة، وما نسير معهم إلا على ما يريدون ونخلِّيهم وما أرادوا، ولكن طريقهم إلى النار، حتى إذا كتبنا لهم نكتب فلان الفاعل التارك؟، وليس طريقنا الهتك والعنف، وإنما طريقنا الرفق واللطف، وما سلكنا مع أهل الزمان إلا بالرفق واللطف، لا بالشدة والعنف، وإلا لكنا خرجنا من بيوتنا، بسبب ضيقنا منهم، لا بسببهم
ما قال في الفئة الطاغية في الجهة
ثم قال نفع اللَّه به، وحكاية هؤلاء في الجهة مثل حكاية بخت نَصَّر في بيت المقدس مع بني إسرائيل، إلا كل شيء على قدره، من حيث الزمان والمكان والناس، وإن كان الأمور لا بد فيها من التقدير، فلما حصلت منهم تقصيرات وذنوب، حصلت لهم العقوبات، وإن كان أولئك كفاراً، وفي تلك الأرض أولاد الأنبياء، فهؤلاء يقولون، لا إله إلا اللَّه بألسنتهم، وقلوبُهم خلية منها، وبين أظهرهم الأشراف، وأولئك قد جاسوا خلال الديار، فكذلك هؤلاء بل نزلوا في الديار، فزادوا عليهم بهذه، ثم أنشد هذا البيت ،
فأين اللَّه والقَدَرُ ولا تيأس أن ترى فرجاً
والدنيا كلها إلى نقص، ولكن قد ينقص في بعض الزمان الدين والدنيا، فانظر كيف صار أهل البدعة من الزيدية وأهل عمان في هذا الوقت خيراً من أهل السنة، لما في أرضهم من الأمان، وشفقتِهم على الرعية
كثرة الظلم في حضرموت
(١/٢٧٢)
فَأَجِلْ ذهنك، هل ترى اليوم أظلم ولا أجور، ولا أزعل من حضرموت، ولا عاد تقول إلا خيراً، فإن هذه الأخبار قد سارت بها الركبان، وانتشرت في كل البلاد، فلا عاد تصيح إلا إلى ربك، فقم له في آخر الليل لا تنام، ولا عاد تنفع الشكوى من ظالم إلى ظالم، فتراك إذا اشتكيت إليه، جعل يستهزئ بك، ولا يبالي بك، وهذه أمور لو رآها الإنسان في النوم استبعدها جدًّا ولو فَعَلَ مَن قَبْلَ هؤلاء بعضَها لانقلبت عليهم البلاد، فكيف ناس من ضُعْفهم لا يعرفون الدراهم، يُدَفِّعونهم قروشاً، لكن عسى رحمة من اللَّه، لا تيأس من اللَّه، ما هو إلا إذا جاءك ما يسخطك من الخلق، فافعل ما يرضي اللَّه، وابقوا على فقركم وهِجْرتكم حتى إن راح قليل من الدنيا، بقي الدين سالماً أو كما قال
وذكر رضي اللَّه عنه امتداد مدة الظلمة في الجهة، ولم يصبهم شيء، فقال، هم مع ظلمهم، وهؤلاء مظلومون يدعون عليهم وإنما زادهم الدعاء عليهم جراءة، ولو أن دعاء المظلوم مستجاب، لكن اللَّه سبحانه حليم لا يعجل، فإذا أخذ أخذ بمرة واحدة، فعسى يحصل للناس فرج من السماء، وقد أفرط بهم الطمع، حتى غيروا على أنفسهم وانجرَّ الغَيارُ على الناس، وما هذه صفة من له عقل، لأن العاقل يجر لنفسه ما ينفعها، وهؤلاء نفروا الناس وأضعفوهم، وما عاد أهل الزمان إلا كحيتان البحر، يأكل الكبير منها الصغير، والوعد القيامة قال اللَّه تعالى، { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَا أَنْتُم بِمُعْجِزِينَ}، وما عاد لهم وعد إلا القيامة، ولم يبلغنا فيما سمعنا إن حضرموت صارت إلى هذه الأمور في وقت من الأوقات، وكثرة الحركات وشدتها على الضعفاء والمساكين، وهي حركة الفعل أفعال الخلق، لا حركة الباطن حركة المقادير
وقال رضي اللَّه عنه، حصلت في نحو خمس سنين، أو ست سنين مصائب، ولم نرها إلا مختصة بأهل البيت، وإن تَمَّتْ هذه فهي آخرهن
(١/٢٧٣)
وذُكِر له رضي اللَّه عنه وهو خارج من البلاد إلى الحاوي، أنَّ عمر بن جعفر أتى بمحطة من القبلة على يافع، فخرج يافع إليهم، فالتقوا معهم، أو مع بعضهم بطرف حذية، فانكسر أهل القبلة، فقال لي، أتحفظ هذا البيت ،
وَلَيُغْلَبَنَّ مُغالِب الغَلاَّب زعمت سخينةُ أن ستغلبُ رَبَّها
قال، وسخينة لقب لقريش
وقيل له، إن فلاناً تولى وتفاسل معهم، فقال، فَلِمَ يدخل العار وقد جرّب، والعار هو نار الدنيا، ولم يحسن، ودخول الأمور من غير أبوابها عسر تريد تدبيراً أولاً
وقال رضي اللَّه عنه، لا تحسب أن الزمان كان صافياً فتكدر، بل كان متكدراً من قديم، وإنما زاد كَدَرُه الآن
وقال رضي اللَّه عنه، هكذا الدنيا يستولي إدبارُها على إقبالها، وأحسن ما ينبغي في هذا الزمان قطع العلائق، لأن الزمان مظلم، وخرجت فيه ظلمات الساعة
وقال رضي اللَّه عنه، الزمان هكذا كلما ابتنى فيه الأمر من جانب، انهدم من جانب، حتى إن بعض ملوك الجهة سَأَلَنَا، وقال، ما أراكم قمتم بنا على سيرة الخلفاء الراشدين، فقلنا، إن هذا بسبب الزمان، لا لتقصير حصل، فإذا كان عمر بن عبدالعزيز رحمه اللَّه لم يمكنه أن يسير بسيرتهم من كل الوجوه، بل قرب من سيرتهم جدًّا، فكيف يمكن في هذا الزمان
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان فيهم تَشبّح، ومن لم يتشبح تشبحوا له، وعَادَ ضررُ ذلك عليه
ما قال في من قال من أهل الشطح
(١/٢٧٤)
وقال رضي اللَّه عنه، اعمل للَّه خالصاً، لا لشيء آخر، ثم إن أعطاك بعد ذلك شيئاً، فهو من باب الفضل والمنة، ولا يسع أمور الآخرة إلا هذا، ومن خالفه ممن قال من أهل الشطح، بنقصِ مَن عَمِل رَجَاء الجنة أو خوف النار، ونقله الناس عنهم، وسموهم لذلك زنادقة، لأن هذا مذهب الزنادقة، وكلما كثر الشطح كثر الاعتراض، والإخلاص ما يتبين إلا بالامتحان، ولو هو يسمع الكتب وما يُذكر فيها، فإن الهوى لا يذهب، إنما هو مختفي كاللص، ولا يموت، وإن اختفى قليلاً فما تحس به إلا وقد ظهر عند مقتضاه، انظر قصة الذي دعته نفسه إلى الجهاد، فخالفها حتى تبين له أن موجب داعيتها، أن يموت قتلاً في الجهاد، فيتحدث الناس أنه استشهد ما هو إلا كن لربك على نفسك، حتى يكون لك، ولا تكن لنفسك فلا يكون لك، وقد دخل الرياء وغلب الهوى على الناس حتى في العبادات، أو كما قال
ومر في القراءة في شرح الحِكَم، في قراءة السيد زين العابدين، كلام يتعلق بمحبة المدح وكراهة الذم، فقال نفع اللَّه به، المقصود من ذم النفس الذي يذكرونه، أن يكون الإنسان أجنبيًّا من نفسه، حتى لا يتبعها في باطل، كالعدو لا يؤمن، وإلا فلا حاجة إلى أن يذم نفسه، أو يذمه غيره، بل إن كان ذا علم وصلاح، فمدحه قربة، ولا عبرة بذمه لنفسه، بل الشأن إذا جاءه الذم من غيره بديهة، وإلا فكم إنسان يذم نفسه إظهاراً، ثم لو ذممتَه بما ذم به نفسه، قامت عليه القيامة، ثم قال، التواضع والخمول نعمتان، ما يُغْبط عليهما أحد
(١/٢٧٥)
وذُكِر عنده رضي اللَّه عنه بعض الناس بأدب، فقال، أكثر هذه الآداب تكون عند الملوك ومن يتصل بهم، وإنما يكون الشيء عند ظهور مقتضاه، فقد يغلب الطبع الأدب عند ظهور مقتضاه، فإذا ظهر ما يقتضي أحدهما، ظهر كما في قصة هِرِّ بعض الملوك، لما أدبه فتأدب، حتى صار يطرح الشمعة على رأسه، فلما رأى في بعض الأيام لحماً مطروحاً، أو فاراً مر به طفر له، ورمى بالشمعة، فقيل لصاحبه في ذلك، فقال، غلب طبعُه أدبَه
ترك الأدب في محله
(١/٢٧٦)
ودخل عليه رضي اللَّه عنه بعض طلبة العلم من السادة، وكان صغير السن، وعنده رجل من السادة شيبة، فجعله بينه وبين ذلك الشيبة، فقال له، اجلس، وفلان ما نحاذره، قال هو، لكن تقديم الكبير في المجلس من الأدب، وإن كنت أريد القرب من مجلسكم، فقال سيدنا نفع اللَّه به، الأدب يعفى عنه في بعض الأوقات، وفي بعض المجالس، إذا عَرَف عند ذلك من أهل الأدب أنهم يؤثرون منه ترك الأدب، فتركُ الأدب مع المحبة من حسن الأدب، فقد قال ابن عربي، جلست مرة مع جماعة، وبقوا متأدبين، حتى ضِقْت من تأدبهم معي، وكنت أريد منهم الانبساط، فلم يفعلوا، فصنفت كتاباً سميته كتاب "الإرشاد في خرق الأدب المعتاد" فذكرته يوماً لجماعة كانوا جالسين معي في بعض الأيام، فقالوا، أرناه، قلت، ما هو حاضر الآن، ولكني أحفظ منه الآن باباً، قالوا، أرْوِه لنا، قال، فناولت رجلي أكبرهم، وقلت له، فصها، ولذلك شاهد من السنة وهو إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لما كان جالساً في بعض الأيام، في بعض الأماكن، وكان كاشفاً عن فخذه، فدخل عليه أبو بكر، ثم عمر، وهو كذلك حتى دخل عليه عثمان، فغطى فخذه، وكان لأبي بكر وعمر منه من الانبساط إلى هذا الحد، ولعثمان من الحياء كذلك، وفي ذلك شاهد، ثم لما دخل سيدنا علي والمكان غاص، فلم يجد له محلاً، فقام له أبو بكر وأجلسه بينه وبين رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فشكر صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لأبي بكر رضي اللَّه عنه ذلك، وقال، يا أبابكر أنت من أهل الفضل، فإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهلُ الفضل، وإنما نزلت آية ،{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا} في أهل بدر، يتفسح لهم من ليس من أهل بدر، لأنه كان عليه السلام، إذا جلس يَسبِقُ إلى مجلسه من يحضره من غيرهم، فإذا أتوا إذ المجلس ملآن من غيرهم، فأُمِروا بالتفسح لهم، أو كما قال
(١/٢٧٧)
وقال رضي اللَّه عنه، كانوا ينظرون لمن يتولى شيئاً من الأمور، من قضاء أو صدقة مسجد وغير ذلك، ويعينونه، فصاروا اليوم ينظرون ويتتبعون له الزلات، فغلبت العمومية
ذم من يدخل وسط الجابية
ثم ذمَّ نفع اللَّه به من يدخل وسط الجابية يغتسل، وقال، إذا رؤي الماء بعد الدخول متغيراً تغييراً فاحشاً حكم بنجاسته، كمسئلة الظبية، مع أن الإنسان لا يخلو في بدنه وعورته من نجاسة في الغالب، خصوصاً في العوام، والمحترفين كالضَّعْفاء ونحوهم، ولكن إذا ضاق الأمر إتّسع، قيل، وأيضاً فيه إسراف، فقال، نعم، واللَّه لا يحب المسرفين، وإذا قال اللَّه في شيء إنه لا يحبه، فابحث عنه ما هُوَ لتَعْرفه
معرفة موازين القرآن
وقد ضاعت من أيديهم الموازين، حتى يقرأ الإنسان القرآن من أوله إلى آخره، ما يعرف لآية معنى ولا يهمه أن يعرفه، وأعجب من ذلك إن رجالاً لا يقرأون القرآن، يَمَلُّون من سماعه ويضيقون منه، وكان ينبغي لمثل هؤلاء أن يشتاقوا لسماعه، لعدم ممارستهم، إذ من يقرأه فربما به ملل، وأما هؤلاء فما عذرهم، ثم قال، وما هو الميزان المذكور في القرآن، أهو القَفَّان أو موازين البيع؟ إنما هو تقدير الأمور ومقايستها، ونسبة الشيء إلى مثله ومقابلته بضده، وأول ما حصل الغَيار من مجيء الزيدية، وبقيت كالنار تزيد، ولا يدرون، وكان حصوله باختيار أهل الجهة واختيار الزيدية، وكان في الجهة عسف والزيدية مظهرين الدين، وما كانوا أهل دهاء، وأرادوا أن يولوا أحداً منهم، فغلبوا عليهم لئلا يصير في الجهة ظلمان، أو قال ظالمان، وأما اليوم فما هو إلا شعق، تَلِفَ الشيء بالكلية، وما مَثَلُه إلا مثل الرضة، أو مثل الفار، فما عاد إلا لا تيأس من اللَّه أن يأتي منه فرج كما قيل، إن أبا عمرو القاري خرج من بلاده فارًّا من الحَجاج، فخرج إلى مكة، فبينما هو يطوف أو يسعى سمع رجلاً ينشد،
(١/٢٧٨)
إن في الصبر حيلة المحتال
ـــــر له فَرْجَةٌ كحل العقال
رب أمرٍ أتى بغير احتيال صبِّر النفس عند كل ملم
ربما تحرج النفوس من الأمـ
لا تضق في أمورك ذرعاً
وذكر رضي اللَّه عنه، الاقتداء عندما مر في القراءة، الأسرار الثلاثة في الأربعين، فقال، الاقتداء على درجات وكل درجة فيها أعلا وأدنى، وعموم وخصوص، حتى ينتهي إلى أن يصير كالميت بين يدي الغاسل، ودون ذلك درجات كثيرة، ولو أن يشاور في أمر أراد فعله ومن بقي يفعل كلما أراد من غير توقف على رأي أحد غيره ما يمنعه إلا العجز وعدم التمكن فهذا قلبه خارب
ما قال في الذهن
وقال رضي اللَّه عنه، ذهن الإنسان كالماء، إنْ كَثُرَ صُرِفَ في أماكن كثيرة، وإن قل لا يحتمل إلا دون ذلك
وذكر رضي اللَّه عنه بعض المصنفين، لما ذُكِر كتابُه، فقال، إنه لم يتم له مقصوده في كتابه لأنه تبجح به، والعُجُبُ ما يحصل معه شيء، سواء كان من عالِم أو من عامي، فينبغي لمن أعجب بنفسه، أو بشيء مما يخصه ولو ثوبه، أن يخفض من نفسه
وقرئ عليه أول الورد الذي فيه يا باسط عشراً، فقال، هذا، يعني المكرر ثلاثاً وعشراً، إنه من أذكارنا السرية، التي لم نُظهرها، وإنما استرقه منا بعض الناس، فلان أو غيره، ولكن من أخذ شيئاً من الأمور السرية، لا يبارك له فيها، حتى يأخذه من صاحبه، وأما قوله أبسط علينا الخير إلى آخره، فهو من أذكارنا
(١/٢٧٩)
وقال رضي اللَّه عنه، استكثر من أعمال الخير ما استطعت، وخذ منها ما تطيق المداومة عليه، ولا تحقر منها شيئاً فقد رؤي الإمام الغزالي في النوم بعد موته، فقيل له، ما فعل اللَّه بك؟، فقال، غفر لي، فقيل، بم ذلك؟، قال، بذباب بَرَّح على القلم وأنا أكتب فتركته حتى رَوِي، فإن الخير كله في أمور الخير السهلة، التي لا تراها النفس ولا تعدها شيئاً، وأما التي تراها وتعتد بها فإنها يتطرق إليها البطلان، إما من جهة الفاعل أو المفعول معه، أو الحاضر بينهما
تعزية وتسلية
وذُكِر عنده رضي اللَّه عنه رجل مات له ابن، فتعب عليه كثيراً، فقال نفع اللَّه به، لا بد للإنسان من الصبر، وإن لم يصبر رجع إلى التسلية، فإن الإنسان يتسلى كما تتسلى البهائم، فقد مات آباء الإنسان والأعِزة عليه، والناس مع الموت إلا مثل القافلة، هذا قد حط، وهذا يسير، وهذا يُحَمِّل، ومن مات ما عاد عُرِف له خبر، وغفل الناس عنه، كأن لم يكن، فإن الناس في دعوة الملائكة، فإنه ورد، (( إذا وضع الميت في قبره قالت الملائكة لمن حضر، إرجعوا إلى دنياكم، أنساكم اللَّه موتاكم ))، والمصائب أول ما تبدو عظيمة، ثم لم تزل تضمحل، حتى تفنى كلها، وهذه الدنيا كثيرة البلايا والمصائب، ولهذا زهد الصالحون فيها
وكلم رضي اللَّه عنه رجلاً ذهب بصره، رأى عليه أثر الجزع، فصبّره وذكر له قصة عروة بن الزبير، ثم قال، إن اللَّه يعطي عبده الكثير، وقد يأخذ منه القليل، ليدخره له عنده، وتفكرْ في نعم اللَّه الماضية عندك والموجودة، وذُكِر أن ابن عباس لما ذهب بصره أنشد ،
ففي لساني وقلبي للَّهدى نور إن يُذْهِبِ اللَّه من عينيّ نورهما
وفي فمي صارم كالسيف مأثور عقل زكي وقول غير ذي خطل
(١/٢٨٠)
وقال رضي اللَّه عنه، من طبع النفس إنها إذا ألفت الراحة ثم حصلت لها مصيبة، أنها تجزع، وهذا الطبع موجود حتى في الأكابر، إلا إنه فيهم ضعيف، وفي غيرهم قوي، وأصل الإيمان موجود في الكل، إلا إنه عند ذلك يبقى في الأكابر قويًّا، وفي غيرهم ضعيفاً
ما قال في حديث أن لا تغضب
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( أن لا تغضب ))، أنه عليه السلام قال ذلك لرجل كان كثير الغضب، وكانوا يغضبون غضباً شديداً، حتى يفعل أحدهم أموراً، ويقول أقوالاً مذمومة من غير ضبط، وفي الحديث، (( إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))، أي لا يملكها إذ ذاك إلا قوي، أعني قوي الإيمان والعقل، فلا يقول ولا يفعل إلا ما ينبغي له
ما قال في معنى حديث، (( ما جلس قوم الخ ))
وفي حديث، (( ما جلس قوم مجلساً ـ ـ الخ ))، يعني، أن المجلس لا يخلو أن يكون معموراً بحرام أو فضول في الغالب، فإذا لم يحصل ذكر يكفر ذلك كان عليهم تِرَه وحسرة على فعلهم
بركة لا إله إلا الله وذكر العمود
وأوصى رضي اللَّه عنه رجلاً، فقال له، اللَّه اللَّه في الهمة، وفي الذكر بلا إله إلا اللَّه، فإذا خرجت هذه الكلمة من الصادق مع الهمة، يكون لها عمود، حتى تبلغ إلى عند العرش، قال اللَّه تعالى، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ }، وهو لا إله إلا اللَّه ،{وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ } وهي الهمة ترفعها إلى أن تبلغ بها إلى عند الحق تعالى
(١/٢٨١)
أقول، ومما هو شاهد لكلام سيدنا نفع اللَّه به، ما رأيته في تاريخ بغداد للخطيب أحمد بن علي بن ثابت بن عساكر، من رواية أحمد بن محمد السمرقندي، بإسناده إلى ابن عباس، في قوله تعالى، { هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ }، قال، إن للَّه عموداً أحمر، رأسه مَلْويّ على قائمة من قوائم العرش، وأسفله تحت الأرض السابعة على ظهر الحوت، فإذا قال العبد، لا إله إلا اللَّه، تحرك الحوت، تحرك العمود، تحرك العرش، فيقول اللَّه تعالى للعرش، اسكن، فيقول، لا وعزتك لا أسكن حتى تغفر لقائلها ما أصاب قبلها من ذنب، فيغفر اللَّه له
وقال رضي اللَّه عنه في معنى، ((ووسعني قلب عبدي المؤمن ))، أي وُسع معرفة، وحمل الأمانة
ما قال في حديث الأئمة من قريش
وفي حديث، (( الأئمة من قريش ))، قال، الأئمة في الدين والعلم، ومن كان منهم ضَعيف الدين جاهلاً، بأي وجه يستحق التقديم، بل يتعين عليه يجتهد أن يصير عالماً تقياً، ليصير أهلاً للتقدم
وقد قال الشيخ علي بن أبي بكر رضي اللَّه عنه، تفخسس تسلم، لا تكن عقرباً تقتل، كن ذَنَباً في الخير، ولا تكن رأساً في الشر، فإن الرأس أول ما يقطع
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الزمان عَدِموا الصبر والإحسان، فإن عدموا اليقين والعياذ باللَّه فقدت ثلاث أثافي الدين، فانكفأت بُرْمَتُه
وقال رضي اللَّه عنه، طريقتنا إذا أردنا شيئاً فغالَبَنا فيه أحد، تركناه له
وقال رضي اللَّه عنه، الأولاد في هذا الزمان، بَغَوْا منك صبراً، وإلا حرمتهم وأشغلتهم، والولد في هذا الزمان، لا يؤمن على الأهل، فكيف بالأجانب، لأن الدين ضعف جدًّا، ومن لا دين فيه كيف يصح منه الورع، والورع إنما هو خوف من اللَّه، ومن يفرق بين التمرة والجوهرة، فلا تأمنه على الورع
(١/٢٨٢)
وعتب رضي اللَّه عنه على رجل في تركه أهله من غير مراعاة لهم في أمر المعيشة وغيرها فقال نفع اللَّه به، فلان صالح يتزوج ويترك أهله، ويقول، اللَّه الرزاق وكل عارف بهذا، حتى البهائم لو تَكَلَّمتْ أخبرت به، واللَّه سبحانه ما يعامل الناس بمقتضى الحقيقة، ولو عاملهم بمقتضاها، ما كان حَرَّاث يَحْرث، أو تاجر يتجر، ثم إنه لو عاملهم بذلك، إنما يريدهم يتفرّغون لعبادته، أيرزقهم ويتركهم يأكلون ويشربون وهم جلوس؟، ما يتركهم كذلك
وقال رضي اللَّه عنه، كل من أعمال الطاعة، إذا كان فيه شيء من الهَوَى، يخفّ على النفس، ويسهل عليها، إن قل الهوى قَلّت رَغْبتها، أو كثر كثرت حتى يتجرد للحق فقط دون هوى، فحينئذ يثقل عليها وتشمئز منه
وقال رضي اللَّه عنه، ليس مع اللَّه ومع أوليائه غربة، إنما الغربة مع النفس والهوى
وقال رضي اللَّه عنه، إنما تَمّ النعيم لأهل الجنة، لتمكُّن الأرواح منهم، كما تَمَكَّنت الأجسام في الدنيا، لأن النعيم والراحة مع تمكن الأرواح، والتعب والشدة مع تمكن الأجسام، ولهذا كانت الدنيا سجن المؤمن
وقال رضي اللَّه عنه، الزمان زمان ظُلْمة وحِجَاب، الطالب والمطلوب، لأن الطالب محجوب بالظلمة، ظلمة النفس والهوى، والمطلوب محجوب بالنور، العبادة والأذكار، وليس الأول كالثاني
أقول، وفي معنى هذا شَرْحٌ لأبيات من قصيدة من نظمه الشريف، وهو قوله فيها،
فاقطع الحجْب الكثيفة بالسير عنها غير مقتصر
واقطع الحجب اللطيفة بالسير فيها غير مغترر
فإذا جاوزت مرتقياً سدرة الأسرار والقدر
فتوقف وانتظر علماً من علوم الأمر وادَّكر
معنى الحرفان المهملان
وقد سألته رضي اللَّه عنه عن بيت في هذه القصيدة مراراً، وهو يشير لي بالسكوت، وهو قوله ،
وانخفاضاً فارم بالبصر أين أين المهملان عُلاً
(١/٢٨٣)
قلت، ما هما المهملان؟، فقال في جوابه بعد الثالثة أو الرابعة، المهملان حرفان مهملان من النقط، حاء مهملة أول حرف من اسم الحوت، الذي هو البهموت، الذي عليه الأرض، وعين مهملة أول حرف من اسم العرش، وهو إشارة إلى أن هذا، الغاية في السفل، والآخر، الغاية في العلو وقد أشار رضي اللَّه عنه إلى ذلك في مواضع من الديوان كقوله، شاهدتَ من عرش إلى بهموت، وفي أخرى ،
تطالع أحوال الذرا والمراكز وسرتوقلبي فيه أيّ عزيمة
ولعل أمثال هذه المعاني من الديوان هي الأسرار التي قال نفع اللَّه به، إنا أودعنا فيه من الأسرار ما لم نودعه في غيره من المؤلفات
ذم الدعوى
وقال رضي اللَّه عنه، كل مُدّع مخذول، ولا بُدّ أن يقيِّض اللَّه له من يُعْجزه فيَنْخَذل عند ذلك، ولو كان كثير العلم، وما نرى أحسن للإنسان من الاعتراف، وطرح نفسه في الأرض، فإن كان عنده فضل فما يَزيده ذلك إلا رفعة، وإن كان غير ذلك فقد خُلِقَ من التراب فلا لوم عليه إذا صار فيما خُلق منه، وقد ذكر الشعراوي، إن رجلاً من العلماء قال، لا أعلم في هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق أعلم مني، فقال له آخر، صدق الأستاذ، فكم في لحيتك من شَعْرة، فلم يجد جواباً، إختذل بسبب دَعْواه، وكذا وقع لابن عربي في قصته مع دابة البحر، ثم قال سيدنا نفع اللَّه به، من طَبْع ابن آدم الطغيان إن وجد له مَحَلاً، سواء كان مُحِقاً أو مبطلاً، إلا إن قُرع بالخوف، فإذا كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مع كماله المطلق، استعاذ وقال، (( أعوذ باللَّه من مال يطغيني )) الحديث، فما ظنك بغيره، { كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءآهُ اسْتَغْنَى }
(١/٢٨٤)
وقال رضي اللَّه عنه، الدَّعوى على حَالَيْن، مُدّع متكلِّم بأن يقول، أنا كذا وكذا، ومدَّع ساكت، ولم يَذْكر نفسه بشيء، ولكنه إذا قيل له، إنك جاهل، أو لم تَعْرف شيئاً أو وُصِف بأي شيء فيه نقص يغضب، فهذا مدَّع أيضاً، ولو لم يكن مثل الأول
ثم قال نفع اللَّه به، إذا حمد الإنسان نفسه، وأثنى عليها، بقوله، نحن، وأنا، وكان أبي، سقط من العين، ولم يكن لنا فيه نظر واعتقاد، لأن إبليس مَقَته اللَّه وأخرجه من الجنة، بكلمة واحدة بقوله، أنا خير منه، فإن هذا ليس بعبودية، بل تكبُّر وتَجبّر، فليت شعري لو مر على هذا القائل أخص محبيه من قرابته وغيرهم، وهو موضوع على شفير القبر ميتاً، ورأى قبره إلا قدر ذراع فقط، فما يقول؟، ألا يقول، غَوِّطوا قبره، فأين كِبْره ونفسه وافتخاره، والمُشْفِقون عليه
المتخفي بكِبره
وقال رضي اللَّه عنه، صاحب النفس المُسْتَتِرة أخس وأشنع من صاحب النفس الظاهرة، لأن هذا ظاهر للناس يحترزون منه ويخشونه، والأول يظنونه على ظاهره، فينشبون به ومثاله كالذي يقول لِذِي فضيلة، إن لي فيك اعتقاداً، وإني أتيتك قاصداً، ونحو ذلك في الظاهر، وهو على خلاف ذلك، ومثال الآخر كالذي يُظْهر العداوة وعَدَم المحبة والاعتقاد، فيفهم حاله، ويُعَامَلُ بمقتضاه
ما قال في معنى حديث، الناس معادن الخ
(١/٢٨٥)
وقال رضي اللَّه عنه في قوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( الناس معادن الخ ))، فقال، إذا كان هذا يجري في العموم، ففي الخصوص أولى، فمن عَمِل في صغره شيئاً من مكارم الأخلاق المحمودة شرعاً قبل أن يعلم كونه محموداً، ولم يصدر منه عن قصد، فهذا دليل على طِيْب معدنه، فإذا كبر كان من ذلك في زيادة وغاية، ومن عَمِل في صغره خلاف ذلك على الوجه المذكور، دَلّ ذلك على خُبْث معدنه، فكان في كِبَرِه في زيادة من الخُبْث، وغاية من الشر، فمثال الأول من ظَهَرَ من أول نشأته يحب الإحسان وصلة الأرحام، وغير ذلك، فكلما كبر كَثُر منه ذلك، وازداد معه تمكّناً، ومثال الثاني من هو من أول بُدؤه، متعلق بحب الدنيا ومنهوم بجمعها مع تكالبه عليها، ولم يسمح بإخراج شئ منها، فهذا كلما كبُر ازداد شحًّا وقساوة ونحو ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، كلما ازداد الإنسان خسّة ودناءة، ازداد تكبّراً وافتخاراً، ووجود أحد هذين، يدُلّ على اتصاف الشخص بما ذُكِر
وقال رضي اللَّه عنه، الدين كالطريق، فمن رأى طريقاً متسعاً سَلَكه أحد من الأخيار فيسلكه، أو ضَيِّقة فذاك مشكل، وفي الحديث، اضطروهم، أي اليهود والمنافقين، إلى أضيق الطرق
قوله، نصلي خلف كل بر وفاجر
وقال رضي اللَّه عنه، نصلي خلف كل بر وفاجر، كما في الحديث، ولا نعيد، لأن هذا تعنت وغلو في الدين، وقد صلى الأئمة خلف الدّول الظالمين والمبتدعين، كدول بني العباس وغيرهم، وإذا صلينا جمعة لا نعيد ظهراً
وقال رضي اللَّه عنه، اجتماعات الخير يحضرها ناس على مقتضيات نياتهم، بخلاف اجتماعات الشر، فلا يحضرها من حضر تلك
تأويل تبجح الأكابر
(١/٢٨٦)
وقال رضي اللَّه عنه، كل ما ذكر عن الأكابر من الكلام، الذي ظاهره التبجح، كقول الشيخ أبي الحسن الشاذلي، منذ أربعين سنة ما حُجِبْتُ عن اللَّه، وقول أبي العباس، لو حُجِبَتْ عني جنة عدن لحظة ما عددت نفسي من المؤمنين، كل هذا مؤول وليس على ظاهره
ما قال في الإحسان
وقال رضي اللَّه عنه، إحسانك إلى من أساء إليك أكمل منه إلى من أحسن إليك، وتقديمك الإحسان إلى المحسن أولى وآكد
وقال، لو شرحنا بعض الرسائل، لبلغ ذلك كراريس، لأن أكثرها حقائق وحِكَم وأسرار، وقد قيل، إن أسرار أهل هذا الشأن في مراسلاتهم، وقد فَنِيَ المتحققون بذلك من زمان بعيد، ولم يَبْق إلا العلم بها لبعض الناس، وهو النادر، وأحوال المجتهدين مختلفة، يشير بذلك إلى من ذكر
وقال رضي اللَّه عنه، الأكابر في آخر أعمارهم يَخْلُون بأنفسهم، لأن أمور الحق ما يسعها الخلق، ويتروّحون من ذلك بالمباحات إذا أحسوا غلبة، وفي المباح لهم راحة، ثم ذكر قصة موسى عليه السلام، بعد المناجاة وضيقه من الخلق،وإذا كان صاحب تمكين لا بد له من تلوين مع الناس
وقال رضي اللَّه عنه، مدة ما كنا في المدينة، عزمنا على ثلاثة أشياء أن لا نستعملها، سماع الملاهي، واستعمال الطيب الأحمر، وأكل الكُرَّاث، ولما خرجنا إلى الحرمين تجنبنا ذكر الأوطان، وأن لا تخطر لنا ببال، ولا نسمع القصائد التي تُذَكِّرُنَاهَا، ولكن الخواطر التي يُخْطِرُها اللَّه على القلب فما عاد ذلك إلينا، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، أول كتاب كتبه إلينا الشيخ أحمد القشاشي كان أول خطبته، بسم اللَّه مجراها ومرساها، من اللَّه مبتداها، وإلى اللَّه منتهاها، قال، وأجازنا في أشياء مخصوصة، ونجيز فيها أناساً مخصوصين، وسمعته رضي اللَّه عنه يقول، مما أخذنا عنه من الأوراد، أستغفر اللَّه للمؤمنين والمؤمنات سبعاً وعشرين مرة بعد كل صلاة من الخمس
(١/٢٨٧)
قال، وأما الشيخ محمد بن علوي، فهو في كل كتاب يكتبه إلينا يقول في أوله، من الداعي بطول البقاء، وعُلُوّ الارتقاء، محمد بن علوي، إلى السيد الفاضل فلان، قال، وأجازنا إجازة عامة، في الخرقة وغيرها، ونجيز فيها عموماً، وأرسل إلينا يأمرنا بالخمول، وعدم الشهرة، وذكر إنه حصل عليه من ذلك تعب كثير
ذكر حجه نفع الله به
وقال رضي اللَّه عنه، مرادنا عام حَجَجنا، أن نجتمع برجلين، أحدهما متبحّر في العلوم الظاهرة، والآخر متبحر في علوم الحقائق، فنسألهما عن أشياء إختلجت في الصدر، ولم نجد من يجيبنا عنها، وكل من وَصَفَ لنا من هو معروف بعلم الحديث، وسألناه، قال، نحن نستمد منكم ونطلب الإفادة من لدنكم، فلم نر من يَشفي الغليل، وكلما رأينا أحداً ممن يُنْسب إلى العلوم الظاهرة، وسألناه، قال، أنا مستمد، وطلب القراءة علينا، فنتركه يقرأ على نيته، ومن رأيناه ممن ينسب إلى العلوم الباطنة، وسألناه عن شيء، انخفض وقال، أنا أريد أن تعطوني الطريق وتُلبسوني، حتى إن رجلاً كان من أهل الخطوة، اجتمعنا به في عرفة، وطلبنا منه الاجتماع في خلوة فقال، إن طلعتم الليلة إلى مكة حصل ذلك، وإلا الوعد في المدينة، فلم يتفق لنا الطلوع إلى مكة تلك الليلة، وهي ليلة العيد، فلم نتفق به إلا في المدينة، فاستضافنا وطلب منا الإلباس، فألبسناه، وإذا له بيت وحاشية، وكنا ظنناه متجرداً
ومرة قال، وكل من سألْنا عن من هذا وصفه قال، ما يكون هذا إلا أنتم
وقال رضي اللَّه عنه، عام حججنا وهي سنة شلهام سنة قحط، كثيرة الجوع، فقلنا، إن كان الوقت إلى أشر منه الآن من الزمان والقحط، فقد الآن أسهل مما بعده، وإن رجع إلى خير منه من الرخص والخصب، فأحسن ما ينهض الإنسان لأمر اللَّه، حيث يشق على النفس
(١/٢٨٨)
وقال رضي اللَّه عنه في مجلس آخر، ولَمّا حَجَجْنا، كان نيتنا بالمسير إلى مكة بعد نية أداء فريضة اللَّه من الحج وإقامة مناسكه، لطلب بحرين، بحر في العلم الظاهر، عالم بالكتاب والسنة على الإطلاق، وبحر في العلم الباطن متبحر فيه، لأن في باطننا إذ ذاك سؤالات كثيرة في هذين العلمين، فلم نر في الحرمين أحداً منهما، ولم نعلم أهما اختفيا في تلك السنة أم فُقِدا؟، لكنا رأينا آثاراً يسيرة، كالشيخ أحمد القشاشي، والشيخ عبدالخالق المغربي، وكان يقال إنه من أهل الخطوة، وقلت له، أنت من رجال السر الذين سألت اللَّه أن يرينيهم، فأراني ثلاثة أنت منهم، قال، أجل، وكان جاء إلى حضرموت ولنا به بسبب ذلك معرفة وقال، إنه حج بالخطوة، وقضى مناسكه، وأصبح سائراً من يومه إلى المدينة، فلم نتفق به إلا بالمدينة، وكنا ظنناه متجرداً، وإذا به له بيت وحاشية، وطلب منا الإلباس، فألبسناه، وكان من أهل البيوتات، وقال لي، إيش مذهبكم؟، وكنت أعتقد وأرى إنما مذهبي الكتاب والسنة، وأردت أن أقول له ذلك، فخشيت من الإنكار، فقلت، مذهبي شافعي، فقال، لا، إنما مذهبك الكتاب والسنة، فقلت، أسلافنا كلهم على مذهب الإمام الشافعي، فقال لي، ولِمَ تقول إنك شافعي، وإنما مذهبك الكتاب والسنة، ولم يكاشفنا أحد إلا هذا، وآخر في الهجرين من أهلها من آل بن نعمان، أضمرت بحضرته هل لنا عَوْدة إلى الحرمين غير الأولى التي حججنا فيها الفرض، فكاشفني، وقال، يكون ذلك بعد مدة طويلة، وكثيراً ما يقول سيدنا، نحن موعودون بعودة إلى الحرمين، يشير إلى هذا
قال، وكاشفه رجل في تعز عام سار إلى الحج، قال، وذلك إنه كان معنا رجل يدّعي الشرف، وفي نفسي من دعواه الشرف شيء، فاتفق إنا كنا عند هذا الرجل، وكان يُذْكر بالكشف، فقال، ليس الرجل بشريف، قال نفع اللَّه به، ولم يكاشفنا أحد إلا هؤلاء الثلاثة
(١/٢٨٩)
أقول، إن من مسائله الباطنة ثلاث، وإنه سأل عنها كثيراً من أهل الباطن، وكانوا كثيراً متوافرين في قرى حضرموت، فلم يشفوا له غليلاً، حتى رأى الحكم باقشير، فسأله عنها، فأجابه عن اثنتين جواباً شافياً، وقال له، أما الثالثة فلا يجيبك عنها إلا السقاف، فخطر بباله إذ ذاك أن المراد من هو من أهل تسليك المريدين في هذا الوقت من آل السقاف، فسأل عمن هو كذلك اليوم من آل السقاف، فذكر له السيد محمد بن علوي، فكتب إليه يسأله عن المسألة، ويطلب منه الإلباس، فكتب إلى سيدنا يعتذر، ويقول، لا يمكنني ذلك حتى يأمرني النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ثم بعدما أرسل الاعتذار بأيام، حصلت له الهمة على الزيارة، فسار إلى المدينة، فلما وقف في المواجهة تِلْقاء النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، حصل عليه حال عظيم وغيبة، وجعل العرق يصب من جسده، ورمى ثيابه كلها، وما بقي عليه إلا سروال، حتى رأسه مكشوف، ثم سُرّى عنه فلبس ثيابه، ثم قال للسيد أحمد بن هاشم الحبشي، وكان حاضراً ذلك، هات دواة وقرطاساً نكتب للسيد عبداللَّه كتاباً غير ذاك
فذكر في هذا الكتاب، إنك كتبت تطلب إلباس الخرقة، وإنَّا اعتذرنا عن ذلك إلى أن يأذن لنا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وإن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قد أمرنا بذلك، وها هي واصلة إليك، وأرسلها وأظن قال، معها جواب المسألة، فاتفق وصولها إليه يوم وفاة السيد محمد المذكور، وفيه إشارة إلى أنه خليفته، كما قال سيدنا في مرثاته للسيد محمد المذكور ،
بقية قوم قد مضوا وخلفتهم وهم خَلّفوني في الحمى عندما ساروا
وهذا الكلام، حفظت بعضه عن سيدنا نفع اللَّه به، وبعضه عن السيد أحمد بن هاشم بنفسه، وذكر إنه حَصَلت معه بعض غَيرة، لما أمره السيد محمد بن علوي بكتابة الورقة مع الخرقة
وسمعت سيدنا مرة قال، رأيت في النوم، كأني قابض بتلابيب السيد أحمد بن هاشم، وأقول له، امش بنا نتحاكم أو قال أحاكمك إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم
(١/٢٩٠)
أقول، لعل ذلك بسبب الغَيرة التي حصلت له، ولم يجتمع سيدنا بالسيد محمد، فإنه توفي قبل مسير سيدنا إلى مكة بنحو ثمان سنين، لأنه توفي في ١٤ ربيع ثاني سنة ١٠٧١، وسيدنا حج سنة ١٠٧٩
قال سيدنا رضي اللَّه عنه، يقال إن السيد محمد بن علوي لما جاء طالباً إلى السيد عبداللَّه بن علي صاحب الوهط، قال له السيد عبداللَّه، متى ولدت؟، قال، سنة ١٠٠٢، قال، لو عادك أدركت من القرن العاشر لحظة لحصل لك مطلوبك وأنت قائم في لحظة، لكنه تركه عنده مدة طويلة، يروّح عليه إذا نام، ويملأ الحوض، وفي ثياب خَلِقَة، ونحو ذلك حتى حصلت له الرياضة، ثم بعد ذلك كان من أمره ما كان
ومن جملة مسائله التي أراد أن يسأل عنها في الحرمين من هو متبحر في علم الحديث، كما سمعته من لفظه، عن كيفية صلاته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في مرضه؟، قال، وكانت ١٧ صلاة، وعن من صلى وخطب بهم الجمعة التي مَرّت عليهم في مرضه؟، وكيف صلوا تلك الجمعة؟، لأنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم صلّى بهم صلاة المغرب من ليلتها لما ابتدأ به المرض، وقرأ فيها بالمرسلات، ولم يصل بهم صلاة بعدها، فكيف صلوها؟، ومن صلاها بهم؟، أبوبكر أو غيره؟، أو صلوها ظهراً؟، ولم يذكر أحد من أهل الحديث ذلك
وكان سيدنا يتعجب من كونه قرأ في المغرب بالمرسلات، وهو في مرضه الذي مات منه، فيدل على أنهم كانوا يطيلون القراءة في الصلاة
وقد رأيت في ورقة من جملة أوراق دفعهن رضي اللَّه عنه إليّ وقال، خلهن عندك، وإذا فيها من مسائله التي أراد أن يسأل عنها من العلم الظاهر، ما صورته، الحمد للَّه وحده
مسألة، هل نقل أحد من الحفاظ للحديث وحَمَلَةِ الأخبار، كيف كانت صلاة رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الأيام التي لم يخرج فيها للناس في آخر مرضه الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام، والجمعة التي مرت عليهم في مرضه، كيف صلوها، هل صلاها بهم أبوبكر أو غيره، أوصلوها ظهراً
(١/٢٩١)
مسألة، لما قبض رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في بيت عائشة رضي اللَّه عنها، ودفن فيه، هل بقيت ساكنة في البيت، على مثل حالها في حياته، أم انتقلت منه إلى غيره
مسألة، الحديث الذي في صحيح البخاري من رواية عمرو بن العاص، إن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال، (( آل أبي فلان ليسوا بأوليائي )) الحديث، هل بَيَّنَ أحد من الشراح، آل فلان من هم، وهل رَوَى هذا الحديث أحد من الصحابة غير عمرو بن العاص، وهل إسناد الحديث في غاية القوة والثبوت، أم هو دون ذلك انتهى وهذا قليل من كثير مما أراد أن يسأل عنه
أقول، ذكر الإمام القسطلاني في شرحه على البخاري على شرحه لهذا الحديث، قال، وجزم الدمياطي في حواشيه أن المراد آل أبي العاص بن أمية، وفي سراج المريدين لابن العربي أن المراد آل أبي طالب، وأيده في الفتح بأنه في مستخرج أبي نعيم، وسياق الحديث يشعر بأنهم من قبيلته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهي قريش قال السفساقي، من لم يسلم منهم فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، وحمله الخطابي على ولاية القرب والاختصاص، لا ولاية الدين
قال في شرح المشكاة، المعنى لا أوالي أحداً بالقرابة، إنما أحب اللَّه لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالحي المؤمنين لوجه اللَّه، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح، سواء كان من ذوي رحمي، أو لا ولكن أراعي لذوي الرحم حقهم بصلة الرحم، انتهى ملخصاً لكاتبه، ومتن الحديث، عن عمرو بن العاص، قال رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ،(( آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إن وليي اللَّه وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أَبُلُّها بِبِلاَلِها))، انتهى وفي بعض الروايات، آل أبي فلان، ولم يروه غير عمرو،
وهو صحيح رواه البخاري
(١/٢٩٢)
وقال رضي اللَّه عنه، وعام حججنا، رأينا في مكة المدد والفتوح كثيراً في أيام الموسم، وبعد رجوعنا من المدينة إليها، رأيناها أفرغ، فالحضور والخشوع في أيام الموسم أكثر، وبعده أفرغ، وينبغي أن يطلب ذلك آخر الليل، عند بقاء ثلث أو ربع من الليل، حيث ما في المطاف إلا واحد أو اثنان، فعند ذلك يكون الحضور والخشوع، لأنه إذا حصل التجلي الإلهي، يَتَقَسَّم على من حضر، فإن كان الناس قليلاً كثر لهم النصيب، وإن كثروا قل، كمن يقسم مالاً على الناس، فيقل إن كثروا ويكثر إن قلوا
وسألته رضي اللَّه عنه، أيما أفضل المدينة أو مكة؟، فقال، أما مكة، فإن كان بالنسبة إلى اللَّه، فهي أفضل، وإن كان بالنسبة إلى إبراهيم، والمدينة إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فالمدينة أفضل
قال رضي اللَّه عنه، ولما طلب منا المجاورة، يعني أهل الحرمين، قلنا، إن مكة لا تصلح إلا لأحد رجلين، إما خامل لا يُعرف أبداً كالتراب، فَلَوْ دُحِق لا يبالي، أو سايح في الجبال، كابن الفارض، أو بحر لا يتكَدّر ولا يضيق من كثرة الناس وإقبالهم، ولا يشغلونه عن اللَّه مع تبحّره في الكتاب والسنة، وتحققه بالعمل، فيجاور في الحرمين، يأخذ مما فيهما من الخيرات، ويسلم مما فيهما من العوائد، وأما المتوسط فيشتغل فيتعبونه بسبب أمور الدنيا وأحوالها
(١/٢٩٣)
وقال رضي اللَّه عنه وذلك يوم ٢١ محرم سنة ١١٣٠، ولما وَصَلنا من مكة وتوصّلنا إلى شبام، ما انْمَرَّتْ لنا الطرق من كثرة الناس، وقد قلنا، إن كان أُذِن لنا في التنقل في الأرض، ما أخذنا معنا إلا واحداً كما فعل الشيخ عمر العطاس، ولكن من بعد تلك الحركة أي مسير الحج ، ما وقعت لنا حركة إلا إلى هود، ومرادنا نتوقّى الشهرة، ويفعل اللَّه ما يشاء، ولا دخلنا بلداً إلا وفيها أناس من أهل الصلاح مرموقين، إلا في هذا الزمان، ما تلقى حتى من يواظب على الصلاة، وكان في بلدان حضرموت ناس مكاشفون، ويقال إن في الهجرين من آل العفيف كلهم إذ ذاك يكاشفون حتى أخدامهم، وما كاشَفَنا إلا ثلاثة، يعني المتقدم ذكرهم، ومرة قال، ما عاد يمكننا ذلك، يعني عَوْدة إلى الحرمين، إلا إن كان خرج المهدي في حياتنا، وطلب منا المجيء إليه لا بد ما نخرج لمبايعته
قال، وأقبل علينا الناس كثيراً، ومرادنا السلامة منهم على طريقة سلفنا، لأن الظهور فتنة، وأرسل إلينا السيد محمد شليه، قال للرسول، قل له يسلم عليك، ويشير عليك بعدم المجاورة، فقال له الرسول، إنه ما له نية في ذلك، فقال، ولو، عادك قل له زيادة ونحن كنا عازمين على أن لا نجاور، وكنا نخف أنفسنا خوفاً من أن تحصل لنا إشارة في المجاورة، ونحن عارفون أن المجاورة على هذا لا تنبغي، ولا تنبغي المجاورة إلا لأحد رجلين، إلى آخر ما تقدم ذكره آنفاً
ومرة أخرى قال، فأجبناه بأن المجاورة ليست لنا على بال، ولا نَوَيْناها أصلاً، لما رأينا أحوال أهل الحرمين
وقال رضي اللَّه عنه، قلنا لأهل الحرمين، لو مكثنا معكم لتشاكينا معكم إلى السلطان، لما نرى من أحوالكم
وقال رضي اللَّه عنه، لا تنظر من الحرمين، إلا إلى البيت الحرام والحجرة الشريفة، ولا تنظر إلى ماعداهما
(١/٢٩٤)
وقال رضي اللَّه عنه، ما أحسن ذكر الحرمين، ولو كنا إلا بجدة أو نحوها بالقرب من مكة، لكنا نعتمر في كل شهر، ولكن كان أمر اللَّه مفعولاً
فقلت له، إن الناس منتظرون ومشاوفون لوعدكم الذي أنتم موعودون به من العود إلى الحرمين، فقال، لا، ذلك قد مضى وقته، والوعد متوقف على شروط، ولا تَمَّتْ، ألا ترى إلى العشرة من الصحابة مع كونهم قد بشرهم النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بالجنة، ومقطوع لهم بها، ما ركنوا إلى الوعد، وما زال بهم الخوف، وإنما ذاك أن رجلاً كان يكاشف، فكاشفنا بأشياء وقعت صدقاً
(١/٢٩٥)
وقال لي نفع اللَّه به يوماً وذكر أيام حجه، ونزوله مع رفقة معه، نحو العشرة، بدار حسين بافضل، قال، فقال لنا، الحذر إذا بدت لكم حاجة ما تقولون لنا بها، فقلنا، إن بدت لنا حاجة تطلب إلى المخلوقين، فما أحد أولى منك، وقدنا عندك، وإن قضى اللَّه سبحانه الحوائج كلها فما بقي كلام، فاعلم هذا أنت، واعمل عليه، قال، ولما كنا بجدة قادمين للحج، جاءتنا كتب كثيرة من عند محبين يطلبونا أن نقصد عندهم، وأول ما سبق منها ووصل كتاب حسين بافضل الدّويِّلة، وقال، إن عندي داراً بَنَيْتُها، وما تركت أحد ينزلها قبلكم، ومرادي أن أول من ينزلها أنتم، فأجبناه إلى ذلك، فلما قدمنا ونزلناها قلنا له، لا تتكلف لنا بشيء، ومعنا حوائجنا كلها، يعني ما نحتاج إليه، فقال، أنتم في بيتي، ولا بد من ضيافتكم الليلة، فأضافنا، فلما كان غدوة، أرسل لنا عشرة حمران، فلمناه على ذلك، فقال، إنما هذه حق الحطب، فلما كان الليلة الأخرى، فعل عَشاء، آخر الأمر إنه قام بالمؤنة كلها، ولا ترك لنا عذراً، حتى إنه اكترى لنا إلى المدينة كراء مرجعاً، فليلة أردنا الخروج من المدينة، رأيت في النوم كأني خرجت من الدار التي نحن فيها، وهي دار محمد أمين، قاصداً إلى مسجد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فعارضتني في الطريق امرأة أرادت تُقَبِّل يدي، فوضعتُها في كمي، ثم قَبَّلَتها، وقالت، ما أشبه هذه اليد بيد السيد محمد بن علوي، وقالت لي، قال جدك النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، عادك امكث في المدينة لا تخرج منها، وكنا قد أمرنا أن تُشد الرحال للسفر، وإذا رجل خلفي يقول لي، هذه رَحْمه، يعني بها المدينة، لأنها تسمى بذلك، فأعجبني اسمها تفاؤلاً بالرحمة، فمكثنا في المدينة لذلك أربعين يوماً
قال رضي اللَّه عنه، وأخذنا بالحرمين عن جماعة من آل الوفا وأخذوا عنا، والحاصل أخذنا قواعد الإسلام الأربعة عن أربعة
(١/٢٩٦)
وقال رضي اللَّه عنه، جمعنا من الكتاب والسنة ما لم يستطع حمله إلا المهدي، فإن أدركناه أديناه إليه، وسلمنا من تلك الأمانة
وسمعت غير مرة من غير واحد يقول عن شيخه السيد عمر العطاس رحمه اللَّه قال، من جملة من يصل إلى اللَّه على يد سيدنا عبداللَّه ممن اسمه عمر أربعون، قال سيدنا، ونقل لنا عن الشيخ عمر المذكور، أن أولاد فاطمة في آخر الزمان، يفوشون، يعني يزيدون
أقول، ولهذا إن السفياني، لما كان أصله العداوة لهم، لكونه من بني أمية، وعداوتُهم لبني هاشم تالدة خالدة، إذا رأى كثرتهم يتتبعهم بالقتل حسداً وبغياً
وقال رضي اللَّه عنه، إذا اجتمعت بالطبيب فلا تستبعد أن تنال من حكمته شيئاً
وقال رضي اللَّه عنه، لا نتحكم لأهل هذا الزمان، ولا نتحكم فيهم، فإن تحكمنا فيهم وضعنا على كُلٍّ قَدْر استطاعته بالتخفيف
وقال رضي اللَّه عنه، ما بقي شئ من الأمور التي يحتاج إليها السالكون إلا وضعناه في كتبنا، فمن أراد شيئاً من ذلك، وجده فيها، ومقصودنا أن نجعل لهم بعضاً من أحكام التوحيد
وقال رضي اللَّه عنه، القيام بما أخذ المشايخ فيه العهد على المريدين، كتمسك الأعمى بيد البصير، فينبغي أن يبقى لازماً لها حتى يصل حيث طلب، فإن أخل بشيء من ذلك فقد فلَّتَ يده منه، وراح عنه، وضاع عليه الطريق
وقال رضي اللَّه عنه لي،لو نعمل بكل ما نعلم، لملّنا كل شئ حتى الثياب التي فوق أبداننا
وقال رضي اللَّه عنه، قد نعزم على الأمر نفعله، فلم يتفق، ولكن يجعله اللَّه على يد أحد من الأولاد أو الأصحاب
وقال رضي اللَّه عنه، سمع بعض أجلاء السادة شريفاً يقول، أبي وجدي، فقال له، قَعْ كما جدك، وإلا فأنت سيرة وصورة، ولا شئ في المقصورة
ما قال في السماع ونحوه
(١/٢٩٧)
وقال رضي اللَّه عنه، السماع يدل على ما في ضمير صاحبه، من خوف ورجاء أو شوق أو محبة، وإذا خرج عنه يزيده من حاله ذلك، ويحصل له بذلك تخفيف وتروح، كما نقل عن سيدنا علي كَرّم اللَّه وجهه، إنه لما كثرت عليه العلوم، ولم يجد من ينقلها عنه، وقف على فم بئر، وتنفس فيها، ففاض الماء على جوانبها، فنبت منه اليراع
وقال رضي اللَّه عنه، نود أن نحضر السماع في بعض الأحيان، ولكن نخاف أن الروح تخرج، ثم قال، إن الروح قد تقوى في الجسم، حتى تخرج عنه، أو كلمة قريبة من ذلك
وقال مرة، إن حضرناه ربما يغير علينا، ويحصل لنا بذلك تنسم، ولكن ربما يغير على الحاضرين بتغيرنا، وإن تماسكنا ما نخلو في الباطن من شاغل وتعب، فبقي إذن تلاوةُ كتاب اللَّه وذكرُ اللَّه أفضل
وقرئ عليه رضي اللَّه عنه شئ من نظم السودي، مما فيه غَزَل وذِكْر العود والطار، فأعجبه ذلك النظم كثيراً، فقال نفع اللَّه به، أدركنا ناساً على هذا، وكنا نفعله، ولا تركناه لأجل الناس، إنما هو لأنا ما رأينا من يحسنه، وقد أردنا أن نربي عليه أحداً يتعلمه كما ينبغي، لكن ما أحد قَبِلَ التعلم، وكان رجل من آل العمودي من بِضَة يُسَمِّع للشيخ محمد بن علوي، وكان غالب وقته في السماع، وأمره بالجلوس عنده حال مرضه الذي مات فيه، فهو جالس، وأتى أهله إليه يشوفونه، فأراد أن يقوم، فأومى إليه أن اجلس، وكلما رأوه عنده ما أمكنهم المجيء، وكلما هَمَّ بالقيام أمره بالجلوس، حتى مات وهو عنده، فذكر أن آخر ما تكلم به أن قال، ياسيدي يارسول اللَّه، ومكث عند قبره سنة ما يميل عنه إلا للصلاة أو لحاجة
(١/٢٩٨)
ولما حججنا، قرأ علينا ثم أصبح وحلقه مشحّم، فقال، أخاف أن السيد محمد ما أراد أن أقرأ عليكم، قلنا، لا، نحن والسيد محمد شئ واحد وكنت عزمت أن لا ألبس الشاية لأنها من لباس المترفهين، فيوماً كنت في المواجهة في زيارة الرسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فجاءني بشاية فوضعها على ظهري، وألبسنيها من غير ما أدرى، فلما كان ذلك في المواجهة، اتخذت ذلك رخصة ثم لبستها بعد ذلك، وسَمَّع لنا فأعجبنا تسميعه، وأرسل إلينا السيد علي بن عمر يقول، إن معي لكم وصية من غيري، ما هي مني، إنما أنا رسول، إن فلاناً يقول ما يحسن منكم التسميع، لكون الناس يقتدون بكم، فقلنا له قل له، هذا أمر لا بد فيه من الحَجْب، وسقط عليَّ بعد هذا بعض الكلام، ثم قال سيدنا، وإنما يحسن مع صفاء الوقت، وانشراح الصدر، ومساعدة الإخوان، وقد عدم ذلك اليوم، وإن حَرَّمه جماعة فقد أباحه آخرون لم يطلع أولئك على دليلهم، فيكفي في تحليله، أن الإمام البكري أبا الحسن وابنه محمد كان يحبه كثيراً، وأمر بالعود يضرب عنده في مرضه، حتى مات وهو يقول، اعشق ياقلبي، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، إن أصل الدِّرِّيج أن قابيل بن آدم، ولد له ولد فمات فحزن عليه، فعلقه في الهوى مدة ينظر إليه، فتدخل الريح في جوفه، ويسمع له عند ذلك صوت حزين، فاتخذ أخياطاً من الشجر وفعله كالدريج، فذلك أصله،ولذلك لا يخرج من أهل الباطن ونحوهم إلا حزناً
وقال رضي اللَّه عنه، أول ولد وُلِد لآدم بعد نزوله إلى الأرض مات، ولم تعلم حواء بوفاته، فلما رأته لا يتحرك، قالت لآدم، لِمَ لا يتحرك؟، فقال، إنه مات فصاحت، فقال لها، لك ولبناتك الصياح، ولي ولأولادي الوقار
وذكر رضي اللَّه عنه السماع يوماً، فقال، قرائن الأحوال تحسّن الأمور وتقبّحها، فقد يكون السماع في نفسه مباحاً، ولكن إذا حصلت القرائن التي تلحقه بالتحريم أو الشبهات، صار كذلك
(١/٢٩٩)
وقال رضي اللَّه عنه، مع الجراءة ما عاد انتفع الناس، والغالب أنه لا يقع الإمهال كثيراً إلا للجريء
وقال رضي اللَّه عنه، من لم تقومه التقوى والقرآن، لم يقومه إلا السيف والسنان، وما بغوا أهل الزمان إلا السيف والنصال
وقال رضي اللَّه عنه، لا يأمن الإنسان نفسَه أبداً، ولكن يجنبها الأمور التي يخشى عليها منها الفتنة، ولا يغتر بقوّته عليها، فربما غلبته أو فتغلبه
وقال رضي اللَّه عنه، للروح مطالب، وللنفس مطالب أخرى وقد يجتمعان، فإذا اجتمعا في مطلب طاب للشخص عيشه في ذلك، وزاد نشاطه، ويحصل فيه من النشاط أكثر مما يحصل له في فعل شيء غيره، لأن كلاً من النفس والروح سَلِمَ من منازعة الآخر، واجتمعا على ذلك، ولهذا قال عمر بن عبدالعزيز، إذا اجتمع الروح والنفس في شيء كان كالشَّهْد بالزُّبد
وقال رضي اللَّه عنه غير مرة، والعجب من قلة خواطر النفس حالة الأكل، ما لم يحصل مثل ذلك في الصلاة، لأنها حينئذ مجتمعة على مطلوبها، بخلافه في الصلاة
وقال رضي اللَّه عنه، من لم يحكم على نفسه، لا يمكنه أن يحكم على غيره، وإذا رأيتها جَمَحَت لما لا ينبغي، فتَرَقَّها إلى عكسه، كما تترقى ولدك، وإذا لم تقدر على منعها من الحرام، وتعكت عليك، فسيبها في المباح، ولكن خل الناس على ربهم، ومن اطلعتَ عليه منهم على أمر، فإن كان يقبل النصيحة فانصحه، وإلا فاتركه
وقال رضي اللَّه عنه، خروج النفس عن مُقتضى الطبيعة أمر عَسِر، ولا تخرج منه إلا بكسر أو بعَصْر، ومن طبعها محبة المدح، وكراهة الذم من الغير، ولهذا لو ذم نفسه، فقال، أنا ظالم، مثلاً، فلو قيل له ذلك لضاق منه وتبرم
وقال رضي اللَّه عنه، إن النفس كسلانة عن الخير فليقهرها الإنسان على فعل الخير وما ينفعها، وإلا جرته إلى الشر، لأنها مجبولة عليه، وفعل الخير يعسر عليها، لأنه خلاف طبعها، فليُكرهها ولا يدعها وطبعها
(١/٣٠٠)
واستأذنه رضي اللَّه عنه بعض الفقراء في صوم عشر ذي الحجة، وذلك سنة ١١٢٤، فقال، صُمْها لا تخلها، واغتنم ما أمكنك من هذه النفس السوء، إذا أمكنك منها فرصة في شيء من أمور الخير فانتهزها، وخذ منها لها، لأنك إنما تخبئ لها، لأنها محتاجة، بخلاف القلب فإنه مستغن بمعرفة اللَّه وذكره، كالملائكة، فإن غذاءهم ذلك، ومن طبع النفس الخداع والغرور، والخُلف بالوعد، فإنها توعد بالخير ولا تفي بما وعدت
وقال رضي اللَّه عنه، إذا وقع للنفوس التي لم يكن لها رياضةٌ مَظهرٌ، ظهرت، ولما جلس في الضيقة خارجاً لصلاة الظهر، يوم الخميس ثالث رمضان سنة ١١٢٨، سكت ساعة، ثم قال، النفوس في هذا الزمان مثل غرماء السوء، خذ منها ما جاء، ولكنك إخلص، فقلت له، إن الغرماء ينقادون بالبينة وبأمور أخرى، وأما النفس فلا تكاد تنقاد، قال، نعم، لأنها عدو محبوب، فإذا كان غريمك ابنك الذي هو أحب الناس إليك، أو أحد من أهل بيتك، فماذا يكون الحال، وأنت تريد منها لها وهي مع ذلك تنفر، فقلت له، وهذه الأعمال القليلة الحاصلة منها، اللَّه أعلم ماذا يكون الحال فيها، وقرائن الأحوال تدل على أنها لا شيء، فقال رضي اللَّه عنه، الأعمال حيث وُجِّهت، فإذا حَذَفتَ بحصاة إلى جهة الغرب، ما ترجع إلى جهة المشرق
ما قال في تأني الحاكم
وقال رضي اللَّه عنه، لا ينبغي للحاكم في هذا الزمان أن يحكم لأحد بمجرد دعواه، حتى يُحْضِر خَصْمَه، ويجمع بينهما، لأنه غير مأمون عليه، فقد قيل، إنه أتى شخص إلى ذي القرنين حاملاً عينه في يده وقال له، إن فلاناً قلع عيني فاحكم لي، فقال له، ادعه، أخاف إنك قلعت عينيه كلتيهما، فكان الأمر كذلك
وقال رضي اللَّه عنه، كلما جاوز حد الوسط والاعتدال، فهو شر وبلاء، وخصوصاً في العادات، فإن ذلك في العبادات قد يُغتفر، إذا زيد على القدر الممكن، إما لشغف بالعبادة أو للاحتياط
(١/٣٠١)
ما قال في القضاء والقدر
وذكر رضي اللَّه عنه أمان الطرق فقال، إذا أراد اللَّه أمان الأرض، وضع الأمان في قلب الخائف والمخيف، فحصل الأمان، هذا فعله وعليهم الأسباب، ولهم الاختيار وإليه القدرة والفعل، هذا في هذا العالَم، لأنه عالَم الأسباب والحكمة، فترى الإنسان لو أراد يسافر أو يفعل أو يترك، ونحو هذا كل ذلك باختياره، وأما في الآخرة فإليه تعالى الفعل والقدرة، ولا عاد لهم اختيار ولا سبب، بل لو أرادوا فعل شيء ما قدروا، وتولته الملائكة دونهم، ثم تلا قوله تعالى، {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ إِن اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَاْنفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}، وقال، هذا في الآخرة، لأن إذ ذاك معاد شيء أسباب، ولأن الأسباب قد استوفوها في الدنيا، وقد فُسِّر قولُه تعالى، { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } المطر ،{وَمَا تُوعَدُونَ } الجنة، لأنها في السماء، فيُنزّل لهم اليوم المطر من السماء الذي هو سبب الرزق، ثم يسكنهم الجنة في الآخرة
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يأمره بالحج، وذكر حديث، (( إنما الأعمال بالنيات ))، ثم قال، الإنسان ينوي ويتحرك، ويُتِمُّ اللَّه ما أراد، فقد توافقُ الحركةُ القضاءَ والقدر، فإن وافقتهما تم العمل، وإن لم توافق ذلك لم يتم العمل، ولكن يبقى الإنسان على ما نوى من خير وشر
وذكر رضي اللَّه عنه التفريط في الأمور، فقال، الحزم لا يَرُد القدر فكيف التضييع، وأنت إبق على المطلوب منك، حتى يغلبك القدر وأما إنك ترمي بنفسك في البئر، وتقول، مقدر عليَّ استغفر اللَّه، هذا لا يجوز
(١/٣٠٢)
وقال رضي اللَّه عنه، حالُ المشيئة فيه تفصيل طويل ما هو حال الجبر، وفيه كلام طويل يعرفه الإنسان من أفعاله الاختيارية والاضطرارية، فلينظر الإنسان كل أمر، إذا شاء فَعَله، وإذا شاء تركه، فهو محل التكليف والثواب والعقاب، وهو غير كلام أهل الجبر، إنه مكتوب عليّ ومقدر عليّ، وكلهم محجوجون، فمن أين علموا أنه كتب عليهم، وقد احتج إبليس لعنه اللَّه بين يدي اللَّه تعالى بهذه الحجة، فما نفعته، قال اللَّه سبحانه له، لأي شيء ارتكبتَ معصيتي، وعصيتَ أمري، قال، يا رب هذا أمر قد كتبتَه علي، قال اللَّه سبحانه، متى علمتَ أني كتبتُه وقَدَّرتُه عليك، قبل الفعل أم بعده؟، قال، بل بعده، قال تعالى، بهذا أخذتُك والتفاصيل الغامضة ما يعرفها إلا العالِمون، ولكن اللَّه من اللَّه، وهذه المسألة مذكورة من زمن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بوجوهها الثلاثة، كما في قصة الذي أُتِيَ به إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مراراً ليُحَدَّ في الخمر، فلم يقل كُتِبَ علي
وقال رضي اللَّه عنه في حديث ابن عباس الذي فيه، (( واعلم أن الأمة لو اجتمعت )) الخ، أي غير مُستقلين بذلك، بل سعوا فيه، ووافق القدر في حصوله، فالإيمان بالقدر إجمالاً واجب، فلا يُحتج به في فعل معصية أو ترك طاعة، فإن هذه بدعة وهي تضر بالعامة، وهي حجة لا تنفع، يحتجون بقَدَرِ اللَّه، فالإيمان واجب ،وبعد ذلك إذا أَصَبْتَ معصية تب منها واعمل الطاعة وأنت مع ذلك تؤمن أنها بِقَدرِ اللَّه
وقال رضي اللَّه عنه، ما الرضا إلا بالأقضية المُرّة، وأما من وقع له ما يريده فرضي به، فلا يظن أنه رضي بذلك عن اللَّه، وكذلك من يعمل على ما يهواه، ويقول هذا مقدّر علي، فإن هذا مبتدع، واللازم عليك أن تُسَلِّمَ لقضاء اللَّه فيما كرهت، وتعملَ بطاعته
(١/٣٠٣)
وقال رضي اللَّه عنه، في أوقات الشدائد لا ينبغي للإنسان أن يشفق إلا على دينه، لأنه الذي يبقى معه في قبره وفي الآخرة، وأما الدنيا فزائلة، ولا بد من زوالها، شئت أو كرهت، إما زالت عنك، وإما زلت عنها، إما زالت عنك اليوم، وإما زالت عنك غداً
وقال رضي اللَّه عنه، إذا رَجَعت إلى خيرة اللَّه، ففيها كل شيء، والأشياء التي على أيدي الناس كلها عنده موجودة، وإلا فالعلامات علامات سوء، إذا نظرت إلى أحوالهم في أمور دينهم ودنياهم، من صلاتهم وزكاتهم ومعاملاتهم، وما تُذكَر هذه الأمور، إلا لتُعرف أواخرها، لأن اللَّه لا يأخذ بغرَّة، ولا بد للشيء من مقدمات، وهذه الأمور مقدمات الساعة، وكل أمورهم ما شيء منها وقع في محله، وكلها عسعسة، ولا تكون العسعسة إلا في الغَدرى، ووَصفُه تعالى نفسَه بقوله، { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } في غير محل من القرآن، تعرف أن التدبير أمره مهم، ولا شيء يستقيم إلا به، وأين الرجل الصالح اليوم، ما عاد إلا شر وشر منه
وقال رضي اللَّه عنه بعدما انجر الكلام إلى ذكر القَدَرية والجَبْرية، فذكر، إن بعض الصالحين جاءه قَدَري، ليحاجه فقام القَدَري وقعد، فقال، ها أنا قمت بنفسي وقعدت، فقال له الصالح، فقم إذاً، فرام القيام فلم يستطع، فانقطعت حجته، وأما الجبرية المحتجون على اللَّه، فإذا قام أحدهم للمعصية مختاراً، وقال، إنما أقامني اللَّه لها، فنقول له، تكذب على اللَّه، إن اللَّه نهاك عنها، ولا نراك مكرهاً عليها، ومن قال لك إفعلها، ولكن اللَّه تركك من حفظه، فأخذ بيدك الشيطان فَجَرَّك إليها
(١/٣٠٤)
وذكر رضي اللَّه عنه أفعال الناس في المقادير الكائنة بها، وحركات الناس على مقتضاها، فقال، المقادير أرواح، وأجسادها الأفعال الصادرة من الخلق، فالأجساد تُرى ويُدرك كنهها، والأرواح لا تُرى، ولا يُعرف كنهها، فكذلك الأفعال في المقادير، فيسافر الرجل ويقول أريد مكان كذا، ولا يعلم ما قُدِّر له، فربما مات قبل مقصده، وربما وافق القدر فوصل إلى حيث أراد، فالمقادير لا يُعلم بما جرت به ولو عُرِفت الأفعال ففي الدنيا تخفى الأقدار وتظهر الأسباب، وفي الآخرة تظهر الأقدار وتخفى الأسباب
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يريد السفر، المقدورات لا بد لها من أوقات، المقدورات لا بد لها من أوقات، كذا كررها مرتين، ثم قال، وما ليس بكائن فلا قُدِّر ولا وُقِّت، اللَّهم خِرْ لنا واختر لنا
(١/٣٠٥)
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً في القضاء والقدر، فقال، هذه الأشياء هي أفعال العباد، فيؤمِن بأنها من اللَّه، ولا يحتج على اللَّه بالقضاء والقدر، بل يجتهد ويختار الأحسن حتى يُغلب، وقد عَلَّمك اللَّه القضاء والقدر فخذ به، لأن اختيارك من فِعْل اللَّه فماذا تحتج به، كما إذا حضر الطعام عندك وأنت جائع أو قَصَدك عدو من سبُع وغيره ومعك سلاح وأنت قادر فتترك ذلك فلا تأكل ولا تقاتل، وتقول، إن قدر اللَّه شيئاً هو يكون، فهو قَدّر لك بأن أعطاك الاختيار والقدرة، وفَصَّل لك أنواع الخير والشر، وبيّن الأحسن والأسوأ، فاجتهد أنت وتَحَرَّ ما يحسن، ولا تجلس وتعتذر، ومعك خصلتان يعتل بهما الناس، وما عرفوهما، لأنهم أخذوهما بجهل، جاهل عن جاهل، ولا يعلمونهما، القضاء والقدر، والتوبة، فيحتج بالقضاء والقدر، مع التقصير في حقوق اللَّه، والاحتجاج بهما مع المعصية معصية أكبر من تلك المعصية، وفي التوبة ربما تاب من بعض الذنوب فَنَقضها وما جاء في طلب الرضا بالمقدور هو يعني في أمور الدنيا من فقر أو غنى، أو ربح في تجارة أو خسران، أو مرض أو صحة أو موت وأمثال ذلك، لا بأن ترضى بترك واجب أو فعل محرم، لأن اللَّه لا يرضى لعباده الكفر، وكذلك فروعه، فمن قال لك ترضى لنفسك بالمعصية، ولم يرضها لك ربك
وقال رضي اللَّه عنه، ما وقع من أفعال اللَّه هو الأصلح على أي وجه كان، وفيه حِكَم لا يحيط بعلمها الخلق، لأنهم لم يحيطوا علماً بكل شيء، وإن كان يَظُن في الشيء أن الأصلح خلافه، فيقول، لأي شيء يكون الشوك، وإنما الفائدة في الثمر، وكذلك لا حاجة إلى نحو الحيات والعقارب، ففيها حكم ومنافع، لا يحيط بها الوهم، أقل الحال أن لا يبطر الخلق إذا كان كل شيء على ما أرادوا
(١/٣٠٦)
وقال رضي اللَّه عنه، المُصِرُّ على الذنوب مع رجاء العفو متمنٍّ، والمعتل مع ذلك بالقضاء والقدر مبتدع، وهذه مسألة قديمة، حتى اعتل بها الكفار، ولكنها شاعت عند العامة، فأول ما يلام على المعصية إحتج بذلك، وجعلوه كالجبر، وليس هذا عذراً لمن بقي معه الاختيار، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، هذه مسألة مهمة في الدين، إحفظوها، لا يحتج الإنسان بالقضاء والقدر، حتى يعطي الأشياء غايتها، ومن كان طبعه لا يقبل الرياضة، فلا تُتعب نفسك معه وتُتعبه
وسمعته رضي اللَّه عنه مراراً يقول، لا عاد عمدة في ذي الوقت إلا على المقادير فقط، لأنا نرى التدابير والسعي ما ينفع، ولا يبلغ الإنسان ما أراده
وقال رضي اللَّه عنه، من العجائب أن الإنسان قد يصيبه السبب الداعي إلى الهلاك، ولكن حيث لم يقدّر عليه لم يضره، وإن عظم السبب، وقد يصيبه السبب جدًّا، فيضره لأنه مقدر عليه
وذكر رضي اللَّه عنه القضاء والقدر، فقال، هو مضر بالعامة، حتى غيَّرهم، وليس هذا مقصود الإيمان، فإن مقصوده العمل مع الاحتجاج للَّه تعالى على النفس لا بالعكس، وهذا هو مذهب الجبرية، ومذهب القدرية خير منه، ( وسقط بعد هذا بعض الكلام ) ثم قال، ضَعُفَتْ في هذا الزمان النيات والمروءات والهِمَم، وضعفُها أكثر من ضعف الدين
(١/٣٠٧)
ولما مر في القراءة في "الفصول العلمية"، إنه يقع كثيراً في كلام أهل التصوف، أنه ينبغي للعبد أن يرضى بما أقامه اللَّه فيه من الأشياء، ولا يطلب الخروج من ذلك، لأن اختيار اللَّه لعبده أحسن من اختياره لنفسه، ولكن قد يلتبس الأمر على بعض المغترين من الجاهلين، فمن الظلمة الغشَمة من يحتج بإقامة اللَّه تعالى له فيما هو فيه، ومن المخلطين الذين يعملون الربا، ويأخذون المال من غير حِلِّه، ووضعه في غير حَقِّه، من يحتج بمثل ذلك، وذلك بهتان عظيم وضلال مبين، وإنما تكون إقامة اللَّه للعبد إذا كان فيما يحبه من الأمور والأحوال، ويكون عاملاً بطاعة اللَّه، وطالباً وراغباً في الترقي إلى ما هو فوق حاله ومقامه، إلى آخر ما قال ثم قال، هذا الكلام ذكره ابن عباد في أَوّل "الحِكَم" والفرق أن من كان في طاعة واعتقد إقامة اللَّه له فيه، فهو كذلك، وإن كان في معصية فاعتقد ذلك، فهو الاحتجاج على اللَّه، ومثل هذا، الاعتمادُ على القضاء والقدر مع ترك العمل، ومثله التعلق بالحقيقة دون الشريعة
وذكر رضي اللَّه عنه الأسباب فقال، إذا أراد اللَّه أمراً جعل له سبباً، لأنه سبحانه لا يكلم الناس، فيقول لهم افعلوا كذا، واتركوا كذا، ثم قرأ، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً} الآية، واللَّه سبحانه هو الفاعل
وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً فقال، إنه فعل أموراً لم يشاورنا فيها، ولكن الفعل فعل اللَّه، فما وقع فقل، فعل اللَّه، وما لم يقع فقل، فعل فلان
وقال رضي اللَّه عنه، ما يليق في تفسير القرآن، وشرح الأحاديث إلا الخشوع والخوف، لأنها رقائق، ولا يحسن فيها البحث ونقل الأقوال، ومسألة القدر فيها إشكال لا يزول، وهي على ثلاث درجات، مذهب القدرية وقد انقرضوا، حتى لم يبق اليوم منهم أحد، والجبرية، ومذهب أهل السنة وسط بينهما (وسقط هنا كلام)
(١/٣٠٨)
وتكلم رضي اللَّه عنه في تعاطي الأسباب، وعدم الاعتماد عليها، فقال، كل الأشياء من اللَّه، ولكن لا تَنْسُب إلى المليح إلا المليح، والشر ليس إليك، وأما قولك، كله من اللَّه وللَّه، فلا يعرفه إلا العلماء الأكابر، وإذا قال، هذا وقع لي من اللَّه، فلا شك أنه من اللَّه، ولكن بأسباب موقوفة على أسباب، فخذ الشيء من الوجه الذي أذن لك فيه، ولا تكن كالذي رأى في يد رجل شيئاً فنهبه منه وقال، هذا جاءني من اللَّه، فنهب هو منه شيئاً آخر، فقال، وهذا أيضاً جاءني من اللَّه، فإذا كان أحد معه شيء، فقال، هذا من اللَّه، فلا ينبغي لآخر ليس معه شيء، أن يقول، كيف يعطيك ولا يعطيني، فإذا أراد مثل ذلك فينبغي أن يعرف الوجه الذي حصل له هذا منه، فيعمل فيه مثل عمله ليحصل له مثل ما حصل له، وناس كثير يغلطون في الصواب، فيحتاجون إلى التعليم، ولو أراد شبام أو الشحرـ مثلاً ـ لاحتاج إلى جَمَّال، فينبغي أن يعرف أمور الدين بهذا الوجه وإذا قال أعطانيه اللَّه فيحتاج إلى شاهد من الشريعة، قال اللَّه تعالى في قسم الفيء، { وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}،ثم قسمه تعالى بنفسه بقوله،{لِلْفُقَرَآءِ المُهَاجِرِينَ }، ثم قال، والدنيا كلها مفروغ منها، والناس فيها بين ناج وفائز، وهذه أمور قد فُرغ منها، ولا مدخل للعمل فيها، ولكن إذا مات الإنسان على الإسلام فلا يبالي بشيء
وشكا إليه رضي اللَّه عنه رجل ضيق الحال، فقال، ما عاد معك اليوم إلا الرضى والتسليم، لكن بشرط موافقة الأمر، فإذا وافق الأمر الرضى بالقضاء والقدر، تَمَّ أمره ثم أمرني بتقسيم أسوكة، فبقي يتكلم ولا عقلت منه شيئاً
(١/٣٠٩)
وذُكِر له رضي اللَّه عنه يوماً رخاء الأسعار، فقال، ضَمُّوها للناس، وباءوا بإثم احتكارها وحدهم، لأن المحتكر ملعون، يحشر مع قَتَلة النفوس، وذلك من غير اختيار منهم، ومن أبغضه اللَّه وأراد به شراً يَسّره لفعل الشر، شاء أم أبى، ومن أحبه اللَّه وأراد به خيراً يَسّره لفعل الخير، شاء أم أبى، وكل فعل يفعله الإنسان باختياره في الظاهر أو في الباطن، ففيه المدح والذم
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً في معرض المدح، وآخرين في معرض الذم، ثم قال، الأفعال أحد يُمدح بها وأحد يذم، والأسباب من فوق
وقال رضي اللَّه عنه في حديث محاجة موسى لآدم، وقوله، فحج موسى آدمُ، إن هذا أمر قد مضى وتاب منه آدم، وكم قد بقي يبكي ذنبه، حتى بكى عليه نحو مائتي سنة، ما إنه جلس يضحك ويحتج بالقضاء والقدر، ولو أن العمل ما هو إلا بالقضاء والقدر، لكن إلى الإنسان منه شعبة، هي محل التكليف، وبِحَسبها يثاب ويعاقب، وهي الاختيار، فما دام يميز بين الفعل والترك، ويعرف الأحسن منهما ويمكنه ذلك مع الاختيار، فلا حجة له، والحاصل، إن المدح والذم متعلقان بالاختيار، حتى إن الإنسان قد يثاب مع عدمه، فيما لو فعله معه لَذُمَّ به، كمن يسقط في بئر وهو غافل، أو فَعَل ما فيه تلفه، وأما المضطر المجبور، فلا ثواب له، ولا عقاب عليه، لعدم الاختيار
وقال رضي اللَّه عنه، لم تظهر مجاري القضاء والقدر إلا بعد تعدي خطة الاختيار، وما يتكلمُ في القضاء والقدر وفي الرجاء مع العامة في هذا الزمان إلا الأحمقُ
وقال رضي اللَّه عنه، لا يمكن الإنسان مادام في الدنيا أن يمسك المحفر بِعُروتيه أبداً، بل إن تمكن جداً قبض بإحديهما، وإن حركه كثيراً سقط كل ما فيه أو بعضه، فينبغي أن يأخذ بها بالتي هي أحسن، لئلا يرجع به خالياً
ومر في عقيدة الرائية وقت الدرس قوله ،
ولا كائن قد كان أو هو كائن سوى بمراد اللَّه من غير حاصر
(١/٣١٠)
فتكلم رضي اللَّه عنه عند ذلك في القضاء والقدر فقال، هذه الأشياء هي أفعال العباد، فيؤمِن بأنها من اللَّه، ولا يحتج على اللَّه بالقضاء والقدر، بل يجتهد ويحسن الأحسن حتى يُغلب، وقد عَلَّمك اللَّه القضاء والقدر، فخذ به، لأن اختيارك من فِعْل اللَّه، فماذا تحتج به، كما إذا حضر الطعام عندك وأنت جائع أو قَصَدك عدو من سبُع وغيره ومعك سلاح وأنت قادر، فتترك ذلك فلا تأكل ولا تقاتل، وتقول، إن قدر اللَّه شيئاً هو يكون، فهو قَدّر لك بأن أعطاك الاختيار وهداك، وفَصَّل لك أنواع الخير والشر، وبيّن الأحسن والأسوأ، فاجتهد أنت وتَحَرَّ ما يحسن، ولا تجلس وتعتذر، ومعك خصلتان يعتل بهما الناس وما عرفوهما، لأنهم أخذوهما بجهل، جاهل عن جاهل، ولا يعلمونهما، القضاء والقدر، والتوبة، فيحتج بالقضاء مع التقصير في حقوق اللَّه والاحتجاجُ بهما مع المعصية معصية أكبر من تلك المعصية، وفي التوبة ربما تاب من بعض الذنوب، فَنَقضها وما جاء في طلب الرضى بالمقدور هو يعني في أمور الدنيا من فقر أو غنى، أو ربح فيها أو خسران، أو مرض أو صحة أو موت، وأمثال ذلك، لا بأن ترضى بترك واجب أو فعل محرم، لأن اللَّه لا يرضى لعباده الكفر، وكذلك فروعه، فمن قال لك ترضى لنفسك بالمعصية، ولم يرضها لك ربكوما وقع من أفعال اللَّه هو الأصلح على أي وجه كان، وفيه حِكَم لا يحيط بعلمها الخلق، لأنهم لم يحيطوا علماً بكل شيء، وإن كان يَظُن في الشيء أن الأصلح خلافه، فيقول، لأي شيء يكون الشوك، وإنما الفائدة في الثمر، وكذلك لا حاجة إلى نحو الحيات والعقارب، ففيها حكم ومنافع لا يحيط بها الوهم، أقل الحال أن لا يبطر الخلق إذا كان كل شيء على ما أرادوا
(١/٣١١)
أقول، رأيت في بعض القصص، أن رجلاً أنكر خلق الخنفسا وقال، لا فائدة فيها بوجه، فابتلاه اللَّه بقرحة عجز عنها الحكماء وأُيس من بُرئها، فسمع رجلاً ينادي على أدوية لأمراض ذكر منها، من به قرحة صعبة فدواها حاضر، فشكى له ما به، فقال، إئتني بخنفسا، فرضَّها وجعلها على قرحته، فبرئت بسرعة، فعجب من ذلك وتاب من اعتراضه وعلم أن للَّه حِكَماً في كل شيء
وقال رضي اللَّه عنه، الإصرار على الذنوب مع رجا العفو تَمَنٍّ، والمعتل مع ذلك بالقضاء والقدر مبتدع، وهذه المسألة قديمة، حتى اعتل بها الكفار، ولكنها شاعت عند العامة، فأول ما يلام على المعصية إحتج بذلك، وجعلوه كالجبر، وليس هذا عذرٌ ما بقي الاختيار
وذكر إقامة اللَّه للعبد فقال، من كان في طاعة واعتقد إقامة اللَّه له فيه، فهو كذلك، وإن كان في معصية واعتقد ذلك، فهو الاحتجاج على اللَّه، ومثل هذا، الاعتمادُ على القضاء والقدر مع ترك العمل، ومثله، التعلق بالحقيقة دون الشريعة
وقال رضي اللَّه عنه يوماً في مجلس الدرس، في معنى نسألك اللطف فيما تجري به المقادير، معناه، إن المقدور لا راد له، ولكن يسئل اللطف في ذلك، كما قال أبو الحسن الشاذلي، لا نسألك دفع ما تريد، ولكن نسألك التأييد بروح منك فيما تريد، وأما نسألك الرضا بعد القضاء، فذلك عند الحاجة إلى الرضا، وأما قبله فإنه عازم عليه، وما يدريك عند حصوله، وأما برد العيش بعد الموت فذاك شيء آخر، وقبل الموت يرغبه في الدنيا، فمن سأله اللَّه كرهه اللَّه منه، كما يبغض الدنيا، ودعا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لذاك الرجل الذي يكرهه، بكثرة المال والأهل، وكذا دعا بذلك لأنس بن مالك، فما الفرق بينهما؟، إن هذا دعاءٌ مع المحبة بسؤال امرأة صالحة فصار نافعاً، وذاك بخلافه فصار ضاراً
(١/٣١٢)
قال بعضهم، إذا أردت أن تسأل أحداً عن الدنيا، فسل عنها من هو في سكرات الموت وأكثر الناس قلوبهم مرضى، فيشتهون ما لا يُشتهى
ما قال في ذم الدنيا
وذكر رضي اللَّه عنه الدنيا فقال، إن المحب لها كلما ظفر منها بشيء غرق فيه على قدره، إن قل أو كثر، لأنها كالبحر، فأول ما يدخله تغرق فيه أقدامه، ثم إذا دخل أيضاً غرقت رُكَبُه، ثم وسطه ثم يغرق كله، وسرورها يعود على حزنها، وحزنها يعود على سرورها، فإذا سَرّته أحزنته، وإذا أحزنته سَرّته، ثم ذكر قصة المرأة التي مر بها عيسى عليه السلام مع غنمها وهي في أسوأ حالة من الجدب، وضعف الغنم، وهي فرحة، ثم مر عليها بعد مدة فوجدها في حالة حسنة من الخصب وسمن الغنم وهي محزونة، فقالت، أنا في الحالة الأولى فرحة بتوقع الأخرى، وحزنة فيها لتوقع الأولى
وقال رضي اللَّه عنه، الولاة كالحيات، العافيةُ في سكونهم، وما يجيء من تحركهم إلا الشر، والناس في هذا الزمان ما معهم من الدنيا إلا الهم والتعب، ولو أن أحداً معه شيء من الدنيا فقال لك، خذه بما معه من الهم والتعب، لأبيت منه واخترت الراحة من ذلك، فقد قال عيسى عليه السلام، الدنيا قليل، وما بقي من القليل إلا القليل، قد شُرِبَ صَفوُه وبَقي كَدَره
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أراد الإنسان من متاع الدنيا شيئاً عن حاجة إليه وضرورة، فإن اللَّه يعينه وييسره، وإن أراده بطراً من غير حاجة فليقدر
(١/٣١٣)
وذكر رضي اللَّه عنه الزهد فقال، كل الناس راغبون، إلا إنها رغبة دون رغبة، فينبغي أن يعرف الإنسان قَدْره، ولا يدّعي ذلك، فيَلقى اللَّه مُدَّعياً، وبهذا تعرف أن الزهد عزيز، وأنت لا تُظْهِر للناس أنك زاهد، فإن كنت كذلك فلا عليك من قول الناس، وإلا صرت مدَّعياً ولقيتَ اللَّه كذلك إذا ظهر لك الحال في الآخرة، وفي الدنيا ما أنت سالم بما أنت عليه، وقد رأينا أناساً يدّعون الزهد، وهم بَعْدُ لم يصلحوا لطلب الدنيا لجهلهم وقِلّة ورعهم، فكيف بالزهد، فيسمعون مثل هذه الأشياء في الكتب فيَدَّعونها
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، ما ترى لو وَقَعْتَ على كنز، أو على مال، ماذا كنت تصنع، وانظر أن للنفس حالة قبل وجود الشيء، وحالة عند وجوده، وحالة بعد وجوده، وإذا حصلت أمور الدنيا فاسأل من اللَّه السلامة فيها، وقبل حصولها اسأل اللَّه السلامة منها، فإنما هي فتنة
وقال رضي اللَّه عنه، لا تفعل شيئاً من أمور الدنيا إلا مع الحاجة الظاهرة إليه، فإن الاستكثار من أمور الدنيا، ما هو شيء أصلاً، فلا تجعل لنفسك منها شيئاً، ولا تقل ربما تدعو إليه حاجة، فحاجة الآخرة والدين أهم إليك من هذا، غير إنا ما نحب أن نكثر على الناس فيما هم فيه، وكلما قدر الإنسان يضيِّق على نفسه في هذا الزمان، لوجه اللَّه لا لشيء آخر، فإن ما عند اللَّه خير وأبقى، قال، وهذا عزيز ونادر جداً، ومعناه، طمأنينة تحصل في قلبه لا يضطرب، ولو ما عنده شيء، ورزقه في خزائن اللَّه، لكن أين من يطمئن بذلك قلبه
(١/٣١٤)
وقال رضي اللَّه عنه، ما كان من أمور الدنيا لا تتعلق به، واتركه لغيرك، من خادم ونحوه، واشتغل أنت بأمور الدين والأمور الإلهية، وأمور السماء ملكوتية، وإن كان فيها مُلك، لأنها من قول كن، وإن كان فيها مثل أنهار وغيرها، من أمور المُلك، وأما هذه الأرض العليا فهي مُلك، وما فيها كله ملك من الحرث وغيره، وفيها الاحتياج إلى كثرة الأكل والمعاش، وما أسفل منها لا يحتاجون إلا إلى قليل كالجن
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الناس يسليه عن شيء ذهب عليه من المال، الدنيا كلها ما تسوى شيئاً، وإنما فيها صيانة المؤمن وسِتْره واستغناؤه عن الناس، ويعمل منها صالحاً إن وفّقه اللَّه، وإلا فما هي شيء أصلاً
وقال رضي اللَّه عنه، أهل الدنيا المحبين لها إن كان جعل اللَّه في قلوبهم شيئاً من الزهد تَخُفُّ بسببه في قلوبهم استقاموا على الأحسن، وإن حصل لهم غرضهم وهواهم تعبوا في أنفسهم، وأتعبوا غيرهم، إلا إن كان حصل لهم مانع، والأموال الحرام ما تروح إلا في الحرام، ومرة قال، المال الحرام يرجع من حيث أتى، كالحية التي دخلت جحراً ليس له إلا ثقب واحد، ولم تدخله إلا تلك المرة
ومرة قال، إذا أردت أن تعرف مالاً هل هو حرام أو حلال، فانظر فيماذا يصرف في حلال أم حرام، فإن المال الحرام يأبى أن يصرف إلا فيما هو أصله، وشبّه رضي اللَّه عنه أموال أهل الزمان بالنار، لكونهم في غير الطريق يسهل عليهم إخراجه، وفي الطريق يعسر عليهم ذلك
وقال رضي اللَّه عنه في قولهم، يبنون ما لا يسكنون، أي إذا أردت أن تسلم من آفات الدنيا، فلا تبن قبل أن تدعوك الحاجة إلى البناء، من ضيق منزل، وكذلك في أمر المعيشة، لا تقدر الحاجة إليها قبل وقوعها، لئلا تكون من الذين يخبأون ما لا يأكلون
(١/٣١٥)
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا كالبقرة الصعبة، إن أمسكها الإنسان برأسها كسعته برأسها، وأن أمسكها بذيلها رمحته، فلا أجدر بالعاقل من تركها
وقال رضي اللَّه عنه، من طلب الدنيا للدنيا لا وزن له ولا ينتفع بها، ولا يحصل له بها الستر، ولو حصل له منها ما عسى أن يحصل فهو مذموم الحال، ومن طلب الدنيا للدين، ولو سأل على الأبواب لم يضره ذلك، بل يعظمه اللَّه وملائكته
وقال رضي اللَّه عنه، من استوى عنده هاك وهات، فهو من الزاهدين، فقيل، هذه رتبة شديدة، فقال، ورتبة أخرى أعلا من هذه وأشد منها، وهي أمثل، أن يكون هات أحب إليه من هاك، وهي أشد، ثم ضحك وقام ضاحكاً ليدخل المصلى للصلاة، وكان كلامه ذلك عند جلوسه في الضيقة
وقال رضي اللَّه عنه، الصديق إذا قضى لك حاجة بعد السؤال، فلا خطر لقضائها، وإنما المليح أن يقضيها إذا علم احتياجك، وأما إذا سألته إياها فلم يقضها، فلا تعده حتى من المعارف
(١/٣١٦)
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً يعسر عليهم قضاء الحاجة، فقال، فلان له أكثر من عشرين سنة، ما استقضينا منه حاجة، ولو بالثمن حاضراً، لأنا لا نصحب اللئام، ولا نداخلهم، ولا نستقضي منهم حاجة، فإن طلبوها منا قضيناها لهم، وكان واحد عندنا له شيء قليل من الدراهم، وطلبنا منه حاجة بقيمة مثلها، فقال، تلك ما فيها خوض، ولم يقضها، فأرسلنا له دراهمه، ولم نقبلها لأن ذكره لها لا معنى له، ولو اعتذر بأن ما معه شيء في الساعة كان أحسن، قال، وآخر طَلَبْنا منه كذلك، وقلنا له، نرهنك شيئاً في مقابلته، فقال، ماذا؟، قيل، كذا، قال ما أريد إلا كذا، فتركناه، وأمثال هؤلاء أحسبتم إن اللَّه سلط عليهم الدولة سُدَى، ما سلط عليهم إلا بسوء أعمالهم، كما قال السيد أحمد، الدولة ما هم الظَلَمة، ما الظلَمة إلا أهل البلاد، والحاصل، إن اللئيم ما هو ممن يُعَرَّج عليه في شيء، فلا تستقض منه، فإن استقضى منك فاقض له
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا لا تخلو أن تكون سجناً للمؤمن من كل الوجوه أو بعضها، ولو لم يكن إلا أن الروح فيها مسجون في الجسم
وقال رضي اللَّه عنه، علامة الزاهد في الدنيا إنه إذا دخل عليه منها فوق حاجته، يستوحش منه، فيرد الباقي أو يخرجه في الحال بلا مهلة، وهذا أقل الزهد، وعلامة الراغب فيها، أن يستأنس بما يحصل له منها، ومن عرف الدنيا زَهد فيها، ولو كان لم يؤمن بيوم الحساب
وذكر رضي اللَّه عنه جماعة من السادة معهم شيء من الدنيا، فذم دنياهم وضعف أمرها، وقال، من رأيته من السادة معهم دنيا تحسب أن معهم شيئاً منها، وما معهم منها شيء، لأنه قاعدة، من دخل في أمور الدنيا وليس آباؤه وأجداده من أهلها، فلا يحسنها ولا يعرف مواقعها وتدبيرَها، كالشجاع الذي أهله ليسوا شجعاناً، فإنه لا يحسن أمور الحرب وتدبيرَه، وكذلك في كل شيء، كما قيل في المثل، ولد الصانع خير من متعلم سنة
(١/٣١٧)
وقال رضي اللَّه عنه، من أراد أن يسلم من الدنيا، فلا يمدّن عينيه ؛ فإن مَدّهما راح دينه، أما سمعت قوله تعالى ،{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } الخ، والدنيا ما تسوى الاستغراق بها
وقال رضي اللَّه عنه، إن خير الدنيا مبشر بشرها، وشرها مبشر بخيرها، كما في قصة الراعية التي مَرَّ عليها عيسى عليه السلام
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، فلان رِزْقه متيسر، وهو يسمع، ثم أقبل عليه بالخطاب، وقال له، وكان أهلك فيهم كرم، فهل فيك كرم مثلهم، فقال، نعم، إلا ما تأتت الأمور، فقال له سيدنا، الأول فالأول، فالأول إطعام الطعام، ثم القهوة ثم الماء، والدنيا من وقت آدم إلى هلم جراً ما تسوى عند اللَّه جناح بعوضة، وما فيها إلا الإيمان والنية الصالحة، والعمل الصالح، وكان أهل ذاك الزمان، إذا قيل لأحدهم، هاك، قال، أنت أحق به، لزهادتهم وقناعتهم، وكانت أمور الدنيا لا تضيق بهم، واليوم إلا يتناهبون، ما تحسبهم إلا أعداء، وإيش يُسكِّن قلوبهم الملآنة حرصاً، لأن الحرص إلا نار
وقال رضي اللَّه عنه، من تعلق قلبه بحب الدنيا وإعراضه عن الآخرة، يكون ذلك من أحد سببين، إما غفلة مع كونه موحداً، وإما شك في اليوم الآخر والعياذ باللَّه من ذلك، ويُعرف ذلك منه عند الموت، فمن كان إذ ذاك خائفاً من أمور الآخرة فذلك من الغفلة، وهو مؤمن، وإن كان بقي خائفاً على أهله وعياله ماذا يكون حالهم بعده، فهو شاك
وقال رضي اللَّه عنه، أمور الدنيا لها ثلاث حالات، إقبال وإدبار واستواء، وهو أحسنها وأقلها، كاستواء الشمس، واستواء القمر، وأما أمور الآخرة إذا تمت فأطولها مدةً حالةُ التمام في الخير والشر
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا ما فيها فراغ، إنما فيها التفرغ، فإنك إن لم تكن مشغولاً بظاهرك، فأنت مشغول بباطنك، فإذا حصل الحزم فما عاد شيء وقت
(١/٣١٨)
وقال رضي اللَّه عنه، لا تخص الدعاء بأمور الدنيا فقط إذا دعوت، ولكن إذا سألت اللَّه شيئاً من أمور الدنيا، فاسأله قبله شيئاً من أمور الآخرة، فإنه سبحانه أكرم من أن يعطي بعضاً، ويترك البعض، بل يعطي ذلك جميعاً
وقال رضي اللَّه عنه، زهد الرجل وخروج الدنيا من قلبه أدل دليل على ولاية اللَّه له، وأنه من أولياء اللَّه
وقال رضي اللَّه عنه، خذ من الدنيا ولا تتركها تأخذ منك، وإن كان ولا بد فخذ منها وتأخذ منك، والحذر الحذر أن تأخذ منك، ولا تأخذ منها
أقول، والذي ظهر لي أن معنى الأخذ منها كما جاء في الحديث، (( خذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك ))، الخ، وأخذُها منه تَرْكُه ذلك واللَّه أعلم
وقال رضي اللَّه عنه، اتباع أمور الدنيا هي قولك، باافعل كذا، وافعل كذا، فهذه هي الشُّعب شُعَب الدنيا، التي من تَتَبعها لا يبالي اللَّه به في أي واد من أودية جهنم أهلكه، ولكن إنما هي أقوال تَتْبع أوهاماً، وتَتْبعها الأعمال، وأهل الزمان يريدون صبراً
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا للدين مثل الغشاوة للمصحف، وما زاد على ذلك فهو مضر، فقد قال بعضهم، الدين مثل العمامة، أي يُرفع كما ترفع العمامة فوق الرأس، والدنيا مثل النعل، أي توضع، واليوم انعكس الأمر، أي وُضِع ما من شأنه أن يُرفع، وُرِفع ما من شأنه أن يوضع
وقال رضي اللَّه عنه، اسأل ربك العافية، والرضى بالدون من أمر الدنيا، وانظر مَنْ هو فوقك، وفَضُل عليك فيها، هل هو يجمع ذلك لينفقه في سبيل اللَّه أم لا، ولا شك أنك لست بفاعل خيراً منه
وقال رضي اللَّه عنه، من تأمل أحوال الأنبياء ومن تبعهم من العلماء والصالحين في الدنيا، عرف أنه لم يسترح فيها ويطمئن بها إلا أحمق جاهل
(١/٣١٩)
وقال رضي اللَّه عنه، الهَمُّ الذي ليس لأجل أمور الدين، ما فيه فضل، وهو ضِيقُ الصدر، والآخر يسمى الحُزْن، والدنيا بجملتها ما تسوى اشتغال القلب بالهَمِّ لأجلها، بل هي أحقر وأقل من ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، ما طالبنا أهلَ الزمان بالزهد، فأين الزهد اليوم، وإنما طلبنا منهم التوسط، فيأخذون أمورَ الدين بأيمانهم وأمورَ الدنيا بشمائلهم، وكل الناس في هذا سواء، إلا بين آخذ بيده، وآخذ بيديه، ولو أردنا الزهد التام، لَكُنَّا رحنا إلى جبل لبنان
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يباسطه، هل عندك الآن واحدة من كافات الشتاء، فإذا كان عندك ثنتان أو ثلاث ففيه كفاية، لأن الدنيا كلما علت منها كِفَّة، تَوَطَّت كفة، فإن ارتفعت كلها انحطت كلها
وذكر رضي اللَّه عنه أحوال الدنيا، وأناساً مضوا، فقال، إنها راحت بالناس، أحد يروح، وأحد يجيء، وعلى هذا السبيل، وإنما الشرف، الطاعة وفعل الخير
وقال رضي اللَّه عنه، لا نسلِّم لأناس يدّعون أنهم متورعون في أمور ينكرون على من يتعاطاها تنطّعاً حتى يكون كذلك في جميع الأشياء، وإما إنه يكدّ نفسه في درهم، ويأكل رأس الفيل، ثم هو ينكر أشياء درج عليها من هو خير منه
وذكر رضي اللَّه عنه التفضيل بين الفقر والغنى، فقال، دع التفضيل حتى ترى فقيراً و غنياً متدينين متمسكين، حتى ترى أحوالهما، فتفضّل أحدهما على الآخر، وأما أهل الزمان فما فيهم حجّة، ولا بهم حجّة، فدعهم حتى يجيئك من تحتج به، فأول ما تحتج على أهل الزمان بالزكاة، ويكفي في هذا شأن رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه وأن الغالب من أولياء اللَّه كانوا متجردين عن الدنيا، ومن كان في يده شيء منها، إنما يمسكه لينفقه، ولا يبالي كيف كان، وأما هؤلاء الذين أحدهم يبيع ويشتري، ويقامر ويخون، وأوقات لا يصلي، ولا يبالي بالدين، فما هؤلاء، فلا يُفاضَل بينهم، ويُتركون فيما بينهم وبين اللَّه
(١/٣٢٠)
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا مثل البحر، وإذا رأيت الإنسان كلما له يتوسط البحر، خَف عليه، وإذا رأيته كلما له يتقرب إلى الساحل، فارْجُ له الخير، وقد ضرب اللَّه لها الأمثال، وشبّهها { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} وغير ذلك، وقد كان الأكابر من السلف قُرْب مماتهم يتجردون عنها بالكلية، وكان الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه في آخر عمره، كلما رأى عنده مما فيه زينة الدنيا، يغيّره، حتى مسامير الباب
انظر ما قال في الرياء
وجرى ذكر الرياء في المجلس يوماً، فقال رضي اللَّه عنه لي، إن الإخلاص عَسِرٌ، تراك تعتقد في نفسك بينك وبين اللَّه أنك على حالة مذمومة، ثم لو قال لك أحد، يا كذا، على الذي تعتقده في نفسك، غضبتَ، قلتُ، لقد تعجبتُ من ذلك، فقال، هذا غضب الطبع، وقليل من يخرج منه، فقد غضب النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ولكنك ارم أنت بنفسك في الأرض، فإن كنت على حالة مرضية عند اللَّه، فيزيدك بذلك رفعة، وإن كنت على خلاف ذلك، فما تسوى الكلام
وقال رضي اللَّه عنه في معنى قول الفضيل رحمه اللَّه، ( ترك العمل لأجل الناس رياء)، أي إن الشيطان مراده منك بطلان العمل بالرياء أو العُجُب، أو غير ذلك، حتى لا يحصل لك منه نفع، فإذا تركته بالكلية فذاك مراده منك
(١/٣٢١)
وقال رضي اللَّه عنه، كل فعل قَصَد به فاعله الناموسَ، لا يقبله اللَّه، ولا ينتفع به صاحبه في الآخرة أصلاً، كالذي يفعل بصدقته رياء، إلا أن يكون قد وافقت صدقته مثلاً يتيماً محتاجاً ومضطراً، فيحصل له ثواب من وجه آخر، كأن دعا له بسببه، أو بنى نحو سقاية يرائي بذلك، فشرب منها رجل فقال، اللَّهم اغفر لمن بناها، ففي مثل هذا لا مانع منه، وذلك من المروءة إذا تَكَرّم وأعطى أحداً فذاك شأن العقلاء، وذلك في المباح، بأن لم يقصد به التقرب، ولا الرياء والمفاخرة، وقد حكم سيدنا علي بالنهي عن أكل طعام المتفاخرَين اللذَين كل واحد منهما شيخ جماعة، فذبح أحدهما كذا وكذا من الجُزُر، ففعل الآخر أكثر، وتكرر منهما ذلك مراراً، فلما علم بذلك أمر بإلقائه على المزبلة، وذلك كمن يوصي أن يُفعل له خَتْم، ويُجعل على قبره ختمة، ويجتمع الناس عند ختمه وضيافته، ونحو ذلك الذي يقصد به الناموس، وقد انقلبت أمور التربة عندنا في هذا الوقت، كلها لأجل الناموس
وقال رضي اللَّه عنه، الرياء منه حثيث، ومنه دقيق، وتكتبه الملائكة باختلاف أنواعه، إلا إن منه ما لا تطلع عليه الملائكة، كالدقيق منه، لكنها تعرفه بالقرائن، فتكتبه بقرائنه
وقال رضي اللَّه عنه، من عمل شيئاً من الطاعات وظن أنه مخلص في ذلك، فليجرب نفسه، فإن عرض له ما منعه عن ذلك، وتأسف على عدم فعله، فهو مخلص، وإلا فلا، وإن اهتم بفعل طاعة، وادعى الإخلاص فيها فليطرح جميع أغراضه، فإن بقي على همته فهو مخلص، وإلا فلا
وذكر رضي اللَّه عنه الرياء فقال، العاقل إذا سمع أحوال الرياء، لا يتهم إلا نفسه، ولا يتهم غيره، وأما أهل هذا الزمان زمان البركة، إذا سمع ذلك أحدهم، وعلم أنه فيه قال، وَرَىْ فلان، ولو أحد أعطاه شيئاً ما ذكر فلان
(١/٣٢٢)
وقال له رضي اللَّه عنه رجل، إني أريد الحج، ولكن ما خَلُصت لي النية، لمجرد قصد الحج، فإن نفسي تمنيني أن آخذ حجة، فقال له، إذا أردت أن تعرف النية الدينية، فَنَصِّل كل ما حواليها من النيات الأخرى، فتعرفها حينئذٍ، وأين النية الخالصة، ولكن حَيَّا اللَّه الإنصاف، بأن يَتّهم نفسه في صدق النية، فإن لم تكن إبل فمعز، وإن لم يكن وابل فَطَل، ولكن ينبغي للإنسان أن يحمد اللَّه حيث لم يجعله ينوي نية سيئة، ولم يَهِم بقطع طريق أو مراياه للناس
وقال رضي اللَّه عنه، المسافر معان، سواء كان سفره في بر أو بحر، إلا إن عليه أن يحرر النية، لئلا يضيْعَ سعيُه، فإن المسافر سفراً مباحاً، سعيه ضائع، وكذا المسافر لزيارة أو حج، إذا لم يصحح النية سعيه ضائع، إذ معلوم أن من حَجّ أو جاهد مرائياً أن سعيه ضائع، والرياء هو الفعل بالقصد، لا الخواطر التي تخطر من غير اختيار، فإن قلوب الضعفاء تكثر فيها الخواطر من هذا الجنس، حتى يتخلى القلب من الخلق، وقليل خطورها في قلوب المتقين، فإذا خطر فيها خاطر نادراً، بادر إلى الرجوع، وهو معنى قوله تعالى، {إِنَّ الذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ }، وذلك حين يتخلى القلب وينخلع من كل ما سوى اللَّه تعالى، وذلك هو الكبريت الأحمر، الذي يعز وجوده ويُتحدث به ولا يوجد
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً المباهاة، فقال، إن أناساً صحبوا أحداً من الصالحين، فتباهوا بصحبتهم، فأذهب اللَّه عنهم بركتهم، لأن المباهاة بأمور الدنيا تُذهب البركة، كيف المباهاة بأمور الدين، والناس اليوم نزلوا
(١/٣٢٣)
وقال رضي اللَّه عنه في قول الإمام جعفر الصادق، ( ومن خان اللَّه في الستر، هتك ستره في العلانية ) أي إذا كان يُحَسِّن الصلاة في الملا مع الناس أكثر منه خالياً ويرائي، ويُرى في الملا خاشعاً خاضعاً، وليس كذلك في الخلوة، فهذا هو الخائن في الستر الذي يهتك ستره، ويقرَّب في الآخرة من الجنة، حتى يرى حورها وقصورها، ثم يُصْرف عنها، فيقول، يارب لم أريتنيها؟، فيقال له، هذا أردتُ بك لأنك راقبتَ عبادي ولم تراقبني، وتلك الأمور ينبغي أن يراقبها الإنسان من نفسه في الخلا والملا، فإذا رآها وارتقب حاله فيهما فليتكلف تركها ويكرهها، وأما من كان على حالة فيهما، ولكن قد تَعْرض له عند الناس خواطر رياء وحياء، وهو يكرهها ولا يعمل بمقتضاها، فليس كذلك، ويعرف من نفسه، ولا ينتظر من يعرِّفه، لأن الناس مأمورون بالسِّتر والكف عن التطلع إلى عورات الناس وإفشائها، فليراقِب هو ربه، ويراعي قلبه، أو كما قال بمعناه
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً يَتَلبّسون بصلاة غير جائزة فقال، إنما فعلهم هذا معصية، لأن من تَلَبّس بطاعة باطلة، فهو عاص، ولكن ماذا نقول في هذا الزمان، ومن استحسن الباطل ما عاد معك له إلا السيف، إن كان معك سيف فاقهرهم على الحق ومرة ذكر مثل هذا الكلام، وذكر له مثلاً، فقال، ومن عشق علته فليس له طبيب
وقال رضي اللَّه عنه، الكتمان في هذا الزمان، أحسن من الإعلان، إلا لأحد أمرين، إما لضيق في صدره، أو لحاجة له في إظهاره، لأن الزمان إنما هو شوك بلا ثمر، ولم تزل الأمور تَتَناقص إلى قيام الساعة، وقد يضيق صدر الإنسان، حتى من أمر أو أمرين، ومن كتم أمره أو غفل عن أمر، حتى لم يعرفه ولم يطلع عليه، ولا هو سلطان يلزمه أن يتطلع على الأمور، فذلك خير له، وقد سلم من الإثم والشاغل
(١/٣٢٤)
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي للإنسان أن يفتش عن نفسه، ولا ينخدع بغرورها، فكم ممن يبرئ نفسه من شيء، وهو ملابس له
انظر ما قال في سبب نزول المحن
وقيل له رضي اللَّه عنه، إن الجراد أصاب حرث بعض البلدان، فقال نفع اللَّه به، قد أمرناهم يدعون بقلوبهم وألسنتهم متضرعين إليه بالدعاء كذلك، لأن الإنسان ما له إلا ربه، وما له من غيره من غياث، {إِنَّ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوه } الآية، وإن اللَّه وَجَّه إليهم مصائب وأَمَرَهم بأشياء من الخيرات، إن فعلوها صرف عنهم تلك المصائب، وسَلّط عليهم موانع تمنعهم من الخير، سَلّط عليهم شياطين وأهواءهم ونفوسهم، فإن جاهدوها، وفعلوا ما أُمِروا به، فواسَوْا محتاجاً، وأقرضوا مستقرضاً، وأطعموا جائعاً، وكَسَوا عرياناً، ونحو ذلك، صَرَفَ عنهم ما حل بهم، وإن لم يفعلوا ضاعَفَها، فإن فعلوا زالت عنهم، وهكذا ينبغي أن يفعلوا كلما عادت تلك إليهم عادوا إلى الخير، ليزول عنهم أو كما قال
انظر ما قال من الإشارة إلى سيل نجم الحوت قبيل مجيئه
وما قاله عنه بعد مجيئه رضي الله عنه
وقال رضي اللَّه عنه، للأسماء الإلهية سَرَيان في المخلوقات، ما غير ما يدري الخلق بذلك، أسماء الرحمة في أهل الرحمة، وأسماء العذاب في أهل العذاب
(١/٣٢٥)
ثم قال نفع اللَّه به، رحمة اللَّه في عذابه، وعَذَابُه في رحمته، وقد يكون الشيء مما يُرسله اللَّه على بعض عباده، يكون مَظْهره العذاب، وباطنه الرحمة، فهو في الظاهر عذاب، وفي الباطن رحمة، فظاهره العذاب وباطنه الرحمة، ويكون رحمة وتخفيفاً في حق أقوام، وعذاباً في حق آخرين، وهو شيء واحد، كما جاء في الخبر ما معناه، (( إذا أرسل اللَّه على قوم عذاباً فهو تعذيبٌ للمعتدين، وثواب للمحسنين )) وفي قصة الذين يخسف بهم، وفيهم أهلهم وأسواقهم، فيبعثون على نياتهم، ثم ذكر، إن خمساً من الأمم الذين أهلكهم اللَّه بالعذاب، وقد ذكر الجميع في هذه الآية، { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } الآية
أقول، قوله نفع اللَّه به، للأسماء الإلهية سريان الخ، فيه إشارة لمن يفهم الإشارة، لما يقع في الكون من المظاهر الإلهية، وقد وقع بعد هذا الكلام، بنحو أربعة أشهر إلا ثلاثة أيام، وذلك في آخر رمضان من سنة ١١٢٤ السيل الهائل العظيم، سيل الحوت الذي أخذ جملةً من النخيل، فكلامه مقدِّمَة له وإشارة إليه، كشفاً منه رضي اللَّه عنه
وقال رضي اللَّه عنه، أهل البيت ودائع نبوية، فينبغي لكل إنسان أن يستوصي بتلك الودائع النبوية، وهم وإن كثروا لا يبلغون عشر معشار الخلق، وأهل بلدتنا في بواطنهم تعظيم السادة، ومن طبعهم ذلك، ولكن هنا أناس، ذكرهم من أصحاب الدولة، لا يرون احترامَهم وتعظيمَهم، فإذا أخذوا على هذا مدة، فما يدرون إلا وقد جاءهم مثل هذا السيل العظيم، وَنَبَرَهُمْ ولكن لا يعتبرون
وسلّى رضي اللَّه عنه رجلاً في مال كثير أخذه عليه هذا السيل، فقال نفع اللَّه به، إن الدنيا ما نقص منها زادَ في الآخرة، وما الدنيا إلا ذاهبة بكل حال
(١/٣٢٦)
وذكره يوماً ــ أعني هذا السيل ــ فقال نفع اللَّه به، إذا فعلوا هم ما يَبغون، فعل اللَّه بهم سبحانه ما يبغي، لأنهم ما اتقوا اللَّه في حقّه، فما أبقى فيهم، وأقوى رابطة لهم باللَّه الصلاة وقراءة القرآن، فانظر ماذا يفعلون فيهما، يتَعْتعون في القراءة، ويقرأ الرجل المقرأ في نَفَس واحد، ولا معهم توحيد أي كامل
وقال رضي اللَّه عنه، إنهم غيروا فَغَيَّر اللَّه عليهم، جَارَ الدولةُ في الخُبَر، فأخذ النخلة بأصلها، ومثالهم في ظلمهم للناس وانتقام اللَّه منهم، مَثَل من يقول لرجل، اترك فلاناً يضربك أو يقتلك، فإن فلاناً يضربه أو يقتله، فإن الغِيَر وأعمال السوء نار، فنارُكَ منك، وسمعنا فيما سمعنا، إن منازل النار مكتوب عليها أسماء أهلها، يدخلونها بأعمالهم، وإنما يدخلون الجنة برحمة اللَّه
وقال رضي اللَّه عنه، وما كلٌّ يسقط، ولا كلٌّ يسير، ولا كلُّ أحد يَصِل، وكلُّ الناس يسيرون، إلا منهم سائر إلى الجنة، ومنهم سائر إلى النار، حتى إنه ما يموت أحدهم إلا وهو على باب النار
(١/٣٢٧)
وذكر رضي اللَّه عنه قوماً في معرض المدح، وآخرين في معرض الذم، فقال، الناس في الفعل، منهم الممدوح ومنهم المذموم، والأمر من فوق، ولعل في الناس من له عمل مثل عمل قوم نوح، حتى جُوزوا بمثل جزائهم، وكان من عملهم الاستكبار وقلة الحياء، والإصرار على المعصية إذا نُهوا عنها، قال اللَّه تعالى، {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} الخ وقال تعالى، {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا}، إلى آخر ما حكى اللَّه عنهم، فكذلك في الناس الآن من يصر على المعصية، فإذا نُهيَ عنها قال مَرْحباً بلسانه، وأصر بعزمه، واستكبر ولا يستحي من اللَّه، فجوزوا بهذا السيل، كما جوزوا أولئك بالطوفان، فقد قال فلان من السادة، إن هذا السيل من بقية طوفان نوح، والجزاء من جنس العمل، قال اللَّه تعالى، {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } الخ
وقال رضي اللَّه عنه لرجل يسليه، عسى أن يقع الأجر والعوض إن شاء اللَّه، والأجر، أو قال العوض واقع لا محالة، لأن اللَّه سبحانه ما يأخذ شيئاً إلا أعطى خيراً منه
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً على أهل النخيل الذاهبة، فقال نفع اللَّه به، الرجل عنده أربعمائة نخلة، يأخذ ثمرها ولا يتصدق منها حتى بمائة سعفة، ولا يعمل خيراً قط، ثم إنهم يتأسفون على أنهم لم يبيعوا ويتخلصوا منها بأي وجه، وهذا من قلة الخيرية، ولو لهم نية في الخير لتأسفوا على أنهم لم يكونوا فعلوا منها خيراً، فإذا لم يكن شيء من الدين فأين العقل والمروءة
(١/٣٢٨)
وقال له رضي اللَّه عنه رجل، إن هذا السيل أذلَّهم، فقال، إن الإنسان قده ذليل بالنسبة إلى ربه، وإنما أظهر ذله، والإنسان إذا وقع في شدة أو حصل له مرض، أو شيء من الأمور، يستبين ضعفه وذله، وإلا فهو ضعيف ذليل من أصله، فقد قال سيدنا علي، الإنسان ضعيف، تقتله شرقة، وتؤذيه بقة، وتنتنه عرقة، وقال بعضهم، الإنسان أنف في السماء، واسْتٌ في الماء
وقال رضي اللَّه عنه، إن هذا السيل أشغلهم عن الغِيبة، حتى لم يتفرغوا لها، وبقوا مشغولين به عنها، والرب يغضب ويرحم، والرحمة تحيط بالغضب، وإذا غضب ورضي لا يعود إلى الغضب سريعاً
وقال رضي اللَّه عنه، هذا غضب نزل، وماعاد معهم فيما مضى إلا الإستغفار، ولكنهم يراقبون اللَّه فيما بقي، ويخشونه ويتقونه، ويؤدون حقوقه، وأفعال القوي قوية، لا تثبت لها أفعال الضعيف، لأن فعل الضعيف ضعيف، وحق هؤلاء أن لا يتعرضوا لسخطه إلا بقدر ما يطيقون، ولا معهم استعداد، ومن يؤمن بالآخرة، أيصلي صلاة غير معتبرة؟، أو يزكي زكاة غير معتبرة؟، ولا يستحيون من اللَّه ومن ملائكتهم الذين يكتبون كلامهم وكثرة هذيانهم، وإذا أردت تعرف هل في الإنسان خير أم لا، فانظر إن كان يضحك حال جلوسه في المسجد وتلاوته القرآن، فاعرف أن ما فيه خير، وإذا لم يكن فيه حينئذ خير، فمتى يكون ذا خير، ولا يكون جلوسه في المسجد معشار أوقاته، فلا يجعلها أيضاً كلها للَّه، ومع هذا تجري عليهم مذاكرات فلا يعتبرون، والظاهر أن صحائف الشر لا ترفع إلى اللَّه، بل ترد من السماء الدنيا، وإنما تصعد الملائكة بصحائف طاهرة فيها الخير، فترد أو تقبل عند ذلك
(١/٣٢٩)
وقل ما ذكر رضي اللَّه عنه هذا السيل العظيم، إلا تكلم في مانعي الزكاة وذمَّهم، فمما قال فيهم بعد أن قيل له، إن الحطب قد كثر للمساجد، وانتفعوا به لحرارة الماء لها، فقال نفع اللَّه به، إن الحطب لا يعيض في النخل، لكن حيث استحقوا ذلك بتركهم الزكاة، يضم الإنسان كذا وكذا من التمر، ولم يُر أنه أعطى فقيراً واحداً، أما سمعوا قصة أهل الجنة فيعتبروا بهم، ولا نفع فيهم الوعظ في الخطب على المنابر والتذكير، ولو جاءهم من يطلبها إلى دورهم ما أعطوه شيئاً، فأعطاهم سَحقة ولا يمهلهم حتى ساعة زمانية، فليأخذوا من تركهم الزكاة، { وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُم وَلَكِنْ كَاُنوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون }، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم }، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَالِمِين }، ولم يجعل أحد منهم للَّه حِمل حطب في مسجد، ولكنه إذا دخل الجابية، تحسبه كذا ( ونسيت ما قال ) ومن تأمل صنيعه في النخل، علم أنه ما جاء إلا بقصدها، وهذا نتيجة قطع الحطب والتخبير وترك الزكاة، وقد نهيناهم عن هذه الأشياء فحصل لهم كما حصل لأصحاب الجنة من ثقيف حيث حكى اللَّه عنهم، {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ } إلى آخرها، وما قصه اللَّه في القرآن إنما يراد به الاعتبار، لا الحكاية والأسمار، وما يأخذ اللَّه سبحانه إلا بوجه، يقنمون الثمرة، وهو ينظر فلا يعطى
وقال رضي اللَّه عنه، إن هذا السيل عقوبة جاءت على غفلة، وعسى أن تكون مصحوبة باللطف، وما ظننت أن هذه الهملة يكون منها مثل هذا السيل المهول، ولم نسمع بمثله، ولم يحصل في الإكليل الأول ولا الثاني ما حصل مثل هذا، وبين كل سيل من هذه السيول المدة المتقاربة نحو ٧٤ أو ٧٥ أو قريبا من ذلك
(١/٣٣٠)
أقول، وقل ما جلس رضي اللَّه عنه مجلساً إلا وذكر هذا السيل، ولهذا طال كلامه فيه، وكثر ما ذكرناه عنه مما يتعلق به، وذلك فيما قارب قرب وقته، ولما بَعُدَ قَلَّ ما يذكره
وكنت يوم الاثنين في ٢٤ شهر رمضان، قبل مجيء هذا السيل بيومين، جالساً في حلقة مع جماعة سيدنا نقرأ القرآن بحضرته بعد صلاة الصبح، كما هو مرتب ذلك في هذا الوقت، في العشر الأواخر من رمضان، فبعد ما قرأت المقرأ وأنا مستند قاعد مستقبل القبلة، وسيدنا جالس في المحراب، إذ أخذني النوم قليلاً، فرأيت قبة فيها قبر، ولها باب واحد، وفي القبة ثقبان، قبلي وشرقي، وكأنَّ عتم ماء يجري إلى القبلي، فيدخل منه الماء إلى القبة ويجري فوق القبر ويسفح منه إلى الثقب الشرقي، ثم يخرج منه يجري في العتم إلى نخيل كثيرة وبساتين يسقيها، وكأن ذلك القبر قبر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وكأني أقول في نفسي، يا سبحان اللَّه هذه البقعة، أعني البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة، أفضل من العرش والكرسي وما دونهما، وهذا الماء متروك هكذا يجري عليها، وفي خاطري أن ذلك الموضع الروضة الشريفة، وكأني أتمثل بهذين البيتين، من قصيدة البكري ،
لما حَوَتْ والفلكُ الأكبر قد حَسَدَتْها سدرةُ المنتهى
كانت قناديلَ بها تزهر ودت نجوم الأفق لو أنها
وبقيت في رؤياي هذه إلى أن وصلني المقرأ، فحركني الذي أقرأ بعده، فحكيت لسيدنا عندما قام من مجلسه ذلك، فقال رضي اللَّه عنه، هذا أمر بايقع لا يتحمله إلا هو صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فلما وقع السيل ثالث يوم من الرؤيا، قال نفع اللَّه به، إنه كان يريد أن ينزل ما هو أعظم من ذلك، لكنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم تحمل منه ما لا يتحمله غيره
وقال رضي اللَّه عنه، إن سيلاً سابقاً كان يسمى قاحش، وهذا نابر، والنبر أشد من القحش، لأنه ينبر الأرض فيخرج منها النخل، وذاك يقحش ما عليها، وهذا السيل نابر واللَّه جابر
(١/٣٣١)
وذم رضي اللَّه عنه أقواماً غرسوا في أماكن النخيل التي أخذها هذا السيل، فجاء سيل آخر، فأخذ ما غرسوا فقال نفع اللَّه به، لو سمعوا كلامنا ما رجعوا يفعلون، وإن كان ولا بد فيصبرون السنة، ينظرون أولاً، وإذا رأيت مظاهر القهر، فاخشع ولا تبطر، وعند مظاهر الرحمة يكون أمر آخر، كيف نخيلكم تلك بأجمعها مع كثرتها أخذها في مدة قريبة، من وقت السحر إلى بعد الشروق، ثم أنتم تعودون على القرب إلى الغرس، فهذا الفعل منكم كالمغالبة منكم للقادر القوي وذكر هنا لذلك مثالاً، وهو، إن رجلاً فقيراً كان قام له رجل آخر غني بكل ما يحتاج إليه، وأعطاه من المال حتى أغناه، فقال اللَّه تعالى لذلك الرجل الغني، نحن أفقرناه فأغنيتَه، فأمتناه فأحيه إن كنت تقدر على ذلك، ولعل ذلك على لسان أحد من الأنبياء، انتهى ما أردنا ذكره من قوله فيما يتعلق بأمر هذا السيل، وعاش سيدنا بعده ثماني سنين وشهراً وثلاثة عشر يوماً
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه، قد يقابل الأمرَ من اللَّه شيء من العوارض فيمنعه، فإذا جاء أمر برحمة قَابَلَتْها حصولُ معصية فامتنعت، أو حصول عذاب فقابله صدور طاعة فرجع، حتى إنه جاء عن اللَّه تعالى إنه قال، ربما وجهت على أحدٍ العذابَ فيمنعني منه القائمون بالأسحار، ثم حكى، إن رجلاً كان عابراً في سفينة في البحر، فانكسرت بهم السفينة، فألقاه البحر إلى جزيرة في البحر، فصعدها فرأى فيها مسجداً، وفيه سبعة من الأولياء منقطعين للعبادة، فهبت ذات يوم ريح شديدة في البحر وفي الجزيرة، فلما رأى شدتها قال، لا إله إلا اللَّه، فلما قالها سكنت الريح في الحال، فالتفت إليه واحد منهم وقال له، هداك اللَّه، إن هذه الريح أرسلها اللَّه ليغرق بها جملة مراكب من الكفار غاروا على المسلمين ليأخذوهم، فلما ذَكَرْتَ اللَّه سكنت عنهم
(١/٣٣٢)
أقول، ويشهد لذلك حديث الجامع الصغير، (( إذا أُذِّنَ في قرية، آمنها اللَّه من عذابه في ذلك اليوم ))، قال المناوي في شرحه، وهنا فائدة ذكرها الإمام الرازي، إن الماء زاد ببغداد يوماً حتى أشرفت على الغرق، فرأى بعضُ الصلحاء كأنه وقف على دجلة، وهو يقول، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، غرقت بغداد، فجاء شخصان أي ملكان فقال أحدهما للآخر، ما الذي أُمِرتَ به، قال، بتغريق بغداد، ثم نُهيتُ عنه، قال، ولِمَ؟، قال، رفعتُ لملائكة الليل، إن البارحة افتض ببغداد سبعمائة فرج حرام، فغضب اللَّه فأمرني بتغريقها، ثم رفعت ملائكة النهار بسبعمائة أذان وإقامة، فغفر اللَّه لهؤلاء بهؤلاء، فانتبَهَ وقد نقص الماء انتهى
وقال رضي اللَّه عنه، أهل هذا الزمان أحاطت بهم ذنوبهم، ولو أنهم يمتثلون ويفعلون ما نأمرهم به لكان فرج اللَّه عنهم ما بهم، ولكن راح بهم العصيان
انظر ما قال فيما يدفع المحن
وقال رضي اللَّه عنه، إنما تستدفع الامتحانات بالصدقات، سيما المحن المالية، فإن الجزاء من جنس العمل، وكانوا يزدادون بالبلاء والمحن خضوعاً وذلة وافتقاراً إلى اللَّه تعالى، ويجأرون ويكثرون من الصدقات عند ذلك، وهؤلاء لا يزيدهم ذلك إلا بخلاً وافتجاعاً على الدنيا وحرصاً، وما بهم إلا أعمالهم السيئة، فحيث لم ينصفوا ويؤدوا حق اللَّه من أنفسهم بأنفسهم، من أداء أوامره واجتناب نهيه كما ينبغي، انتصف اللَّه منهم بنفسه، والدنيا في أيديهم كالعدانة فيها الدجاج
أقول، يعني بالعدانة المزبلة وحركتُهم في دنياهم واشتغالهم بأسبابها من غير معاملة صحيحة، ولا نية للَّه صالحة، مع قلة أو عدم إخراج واجب ومندوب، كحركة الدجاج، وبحثها في المزبلة، كما قال ابن المقرب الشاعر الاحسائي ،
لا يُعرف المعروفُ في ساحاتهم إلا كما يُحكى عن العنقاء
(١/٣٣٣)
وإذا انتَدوا بَحَثُوا النَّدا فكأنهم دُجَجٌ تُبَاحِثُ عَذْرَةً بفضاء
ثكلتهم الآباءُ إنَّ حياتهم غمُّ الصديق وفرحة الأعداء
وقال رضي اللَّه عنه، أدركنا زمناً إذا وقعت على الناس شدة وابتُلوا، رجعوا إلى اللَّه، وتابوا واستغفروا ولزموا الطاعات وتركوا المنهيات، وخافوا أن قد عجل عليهم من العذاب في الدنيا، ثم يرجعون على أنفسهم باللوم على التفريط، وأهل هذا الوقت إذا نزل بهم شدة تركوا الواجبات، فضلاً عن المندوبات، وارتكبوا المحرمات، ثم إنهم يتمنون ما لم يستحقوا، فهيهات أنى يكون لهم ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، أعطوا المحن أحكامها، فإن من أعطاها إياها كانت عليه نعمة، وإلا صارت كل محنة محنتين، أو ثلاثاً
انظر ماقال في العلم وفي أهل العلم أو تفسير حديث
وتكلم رضي اللَّه عنه في العلم فقال، من رأيته يعلّم العلم النافع، كعلم كتاب اللَّه، وسنة رسول اللَّه، وينطق بذلك، ثم لا يظهر عليه العمل به، فذلك عالم سوء، فإن لم يكن ما عَلَّم من العلوم النافعة، فلا يسمى عالماً أصلاً، وأما العالم بأحكام الفقه، لو كان كذا، لو كان كذا مما لم يقع، فإنما هذا صناعة لا علم، ومَنْ عَلِم البيع والشراء ولم يبع ولم يشتر له فضل بذلك؟، لا، بل إن فعل فائدتُه أن يتقي اللَّه في ذلك، فالفضل حصل من التقوى، لا من ذلك
ثم تكلم كثيراً حتى انجر به الكلام إلى أن قال، لا تنكر على أحد من أهل الحق، ممن علم اللَّه إخلاصَه ونصيحَتَه، حتى تختبر، أو كما قال
وتكلم رضي اللَّه عنه في أهل الزمان وأَكثرَ، ثم قال، إن شهود الزمان فَسَقة، وكذا قضاته وعدوله، وإنما تُقْبَل فتاويهم وشهاداتهم للضرورة، وإذا تأملت حال العُبَّاد فيه، فضلاً عن غيرهم، تراهم في كل مباح من أكل ونوم ونحو ذلك في غَفْلة، أين الآداب، أين الأذكار الواردة في هذه الأشياء، هيهات، ذهب الدين ولم يبق منه إلا الرسوم
(١/٣٣٤)
وتكلم رضي اللَّه عنه أيضاً في هذا الزمان وكثرة اختلافهم ومخالفتهم في أشياء من ظاهر العلم، ثم قال، إن أهل الزمان ليسوا بأهل مجادلة وإنما هم أهل شقاق، فإذا قال تعالى في حق أهل الكتاب، {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فكيف بالمسلمين، وهذا في أشياء من العلوم الظاهرة، فكيف لو أظهرنا لهم كلمةً صوفيةً، أو قال، فكيف لَوْ هُوَ في التصوف
وقال رضي اللَّه عنه، إن اللَّه تعالى يبغض العلم الذي يَمْنَع من العمل، ويبغض العمل الذي يمنع من العلم المهم، والعمل بلا علم سقيم، والعلم بلا عمل عقيم، وفرق بينهما، وإن كان كل منهما آفة
وقال رضي اللَّه عنه، ما قَطَع أهلَ الزمان من معرفة العلم العجزُ، إنما قطعهم الزمان، لأن من عَلَّم شيئاً لم يُحفظ منه، ولو أملاه لم يُحفظ، وإن حُفِظَ شيء فيبقى مصرًّا عليه، فينساه، فلو ألقيت في الأرض دراهم، فلم تجد من يلتقطها لم تَرْمِ مرة أخرى
وقال رضي اللَّه عنه، خذ مع أهل الزمان بالرفق ما أمكنك، ولا تشدد عليهم، فإن حبالهم رامّة، وما كنت تعلّمه أحدهم في يوم اجعله في ثلاثة أيام، لأن قلوبهم مائلة أو قال منصرفة، وخصوصاً الصغار، ما معك منهم إلا الترقوة واللطف بهم والرفق، ومثال أهل الزمان كالبعير الشارد، فلا تضربه فتزيده شروداً
وقال رضي اللَّه عنه، المبتدي الذي لم يتبحر في العلوم، إذا نظر إلى الخلاف في العلوم، تفرق قلبه وتشتت همه وفاته التحصيل، سيما في الإلهيات والنبوَّات، وربما يقع في شبهة، ولا معه من العلم ما يزيلها به، وأما إذا تمكن في العلوم، فلا بأس أن ينظر في الخلافيات ليعلم ذلك، وذكر حجة الإسلام، إن العلم كالسلطان، إما مَلَكَ وارتفع إلى أعلا المراتب، وإما لم يتمكن من ذلك ورجع إلى أسفل المدينة ثم تمثل ،
فإياك والرتب العالية بِقَدْر الصعود يكون الهبوط
(١/٣٣٥)
وقال رضي اللَّه عنه، وأصول الإعتقاد ثلاثة، التوحيد والنبوة واليوم الآخر
وقال رضي اللَّه عنه، ذكر، إن سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا في سفر صائمَين، ففتح لهما بشيء، فأخرجه إبراهيم ولم يدّخره إلى الإفطار، فقال له سفيان، تحتاج إلى شيء من العلم يا إبراهيم، فسكت إبراهيم ولم يَرُد له جواباً، فلما آن وقت الإفطار، جاء أحد إليهما بطعام كثير من خبز وتمر، فالتفت إبراهيم إليه وقال، يا سفيان تحتاج إلى شيء من اليقين، لكن هؤلاء قلوب مجردة في الأبدان بلا نفوس، أبدانهم في الدنيا وقلوبهم في الآخرة وقراءة أحوال هؤلاء إنما هي للتبرك، وإلا فلا مَطمع في العمل بمثل عملهم، لأن الناس كلهم ناشبين مخاليبهم في الدنيا، وهم فيها كَعَرقِ الموقف، بعضهم إلى ساقه، وإلى ركبته، وإلى حلقه، وإلى رأسه
ولما قرأت بحضرته قصيدته التي فيها ذكر القطب منشداً بها، ووصفه وهو قوله،
بطريقة الإجمال فاسمع سائلي إن شئت تعرفه وتعلم وصفه
ورع تقي زاهد في العاجل هو سيد متواضع متخشع
ومن العبودة بالمقام الحافل الشرع سيرته الحقيقة حاله
يرعى الوجود بعين لطف شامِلِ بَرّ رحيم بالخلائق كلهم
خيرِ الأنام بعاجل وبآجل يمتد من بحر البحور محيطِها
(١/٣٣٦)
فقال نفع اللَّه به، هذا وصف جامع لصفات القطب، حتى يعلم الواقف عليه أن من خالف ذلك لم يكن قطباً، إلا إن كان بالمعنى الأعم، لأن القطب، السيد في كل طائفة، وهذا الوصف إنما هو في القطب الذي هو أفضل أهل زمانه من الأحياء، ولو علت درجات أحد منهم، ولا يقوم في مقام القطبية إلا ظاهر، فإن لم يكن فيه أهلية للظهور، يستنيب أحداً ممن فيه أهلية للظهور، فقلت له، أيكون القطب المتقدم أفضل من المتأخر؟، فقال، لا يشترط، فقد يكون في المتأخر مزايا لم تكن في المتقدم لاختلاف الزمان، ولا يكون في كل زمان إلا واحد، وما ذكر عن جماعة في زمان واحد أنهم أقطاب، فلعل أن يكون كل واحد منهم قطباً في جهة
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب))، أي أعلمته أني محارب له، وذلك لأن الولي لا ينتصر لنفسه، فيكون اللَّه سبحانه هو الذي ينتصر له، ثم أنشد ،
يكون مِيراً يوم عَزْله إنَّ الأمير هو الذي
لم يفُت سلطن فضله إن فات سلطان الولايةِ
وقال رضي اللَّه عنه، إذا رأيت اللَّه قد عدل عن كلمة إلى أخرى في شيء من الألفاظ، إمَّا في ذكر أو غيره، فخذ بما ذَكَر، وإن كانت الأخرى تماثلها في اللفظ أو مع المعنى ،كما ذُكِر في الوضوء، يوم تَبيض، ويوم تَسود، أي بفتح أوليهما كما جاء في القرآن
ورأيت بخط ابنه السيد الجليل علوي، مما نقله عن والده رضي اللَّه عنه، قال سيدي، أهل هذا الزمان أخذوا السيوف إلا ليقطعوا بها الطريق، ما أخذوها ليؤمِّنوا بها الطريق، ويشير بذلك إلى العلماء انتهى
وقال سيدنا رضي اللَّه عنه، قد قلنا لرجل تفَقّه، فقال، الفقهاء إلا كذا، يعني يذمهم، فقلنا له، الزم التقوى والورع، فإن أهل التقوى والورع يعظّمهم الناس ويعتقدونهم، فخذ لك سراجاً ولا تبرزه للَّهبوب ينطفئ، ولا تُعْلِقه في النهار، فلا يبقى له أثر، لأن الأمر إلا نبوة
(١/٣٣٧)
وقال رضي اللَّه عنه، التوسع في علم الفقه زيادة مليحة، ولا تضر إلاَّ مَن قلبه مُظْلم، وإلا فالعلم نور وحياة، وقد ذكر الإمام الغزالي، إنه لم يختلف أحد في أن قوله تعالى، { أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } ، أن المراد به العلم، ولكن العلم يحتاج إلى نور، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ }
وقال رضي اللَّه عنه، إن أهل الزمان قد بَعُدوا من الدين جدًّا، حتى إنهم إذا سمعوا شيئاً على قاعدة الشرع لم يطرق أسماعهم ينكرونه لعدم اطلاعهم على ذلك، بسبب همَّتهم في الدنيا، وعدمها في الدين، ولو تَولَّينا مثلاً شيئاً من الأمور، لرأيتم ما لم تطلعوا عليه، إلا إن كان قد سمعتموه
وذكر رضي اللَّه عنه في حديث المَلَكين يناديان كل صَباح، ينادي أحدهما، اللَّهم أعط منفقاً خلفاً، والآخر ينادي، اللَّهم أعط ممسكاً تلفاً، قال، هذا فيمن لم يخرج الزكاة، فيمنع حق اللَّه الواجب، أو لا يتصدق مع قدرته على ذلك، بل يبخل عن ذلك ويخبئ المال وينميه ويحرص عليه ويحب زيادته
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( غَيرتان إحداهما يحبها اللَّه والأخرى يبغضها اللَّه، ومَخْيَلتان إحداهما يحبها اللَّه والأخرى يبغضها اللَّه ))، وفصلهما في الحديث، فقال سيدنا، المخيلة روحنة يجدها المتصدق في نفسه عند الصدقة، يفرح لكونه وُفِّقَ لذلك، وعندما يُسأل فيَرُد السائل، يرى في نفسه انقباضاً، إن كان هو بصيراً بأخلاقه ضد ذلك، أي ضد تلك الروحنة، وكذلك المخيلة في الجهاد يفرح إن وفق لذلك
(١/٣٣٨)
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( الرجل يحب القوم ولَمَّا يلحق بهم ))، أي يحبهم ويتشبَّه بهم، ولم يبلغ درجتهم، فلا بُدّ في ذلك من التشبه، وهو إنك إذا سمعت عنهم، أن أحدهم يصلي الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة مثلاً، ومثل ذلك مما لا يكاد يدخل في قوة البشر، فتقوم من الليل ما تيسر، فهذا تشبه بهم في صلاتهم كذلك، وأما من نام الليل كله، حتى يكاد يفوت صلاة الصبح، ويعتل بالمحبة لهم، فقد احتج بعض الناس بذلك فأجابه بعض الصالحين، بأن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم، وهم مخلدون في الشقاء، ما نَفَعهم ذلك، لعدم تشبههم واقتدائهم بهم
قف على شدة تواضعه لربه
وقال رضي اللَّه عنه، إنا لا نأذن لمن وَصَفَنا، ولا نحب أن نُذْكَر بأكثر من أنا من أهل البيت ومتمسكين بالعلم، ولنا إلمام بأهل التصوف، ونحن لا نريد الظهور وعسى في تريم، لو بات إنسان فيها بلا عشاء ما عَشّوه، ولو اجتمع عندنا فقراء محتاجون ما سلفونا شيئاً لنفقتهم
وقال رضي اللَّه عنه، الدنيا لا تخلو أن تكون سجناً للمؤمن من كل الوجوه أو بعضها، ولو لم يكن إلا أن الروح فيها مسجون في الجسم
وذكر رضي اللَّه عنه العلوم وما يشغل عنها من طلب المعاش، فقال، المعاش شَغَلَ الناس عن قراءة العلوم وعن العمل بها، وقد قال سفيان الثوري، لو اشتغلت بِبَصلة، ما فهمت مسألة وما جعل اللَّه لرجل من قلبين في جوفه، فعسى السكون والصلاح، فإنه لا تصلح أمور المسلمين حتى تسكن ولاتهم
(١/٣٣٩)
وقال رضي اللَّه عنه، كل شيء يمكن فيه التعلّم، وإن كان الطبع بخلافه، فَطَبْعٌ وتَطَبُّع، فالعلم بالتعلّم، والحلم بالتحلم، فلو غضب مرة وحلم مرة عاد أسهل، ومن الناس من يعجِز عن القيام، فإذا قُوِّمَ قام، ومنهم من فيه حركة، ويقوم من نفسه بقوة، فالحاصل إن طبع الإنسان قابل للتعليم، إلا إنَّ ما كان مطبوعاً أهون، ويتكلف به المكتسب، ولهذه الأشياء نهاية، إذا انتهت إليها فلا تعاوده، وغالب الحركات في الصغر وكلما كبر قَلّت، والأشياء في الأكثر مستطاعة، فَلْيُوَطّنْ نفسه عليها ويقاسيها في الخلوة، ونحن منذ طالعنا في العلوم، ما أخذنا منها إلا كلّياتها وجُمَلَها، والأصولَ التي يُعْتَمد عليها، وأما الفروع النادرة التي لا يحتاج إليها، ويرتبون عليها واجباً وحراماً من غير دليل، لا يقبلها خاطري إلى الآن، وخصوصاً الفقهيات، كنت غير مائل خاطري إليها
وذكر رضي اللَّه عنه الكتب والمطالعة فيها، فقال، لا ينبغي أن يُنظر فيها إلا لطلب الفائدة، لا للَّهو والفضول، بأن يريد أن يقف على كُنْه ذلك الكتاب، من غير أن يقصد منه تحصيل فائدة، لأن الفضول ما هو في الدين، إلا إن كان كتاب أدب، يريد يقف عليه للفرجة، فلا بأس، ككتاب "الفرج بعد الشدة " أو كتاب نحو أو لغة، فكتب الأدب شيء، وكتب علوم الدين شيء آخر، ولكن لو جَعَل المطالعة في كتب الأدب إعانة على معرفة العلوم الدينية فهو أحسن من ذلك، فيرجع فضوله دينيّاً، وذلك نادر، أي كون الفضول يرجع دينيّاً، وأما الدين فلا يرجع فضولاً، إلا كان عند سفساف الناس
(١/٣٤٠)
وذكر رضي اللَّه عنه العلوم واختلافاتها، فقال، أكثِروا من كل شيء، ولكن ينبغي أن يأخذ منها ما تحتمله بديهته، وقد ذكروا، إنه ينبغي أن يأخذ في فن واحد يُحكمه، ثم يتطرف من كل شيء، وقد تفننوا في كل فن، حتى أعجزوا الطالب، فإذا كان الكتاب عشرين مجلداً أو أكثر، متى يتم مطالعته، ولا يتمه حتى ينسى أوله، وهذا الجمع تسخير إلهي، وقد يمكث في تصنيف كتاب من أول عمره إلى آخره، كالإمام النووي في المجموع، فإنه يؤلفه من صغره، وقد قال فلان، لو ذَهَبت الكتب كلها، وبقي المجموع كفى منها، فنقول له ولأمثاله، وأما المبتدئ فما يفعل بالمجموع
وقال رضي اللَّه عنه، أكثرَ الناسُ في كل شيء من كل شيء، فليأخذ الإنسان بما أمكنه، وإلا إذا عجز عن الكل يترك البعض، لأن من نظر فيها مع كثرتها أورثه ذلك حَيْرة، كما إذا اعترضت له عشر طرق، ما يدري أيتها يسلك، فليسلك الطريق الكبيرة ولا يأخذ في بنيّات الطرق
وقال رضي اللَّه عنه، في قوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( يَشيب ابن آدم، وتشب منه اثنتان، الحرص وطول الأمل ))، هذا خاص بمن كانت في قلبه من صغره، كلما كبر ازداد حرصه عليها، وأما من عاش في صغره بالزهد ونحوه، فبالعكس من ذلك، ودليل ذلك من الحديث الآخر، (( يموت المرء على ما عاش عليه ))، أو إن معناه، إن صاحب الدين والزهد في الدنيا كلما كبر ازداد زهداً فيها وتقللاً منها، وصاحب الدنيا المحب لها كلما كبر ازداد ضعفاً وعجزاً عنها وعن التمتع بها وفي قلبه تعلق بها، ورغبةً فيها وطلباً لزيادتها، أو كما قال
(١/٣٤١)
وقال رضي اللَّه عنه، هذا مقرا فيه عبرة، لو تأمل الناس فيه كفاهم، قَصَّ اللَّه فيه أحوال قوم، ودعا فيه قوماً لاستجابة اللَّه ورسوله، وحَذّر فيه أقواماً عن الوقوع في الفتنة، وأخبر كلاً أن اللَّه مع المتقين، ورغبهم في التقوى وهو ،{ إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُّكْمُ} إلى {وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِين} آخر المقرا
وقال رضي اللَّه عنه، الرجوع في العلم إلى الأصول، وجميع الفروع والنوادر ترجع إليها، والتصانيف على مقتضاها وإن اختلفت العبارات فهو قصد كل منهم، ولهذا يقول بعضهم، يُفْهم من قول فلان كذا، وتُحمل العبارة الفلانية على كذا، ونحو ذلك، وقد قررها المتقدمون كما ينبغي، فأتى هؤلاء المتأخرون، ورأوها محررة، فأرادوا أن يضربوا بسهم معهم، فأَلَّفوا وعَرَّضوا وطَوَّلوا، منهم مَن قَارَب ومنهم من أبعد، أو كما قال
(١/٣٤٢)
وذكر رضي اللَّه عنه عَجَلة الناس في نقل الكلام، ثم قال، ما عاد أحسنوا السكوت ولا الكلام، وإذا لم يحسنهما كان لا شيء، وما عاد مع الإنسان اليوم إلا يطوي لسانه، حتى إن لم تقع سلامة يقع أقل منها،{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا} ثم ذكر الدَّولتين الأموية والعباسية، ثم قال، الحاصل أنه لم يكن فيهما مثل عمر بن عبدالعزيز، ثم امتد الكلام إلى ذكر الأئمة، وقوة العلم والدين في ذاك الزمان، ثم قال، وما عاد الناس اليوم إلا في الذيول والكبول ما عاد شيء نور، وإلا كان اهتدى الإنسان، لكنها ظلمة لا يُهتدَى فيها، ولكن رحمة اللَّه مرجوّة، وقد قال عليه الصلاة والسلام، (( في كل زمان من أمتي سابقون، وليجدن ابن مريم من أمتي قوماً هم مثل حواريه ))، وآية من كتاب اللَّه تكفيك، فإن لم تعرف معناها فاسأل عنه أهل العلم به، وإذا كان في الأمر شيء عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فلا لأحد عنه معدل، وما كان عن الصحابة فَيُتّبَع، وما كان عن غيرهم فيؤخذ منه ويُتْرك، كما قال أبو حنيفة، وقد كان الذي عليه المعول شيء قليل، إما آية يحفظها ويعرف معناها، أو حديث كذلك، وهذا هو الدين الذي كان من قبل، وإنما اتسع الأمر بعد ذلك، حتى صار الكتاب الواحد في مجلدات، ثم نقحه الإمام النووي رحمه اللَّه بعد ذلك هو وحجة الإسلام المجدِّدَين للدين، ثم قال، لا يهمك في هذا الزمان إلا نفسك ومن يهمك، كصاحب السفينة الذي هو الربان، فإنه إنما يراعي نفسه خوفاً من الغرق، وكذلك من معه، لأن نفوسهم وأموالهم عنده
(١/٣٤٣)
وقال رضي اللَّه عنه لبعض القراء، تأنّ، مرات متعددة، وقال له في بعض المرات، تكرير الكلام لا يحتاج إليه، فإنه إذا تكرر سقط وَقْعه على النفوس، ولهذا ترى عيال العالِم أكثر تساهلاً في كلامه من غيرهم، لتكرر كلامه معهم، ونحن ما عاد نعاقبهم، كما كان الأولون يعاقبون، لأنا مدْبرين وهم مقبلين، وهم من طبقة ونحن من طَبَقات، وإنما نريد منهم أن يأخذوا ما تيسر مع الإصغاء والاستماع، وفي الحديث، (( في آخر الزمان خير العيال البنات))، لأن الولد إذا كَبِر ما يريد لك معه وجود، لا في مال ولا أمر، فإن كثروا كان أكثر لذلك، والبنت تكون في ميزانك، بسبب اهتمامك بها وبمعاشها، والولد تكون في ميزانه
وقال رضي اللَّه عنه، الزمان مفتون، وكان الزمان الأول إذا أردت خيراً نفعك الآخر، واليوم لا اهتمام في ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، والعلم يؤخذ إلا من أهل العلم المتعلمين، وأهل الاستقامة المستقيمين، وأما هؤلاء الذين لم يتعلموا كذلك، فهم ضرر على الناس، فنصف العالِم لا ينفع، وإذا قَصُر نظرك خَلّ غيرك ينظر لك طريقك إن كان فيها شَخْر أو شوك
ومرت القراءة في حِكَمه رضي اللَّه عنه، فقال، هذا على التحقيق هو الأصل، ولكن أهل الزمان تاركون له، ولو كان في شيء من أمور الطب تزاحموا عليه، والدنيا على الحقيقة هي التي لا شيء، الأول، إنها مضمونة، والثاني، إنها ذاهبة، ثم التفت إلى القارئ وهو بعض القراء، فقال، وأخرى إن ذَنَبها أملس
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( ماء زمزم لما شرب له ))، يعني من شربه لمرض شفاه اللَّه، أو لجوع أشبعه اللَّه، أو لحاجة قضاها اللَّه، أي لأنها في الأصل للاستغاثة أغاث اللَّه بها إسماعيل عليه السلام، وقد جَرّبه الأئمة في المطالب، فوجدوه صحيحاً من خَبَره عليه الصلاة السلام، ولكن يحتاج لنية وإخلاص ما هو لكل الناس
(١/٣٤٤)
وقال رضي اللَّه عنه، عجبت كل العجب من رجلين، أحدهما من يستعير الكتب، فإذا غفل عنها صاحبُها أخذها، والآخر من يزني ويغتسل من الجنابة، أقدم على هذه الكبيرة ولم يراقب اللَّه تعالى فيها، ثم هو يغتسل من جنابته
وقال رضي اللَّه عنه، أكثر العلم إلا فِعْلٌ وترك، ما المقصود إلا أن يعمل ويتفكر، حتى إذا ظهر له شيء سأل عنه، فيعلم ويعمل، فاعلموا لتعملوا، والعلم إلا بالعمل، وإلا كان ضياعاً ويُنسى، وأما الأخلاق فيحصل للإنسان منها نصيب مع الرياضة، ودَرَسَةُ الوقت لَبَّسوا على الناس، فأخفوا عنهم مثل سيرة الشيخ سعد بن علي، وسعد باعبيد المعلم، وهو مذكور في الجَوْهر، كان يرتِّب ليله ونهاره، وكان يصوم ولا يفطر إلا بالماء، مشغولاً بالمذاكرة، لأن عندهم الاستقامة خير من الكرامة، لأن الاستقامة ما يُخاف فيها الاستدراج، بخلاف الكرامة فإنه يُخاف منها الاستدراج، وكانوا موزِّعين أوقاتهم
وذكر رضي اللَّه عنه العلماء، فقال، سبحان اللَّه، قد يجيء العالم يريد أن يُنَكِّت على أحد من العلماء، ويستدرك ويعترض، فلا تحس به إلا وقد وقع في أمر، كل ذلك طلباً للكمال، فلا كمال للإنسان، لأن اللَّه منعه الكمال خوفاً من الكبر والإعجاب، وخصوصاً بالعلم، لأنه أشرف الأشياء، فإذا كان يتكبر ويعجب بالذهب والفضة، وهما مثل الحجارة، فكيف بالعلم الذي هو أعز الأشياء
انظر معنى الشكر
وقال رضي اللَّه عنه، الشكر في حال الشدة الصبرُ وترك الاعتراض، والشكر في حال الرخاء البذلُ وتعظيم النعمة، وأما أهل هذا الزمان فشكرهم مجرد لفظ، الحمد للَّه، وتوبتهم قول أستغفر اللَّه، في اللسان فقط، مع خلو القلب من التحقق بذلك، ثم قال، أكثر ما يُدْخل الناس الجنة التقوى وحسن الخلق، وأكثر ما يُدخلهم النار الأجوفان البطن والفرج، وقد ورد، (( أشقى الناس من أدخلاه أجوفاه النار ))
(١/٣٤٥)
وقال رضي اللَّه عنه، الفقيه مَن فَهِم أسرار الدين والذي عِلْمه إلاّ أَيُّما أفضل، أو كذا أفضل من كذا فما هو إلا موسوس
وقال رضي اللَّه عنه، ما تظهر بركات الصالح على من صحبه إلا بعد موته
وقال رضي اللَّه عنه، لا يُفتح على أحد في العلم حتى يطلبه ويعتقد أنه خلي منه، لأن المظاهر الدنياوية قد تنقص من المظاهر الأخراوية
وقال رضي اللَّه عنه، من شأن أهل الحق ترك الجدال، وإن جادلوا فبكلمة واحدة، لقوله تعالى، { وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
وقال رضي اللَّه عنه لرجل، أتعرف الحديث الوارد في يا أرحم الراحمين، فلم يعرفه، وقال لآخر، هل تعرف حديث يا ذا الجلال والإكرام، فلم يعرفه، فقال نفع اللَّه به، راح بالناس الاهتمام بأمر المعيشة، حتى اشتغلت بذلك بواطنهم وظواهرهم، وهم في ذلك كما قيل،
فصادف قلباً فارغاً فتمكنا أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
تَربَّوا على ذلك من صغرهم حتى كَبِروا، ورأوا أقرانهم على مثل ذلك، والدنيا لئيمة، إذا وَقَعَت في القلب ارتحلت عنها الآخرة، لأنها كريمة، فلا تكاد تخطر له الآخرة على بال، إلا إن كان نادراً، حق الإيمان
وتكلم رضي اللَّه عنه، في حديث الكلمة التي تقال صباحاً ومساء أربع مرات، اللَّهم إني أصبحت أشهدك الخ، وفيه، (( من قالها مرة أعتق اللَّه ربعه من النار، وثنتين نصفه، وثلاثاً ثلاثة أرباعه، وأربعاً كله ))، ثم قال نفع اللَّه به، إن هذا عِتْق اليوم أو الليلة مما يصيبه في أحدهما من الذنوب، فإن قالها مرة صباحاً أو مساء، عتق عنه ربع سيئاته التي أصابها في ذلك اليوم أو في تلك الليلة، ومَرّتين نصفها، وثلاثاً ثلاثة أرباعها، وأربعاً فكلها، ولكل من العتق على قدره خصوص لخصوص وعموم لعموم، أو كما قال
(١/٣٤٦)
وقال رضي اللَّه عنه، في حديث، (( إن اللَّه حمى أمتي أن تجتمع على ضلالة ))، يعني إنهم لا يجتمعون كلهم عليها، بل لا بد من قائم على الحق ولو قليل، وما ورد إنهم السواد الأعظم، لعله لم يصح، لأنه لم يبق في زمن بني العباس، من لم يقل بخلق القرآن إلا القليل، أحد يُظهره ويدين به، وأحد يُظهره، وظهوره وخفاه بحسب ملوكهم، فالناس على دين ملوكهم، يعني، يُظهرون ما يكون عليه ملوكهم، إما إنه كذلك وإما تقية وخوفاً
وقال رضي اللَّه عنه لرجل وهو يذاكره في الأنساب، لا بد لك من معرفة ثلاثة أشياء هي ألزم عليك من البحث عن أشياء لا فائدة فيها، أن تعرف نسب النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلى عدنان، وأن تعرف كم عدد أزواجه، وأن تعرف العشرة المبشرين بالجنة
وقال رضي اللَّه عنه، إن أهل الزمان ما صححوا إيمانهم بالنظر والسؤال، حتى إن عامتهم إيمانهم قاصر عن إيمان المقلدين لقلة بصائرهم، وقد أدركنا الناس يعلمون الصغار، ( قل رضيت باللَّه رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، ولد بمكة وبعث بها، وهاجر إلى المدينة ومات بها)، فما زال الأمر ينقص حتى لم يبق لأمثال هذه الأشياء أثر، فإذا كان هذا في أمور الإيمان، الذي هو الأصل، فماذا يكون غيره، وعلى هذا ينقص الدين شيئاً فشيئاً، حتى يُرفع ولم يبق منه شيء، ثم رجعت فراستهم في أمور الدنيا
وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً، أيٌّ ترى أعم، الصلاح أو الفلاح؟، قلت، اللَّه أعلم، قال، الصلاح عمل، والفلاح جزاء، ألا ترى حيث يذكر اللَّه الصلاح، فيذكر أعمالاً يمدح فاعليها ثم يصفهم بالصلاح، ويذكر ما يجازي به أقواماً فعلوا الخير، ثم يصفهم بالفلاح
(١/٣٤٧)
وقال رضي اللَّه عنه، إن عيسى عليه السلام ذُكِر مع أمِّهِ في القرآن في نحو أربعين موضعاً، وذِكْرُه معها في الغالب، وقد يفرد أحدهما عن الآخر، وذلك صريحاً وكناية، وإنما كَرَّر اللَّه ذكر مريم، لأن امرأة عمران قالت، رب إني وضعتها أنثى الخ، فاستحقرتها لذلك بكونها لا تصلح لخدمة بيت المقدس، فلما استحقرتها نَوَّه اللَّه بذكرها وكرره، وفيه دليل على أن كل من اتضعت منزلته عند الخلق، ارتفعت عند الخالق، يعني مع الإحسان في جانب الدين والدنيا وفي ذكر مريم سِرٌّ
وقال رضي اللَّه عنه، فَاضَل العلماء بين أزواجه عليه السلام، والسكوت عن هذه الأشياء أحسن، لكن إذا دَعَت الحاجة إلى الكلام، لم يسع العلماء إلا أن يتكلموا بالصواب، وإلا أدَّى إلى الوقوع في الباطل
وسئل رضي اللَّه عنه، عن رؤية النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم للأنبياء ليلة الإسراء، كل واحد منهم في سماء، أرؤية أرواح أو أجسام؟، فقال نفع اللَّه به، رؤيته لهم على قدر درجاتهم بالنسبة إلى القرب من اللَّه تعالى، ويمكنه عليه السلام أن يرى الأشياء قبل وجودها، فقيل له، كيف رؤية آدم لداوود عليهما السلام، واعجابه حسن صورته، هل هو في الحسن أكمل من يوسف عليه السلام، وهو المشهور بذلك؟، فقال نفع اللَّه به، إن اللَّه أَطْلعه على داوود، ولم يطلعه على يوسف، وإلا فهو أكمل في الحسن، فقد ورد إنه أعطي شطر الحسن، وإنما أطلع اللَّه تعالى آدم على داوود دون يوسف ليظهر تفرده تعالى بالعلم
وقال رضي اللَّه عنه، من سألَنا عما لم يكن، لما يكون؟، لا نجيبه، وكثير من الناس سألونا فأجبناهم، وطلبوا وصايا فكتبناها لهم، ولكن كلهم لم يبارك لهم في ذلك لعدم انتفاعهم بذلك، لأنهم إنما أرادوا مجرد علم يحكونه، وإنما رأينا البركة حصلت في المكاتبات والوصايا التي جعلناها لأناس من غير سؤال منهم لذلك، بركة بالنسبة
(١/٣٤٨)
وقال رضي اللَّه عنه، الناس اليوم كمن يشل المحفر بأحد أذنيه، لا عذر من أن يَطَّيّر منه شيء، لأنهم لم يأخذوا الأمور بأطرافها
وقال رضي اللَّه عنه، الهوى يعمي عن الحق، كالريح، إذا اشتدت تعمي العين عن النظر، فكذلك الهوى يعمي البصيرة عن الحق، والهوى شدة ميل النفس إلى الشيء بالباطل، ولما رأى نفع اللَّه به أن هذا الكلام قد شَقَّ على من سمعه من الجماعة، قال لمن كان يخاطبه في معرض التسهيل، إذا حصل لك شيء من غير تعب ألا تريده، فكل يريد شيء بلا شيء، أما سمعت قول بامخرمة، فتشت في قشاشي لقيت فيه ماشي يا اللَّه بشيء بلا شيء ولو كنت لم تدر إلا وقلنا لك هذا الزاد والراحلة فقم سافر، لشق عليك جدًّا، أتريد أن ندخلك الخلوة ثلاثة أيام، فانظر كيف تخرج هارباً، وقُدَك في خدمة لنا، فمن أمرناه بأذان أو قراءة مثلاً أو بساقة أو حاجة، أو أي أمر فهو في الخدمة، ونحن إذا تكلمنا أسندنا الكلام إلى واحد، وقَصْدنا الكل، لأنا لو جردنا لكل واحد خطاباً حرنا معهم، وفي الكلمات تكون عشر كلمات من الطالب، وكلمة من المعلم، وإن تكلم هو بمراده قبل أن يسأله، يأخذها ويسكت، قال له رجل، اللَّه ينفعنا بكم، فقال رضي اللَّه عنه، اللَّه ينفعكم بنا، وينفعنا بكم، فقد قيل، إن المعلم ينتفع من المتعلم أكثر مما ينتفع المتعلم منه، وقد أتكلم مع الجماعة في بعض الأوقات بأشياء لم يفهموها، لنستذكر بها أشياء كنا نعلمها فنسيناها حتى كأنا لم نقف عليها، وقد قرئت علينا رسالة القشيري أكثر من عشرين مرة، وإذا مرت علينا كأنا ما سمعناها، ولولا التبرك بذكر أحوال الصالحين، تركنا باب الإصطلاح منها، لأنها أين الآن من يعرفها، ومن يتحقق بها، وفيها أيضاً إشكال، مثل السكر، وما استشهد في ذلك من الأبيات فإن أكثرها من قول أهل الخمر، وهذا هو الذي حصل بسببه الإعتراض على الصوفية، ونحن لنا بهذه الأشياء معرفة
(١/٣٤٩)
وذوق، ولكنا صادفنا قوماً ليسوا كذلك، ولكن بعدما يرق باطنه ويصفو، تظهر له أمور، حتى إن الشاطحين بعدما صفت بواطنهم، ورأى من رأى شيئاً منها، ظنَّ ما ظن، فحصل عليه الاعتراض في ذلك، كقول أبي يزيد البسطامي، سبحاني، والسلامة في اتباع السلف وما هم عليه من الزهد في الدنيا، كأويس القرني والحسن البصري، ولكن جزى اللَّه الإمام الغزالي خيراً حيث تتبع طريقة الصوفية، فرأى أنها حق، وأسسها وبَيّن ما اختُلف فيه، بسبب تغير الأسماء الاصطلاحية، ومثل الإمام النووي في زهده والبغوي في تقللَّه ما بعد هم في طريق الصوفية، وإنما هم على طريقة السلف، فكيف يريد هؤلاء أن يصيروا ويتحققوا بحقائق الصوفية، وهم يعجز أحدهم أن يرد عن نفسه الخواطر في الصلاة، وربما تراوده نفسه في الصلاة بشهوة ويعجز عن ردها، فلا يطمعوا في حال أولئك، فرحم اللَّه امرأً عرف قدره ولم يتعد طوره، ولا خير إلا في أسلوب عالم عامل، من الانزواء عن الدنيا والتقلل منها جدًّا، إلا قدر الضرورة أو على قدر الحاجة، مع التمسك بالكتاب والسنة، وهو المهيع، ويترك عنه الإشارات والأشياء المشكلة الغامضة، فإن طريقة الصوفية لا يكاد يقبلها العقل، ولا يصدق بها، وإن كان لك نصيب، فهو يأتيك، فأين كنت يوم خلق اللَّه السماوات والأرض أو كما قال
(١/٣٥٠)
وقال رضي اللَّه عنه، نحن قد سئلنا عن أمور مشكلة فأوضحناها، حتى عن كيفية الجنة والنار، ولكن ذلك يخص السائلين عن ذلك، ولو جاءنا واحد ليس بزاهد في الدنيا، وطلب أن نعرّفه كيفية الزهد، لم نبيِّن له ذلك، إذ لو حصل له قصعة طعام، جعل يأكل منها نهمته، أو وقع له درهم رَبَطه بعشرين رباطاً، ونسي في جميع ذلك الزهد، أو طلب أن نبين له الجنة، وهو على حالته تلك لم نُبيِّن له، لأنه إيضاح لغير مطلوب، بل لغير متأهل لذلك، فقد ذُكِر، إن ابن المبارك قال لأصحابه، البارحة اجترأت على ربي فسألته الجنة، هذا مع ما هو عليه من العلم والعمل والزهد، فكيف بهذا أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي للإنسان إذا كان عند عالم، أن يكون على ما يريده ويأمره به، لا على ما يريده هو، وإلا فوّت أكثر مما حصل، إلا أنه ينبغي أن يعرف من هو العالم صاحب الطريقة من غيره، فيفرق بين صاحب الطريقة وصاحب العلم، فإنه لا يجري صاحب العلم في طريق إلا ويجري صاحب الطريقة في طريق فوقه، وبعض العلماء المتبصرين من قطاع الطريق على عباد اللَّه، فلهذا ذكر الإمام الغزالي أنه لا ينبغي أن يدخل الطريق حتى يحكم علوم الأصول على طريق الصوفية، لا على طريق المتكلمين، ويعرف من هو الداعي إلى اللَّه حقيقة، ولا يتبع كل من نعق، ثم قال نفع اللَّه به، فإذا كان العالم يبات نائماً شبعاناً، فعالم إيش هذا، فلنفرض هذه مسألة يجوّب عليها، وكل من دخل على السلاطين، وأكل أموالهم ولا نفع المسلمين ولا شفع فيهم، فهو كذاب مراءٍ، فلا تصدقه
(١/٣٥١)
ثم قال رضي اللَّه عنه، علم الأصول عِلْمان علم أصول الدين كالعقائد، ولا بد أن يأخذ الإنسان منه قدر الحاجة، كعقيدة الإمام الغزالي، وعلم أصول الفقه وهو عَسِر، لا يكاد يُفهم ولا يجب على كل أحد، فينبغي أن يأخذ من الأصولَين قدر الضرورة، ثم بعد يأخذ في كتب الرقائق التي ترقِّق قلبه وترغبه في الآخرة، وتزهده في الدنيا، ليأخذ في العبادة فيجتهد فيها، ويكثر من تلاوة القرآن جهده، فإذا لم يمكنه في بعض الأوقات، أكثَرَ من الذكر، ويلازمه في كل أحواله، فإن العمر قصير والبطالة ذاهبة بأكثره، وليجعل غاية اعتنائه ومطالعته في المهم منها، فيطالع المهم ويحفظ المهم، وإن أراد مطالعة غير ذلك جعله في نادر من الأوقات
وقال رضي اللَّه عنه، العلم علمان، علم الإيمان وعلم اللسان، أعني المهم منهما، فيأخذ من ذلك ما يعرف به قواعده ويتسلى به
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً فقال، إن اللَّه ما قبل أعمالهم لأنهم عملوا بلا علم، ولو قبلها لرفعت ورحمهم، ولا يقبل اللَّه عملاً حتى يكون أوله علم وآخره إخلاص
وقال رضي اللَّه عنه، الأعمال تُرفع من الأرض إلى السماء، ثم من هناك ترفع وتقبل، أو ترد ولا تقبل، وأماكن العبادة والعباد معروفون عند الملائكة لاعتيادهم لنقل العمل منهم من أماكنها، ألا ترى كيف أنكروا بطن الحوت لأنه ليس موضع عبادة، وعَرَفوا صوت يونس عليه السلام، فلما سمعوا صوت تسبيح يونس من بطن الحوت، قالوا، صوت معروف في مكان مجهول، لم يدروا أين هو، لعدم اعتيادهم لنقل العبادة منه
(١/٣٥٢)
وقال رضي اللَّه عنه، لو أدركنا ناساً يرغبون في العلم، لجعلنا واحداً يقرأ فقط ونتكلم معه ونُملي عليه والبقية يستمعون، ولكن هؤلاء ما بَغَوا إلا كثرة قراءة، ولا بالوا فهِموا شيئاً أم لا، وأنا يعسر علي إخراج الكلام، ولا أَسْخَى به، وقد كانوا إذا حضر أحدهم مجلس علم يتفقد نفسه ويقول، ماذا حَصَّلت من علم أو من زهد في الدنيا، وأمر القراءة والكلام إنما هو إلى العالِم والبقية يحفظون ويكتبون، على أنَّ بعضهم كان يغضب من الكتابة، ويقول، لا، بل احفظوا كما حفظنا، أو كما قال
وذكر رضي اللَّه عنه علم الحديث وأكثَرَ فيه، ثم قال، ما جمعنا كتب الحديث إلا لأجل المهدي، فإنه إذا خرج لا يأخذ بفتاوي الفقهاء، بل إنما يأخذ بالكتاب والسنة، ويَدَع ما عداهما، أما ترى الاختلاف الحاصل بينهم، ولولا ما جرى عليه سلفنا من الأخذ بمذهب الشافعي، كان أحببنا أن نأخذ بمذهب مالك، لأن فيه مسائل إذا تأملتها رأيت أنها هي السنة، لأنه عالم المدينة، وعمدته ما أجمع عليه أهل المدينة، ولكن الشافعي مالكي، لأنه تلميذه أخذ عنه، ولكن لما تأخر عن مالك، وقد أتقن مذهب مالك، وعثر على علوم وأحاديث أخرى لم يقف عليها مالك، فخالفه في بعض المسائل، ثم جاء بعده الإمام أحمد، وتتبع مذهب الشافعي وحَرّره، فكَانَ المذاهب الثلاثة لذلك مذهباً واحداً
وسمع رضي اللَّه عنه في كتاب قرئ عليه فيه، إن اجتماع أهل المدينة على أمر، إنه سنة، فقال نفع اللَّه به، أما قلنا لكم لولا أن سلفنا كانوا على مذهب الإمام الشافعي لأخذنا بمذهب مالك، وذلك لأنه من أهل المدينة، وأخذ بما اجتمع عليه أهل المدينة، ولكنا نظرنا في ذلك فما رأينا بينهما كثير خلاف، ومذهب الشافعي مذهب مالك
أقول، وهذا يدل على أن سيدنا كان مجتهداً لا مقلداً
(١/٣٥٣)
وذكر رضي اللَّه عنه شأن الصلاة، فقال، من رأى صلاة الإمام مالك بن أنس، علم أنها السنة، لأن مسكنه المدينة، فرأى من اقتدى بصلاة رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فهو على الإقتداء به فيها، ويليه الإمام الشافعي، لأنه من مكة فهو على قدم الاقتداء، ولو كان الإمام مالك أقدم في السِّن، والحجاز محل الدين ومنه خرج، وهو الوسط فيها، والإمام أحمد أخذ بالاحتياط، والإمام أبوحنيفة أخذ بالعلم، وقول أهل الحجاز جواز السماع، أي الإمامان مالك والشافعي، وقول أهل العراق السكوت، أي الإمام أحمد وأبوحنيفة، قال، وينبغي أن يحفظ وحكاه عن أرجوزة أُلفت في ذلك
وتكلم رضي اللَّه عنه في القُصَّاص فقال، كانوا يفتشون أحوالهم وينظرون ماذا جاء وماذا حدث، وقد ذكر الإمام الغزالي إن العلم نافع من حيث إنه ينفع به غيره، أي نفعاً غير نفع العلم به، فيعلّم أحداً يكون يعمل بعلمه خالصاً به للَّه، كما إن أباسليمان تاب لما سمع القُصَّاص، ولو عمل بلا علم ما نَفَعه ذلك، فمن هذه الحيثية، فَضُل العِلْمُ العملَ، ويوم تتأمل زمانك، ترى الناس في نزول ما هم في صعود، ولَوَنَّ واحداً منهم رأى كتاباً صُنِّف جديداً ما يعجبهم إلا من حيث يتنفس به، ولا يتأسف على أحد من الأكابر أنه ما أدركه لينتفع به، ومن الناس من تردَّد إلى الأخيار، فصار منهم، ومنهم من تردد إليهم، ولا حصَّل شيئاً، وإنما جعل مجالستهم كالعادة، وما ينفع السراج في الهبوب، فإنه يذهب ولا يبقى، وإنما ينفع مع القلوب، ويكون كالسراج تحت الصَّحْفة، وما عاد مقصود الناس أن يستمعوا ليعرفوا، وإنما مرادهم أن يعذروا أنفسهم، وكان بعض الناس من أهل تريم راح الهند، ومدة ما هو هنا ما جاءنا ولا تردد إلينا، فلما راح الهند طلب أن نحصِّل له "رسالة المريد" فتعرف أنهم إنما طلبوا الكتب لأهواء وأغراض، وقد قال الشيخ أبوبكر بن سالم ،
(١/٣٥٤)
ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته ومن صَدَّ عَنَّا حَسْبه البين والقلا
وكان الشيخ مع كبر حاله وبلوغه في السلوك، ما تبعه من الناس إلا القليل، وقد نفع اللَّه على أيدينا ناساً كثيراً أكثر ممن انتفع على أيدي من قبلنا، إلا إنه نفع على الطريق العام، الذي يضطر إلى نفعه الخاص والعام، الذي جاء فيه التفصيل عن اللَّه ورسوله، ويكفي الناس عن غيره ولا يكفيهم غيره عنه
وقال رضي اللَّه عنه، لا ينبغي للطالب أن يبتدئ بمطالعة كتب الشاذلية حتى يطالع أولاً غيرها قبلها ويُحكمها، ككتب الإمام الغزالي، ثم يطالع بعد ذلك كتب الشاذلية، ليستفيد، فإن ابتدأ بها أولاً رَجَع يحتج بالأقدار، وبقي كلحم على وَضَمْ
وقال رضي اللَّه عنه، الناس غافلون، وإلا ففي نفوسنا أشياء غامضة، لو رأينا أحداً يفهمها لأظهرناها وبَيَّناها لهم، لكن لما رأيناهم ورأينا أحوالهم، قلنا لِمَن، وهذا ميراث لنا من سيدنا علي، فإنه قد شكا ذلك، إلا أن الميراث كلما طال الزمان ضعف، وقد سمعنا فيما بلغنا عنه، أنه لما ازدحمت العلوم في قلبه، وشكا من عَدَم من يحملها عنه، أتى إلى بئر وتنفس فيها، ففاض منها الماء على جوانبها، فنبت على جوانبها من ذلك شجر اليرع
وقال رضي اللَّه عنه، العلوم لها مقار ولها ناس، فإن وقعت في أهلها فذاك، وإلا صارت كالهزل، وإن كانت في الأصل جدًّا، ومن العلوم ما هو كالرَّوَط، وهي التي توضع مع غير أهلها، وينبغي للعالم أن يستصْلح نفسه أولاً، ثم يستصْلح العامة
(١/٣٥٥)
وقال رضي اللَّه عنه، كان الأولون قريبين المرتبة من النبوة، ما بينهم وبين النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلا نحو ثلاثة أو أربعة، والمتأخرون إنما اقتضبوا من كتب الأولين، وأما اليوم فقد بَعُدَ العهد جدًّا، حتى قال السيوطي، وأين العلماء والعلم، فما عاد بقي علم، والعمدة ما في الكتاب والسنة، وما خالفه فلا تتوقف في رَدِّه، وما أشكل عليك فَكِلْه إلى قائله، وما ثبت عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فهو أحق أن يُتَّبع، وما لم يصح فخذ فيه بالأرجح، وإن لم يكن ترجيح فاجتهد إن كنت من أهل الاجتهاد وإلا فخذ بما رَجّحه أحد من أهل الاجتهاد
وقال رضي اللَّه عنه، الحسد لا يترك صاحبه يقرّ بالحق، فمن في قلبه حسد، إذا قلت كلمة وأنت فيها صادق، قال لك، تكذب، قبل أن يتعرف صدقك، فلا يدعه دخان الحسد من التوقف حتى يتبين الأمر وإجمال الأمور، إن كلما قَبِلَه الكتاب والسنة هو الحق، وما لم يقبلاه هو الباطل، وما المقلَّد إلا رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وإنما اختلفت الطرق عنه من حيث الصحة والضعف من جهة الإسناد، فإذا رأوا أحداً حدَّث بحديث مرتين واختلف لفظه فيهما، أو رأوه ينشد شعراً خالياً ونحو ذلك ضَعَّفوه، وتكلموا فيه، وقد قال بعض أهل الحديث، إنا لنتكلم على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة، وهذا لأن المبتدعة قد فعلوا إسنادات، بعضها على متن صحيح، حتى يوصلوه إلى الإمام جعفر الصادق أو غيره من أهل البيت،وبعضها على كذب على مقتضى أقوالهم ومذاهبهم الباطلة
وقال رضي اللَّه عنه، ينبغي في هذا الزمان أن المطلوب هو الذي يدوّر للطالب ولو هو خلاف ما عليه السلف، وليحصل له التذكر، لأنه لولا المذاكرة نسي، ولأجل الثواب
وقال رضي اللَّه عنه، كانوا يكون للواحد مشايخ كثيرة، وإن اختص بواحد واشتهر نسبته إليه، لأنهم إذا لحق أحدهم أحداً صحبه وأخذ عنه، لأنهم إنما يأخذون العلم
(١/٣٥٦)
وقال رضي اللَّه عنه، السائل المتعنت لا يبارك له، ومن حين يأتي والشيطان يلقي في أذنه ما ألقاه في آذان المنافقين بحضرة رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إلا أن أحوال النفاق مختلفة، فحالُ متعنت، وحالُ منافق، ثم ذكر قصة الخليل بن أحمد لما جاءه السائل المتعنت وسأله، فسكت وفكر في جوابه، إلى ستة عشر قولاً، ولم يجبه، وقصة الشيخ عبدالقادر والذين معه لما دخلوا على ذلك الولي الذي يختفي متى شاء، وقصتهم مشهورة
قف على ما قال في نظمه
(١/٣٥٧)
وقال رضي اللَّه عنه، ما لنا في الشعر رغبة البتة، وإلا فنحن قادرون على ذلك، لو أردناه لفعلنا نحو ثلاثة مجلدات، ولكنا لما رأينا خصوصاً في هذا الزمان، الناس في غفلة جدًّا حَثّنا ذلك على شيء منها، لأنها تشيع في العامة وغيرهم، فعسى أن تُنَشِّط عاملاً، أو تُيَقِّظ غافلاً، وفيها الوعظ والتذكير وغير ذلك، ولعل أن تَرُدَّ أحداً إلى الإقبال على اللَّه، ومن طبعي أني لا أذوق بنظم أحفظه، ولم يبق في الحفظ شيء مما نظمناه، حتى لولا نسمع من ينشد به لما عرفناه، وإذا حدثت في الذهن شيء من القصائد لا نكتبها، فإذا أخذت مدة ولم تَزُل عن الخاطر كتبناها، وفي شهر رمضان لم يمكنِّي أن أفعل شيئاً من النظم، ولو بيتاً واحداً، وقد تكلفت ذلك فيه فلم يمكن، وأما في غيره فلا يعسر علي متى أردته منه، ولم يحصل منا في رمضان شيء من المؤلفات إلا رسالة المريد والراتب لا غيرهما، والإتحاف ابتدأنا فيه في رمضان من سنة ١٠٧٣، وتم في ذي الحجة، ثم ذكر من استملى منه كتبه، وهم مذكورون في غير هذا الموضع، ثم قال، وهذه الأشياء حمدنا اللَّه عليها، وقد كانت في معرض فسحة، نجمعها لهم من كتب شتى، ولا هم داريين به، وما أنا خائف من جمع ذلك إلا من الديوان، لأنه يُري الإنسان أشياء يظهر كأنه ذائق لها، كما من ذكر عن أحد أنه يوبخ نفسه، أنت كذا كنت كذا، فترى الإنسان منهم يقول شيئاً ثم ينكره، ويقول، ما قلته، فهذا قد كان بلسان الحال، قد كان ثم راح منه، لكنا نوينا في الديوان، أن كل ما قلناه مما لم نكن متلبسين، على لسان من هو له أهل ومتلبس به
(١/٣٥٨)
وقال رضي اللَّه عنه، ما يوجد في نَظْمنا مما يخالف قواعد النحو فهو مما أنشأناه قبل القراءة لنا فيه، وقد مضى على الإخلاص، ثم إنا لا نغير منه شيئاً لأجل الفصاحة، إلا إن كان يتغير منه المعنى، وقد قال بعض العارفين، أعربنا في ألسنتنا فلم نلحن، ولَحَنَّا في أعمالنا فلم نعرب، ومرة قال، إن الصالحين يكثر لحنهم في قصائدهم لذهولهم، وإن كانوا فصحاء ونحاة، وربما تبينوا بعد ذلك شيئاً من اللحن، فلا يصلحونه لمُضِيّه على الإخلاص، وإصلاحه ربما عرض فيه رياء
وقال رضي اللَّه عنه، وربما خطرت لنا الأبيات فنذكر الإعراب فنتركها، وإلا فتعرض غير معربة، ولا حاجة لنا بالنظم ولا بالإعراب، ولما أنشأنا الرائية التي في الشيخ عبدالقادر، وكنا أنشأنا فيه أبياتاً على نمطها، فلم يتم لنا ذلك، ثم إنا في هذه الأيام احتجنا إليها لأمر مهم، وقد فعلنا في الفقيه المقدم والعيدروس أيضاً قصائد لأجل أمور أسهل من هذا، وأما هذا فهو في بلادهم، فلم يحتاجوا إلى التنبيه، وهم أشد غَيرة منا عليها، وأما السيد عبدالقادر فلم نكن ببلده، ولأن لنا به اتصالاً من حيث رحم أهل البيت وغير ذلك
وقال رضي اللَّه عنه، إن الشيخ عبدالقادر رضي اللَّه عنه من الذين أُذِن لهم في الظهور، المكرهين عليه، وهو من ذوي الغارات الظاهرة، حتى إنه كان ذات يوم يتوضأ فاستغاث به مستغيث قد نزل به العدو، فخلع قبقابه في الحال فضربهم بها، ثم الأخرى كذلك، فوقعت كل واحدة في واحد من مشايخ العدو، فَفَرَّج اللَّه عن أولئك ببركته، ثم إنهم أتوه بالقبقابين وقد رأوا عليهما رطوبة الماء، وكان بينه وبينهم حينئذ مسافة أيام متعددة
وقال رضي اللَّه عنه، إنا لم نحتج لتسويد عند إنشاء قصيدة أو تصنيف كتاب، كما يُعتَاد، بل مسودتنا هي المبيَّضة، لا اختلاف بينهما، إلا إن أشكلت كلمة على من يرى، أبدلناها بأوضح منها
(١/٣٥٩)
وأنشد بين يديه رضي اللَّه عنه بقصيدته التي مطلعها، قل للذي جد بالأظعان يا حادي، فقال نفع اللَّه به بعد تمامها، هي من قديم القصائد، فإن لم تصح لنا فهي على لسان من تصح له، وكذلك كل ما هو بهذا المعنى
وقال رضي اللَّه عنه، يقال مِنْ أحسنِ نعم اللَّه على الإنسان في الدنيا ثلاث، أن يرى ولد ولده، وأن يأكل من غرس يده، وأن يُنشَد بين يديه بشعره، وقد حصلت لنا كلها بحمد اللَّه
وأنشد عنده بقصيدته، بشر فؤادك بالنصيب الوافي، الخ فقال نفع اللَّه به عند قوله (راحُ اليقين أعز مشروب لنا)، الراح والكأس ونحو ذلك مما يذكر في كلامهم، المراد به اليقين
وأنشد عنده أيضاً بقصيدته، قل لأحبابنا بسُوح المقام فقال رضي اللَّه عنه، لا تخلو أبيات من هذه القصيدة من زحاف، بالنسبة إلى هذا البحر، لأن ما لنا كثير نظم فيه، وعادتنا إذا اطلعنا على رِكّة في بعض القصائد بعدما أنشأناها كذلك لا نتكلف إصلاحه، وربما فعلنا ذلك بالقصد، قال، وفيها أشياء ما توجد في الرائية، من فصاحة وغيرها، ولو شرح هذه الأبيات عالم منصف، خلي عن الحسد والمنافسة، لأتى فيها بجميع مناسك الحج، ولا ينافس الإنسان إلا أصحابه
وأنشد أيضاً بقصيدته، الناس في ضيق وفي حرج فلما فُرغ من إنشادها، قال نفع اللَّه به، اللسان الآن غير اللسان في ذلك الوقت، فيختلف اللسان، وإن كان اللسان الحسي واحداً، فلسان الحال ولسان الوقت ولسان الداعي وأمثال ذلك، فربما يتكلم في البداية، وفي النهاية كلام آخر، وربما تكلم في وقت بكلام يستحسنه، ثم يكرهه في وقت آخر، وربما أنكره، كل ذلك لاختلاف الألسنة المتقدم ذكرها، أو كما قال بمعناه
(١/٣٦٠)
وعندما أنشد عنده بقصيدته، يا جيرة الحي عليكم سلام قال رضي اللَّه عنه، هذا ومثله من نداء النفس للروح وخطابها معه، ويفعل ذلك المتغزل لحصول النظم، ويذكر نُعمان، وهو المكان الذي أخذ اللَّه فيه العهد على بني آدم ليصرف وَهْمَ السامع عن ظن كون ذلك في الحضرة الإلهية أو النبوية وهو دون ذلك إذا ثَبَتَتْ وهو دونها، لتنزهها عما يوهمه الغزل
وقال رضي اللَّه عنه لبعض الفقراء، طالع في كتاب مقال الناصحين لباجمال، فإنه مليح، فقال، إني أطالع في تفسير البغوي، فقال نفع اللَّه به، البغوي، والإحياء، والبخاري، وهذه الكتب الكبار كالمدن الكبار والأمصار إذا دخلها الإنسان يحير فيها، فيحتاج إلى من يعرّفه، وأما الكتب الصغار فهي كالقرى الصغار، ينبغي أن يدخلها الإنسان يتنفس فيها، فينظر إلى ما يعجبه ويستحسنه، وتلك يدخلها بعض الأحيان، ويأخذ ما يستحسنه من هذه ومن هذه
وقال رضي اللَّه عنه، من يقرأ القرآن لا يمكنه أن يقول بالجهة، فيفرق بين معراج النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وتكليم اللَّه سبحانه لموسى عليه السلام من الشجرة، لأن الأمور الإلهية لا يدركها أحد، وما أوهم إشكالاً من كلام المحققين، فلا ينبغي أن يسارع إلى الإنكار عليهم، بل يدَعهم، ويسعهم الكتاب والسنة، ويجعلها من قبيل المتشابهات الواردات في الكتاب والسنة، ولِمْ جاءت هكذا حتى احتاج الناس فيها إلى التسليم، وإما إلى التأويل
وقال رضي اللَّه عنه، التغزل في اللَّه ورسوله لا يجوز، ومن فعل ذلك يكاد يكفر، وإنما هو في الروح والنفس، فما كان من ذكر المطل والخلف والجفا، ونحو هذا فهو تغزل في النفس، لأنها موضع القساوة، وما كان من ذكر الوصل وذكر اللطافة والأنس ونحو ذلك فهو في الروح
(١/٣٦١)
وذَكَرتُ له رضي اللَّه عنه، إني رأيت في الحسا، في كتاب "الغنية" للشيخ عبدالقادر، ما يشبه كلام المجسمة، فقال نفع اللَّه به، اطلب ذلك الكتاب وأسمعنا ما رأيتَ، فطلبته من عند السيد عبدالرحمن بن عبداللَّه بلفقيه، وأسمعته ذلك، فلما سمعه أقَرَّه، وقال، لا بأس به، وفي كلامه من السعة أكثر مما يسعه ظاهر الآيات والأخبار، فليحمل أقل ما في الحال على ما يحتمله ظاهر الآيات والأخبار، لأنه الظاهر، أو قال، الأصل أو كلمة نحوها، وإنما صرف عنه بالتأويل، واللغة واسعة، فلا حرج، وشأن الأمور الإلهية وذِكْرها في العلو أعظم شأناً منه في السفل فأين ما يوصف به السماء السابعة وما حولها وبأن سكانها الملائكة على طبقاتهم، مما يوصف به الأرض السافلة، وأن سكانها الجن، وإحاطة علمه تعالى بكل شيء، لا يفيدهم شيئاً، وأين الأمور الإلهية من قياس العقول، قلت له، إن الأشاعرة في تلك الجهات يقولون، إن مثل هذا الكلام مدسوس على الشيخ، فقال، هذا إن صح عنه، وإلا فقد دُس على الشعراوي في كتبه، وذلك غير بعيد
وقال رضي اللَّه عنه، التنزيه على قسمين، قسم أضافه الحق إلى من لا إيمان له من المشركين والملحدين، وقسم نَزَّه نفسه عنه من غير أن يقع، فربما يقع في خاطرٍ شيءٌ فنفى ذلك
(١/٣٦٢)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا أردت أن تنفي الجهة في حقه تعالى، وتعلم أنه غير محتاج لجهة، فأثبت حدوث العالَم، فإذا ثبت فلا خفا في ذلك، فأين كان قبل وجود الموجودات، وأين يكون عند قيام الساعة، وعندما يطوي السماواتِ والأرضَ بيمينه، فيعدمهما، فيُعْلَم غناه عن الجهة، فأين كان قبل ذلك وبعده، وقد يُغلط في لفظ الشمال في حق اللَّه سبحانه، من يقول له شمال، وإن كان قد جاء في بعض الأحاديث، وإنما كلتا يدي ربنا يمين، اليمين الكبرى بها فضله واليمين الأخرى بها عدله، فلا يوصف بشمال، وكذا يقال فوق الفوق، وفوق التحت، ولا يجوز أن يقال تحت التحت، لأنه فوق كل شيء، والأمور التي لا تدركها العقول كثيرة، منها ما هو في الوجود، ومنها ما هو في القدرة، لم يبرزه اللَّه سبحانه، ولا يعرف الإنسان منها إلا ما يألفه، فيقيس عليه ما يقرب منه، وأما ما لا يعرفه ولا يألفه طبعه، فلا يعرفه أصلاً ويرى ما عداه محالاً، وما لم يره أو يعلمه لا يمكنه أن يتعقله، فخل الخوض في الحق، وانظر إلى الملائكة، إنما غذاهم الذكر، لو قيل حي لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، يقال، ما هذه الحياة؟، وكيف تكون؟، ويستبعده، وكذا الجنة حيث يقال، طولها كذا، وعرضها كذا، وصفتها كذا، فإذا استبعد يقال له، نعم، لو كان ذلك في هذا العالَم الضيق، وهنالك عوالم شتى، منها ما هو في الوجود، ومنها ما هو في القدرة
(١/٣٦٣)
وسمع رضي اللَّه عنه شيئاً من كلام ابن الفارض فيه غزل، فقال، هذه الأمور لما كانت في أوصاف المخلوق، أنكرها عليه بعض الناس، ظنوا أنه يريد بها الخالق، وهذا خطأ منهم، لأنه لما كان ذلك في وصف الخلق، تبين أنه ليس في الخالق، فإذا صرح المخلوق بالمخلوق، فهو بالمخلوق أحق، وأجاب عنه بعضهم ممن يقول بالشاهد، بأن ذلك في النور الساري في المخلوقات، وهو من نور اللَّه سبحانه، وكل هذه أمور باطلة، قال، وفي نظمه فصاحة وملاحة ورقة، كأنه كان متمرناً عليه، وفي نظم الطرائفي وغَزَلِه مثله، ويقول عند التخلص رجعت عنه، فمثل هذا يبريهم ويفيد غيرهم، ويسمى هذا التشبيب، ومثله في كلام ابن علوان، لأنه كان مجتهداً في علم الأدب، ليكون في مرتبة أبيه عند الولاة، ثم ذكر قصة جذبه، كما ذكره في "طبقات الخواص" للشرجي، وكثيراً ما يذكر آل طه، وآل يس حتى توهم بعض الناس أن له نسباً حسياً في الأشراف، ومرة قال، كان أبوه حسن الخط، فخط كتاب "البيان" ووصل إلى بغداد، فتعجبوا من حسن خطه، فقال بعض أهل تلك الجهة، ما حسبنا أن في اليمن إنسان، حتى جاءنا البيان بخط علوان، وكان مؤلفه من أهل اليمن، قال اليافعي في تاريخه، إنه ممن يقول بذلك القول من الشافعية
وقال رضي اللَّه عنه، النظم تحن إليه الأرواح أكثر مما تحن إلى النثر، بشرط أن يكون السامع مجرداً عن الهوى، لئلا ينزل الأشياء على أغراضه، وقد سأل الشعراويَّ الجنُّ عن مسائل، فأجابهم وجعل الجواب نظماً، فقيل له في ذلك، فقال، لأنهم يطربون إلى النظم خيراً مما يطربون إلى النثر، ولا يجوز تنزيل الغزل على الحضرة الإلهية،
ولا ما فيه الخُلْف على النبوة، بل ما كان فيه الوفاء والمدح على الروح، وما كان فيه الخُلف والجفا والمطل على النفس، لأن هذا طَبْعُها
(١/٣٦٤)
وأمر رضي اللَّه عنه منشداً ينشد، ثم قال، كل ما في النَّظم من المدح، فنَزّله على الروح أو الكعبة أو الجنة، وكل ما كان فيه من الذم، فنَزّله على النفس والدنيا، والحذر من تنزيله على ما تنزله العامة عليه، من كونهم ينزلونه على الحق سبحانه، أو على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فهذا لا يجوز، فإذا صرح المخلوق بالمخلوق، فهو بالمخلوق أقمن وأحق، ويكون في معشوق حلال، وإن احتمل ذا وذاك فيمكن حمله على شيء من الحضرات الإلهية
وذَكَرَ رضي اللَّه عنه، أن لابن عربي نظماً، ثم قال، لكن يرتفع في نظمه، وآخرون وإن كان معهم حقيقة، يتنزلون في نَظْمهم للناس لقوله عليه السلام، (( كلموا كل إنسان بما يعلم، أتريدون الخ ))، وهذه الأشياء من علوم الحقائق، يستحبون بها لكونها لا تتعلق بعمل ولا حكم، ومن حق النظم أن يكون في وعظ أو تذكير، أو حَثّ على خير، أو تحذير من شر، أو تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة
وقال رضي اللَّه عنه لبعض المنشدين، ما فيه ذكر النساء وأوصافهن أنشده في محاضر الأعراس، وما كان فيه غَزَل ونحوه في مجالس الضيافات، وما فيه ترغيب في خير، أو مدحٌ للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وما جرى مجرى هذا، ففي مجالس الأخيار
وقال رضي اللَّه عنه، إن أبا مخرمة قصد السودي، واجتمع به، وكان إذ ذاك قد حصل في حضرموت قحط شديد، فأنشأ السودي فيه هذه القصيدة، مكاشف له ،
( غُرَيِّبْ مُطِّرَتْ بلادك )
، والشيخ يعني بامخرمة، قد يفعل قصائد على ألسنة العامة يطلبون ذلك منه
وذُكر عنده رضي اللَّه عنه يوماً السودي وبامخرمة، وقيل، كان وقتهم صالحاً، كثير الخير والأخيار، فقال، كان في وقتهم سحاب يمطر عليهم، وأما الآن فكما قال الجنيد لما قيل له، ألا تفعل السماع؟، فقال، لمن؟، فقيل، لنفسك، فقال، مع من؟، وهذا لأن الأشياء إنما هي في أوقاتها ومع أهلها
(١/٣٦٥)
وقال رضي اللَّه عنه، الغَزَل حجار الأساس يُبنى عليه النظم، ولا يحسن النظم إلا بالغزل، وقد جَرَت به عادة العرب، ولا بد فيه من ذكر أوصاف النساء، ولما كان العشق إنما يعرف في النساء، حتى جرت العادة بالتغزل فيهن، جرت عادة الصالحين أيضاً في قصائدهم بالتغزل بهن، وإن كان مقصدهم غير مقصد غيرهم، وقال لي رضي اللَّه عنه يوماً، أنشد، فأنشدت بقصيدة ابن علوان، ألا عرِّج أضاء لك السبيل ـــ وبعدها بقصيدة سيدنا، اللَّه لا تشهد سواه ولا ترى ــ الخ فلما فرغت منها أنشد هذا البيت ،
واللَّه أكبر من إشارة عالم اللَّه أعظم من إشارة عارف
وهذا البيت أيضا،
وكل إلى ذاك الجمال يُشير عباراتنا شتى وحسنك واحد
ثم قال نفع اللَّه به، إن الحوت إذا غار عنه الماء هلك، وعكسه الضب إذا وقع في الماء مات، وذكر النظم المقول في ذلك وهو ،
فكم تلبث النفس التي أنت قُوتُها إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها
يعيش ببيداء المفاوز حوتها ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما
فقلت، قولكم، اللَّه أكبر غار بحر الحوت، هو إشارة إلى ماذا؟، فتبسم ضاحكاً، وسكت قليلاً ثم قال، ولما تجلى الحق لموسى كيف كان حاله؟، إلا خر صعقاً، والجبل صار دكَّا، وأهل الحق يرمزون في النظم، ويشيرون فيه إلى أسرار وأمور تقع في خواطرهم لا يمكنهم التصريح بها، ولكنهم يتنفسون بمثل ذلك، ويتسلَّون به
(١/٣٦٦)
وقال رضي اللَّه عنه، العلم دليل الفعل، فإن لم يكن فعل، فهو خسارة على الطالب والمطلوب، والأحسن للمحترف إذا لم يسهل عليه أن يعمل بما في البداية، أن يعلم بما يَدُلُّه من علوم الإيمان وعلوم الإسلام، ويشتغل بحرفته، ويترك طلب العلم أي ما زاد على الواجب ، ويَسْلم من خَطَره، ويَدَعه على غيره، سواء كان برًّا أو فاجراً، فإن قدر أن يعمل بها فليطلبه، فإن العلم يزيده خيراً، وإلا فمن عجز عن القليل، فلا شك أنه عن الكثير أعجز، وفيها ميزان عجيب، أو قال عظيم، ذكره مصنفها فليجرب نفسه به
وتكلم يوماً رضي اللَّه عنه كلاماً على أهل الجهة وعوائدهم ثم قال، هذه أوعية ملآنة، ما عاد تقبل التعليم، فأين يُطرح فيها
وقال نفع اللَّه به، الغلو مذموم، لأنه يولد غلوًّا في الجانب الآخر، فالغلو يولِّد غلوَّاً، والتفريط يولِّد تفريطاً
وقال رضي اللَّه عنه في حديث، (( العلم لا يحل منعه ))، أي لأهله، أو العلم الواجب من كيفية الصلاة والطهارة وأمور العبادات، لأن العلم أنواع، شيء يبذل لعامة الناس، وشيء للخصوص، كالمال ينقسم إلى جهات مختلفة، شيء منه لأهل الخُمُس، والفيء، وشيء للفقراء والمساكين، وغير ذلك
وسألته رضي اللَّه عنه عن حديث، (( يستوفى للقرناء من الجماء ))، فقال نفع اللَّه به، لعل ذلك مبالغة، ويبقى هذا على ظاهره، لأن ذلك في قدرة اللَّه تعالى، وأمور الآخرة كلها تمر على ظاهرها، ولا حاجة فيها إلى تأويل شيء، إلا إن كان حديثاً واحداً، واحتيج إليه، فإن كان وردت أحاديث عند ذلك على معنى يترك، ويجعل من الأمور السمعيات، لأنها عند أهل العلم لا تؤول، وقد جاء تخصيص بعض الحيوانات بدخول الجنة، ولكن ذكر الإمام الغزالي، أن من ظَنّ أن اللَّه تعالى سيحيي كل بقة وبعوضة حتى يسألها، فقد انحل عن غريزة العقل، فلعل ذلك إنما هو في حيوان له خطر
(١/٣٦٧)
وقال رضي اللَّه عنه، إذا كان فضيلة في النفس سَهُل على الإنسان تناولها في أقرب وقت، وحصل له الفتح كما كان ذلك للإمام الغزالي حتى صنف في وقت شيخه إمام الحرمين
وذكر رضي اللَّه عنه جماعةً اجتمعوا في الطلب، فقال، إذا كان شيء مناسبة، حصل الإتحاد كالماء مع اللبن، والماء مع الدهن، وإن كان إلا كالعود مع الماء لم يحصل
وقال رضي اللَّه عنه، ما العلم إلا معرفته والعمل به، وتعليمه لمن تأهل، وإلا كان متلاعباً بالدين، والدين أعمال واتصاف، فيطالب نفسه بالعمل، فمن لا ينصح نفسه، ما نصحه الناس، خصوصاً في هذا الزمان المبارك، لو رأوك تسيء الصلاة، وعرفوا أنك لا تقبل، ما كلمك واحد
وقال رضي اللَّه عنه، قولهم، إذا ضاق الأمر اتسع، هو أن اللَّه هو الذي يضيقه، وهو الذي يوسعه، ما هو أنت، فإذا ضيقته من حيث الأعمال، فاذهب إلى أهل العلم يعرّفونك، وقد قال بعضهم في المعاملات، معاملة الحق بالحقيقة والسنة، ومعاملة الخلق أيضاً بالحقيقة والسنة، ومثلوا لذلك بقصة صاحب الدَّين الذي جعله في الخشبة ورماها في البحر، ثم بعد ذلك سافر إليه بدَينه، فهذا عمل بالحقيقة والشريعة، ومعاملة الحق بالحقيقة فقط، ومثلوا له بحال أصحاب الغار الثلاثة، يتوسل كل منهم بأصلح ما علم من عمله الصالح في انطباق الصخرة عليهم، ومعاملة الحق والخلق بالسنة، وأما الذي يعامل الخلق بالظلم، فلا تبالي بما يقع له، فإنه لا يموت مستور الحال، لتهاونه بأخذ أموال الناس، أو كما قال
وقال رضي اللَّه عنه، قولهم، فيها أفلاك، يحذفون الكلمة، ومعنى ذلك فيها أفلاك دائرة، يعني تدور عليك بما تحب، بعدما كنت فيما تكره
% % % % %
وبفضل الله سبحانه وتعالى كان هذا نهاية الجزء الأول من كتاب تثبيت الفؤاد فله الحمد أولاً وآخراً
وتتميماً للفائدة ننقل ماوجدناه مكتوباً على ظهر بعض النسخ التي تمت المراجعة عليها،-
(١/٣٦٨)
١ - الموجود على النسخة الأم، نسخة الحبيب أحمد بن حسن الحداد ،
وكان الفراغ من نساخة تحريره بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء ١٩ جمادى الأولى سنة ١١٧٠ على يد العبد الفقير إلى الرب القدير، المعترف بالقصور والتقصير، الراجي لعفو الله الكريم الجواد، الشريف أحمد بن الحسن بن عبد الله بن علوي الحداد عفا الله عنه وعن والديه وأحبابه والمسلمين، ( أي وعمره - أي الحبيب أحمد بن حسن - إذ ذاك ٤٤ سنة، حيث كان وجوده في شوال سنة ١١٢٧هـ ) وأفيدك أيها القاريء الكريم، أن الإمام المدقق الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، قد قرأ هذه النسخة وراجعها وحققها، فقد وجد بخطه مايلي ،- قرأ في هذا الكتاب، تثبيت الفؤاد بذكر مجالس الحبيب عبدالله الحداد - علوي بن أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد باعلوي أول قراءة فيه، وثانية، وثالثة، على جده القطب العارف بالله الحسن بن سيدنا الغوث عبدالله، جعل الله في ذلك البركة والعاقبة الحسنة آمين ثم قرأ فيها الحبيب عبدالله بن علي الحداد، وكتب مايلي ،- بلغ مقابلة على الأم المنقول منها التي هي بقلم الحبيب أحمد بن الحسن بن الحبيب عبدالله الحداد حسب الطاقة والإمكان نحن والمحب المنور أحمد بن عبدالرحمن عقبة الشبامي بتاريخ ١٣ شهر رجب الأصب سنة ١٣١٣ هجرية قال ذلك وكتبه الفقير إلى ربه عبدالله بن علي الحداد عفا الله عنه آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ثم طالع في تلك النسخة الحبيب علوي بن محمد الحداد، وكتب مايلي ،- طالع في هذا الكتاب الفقير إلى ربه الجواد، علوي بن محمد بن طاهر بن عمر الحداد، رزقه الله الإنتفاع بما فيه، وغمر بفيوض المعارف واديه، وجعله وذويه من المتبعين للحبيب الأمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الميامين وأسأل من الواقف على هذا الكتاب أن يدعو لي بصلاح ظاهري وباطني، وكمال الإتباع للحبيب وآله، وكمال اليقين والتمكين ،
(١/٣٦٩)
والإنتظام في سلك الصالحين، وبحسن الختام، والوفاة على الإسلام
فأعظم بها من نسخة، كتبها وحررها الحبيب أحمد بن حسن الحداد، ثم راجعها وقرأها مراراً الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد على جده الحبيب الحسن بن عبدالله الحداد، فأكرِمْ بهم من قاريء ومستمع ثم الحبيب عبدالله بن علي الحداد، ثم طالع فيها الحبيب علوي بن محمد بن طاهر الحداد
٢ - الموجود على نسخة الحبيب أحمد بن عبدالرحمن الحداد ،
وقد تمت المراجعة على الجزء الثاني منها ومكتوب على ظهرها ،- كان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الخميس ٢٠ من شهر جمادى الآخرة سنة ١٢٥٢هـ بقلم الفقير الحقير، راجي عفو ربه الجواد، أحمد بن عبدالرحمن بن أحمد بن حسن بن عبدالله بن علوي الحداد عفا الله عنه ووالديه، آمين وأيضاً مكتوب عليها ،- بلغ بقراءة الفقير إلى مولاه، علي بن حسن بن حسين بن أحمد الحداد، على والده في مصلى الحاوي، بعد صلاة العصر آخر جمادى الآخرة سنة ١٢٥٤ هـ وهي ملك الحبيب حسن بن حسين بن أحمد الحداد
٣ - الموجود على ظهر نسخة الحبيب الإمام، حجة المتأخرين، عيدروس بن عمر الحبشي ،
(١/٣٧٠)
وكان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الثلاثاء ١١ خلت من شهر رمضان المعظم من سنة ١٢٩٣هـ على يد العبد الفقير الحقير إلى مولاه، أقل العباد، علي بن حسن بن حسين بن أحمد بن حسن بن القطب الغوث عبدالله الحداد علوي، عفا الله عنه وعن والديه وأولاده وأجداده وأحبابه ومحبيه، آمين وذلك بعناية محبه وخلاصته، الموفق عمر بن أحمد عبادي بنذياب، كان الله له عونا ومعينا، ووفقه لما يرضيه ويرتضيه ربُّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ثم انتقل هذا الكتاب إلى ملك إبراهيم بن عمر بن أحمد بن عبدالله عبادي بنذياب، خاص له وابراهيم بن عمر المذكور قد وهب هذا الكتاب بالهبة الصحيحة لسيدنا وبركتنا الحبيب القدوة البركة عيدروس بن عمر بن عيدروس الحبشي، وصار ملكاً من أملاكه، تقبل الله ذلك بمنه وكرمه،آمين وذلك بتاريخ يوم الاثنين ٢٦ خلت من شهر جمادى الأولى سنة ١٣٠١هـ ثم صار إلى ملك الفقير إلى مولاه محمد بن عيدروس بن عمر الحبشي، عفا الله عنه
وعلى النسخة المذكورة أيضاً، تشرف وسعد إن شاء الله تعالى بمطالعة هذا السفر الجليل وسماعه، العبد الحقير علي بن محمد بن عيدروس الحبشي، وأنهى قراءته في شهر ربيع الأول سنة ١٣٦٥هـ، رزقه الله كمال محبة قائله، والانتظام في سلكه، آمين ثم انتقل إلى ملك الفقير عبدالله بن عبدالقادر بن أحمد الحداد، مشترى من الأخ علي بن محمد بن عيدروس الحبشي اهـ
(١/٣٧١)
ونحمد الله سبحانه وتعالى أن مَنَّ علينا ووفقنا لقراءة هذا السفر المبارك، وبذل الجهد لمراجعته على النسخ التي ذكرناها، وانتهى بنا المطاف على أن يكون الضبط والتحقيق على نسخة الحبيب أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد (النسخة الأم)، وهي النسخة التي حققها الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، حيث وجدناها في قمة الضبط، ومهمشة بفوائد وتدقيقات من قبل الحبيب أحمد بن حسن نفسه، وعليها عناوين المقالات وتلك النسخة هي التي وجدت عند الحبيب البركة أبي بكر العطاس بن عبدالله بن علوي الحبشي، حيث تكرم بها علينا في آخر أيام حياته، فجزاه الله خير الجزاء، وقد كان انتقاله أي الحبيب أبي بكر العطاس إلى الدار الآخرة يوم الأربعاء ٢٩ من شهر رجب عام ١٤١٦ هـ فرحمه الله رحمة الأبرار
كما قام بتخريج بعض الأحاديث، وتوضيح معنى بعض الألفاظ الدارجة، وإسناد بعض الأبيات التي يستشهد بها إلى قائلها - السيد عبداللاه بن علي الحبشي، فجزاه الله خيراً
كما تشرف وقام بنساخة السفر، ومزيد المراجعة السيد عدنان بن يحيى بن أحمد العيدروس
وكان الوقت المخصص للمراجعة والقراءة، هو مابين صلاة الصبح إلى الإشراق من كل يوم إلا يوم الجمعة وكانت المراجعة بمساعدة ومجهود كل من الشيخ المحب محمد بن سالم بن عبدالله الخطيب، والشيخ المحب أبي بكر بن زين بن أبي بكر الراقي بافضل وقد استغرقت المراجعة قُرابة الخمس سنوات
ومن الجدير بالذكر، أن بعض الألفاظ تم إيرادها كما وجدت بالأم، لا كما ينبغي من حيث حركات الإعراب كما أن هناك جُمَلاً تعد بالأصابع لم يتوضح لنا معناها، فأثبتناها كما هي بالأم ونلتمس من كل من يجد ملاحظة نحو المراجعة من كل ما ينسب إلينا أن يفيدنا عنها مشكوراً
(١/٣٧٢)
نسأل الباري جلَّتْ عظمته، أن يتقبل منا وأن يعفو عنا بمحض الفضل والجود والكرم، وأن ينفعنا ويدخلنا في دائرة الإمام الحداد، وأن يكفر عنا السيئات، ويرزقنا كمال الاتباع للرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يشمل بالمغفرة والدينا وأحبابنا وذريتنا وجميع المسلمين، وأن يعم نشر هذا الكتاب في أرجاء المعمورة ليعم به النفع إنه سميع مجيب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
المشرف على المراجعة الفقير إلى الله الملك القدوس، يحيى بن أحمد بن عبدالباري العيدروس عفا الله عنه حرر في جدة صبح يوم الخميس السابع من ذي القعدة من عام ١٤١٨هـ ومن يُمن الطالع أن هذا اليوم يوافق يوم وفاة الحبيب عبدالله بن علوي الحداد، حيث كان انتقاله في السابع من ذي القعدة من عام ١١٣٢ هـ - أي قبل حوالي ٢٨٦ سنة - نفعنا الله به في الدارين آمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
آخر الجزء الأول من كتاب " تثبيت الفؤاد "
ويليه (إن شاء اللَّه) الجزء الثاني الذي أوله، (( ودخل عليه رضي اللَّه عنه السيد زين العابدين))
(١/٣٧٣)
فهرس الجزء الأول حسب العناوين
ذكر شيء مما نَوَّهوا به من وَصْفِه ٣
اعتناؤه بمن تعلق به نفع الله به ١٩
انظر ما قال في سبب خمول الصالحين بتريم ٤٣
ما قال في خمول السادة ٤٤
ما قال في الإخلاص وعزته ٣٦
ذكر ما يتعلق بالنساء ٣٧
ذكر ماقال في مطالعة كتاب التنوير ٣٩
ذكر ما قال في حرمان الرزق ٤٢
انظر ما قال في الجهة الحضرمية ٤٨
انظر ما قال في بلدان حضرموت ٥٠
انظر ما قال في التشبه بالسلف واستدلاله بالحديث المذكور ٥٠
انظر ما قال في فضل هذه الأمة ٥٦
ذكر ما يتعلق بالرزق ٧١
كلمات تقال عند الوقاع ٨٦
ما قيل في حسن الظن في غير محله ٨٦
ما قال في القضاء والقدر ٩٠
كلامه رضي الله عنه في الحسد
ذكر ما قاله في الإلباس
ما قاله من المقابلة لتصحيح النقل والتوصية بذلك
ما قال في من يرث الولي إذا مات
قصة أصحاب السفينة
ما قال في طلب المريد الطالب للقراءة
ما قال في آداب مطالعة الإحياء
ذكر العقيدة
معنى الطُرُق إلى الله
ما قال في التأني والعجلة
ما قال في الهمة
ما قال في طلب العلم
ما قال في الاغترار بالكرامات
ما قال في الخمول والشهرة
ما قال في انتفاع السادة بعضهم من بعض
ما قال في معنى حديث، إن الله جميل
ما تكلم به السيد أحمد بن زين على قصيدة سيدنا
ما قاله في النفس
مفاضلة الأولياء
ما قال فيمن ينتسب لابن علوان والرفاعي
ما قال في التواضع
قصة صاحب الشجرة
ما قال في العقيدة
ما قال فيمن له في العمل وجهان
ما ذكره عن السيد عبدالرحمن بن محمد الجفري صاحب (تريس)
ما قال فيما هو في وقت السلف
ما قال في كثرة من انتفع به
ما قال في باجابر
ما قال في الصغار وتربيتهم
ما قال في الخمول
حكاية الطبيب
ما قال في الذي يضيق من القراءة
ما قال في العدل بعد المائتين
ما قال في النفس
ما قال في الأمانة
المرأة لا تكون بدلاً
ما قال في القرآن
ما قال في الحِظاية
ما قال في الأمراء
ما قال في عدم قبول الملوك والأغنياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخلاف الفقراء
ما قال في كلام ابن الفارض وابن عربي
ما قال في تنزيل الغَزَل
ما قال في علماء الزمان
أخذ العلم من المتأهل
انظر طلبه أيام بدايته
ما قال في طبع النفس
ما قال في حديث النفس في رمضان والسجود
ما قال في سهر كل الليل في رمضان
مسئلة فقهية
ما كان يقرأ في السكتة
ما قال في المواساة
ما أشار به إلى وفاته
ما قال في محمل كلمة الصالحين
ما قال في طبع الصغر
ما قال في إنكار بعض العوائد
ما قال في المضطرب في المحنة
ما قال في الماء المسخن على النار
ما قال في شدة الشوق مع البعد بخلافه مع القرب
ثم ما قال في العراق
انظر ما أخبر عن حاله
ما قال في التروح والتنقل
ما قال في السادة آل باعلوي
فتن آخر الزمان
ما قال في الأدب مع المرموقين بالخير
ما قال في الصبْر
ما قال في القاضي
ما قال في ذم تمني البلاء
ما قال في كلمة لا إله إلا الله
ما قال في المهدي
تحري النية في الأمور المباحة
ما قاساه من أهل تريم، وقصة آل باكثير
ما قال في قوله تعالى، سنفرغ لكم، الآية
ما قال في عقائد أهل حضرموت
ما قال في بامخرمة
ما قال في طلب العلم
ما قال في الفئة الطاغية في الجهة
كثرة الظلم في حضرموت
ما قال في من قال من أهل الشطح
ترك الأدب في محله
ذم من يدخل وسط الجابية
معرفة موازين القرآن
ما قال في الذهن
تعزية وتسلية
ما قال في حديث أن لا تغضب
ما قال في معنى حديث، (( ما جلس قوم الخ ))
بركة لا إله إلا الله وذكر العمود
ما قال في حديث الأئمة من قريش
معنى الحرفان المهملان
ذم الدعوى
المتخفي بكِبره
ما قال في معنى حديث، الناس معادن الخ
قوله، نصلي خلف كل بر وفاجر
تأويل تبجح الأكابر
ما قال في الإحسان
ذكر حجه نفع الله به
ما قال في السماع ونحوه
ما قال في تأني الحاكم
ما قال في القضاء والقدر
ما قال في ذم الدنيا
انظر ما قال في الرياء
انظر ما قال في سبب نزول المحن
انظر ما قال من الإشارة إلى سيل نجم الحوت قبيل مجيئه
وما قاله عنه بعد مجيئه رضي الله عنه
انظر ما قال فيما يدفع المحن
انظر ماقال في العلم وفي أهل العلم أو تفسير حديث
قف على شدة تواضعه لربه
انظر معنى الشكر
قف على ما قال في نظمه
* * *
تثبيت الفؤاد
بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد
جمع تلميذه الشيخ
أحمد بن عبدالكريم الحساوي الشجَّار
الجزء الثاني
الجزء الثاني
ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين بن مصطفى العيدروس، وذلك يوم الثلاثاء سابع المحرم سنة ١١٣١هـ فمما خاطبه به، بعد أن ذكر العلماءَ وتصانيفهم، فقال، نقلوا مسائل مقررة، وإنما زادوا مسائل قريبة، تَرْغيباً للناس في العلم، فَسَهّلوا لما رأوا الناس مالوا عن هذه الشاكلة، وراحوا إلى معاني بعيدة، كمن رأى مقبلاً ففتح له الدار، ثم قال له السيد زين العابدين، على رأيكم عسى غدوة بالأربعاء نسبّر( نبدأ) في المطالعة امتثالاً لأمركم، فقال، إن شاء الله، لأن مرادنا أن تكونوا على عادة سلفكم وأجدادكم، من اعتياد القراءة والتَّصدي لها، ولا تنقطع من بَيْتكم هذه العادة بالكلية، وشغل الوقت بما هو الأحسن
أقول، وقدكان سيدنا أمرني أن أطالع مع السيد زين المذكور، في البخاري والإحياء ضحى يوم السبت ويوم الأربعاء في بيته فطالعنا مدة، فلما حصل على سيدنا مرضه الذي في هذه السنة المذكورة تركنا المطالعة، ثم لما خفَّ عنه استأذنه السيد زين في العود إليها، والابتداء من يوم الأربعاء المذكور، واستمرت بنا المطالعة إلى قرب وفاته رضي الله عنه
(٢/١)
ثم قال نفع الله به، وهذه الكلمات نعتاد نقولها في مجالسنا، لا بد لنا أن نقولها وَذَكَرها، مراده أن نقولها مع السيد زين عند الابتداء في كل مطالعة، فلما خرج السيد زين قلت لسيدنا، عساكم تملونها عليّ أكتبها، فقال نفع الله به، نحن نكتبها ونرسلها لك في وقت آخر، ونحن متريضين، فربما يحصل فيها غلط الآن، حيث طال بنا المجلس، فربما ليس هناك اجتماع خاطر، ثم قال، يا حساوي الكلام كثير، والعمدة إلاَّ على صلاح القلب، فلما كان عشية هذا اليوم، كتبها وأرسلها إليّ بخط ابنه السيد زين، وهي هذه ،
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، نويت التعليم والتعلم، والنفع والانتفاع، والمذاكرة والتذكير، والإفادة والاستفادة، والحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، والدعاء إلى الهدى، والدلالة على الخير، ابتغاء وجه الله ومرضاته وقربه وثوابه سبحانه وتعالى، انتهى ما أملاه السيد الشريف عبدالله بن علوي الحداد باعلوي
وذكر إنه يقوله عند أول ما يجلس لتعليمه العلم، وقراءته عليه، والله تعالى يستجيب ويتقبل من الجميع بفضله وكرمه، وكان ذلك بتاريخ وقت العصر، يوم الثلاثاء لسبع خلت من المحرم أول سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، انتهى بلفظه
(٢/٢)
ذكر بداية قراءة الحبيب عبدالله
وذكر رضي الله عنه في هذا المجلس، أعني مجلس السيد زين العابدين شيئاً من بدو أمره فقال، بعد أن ختمت القرآن، قال لي والدي اقرأ في الفقه، وعندنا نسخة صحيحة مليحة من الإرشاد تحفَّظ فيها، وكان معي طَرَفٌ من عبارة، ولكنها على قَدْرها، وكان سنِّي إذ ذاك دون خمس عشرة سنة، وكنت أجالس السيد سهل الكبش، وكان كثيراً ما أسمعه يذمّ الفقه وأهله، وينكر على أناس من الفقهاء ويذمّهم حتى الشّيخ ابن حجر، فقلت لوالدي، ما أريد القراءة في الفقه، فإن رجلاً من السَّادة يذم الفقه وأهله، فقال، الإنسان ما يستغني عن الفقه، ولا عذر له منه، فقلت، أريد القراءة في "البداية" فقال، مليح وعندنا أيضاً منها نسخة مليحة، وعزمت على حفظها، فحفَّظني الوالد حينئذ من أولها إلى قوله وها أنا مشير عليك، وكان الفقيه باجبير يقرّيء في النِّويدرة، يقرأ عليه كثير من السادة وغيرهم، فرُحت إلى عنده، وحضرت مجلسه، تَقدمةً للاستئذان في القراءة، ومرادي أن أستأذنه في القراءة في مرة أخرى، فأتيته في اليوم الثاني، وقلت أريد أن أتحفظ في "البداية" وأقرأ عليك فيها، فقال، إن حفظ البداية عسر، وعندنا ناس يقرأون فيها، فاستمع عليهم حين يقرأون، وتَحفّظ في "الإرشاد" فوافقَتْ إشارته إشارة الوالد، فقلت، الإرشاد حِفْظه عَسِر، فكيف أتحفظه؟ فقال، نَحْنُ نخلِّي من يحفظك، ويسمِّع عليك فيه، فأجبت لذلك لموافقة إشارته إشارة الوالد، فلقنني تلك الساعة من أول الإرشاد قوله، الحمد لله الذي لا تحصى مواهبه، ولا تنفد عجائبه، ولا تحصر له منن، ولا تختص بزمن دون زمن، فخرجت من عنده وقد حفظت ذلك، فما زلت أستمع على الذين يقرأون في البداية، وأتحفظ عنده في "الإرشاد" إلى أن وصلت إلى محرمات الإحرام، ثم إن السيد أبا بكر بافقيه عزم إلى الهند، وزيّن للفقيه باجبير المسير معه، وأنه قائم له بكل ما يحتاج إليه، فسافر معه وبقي معه
(٢/٣)
في الهند مدة قريبة، ثم وقع بينهما منافرة ومناكرة، فانتقل الفقيه من عنده إلى دقرور فوجد فيها السّيد عبدالله بن شيخ، وكان السيد ممن كان يقرأ عليه، فبقي عنده مدة، وقام بكفايته وجَبْره، ثم إن الفقيه رَجَع إلى حضرموت، فقرأ علينا الإحياء بعد أن رجع، وهذا من عجيب الاتفاق، أن كنا نقرأ عليه في الفقه فرجع يقرأ علينا
وقال رضي الله عنه، حصل لنا من الفقيه باجبير الإسناد في الفقه إلى ابن حجر على اثنين أبيه وأبي بكر بافقيه، فأخذ عن أبيه عن بافقيه، وهو أخذ الفقه عن ابن حجر، قال، وكان ابن حجر يذكر مسائل من "الإحياء" فإذا ذكرها جاء بعبارة الإحياء كما هي حفظاً، وكان يحفظ من "الإحياء"
وقال رضي الله عنه في حديث، (( كُتِب على كل نفس نصيبها من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين زناها النظر إلخ ))، يعني أن هذه الأعضاء المذكورات أبواب الفاحشة، منها يتصل إلى القلب العزم عليها بِسَبب ما حصل من كل عضو بما يقتضيه، ولكن تمام ذلك بفعل الفرج، فبه تتم الفاحشة كلها، ويأثم بها من كل الأعضاء المذكورة، وهو معنى قوله، ( يصدق ذلك الفرج أو يكذبه ) أي يتم ذلك بفعله، أو تبقى ناقصة بما عداه فقط
وقال رضي الله عنه، المقام مقامان، مقام إسلام، ومقام إيمان، فإذا حققت مقام الإسلام، صار هو طريقك إلى الإيمان، ولا طريق إليه إلا منه، ومن أراد الإيمان من غير طريق الإسلام، بقي لا إسلام ولا إيمان
(٢/٤)
ولما مَرّ في القراءة حديث جبريل لما سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان قال رضي الله عنه، الإسلام مجرد عمل فقط، والإيمان مجرد علم وتصديق، والإحسان مشترك بينهما، والأول في الجوارح، والثاني في القلب، والثالث فيهما، والأول ظاهر الثاني، والثاني باطنه، والثالث خالصهما، وهو الغاية من الإسلام والإيمان، إذا اجتمعا صارا إحساناً، وقوله، صَدَقْتَ يشعر بأن بينهما معرفة سابقة، وفي قوله، تشهد، أي تعتقد عن اعتقاد في القلب، ويقين في الباطن، لا إيمان المنافقين، وإيمانهم باطل، وإيمان العوام ناقص، وفي الحديث حث على طلب العلم، وعلى تكرير المعلم على المتعلمين، ليرسخ حفظهم، وعلى تخصيص أكمل الحاضرين بالخطاب
وذكر رضي الله عنه في حديث، (( إن للقبر رجة، يسمعها كل شيء إلا الثقلين ))، ثم قال، حكى لنا رجل وكان ثقة، إنه أتى بعض البلدان، فرأى قوماً معهم جنازة، فأتوا بها المصلَّى، وصلوا عليها، قال، وصليت أنا معهم، ثم حملوها إلى التربة، ومضيت معهم، فلما وضعوها في القبر، هربوا في الحال مسرعين، فعجبت من سرعة مسيرهم وركضهم كأنهم خافوا من شيء، فسألت رجلاً منهم عن سبب ذلك، فقال، إنا في بلدنا هذه ساعةَ نضع الميت في القبر نسمع للقبر رجة شديدة، فنهرب خوفاً منها حتى لا نسمعها
وقال رضي الله عنه في حديث ،(( يأتي زمانٌ القابضُ فيه على دينه كالقابض على الجمر)) ،أي يعسر التمسك بالدين حينئذ، وأكثر ما يشتد على المتمسك بالدين والعلماء العاملين والصالحين
وذكر رضي الله عنه، قوماً أساءوا الأدب مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، كالذي قال، إن هذه قسمة ما أريدَ بها وجه الله، ثم قال، فمن أين عرفوا الله، إلاَّ من نبيه عليه الصلاة والسلام، ومثل هذه الأشياء، تَقْدح في دين قائلها، ومَثَلُها مَثَلُ القائم على جريدة في النخل أو على حبل، وهو يقطع فيه، فيوشك أن ينقطع به فيهوي
(٢/٥)
وقال رضي الله عنه في حديث، (( شر الرعاء الحطمة ))، أي الذي يحطم الناس بالجور، ثم بعد تحطمه النار فالحطمة للحطمة
وقال رضي الله عنه في قول بعضهم، ( الإنقباض موجب للعداوة ) إلخ، أي الإنقباض في الأخلاق، بأن ينقبض مع الخلطة، لا الإعتزال عن الناس
وقال رضي الله عنه في قولهم، ( عجباً ممن يحب نفسه على اليقين، ويَكْره غيرَه على الظن) أي يقيناً من المعصية من نفسه، وظناً منها من غيره
وقال رضي الله عنه، العلم في هذا الزمان إنما هو للبركة، ولكن بشرط أن لا يروا لأنفسهم، وكانوا أي الأولون في غاية التواضع، وأين اليوم العلم النافع في الدين
وقال له رضي الله عنه بعض السادة، هل وقت الإشراق هو وقت الضحى، أم له وقت وحده؟، فقال نفع الله به، من طلوع الشمس يقال له إشراق، ولكن لا تحل الصَّلاة إلا بعد ارتفاعها قدر رمح، ويبقى هذا وَقْتها إلى رمحين، ثم يَخْرج وقت صلاة الإشراق، وبين وقتها ووقت صلاة الضحى، وقت يسمى رادّ، واستشهد ببيت لامية العجم ( والشمس راد الضحى ) إلخ، وهو قدر ساعة زمانية
وقال رضي الله عنه، إنا لا نحبّ أن نحيّر الطالب، بل نعطيه على قدره، وترى أقواماً يطيلون على المبتدين، ويحيرونهم حتى يملوا، ونحن قد طَالعنا كثيراً وقرأنا كثيراً، ونسينا كثيراً، ولكنا لم تَجْر المذاكرة في مسألة ما إلا ذكرنا لها شاهداً من القرآن والسُّنة، وإذا عرضت مسألة تَكَلَّمنا فيها، ولا نراعي حال الحاضرين، وإنما نراعي الوقت والدماغ، ونحب مع ذلك أن الحاضرين يُثْبتون بعض ما تكلمنا به، أو قال بعض المذاكرة، لأن لنا في ذلك شجناً، وإلى الآن نحب الكتب والمطالعة فيها، مع إنّا على ذلك من حين كان سِنُّنا نحو خمس عشرة سنة، حتى إنه يعجبني بعض الكتب التي لم أقف عليها أو وقفت عليها ونَسيْتها
(٢/٦)
وقال رضي الله عنه في الحديث، (( يقول الله لأهل بدر، اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم ))، أي إنهم ما بقي فيهم داعية المعاصي، إنما عملهم كله صالح
وقال رضي الله عنه في حديث، (( إذا اشتبهت عليك طريقان، فاسلك أيمنهما )) قال، هذا إذا كان كل منهما يسلك بك مقصداً واحداً، فاشتبه عليك الأقرب منهما، فأما إذا تحققت أن أيسرهما هو الطريق الأبعد أو الأقرب فاسلكه
وقال رضي الله عنه، كلُّ ما صَرَف قلبك عن الله من علم أو غيره، ووسوستَ به في نفسك، فاتركه، وإن كان من علوم الآخرة، واختلاف العلوم كاختلاف الطرق، فخذ منها ما تَحْتاج إليه، مثل ما إذا كنت مسافراً ورأيت طرقاً كثيرة فلا تَسْلك الطرق كلها بل واحدة التي منها طريقك
وقال رضي الله عنه، العالِم دون المكاشَف والنبي، وهو يعرف طبقات الناس كلهم من العرش إلى تخوم الأرض، ويُنَزّل كل واحد منزلته، وما سمي العالم الكبير ربَّاني إلا لكونه يربي الناس بصغار العلم
وقال رضي الله عنه، في معنى حديث، (( إن الله لينفع العبد بالذنب يذنبه ))، أي ينفعه بنفي العُجُب، بسبب شيء من الصغائر، تصدر منه مرة واحدة، كرؤية غير مَحْرَم، وأما الإصرار على المعاصي، بأن يعملها ويَنْوي ذلك مهما تمكن، فإنه يضر سيما الكبائر، فقد قيل بتخليد من مات مصرّاً عليها، وقوله مع الإصرار أستغفر الله وأتوب إليه بلسانه، لا يَنْفعه لكنه خير من عدمه، وإنما التوبة مع التَّنصل من الذنوب
وقال نفع الله به في حديث، (( الدين النصيحة )) أي إنها داخلة في جميع أجزاء الدين
وقال في حديث، (( من غشنا فليس منا )) أي أظهر خلاف ما أبطن، بِقصد الخدعة في سلعته
(٢/٧)
وقال رضي الله عنه في الحديث الذي فيه ذِكْر أبواب الجنة الثمانية، هذه الأبواب الكبار التي تكون على حائطها، حائط سورها يدخل منها إليها، وإلا فلكل بيت باب، والنَّار سبع طبقات، إذا دخل من باب طبقة إلى أخرى، ينزل حتى الهاوية، والجنة إذا دخل من باب وأراد الآخر ارتفع، وكل منزلة أعلا من منزلة، ولأيّ شيء كانت أبواب النار سَبْعة، قيل لأنَّ القلب يعد في أبواب الجنة دون النار، والإنسان إنما يرجو من فضل ربه، وإلا فما له عمل صالح يرجوا الجزاء عليه، أو كما قال
وسئل رضي الله عنه عن قول، ( سبحان الله وبحمده ) التي يُهْدى منها ألف للأموات، هل فيها لفظ العظيم؟، فقال نفع الله به، ليس فيها، وإذا ورد في الحديث تسبيح، كهذا أو استغفار كاستغفر الله في شيء من المواضع، ولا فيها لفظ العظيم، ثم إنه زيَّد فلا يعُكّر عليه، لأن العظمة وَصْفُه تعالى
وقال رضي الله عنه، وفي الدعاء الوارد في الحديث، (( اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والحرق ))، إن هذه الأشياء، ولو كان فيها شهادة، إلا إنها لا تأتي إلاَّ بغتة، ويكون حِينئذ بِغَيْر استعداد، وما جاء بغتة، يُشْكل ويعسر، وربما يقبض وهو غير راض وذلك مشكل
(٢/٨)
وسئل رضي الله عنه عن الذي استعجل الموت، فقتل نفسه، المذكور في قصة خيبر، هل هو مخلد أم لا؟، فقال، إنه كان مؤمناً، فاستعجل الموت لضرورة، ولعله مات على الإسلام، والله أعلم بحاله، وكونه يَدْخل النار، فما كل من دخلها بمخَلَّد، وقد كان السلف يَتْركون أحاديث الخوف على ظاهرها ولا يؤولونها، وقد استعجل الموت وفعل مثل ذلك ناس كثير، وتعرضوا لسبب موتهم، ونعرف منهم جملة ناس، منهم امرأة من الأشراف، طلبت مُوْسَى فَأُعْطِيَتْه فذبحت به نفسها، وآخر كان يخدم الدولة، ويؤذي الناس فاتفق أن غضبوا عليه الدولة، وأشغلوه فقتل نفسه، فقال السيد عمر بن أحمد وكان من المكاشفين، إنه أرسل إليه الفقيه المقدم من ذَبَحَه
وقال رضي الله عنه في حديث، (( إذا لقيتم المصرِّين على المعاصي، فَالْقَوهُم بوجوه مكفهرة ))، والحديث في الجامع الصغير، قال، أي المجاهرين بها و المتظاهرين بها بلا مبالاة، ولا يجاهر ويتظاهر بها إلا من لا خوف معه من الله ولا حياء، فليبغضهم ويعاديهم ما لم يخش فتنة
وقال رضي الله عنه لرجل من القرَّاء يغلط كثيراً ويَلْحَن، من راح عليه وَقْت التحصيل ولا حَصّل، يعسر عليه التَّحصيل بَعْد ذلك، ويروح وقته بلا شيء، كمن ترك الفخطة أي التأبير في أوانها فأرادها بعد ذلك، فلا تنفع بعد، ونحن ما تَكَلّمنا بهذا إلا بسبب رجل من الجهال، قال فلان قرأ على مَنْ، فنقل ذلك لنا عنه رجل، وقال عنه قال رأيت في النوم أمراً أَتْعبني، وهو أنه رأى أن أسداً أراد يأكل المتكلم الذي قال قرأ على مَنْ، قال نفع الله به، وما نحن بصدد المنافسة، وقد تكلم الإمام الغزالي على السلاطين والأمراء، وحفظه الله منهم، ولا كَلّم بذلك هؤلاء بعد ما تصوَّف، فإنه ينبغي أن لا يُكَلَّموا، وقلنا له، هو بواسع الحل
(٢/٩)
وقال رضي الله عنه في حديث، (( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ))، أي من صدق وكذب، ومن نافع وضار، فينبغي إذا أراد كلاماً أن يَنْتَقِيه، فلا يحدّثْ إلاَّ بما فيه نفع مؤمن، أو دفع ضر عنه
وقال رضي الله عنه، إذا أردت توقيف إنسان يدعي علماً، فاسأله عن علمه المشهور به الذي يدعيه، فإن غلط أو جازف، فاعرف مقداره، والحاصل، إنك لا تسأل الإنسان إلاَّ عن العلم الذي تفرّغ له، وإلا فلا شك أن الفقيه يَغْلط في النحو وبالعكس، ويَنْبغي أن يُحْكِمَ العلم الذي تفرغ له، ويتطرف في بقية العلوم، فالإمام الشافعي مثلاً عالم بالحديث، ولكن ما نَزّلوه فيه، كابن شهاب، ولا ابن شهاب في الفقه كالشَّافعي، ولا هما في السِّير كابن إسحاق
وقال رضي الله عنه، إذا رأيت الجاهل يحتج لجهله فاتركه، ولا تجادله، إلاَّ بفعل إن قدرت عليه، كما أنكر أقوام على الإمام الغزالي لما تصوَّف أرادوه يرجع إلى تَقْرير العلم الظَّاهر، مع أن أكثر انتفاعهم فيها منه، فتركهم وسكت عنهم
وقال رضي الله عنه، كان النَّاس يطلبون الفضائل ليتحلوا بها، واليوم تأمرهم بذلك فيرون أنك أشغلتهم، فضلاً عن أن يتنبهوا لها
وقال رضي الله عنه، الفقيه من عَلِم أسرار الدين، والذي عِلْمُهُ إلا أيَّة أفضل، كذا أوكذا أفضل من كذا ما هذا إلا موسوس
انظر إلى هذا الدعاء الجامع
وقال رضي الله عنه لبعض السادة، أكثر من الدعاء بهذه الكلمات، اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، وتوفني مُسْلماً، وألحقني بالصالحين
وقال رضي الله عنه، رأينا كثيراً من العقائد، ولم نر لأهل هذا الزمان أنفع من عقيدة الإمام الغزالي للمُبْتديء منهم والمنتهي، ولكن منتهيهم مبتديء
وقال رضي الله عنه، أمور الآخرة لا يَسَع الإنسان فيها إلا التَّصديق والإجمال وعدم التأويل
(٢/١٠)
وقال رضي الله عنه في حديث، (( من تصدق فقد فك لحي سبعين شيطاناً ))، يعني خالف صفات الشياطين، فَشيْطان يأمره بالبخل، وآخر يخوفه الحاجة، وآخر يأمره يؤُخّره، ونحو ذلك إلى سَبْعين شيطاناً من هذا القبيل، فإذا تصدق فقد خالف جميع هذه الدواعي
وقال رضي الله عنه، في معنى ما ورد أنه ينبغي أن يدار بنحو الماء على اليمين، قال، هذا إذا كان يدار بإناء واحد فقط، وأما إذا تعددت الآنية فالإنسان مخيّر فيما في يده، لأن ما فيه له يعطيه من أراد، ممن كان عن يمينه أو شماله أو غيرها
أقول، وذلك كما هو المعتاد في حضرموت في أدنان الماء، كل واحد يعطى دنَّا فيه ماء له، يستبد به، وذلك هو سبب كلام سيدنا هذا، فإنه لما شرب ناوله بعض السادة، فقال ما قال، لئلا يتوهم أحد ممن سمع الحديث، فيقول في نفسه ينبغي الإدارة على اليمين، وربما خَطَر ذلك في خاطر أحد من الحاضرين، فقال هذا الكلام المذكور مكاشفة منه له
فائدة جليلة
وقرأ رضي الله عنه على رِجْل شخص فيها قرحة، عجز عنها الأطباء والمداوون ـ هذه الكلمات، وقال لي، أحفظها، فإنا نرويها عن سلفنا، ( يا ذا النبت المنبوت، مت في بدن من يموت، بقدرة الحي الذي لا يموت )
وقال رضي الله عنه في خبر، (( إذا هاجت الفتن، فعليكم باليمن ))، قال، وهذا هو الذي نشير به في الحياة وبعد الممات، لمن يسمع كلامنا أن يرجع عند هيجانها إلى حيث خرج الدين، والحرمين تُسَمَّى يمن
آ يات تقرأ للعين
ومر في قراءة تفسير البغوي، قوله تعالى، { وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} إلى آخر السورة، أنها دواء للعين، فقال نفع الله به، وفي الحديث، (( ثمان آيات دواء للعين))، الفاتحة سبع، وآية الكرسي الثامنة فينبغي أن تضاف هذه الآية إليها
(٢/١١)
وذكر رضي الله عنه العين، فقال، ينبغي أن يشوّش الأمور، لئلا يراها من يخاف منه العين، وأنا ما أوسوس إلاَّ من العين، لحديث، (( لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ))، ومن آخر أربعاء، لقوله تعالى، { يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ }، وإن كان بعض المفسرين قال، على عَادٍ بالخصوص، فإنهم قد عُذّبوا فما وجه استمراره، وقد فُسّر {إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}، أنه خاف على بنيه العين، فيَنْبغي سؤال اللطف والستر
ما يقال عند شرب القهوة
ورأيت مكتوباً عنه رضي الله عنه، أنه يرتب قراءة الفاتحة وآية الكرسي مع شُرْب قهوة الصّبح، والفاتحة، ولإيلاف قريش، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل هو الله أحد مع شُرْب قهوة الظّهر، ومع شرب قهوة السَّحر خاصة يا قوي ١١٦ مرة كما هو مأثور، وفي غير ذلك الفاتحة فقط، ومع آية الكرسى في الغالب
ذكر إبتداء تدريسه نفع الله به
وقال رضي الله عنه، ما كان لنا رغبة في التَّدريس، إلا رجل من آل بافضل قال، أريد أن أتبارك عليكم ما تيسر في "رياض الصالحين" فجاء السيد حسن الجفري، وقال، أريد أن أقرأ ما تيسر في العوارف، وطلب الفقيه باجبير القراءة في حزب البر، فتراسلت القراءة، فلما رأينا النَّاس متراسلين على القراءة، رتبنا أوقاتها وقرأ علينا في مكة وفي المدينة خَلْق في "الإحياء" وفي غيره، ولم يتم من قراءة كتب "الإحياء" إلا كتاب رياضة النفس
(٢/١٢)
وقال رضي الله عنه، مقصودنا في كتاب "النصائح" أن يكون سلساً واضحاً يَفْهمه كل من نظر فيه ممن له فهم ويَكْتفي به، فإن لم يكتف، وإلاَّ يكون مشوقاً إلى أبسط منه، وسماه بعضهم حاء الإحياء، لكن في هذا الزمان ما قيل حاء، ولا تاء، بل ضُرب بعضهم ببعض، ووقع الضرب في أهل الدين، لكن الجهال ما لهم جواب، ولا يرد عليهم، والسّكوت عنهم أحسن، كما فعله الإمام الغزالي آخر عمره، فسكت عن الرّد على المبتدعة، وقد رَدّ على علماء وسلاطين، وقُتِل جماعة من تلامذته في الفتنة، منهم رجل يقال له محمد بن يحيى، شَرَح الوسيط، والدّين في جزيرة العرب أقوى منه في غيرها، فمن أدركته فتنة فيها، فليفر بدينه من مَوْضعه إلى موضع آخر منها، ولا يتعداها إلى غيرها، لأنّ الفتنة في غيرها مشكلة جداً، وإذا لم يفر يكَلّف أو يَتكلف، وكلاهما شر
وقال رضي الله عنه، هذا زمان العالم فيه أبكم عن الحق، والجاهل فيه أصم عنه، فلا العالم يتكلم به لمداهنة وغيرها، ولا الجاهل يستمعه، لاستغراق الكل في طَلب الدنيا، وعَدم المبالاة بالدين، فمن أين يحصل الأمر بالمعروف وامتثاله، ومن أين يحصل النهي عن المنكر واجتنابه
وقال رضي الله عنه، عادات السلف أحسن من عاداتنا بل من سَنّنا
وقال رضي الله عنه، للشيخ عبدالله بن أبي بكر علينا مَشْيخة، باطناً من غير إسناد، وظاهراً بإسناد واتصال إليه
وقال رضي الله عنه، العلم سيف على الجهل، يقطعه عن من اتصف به، وأهل هذا الزمان لم يأخذوا السيوف، ليؤمِّنوا بها الطرق، وما أخذوها إلا ليقطعوا بها الطرق
وقال رضي الله عنه، قيل، ما عمارة الدين؟، قيل، الورع، قيل، وما خراب الدين ؟، قيل، الطمع، وهذا متداول
وقال رضي الله عنه، كل حياء يمنع من خير فهو جبن، وليس هو من الحياء المحمود، وإنما المحمود ما مَنع من مباشرة مذموم، شرعي أو طَبْعي
(٢/١٣)
وقال رضي الله عنه، الركعتان اللّتان قبل المغرب، لا نأمر بهما، ولا نَنْهى عنهما
وقال رضي الله عنه، ما أقمنا من أول الأمر إلا على الطريق العامة، وأما الخاصة فقد انطوت
وقال رضي الله عنه، لو أملينا عليكم في الأذان لعجبتم، وسمعتم مالم تسمعوا
وقال رضي الله عنه، ينبغي أن تكون السورة التي تقرأ بعد الفاتحة في صلاة التسبيح، من السور التي عدد آيها عشرون كسبح الأعلى
وقال رضي الله عنه، كل كتاب فيه باب هو عين الكتاب، ترجع كل الأبواب إليه، وما يقع فيها من الإطلاقات فهو يقيدها
ومر في حديث، ذكرُ الجنة والنار، فقال، لا محالةَ إن الجنة أوسع، لأن لأهلها فيها منازل واسعة، وممالك مُطَّردة، ولا محالةَ أن أهل النار أكثر، لأن ما لأحدهم إلا مِفْحص رجله، وإن غلظت أجسادهم
وقال في حديث، (( رب أشعث أغبر ذي طمرين الخ ))، هو فقير قانع بِفَقْره، ولا يريد خلاف ذلك، ذو تقوى مؤدِّياً لحق الله فيما أمر أو نهى، ذو ورع لا يأكل إلاّ حَلالاً، وأما فقير ذو طمرين لا يُبَالي من أين أكل، من حلال أو حرام، فما فضيلته، فالحاصل أنه لا فضل إلا مع التقوى والدين، لا بشرف الآباء ونحو ذلك
وقال رضي الله عنه، المعاصي إذا عَمَّت عم ضررها، وإذا خصت خصّ ضررها، التالية أن من علم بها ولم ينكر يأثم، وإلاَّ فإنما إثمه على نفسه، أى إذا لم يطلع عليها أحد
وقال رضي الله عنه، لا بُدَّ في الإمام المقتدى به من السِّيرة والسريرة والصورة فالسيرة هي الطريقة، والسَّريرة هي حسن الخلق، أن لا يكون فظاً ولا غليظاً ولا وحشاً
وقال رضي الله عنه، الجهال صغار العقول، لا تجالسهم فإنهم كالنَّار، ولا تجيء في طريقهم، ويجيء منهم مثل ما يجيء للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من أبي جهل وأمثاله، إلاّ إن أولئك كفار، والجاهل ما يرجع من شيء
(٢/١٤)
وقال رضي الله عنه، أهل العلم متواخين، وأهل الجهل متواخين، إلا أن الأخوة متقاربة ومتباعدة
وذكر رضي الله عنه، قراءة القرآن وما يحصل فيها من الغلط، فقال، احرصوا على أن تؤدوا ( وهنا بقي بياض، ولعل، أن تؤدوا القرآن كما أنزل ) واحذروا نقصانه، أو زيادته، أو إبداله بآخر، ونحو ذلك، وأنا أكثر ما يشتبه علَيَّ الواو بالفاء في بعض الكلمات، ولو كنت ممن يقرأ في المصْحف لما قرأت إلا فيه، ولو كنت في الصَّلاة، لأنه إذا كان قد اختلف في رواية الحديث أو قال قراءة الحديث بالمعنى، حتى يأتي به بلفظه، فكيف بالقرآن
وقرأ رضي الله عنه يوماً في حلقة القراءة في رمضان وذلك يوم الثلاثاء ١٤ منه سنة ١١٢٥ سورة سأل سائل فقال لي، لو سُئلتَ عن غَرِيب هذه السورة، أكنتَ تجيب بديهة من غير مراجعة، فقلت، لا، ولا غيرها ثم قال نفع الله به، لولا تغير الزمان لَوَضعنا كتباً في مثل هذه الأمور، ولكن كيف وقد تَغيّر قبل اليوم بزمان، وما عليهم إلاّ أن يقيموا حروفه
وقال رضي الله عنه، دخل سلمان الفارسي رضي الله عنه بلد المدائن، فحف به النَّاس من كل جانب، يريدونه يحدثهم، فجعل يقرأ سورة يوسف فلم يزل الناس يَتَصدّعون، حتى لم يَبْق أحد منهم، فقال، زخرفاً من القول أردتم
(٢/١٥)
وقال رضي الله عنه في قول سفيان الثوري، طلبنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا لله، قد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله، أنه إن كان العلم من أمور الآخرة، التي فيها التخويف فهو كذلك، يمكن أن يجرّه ذلك إلى الإخلاص والرجوع إلى الله، وإن كان في الفروع النادرة من الفقه فإنه لا يمكن فيها إصلاح النية، بل لو كان له نية في طلب العلم فإذا جاء عند هذه المذكورة فسدت نيته، وتفاريع الفقه ما لها طرف، حتى أهل الزمان لو أرادوا ذلك يمكنهم، ولا حاجة فيها إلاّ إن كان لإشحاذ الذّهن كما ذكروا في الخنثى، فإنه أخذ نصف العلم في الوضوء، والغسل، والصلاة، والمواريث، وغير ذلك ولم يوجد، ومن تأمل تصانيف المتأخرين، رآها تقصر عن تصانيف السابقين، لأنها أوضح، ونياتهم أحسن من نياتهم، إلاّ إن كان نَوَوا أن يكونوا منظومين في سلك من أحيا الشريعة ونصرها، ولو سئل ابن حجر وغيره ماذا نووا في ذلك، لا يقولون إلا كذلك إن شاء الله
وقال رضي الله عنه في حديث، (( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ))، فقال، يختلف الغدر، فغدر في حقِّ الله، وغدر في حق رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وغدر في حق الخلق على حسب أحوالهم، وغدر في حق نفسه
وقال رضي الله عنه، في ما ذكروا في الخشوع في الصلاة أن لا يعرف من على يمينه أو يساره، فقال أي إذا لم يكن قد عرفه قبل الدخول في الصلاة، وإلا فَقِدْهُ يعرفه، فإن لم يعرفه إلا فيها، فإن ذلك خاطر خطر له في الصلاة
وقال نفع الله به لرجل يوصيه، إلزم كل مكان تصفو لك فيه طاعتك، ويطمئن فيه قلبك، إن كان وطنك أو غيره، وقال لآخر يوصيه أيضاً، الله الله في الدعاء في المجامع وفي مجالس السَّادة، وحال اجتماعهم، فإن الدعاء كالسهام، إن أخطأ هذا، أصاب هذا
وقال رضي الله عنه، بالأدعية وحضور المجالس المحضورة، ومجالسة أهل الخير، فبمثل ذلك يكون التعرض
(٢/١٦)
وقال رضي الله عنه، اطلعنا على جملة من العلوم من غير قَصْد منا لذلك، وينبغي أن يطلع على أوائل العلوم، ليحصّل من كل علم حظاً، وأما التبحر فلا ينبغي إلاّ في العلم بالله وصفاته وملائكته واليوم الآخر
وقال رضي الله عنه، في قولهم، ( إن النفس إن لم تشغلها أشغلتك ) أي إن كنت من أهل الدين فأشغلها بالعبادات والأوراد وتقليل العادات، من الأكل وغيره حتى الماء البارد أي أيام الصيف لا تكثر لها منه، وإن كنت من أهل الدنيا فاشغلها بالعوائد الحسنة، والأمور المحمودة، فإن لم تُشغل بذلك تَفرَّغَت للتفكر في أمور غائبة مذمومة، وَدَعَتْه إليها، ومن طَبْع النفس أنها إذا حُبست عن أمرٍ الضيقُ وإن كانت في سعة، وإذا أُطلقت الراحةُ وإن كانت في ضيق، كما لو كان صائماً فيحس الثقل من الصّوم من أول النهار، وإن لم يكن جائعاً، وإذا كان مفطراً استراح ولو تأخر عنه الغداء عن حِلّه المعتاد
وقال رضي الله عنه، في حديث، (( من احتكر على المسلمين طعاماً ابتلاه الله بالإفلاس والجذام )) ذكره في الجامع الصغير، فقال، إما الجذام الظاهر أو محق البركة لأن الجذام المحقُ، فَيمْحق ويُفْلس من الدنيا مع إفلاسه أيضاً من الدين لأن الغالب ما يفعل ذلك أحد إلا افتقر قبل أن يخرج من الدنيا
وقال نفع الله به في حديث، (( والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه ))، قال، البوائق التطلع إلى عوراته، والإستشراف في بيته من غير إذنه، ونظره إلى أهله، واحتقاره، ونقله لكلامه، وخون أمانته
وقال في حديث، (( قل هو الله أحد ثلث القرآن، والزلزلة نصف القرآن، والكافرون ربع القرآن ))، ونَحْو ذلك، قال إن هذه أسرار لا يُطلع عليها إلا بنور النبوة
(٢/١٧)
وقال، في حديث، (( الجار قبل الدار )) أي إذا أردت نزول دار فانظر فيها واختر مجاورة أهل الصلاح والستر والصيانة، ولا تجاور معروفاً بالفساد، والتَّطلع على العورات، فربما تطَّلَع على عورتك، و تشرَّف عليك وعلى أهلك، فاختبر حال الجار أولاً قبل نزولك في جواره
وقال رضي الله عنه في حديث، (( اطلبوا الحوائج بعزة النفس )) أي اطلبوها بعز، ولا تطلبوها بالتضعضع، لأن التضعضع ليس من أخلاق المؤمنين
وقال في حديث ،(( أعدى عدوك زوجتك التي تضاجعها وما ملكت يمينك )) أي لأنه يقع منهم بلايا، وأقلّ الحال أنهم يوقعونك في طلب الدنيا، إن لم يكن معك شيء
وقال رضي الله عنه في حديث، (( من أخذ أموال الناس يريد إتلافها، أتلفه الله )) إلخ، هو من يستدين و نيته إن تيسر له أدَّى وإلا ترك
وقال في قولهم، ( الجوع المفرط مفسد للفكر ) أي إنه إذا كثر عليه الجوع يرى أشياء يظنها أنواراً ومكاشفات ونحوها، وليس كذلك، إنما هو من فراغ الدماغ، إنما الجوع المحبوب يكون إختياراً بالتدريج
وقال رضي الله عنه، الجوع الإضطراري مضر، وإنما المَطْلوب الجوع الإختياري كما يَفْعله الصالحون، وهو المعروف من حالة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه، فمَن بَعدَهم
وقال رضي الله عنه، الجوع المستعاذ منه في الحديث، (( أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ))، هو الجوع الإضطراري الذي يُشْغل الخاطر كثيراً حتى تتغير عليه حوائجه، وأحوال دينه ودنياه، وغير ذلك من المضار الدينية والدنيوية، وأما الجوع الإختياري فهو محمود، فقد كان صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يجوع الثَّلاثة الأيام أو أكثر
(٢/١٨)
وقال رضي الله عنه، ذكر الشعراوي أن من دعا إلى الله في هذا الزمان، أن مَثَله كمثل المعلم، إذا فتح المدرسة لتعليم الصبيان القرآن عند غروب الشمس، فلا يجيئه منهم أحد، ولا أحد يرسل إليه ابنه في ذلك الوقت لضيقه، وهو أي الشعراوي مع ذلك في القرن العاشر، فكيف في زماننا الآن؟
وقال رضي الله عنه، نحن تطرفنا في كل علم، حتى إذا وقعت المذاكرة لا يَبْقى الإنسان جاهلاً بشيء منها، وما العلم الصَّحيح بعد معرفة كلام الله ورسوله، إلا عِلْم التَّصوف، وأخذنا كثيراً من علم الأدب، وأكثرَ الناسُ من تصانيف الفقه، والحديثُ أحسن
وقال رضي الله عنه، إذا الإنسان أمعن في شيء فلا عاد يزاحم أهله، فإنهم ربما زاحموه فلم يحسنوه، لأن المزاحمة من طبيعة الآدمي، ولا يخلو الثمر من شوك، ما هو إلا بين قليل أو كثير، وإذا أردت علم ما لم يمكنك أن تحيط به، فخذ أصوله، فمن أين يفرغ الإنسان لمطالعة العلوم كلها، ومن اشتهر بشيء من العلوم، وإن كان يحسن غيره، نسب إليه وسئل عنه
وقال رضي الله عنه، لرجل كان يقرأ في "منهاج العابدين" عندما وصل إلى ذكر الأكل وكثرته، كيف قرأت هذا الكتاب في الخانقة، وهم إلاَّ يدوّرون للأكل والشَّهوات، أيلعبون بكتب الأئمة، ومثل هذه الأماكن لا يليق بها إلا طلب الفقه والنَّحو، ونحو ذلك وأما قراءة كتب التصوف فلا تليق بمن هذه حالته، لأن عملهم مخالف لذلك، والعلم بخلاف السيرة يمحق العبد، وقد أرسل بعضهم إلى آخر، وكان من الرجال كيف تقرأ في "الإحياء" وأنت كذا وكذا، وكان مستقيم الحال إلا إنه ببعض السيرة يخل
(٢/١٩)
وقال رضي الله عنه، كنا أردنا أن نجعل القراءة قارئاً واحداً، ولا أولى من قراءة آية الكرسي، وقد كان كذلك جماعة من الأكابر، فيتكلم على الذي يقرأ ويقرره، ويَمْتد به الكلام حتى يخرج إلى ما يناسب كل أحد من الحاضرين، فيأخذ كل من الكلام ما يوافقه، ألا تسمع كلام الشيخ عبدالقادر، كيف يقول يا فلان، يا غلام، فيكلم كل واحد ويخاطبه بمقتضى حاله وما يناسبه، ولكن لا يَسْتقيم هذا إلا لمن استوى عنده الذَّامّ والمادح، والمعطي والمانع، والمحب والشَّاني، فإذا استوى عنده النَّاس بمثابة واحدة، تأهَّل لذلك، ونحن نرى النَّاس كلهم سوى، لأنهم كلهم خلق الله، والكلام كذلك فيه مشقّة اليوم، وأسهل منه الإيصاء بالدِّين والتقوى، وفيه كفاية من ذلك، وأسهل منه، وقد اكتفينا بذلك، وذكرنا ما يحتاج الناس إليه
وجاء في القراءة في حديقة بَحْرق تعداد فوائد الذكر وتَفْصيل ذلك، فقال نفع الله به، يظُنُّ الناس أن المراد بالذكر أن يقول بلسانه ( لا إله إلا الله ) وهذا غلط، والرجل كان يذكر فيه حدّة، والحديد يكون في كلامه في كل شيء مبالغة من جنس ما يتكلم فيه، لكنه يكون ثقيلاً في الطَّبع، وكلامه مليح، لكن فيه المبالغة، وهذا كلام قد نخله الإمام الغزالي
وذكر رضي الله عنه القراء فقال، هؤلاء الصّغار كل يريد إلا قراءته لنفسه، وإلاَّ فما ينبغي أن يُقرأ علينا إلا آيات من القرآن، فما أحسن ولا أبرك من كلام الله، وقال، ورَغْبتهم في القراءة لأجل الدنيا، وإن كانوا من المتصدّين للقراءة، لأنهم يحبُّون أمور الدنيا، ولا يقال له ممن يريد العلم اللدني، حتى لا يفرح بأمور الدّنيا، وإن كان الزهد من وراء ذلك وإنه لا يصلح للزهد كل أحد
(٢/٢٠)
وذكر رضي الله عنه المعاملات الفاسدة، فقال، لهم في السَّلَم بشروطه وفي القراض وبيع الصَّبْرِ بأقل، مندوحة عن الرباء، ولكن الشيطان إذا أغرى الإنسان بشيء، ما يغريه إلا بالذي يُهْلكه، وهذه الحِيَل ما كنا نعرفها، ولكن ما عاد الناس مُعوِّلين بشيء، وكذلك تَزْييد بعض الورثة على البعض في الميراث، وكانت لنا جدة من آل الحَبْشي، ولها أخ وكانت في خدمة أمها، فقالت أمها يوماً لأخيها، أريد أن أقسم مالي بينك وبين أختك، هِبَة مني الآن، فسكت فلما فرغت من كلامها قال لها، يا أُماه قولي لربك إنكَ ما تعرف القسمة، يعني أنه كَره أن تَجْعل البنت كالولد في ذلك، وكان الرجل زاهداً في الدنيا جداً لكنه ما أراد أن تفتح هذا الباب
وقال رضي الله عنه، ظاهر اليد والإسلام سببان كافيان في حل المال خصوصاً في هذا الزمان، إذا لم يكن لهما مدافع، ومَرّة قال عندما قرأ القاريء في "رسالة المعاونة" في فصل وعليك بالوَرَع عن المحرمات والشبهات، حتى وصل إلى قوله، ( الناس بالنسبة إليك ثلاثة أشخاص، الأول شخص معروف عندك بالخير والصلاح، فكُلْ من طعامه، وعاملْه إذا شئت، ولا تسأل ) فقال عند ذلك لأن في هذا ثلاث علامات، تدل على تَحْقيق حِلّه، وهي الإسلام، واليد، وظاهر الحال
وقال رضي الله عنه، الشك ماله سبب أو قرينة، وهو الشبهة، ويَنْبغي أن لا يُقدِم عليه حتى يَتّضِح، فإن لم يكن عن سَبَب ولا قَرِينة فهو وَسْواس، وخواطر لا عمل عليها
وقال رضي الله عنه، في قولهم ( الصيام قطب الرياضة ) قطب الشيء الذي يدور عليه، كعود الرحا قطبها الذي تدور عليه، وقطبها أي عليه مدار الرياضة المعروفة في طريق القوم
(٢/٢١)
وقال رضي الله عنه، الدنيا ٣٦٠ جبلاً وحضرموت جبلان منها، وهي بلاد مؤسسة وكان الذين أسسوها أهل قوة، فهل بلغكم تريم ابن من هو؟ فقال السيد زين العابدين، يقال بينه وبين الإسلام ثلاث آلاف سنة، ثم انجرَّ الكلام إلى مكة وجبالها، وإن في المسجد الحرام قُبُور بعض الأنبياء، فقال السيد زين العابدين، أراناها بعض النَّاس في الحِجْر، وعليها علامة، فقال سيدنا، هذا فضول منه، فلو جاء أحد يبحث ما وجد شيئاً، ولكن من أخذ بالذيل لا تسأله عن الرأس، وإن ذلك مذكور في شيء من الكتب، ومنها ما هو مذكور في كتاب ابن ظهيرة، ثم قال، لكن كتاب الأزرقي خير منه، وكتب المتأخرين ماعاد توافقنا، ولا خاطري يَقْبلها لأنهم متكلِّفون كالذي خرّج على حديث جابر ألف ورقة، تكلف فيها فما يتم المطالع الكتاب إلى آخره إلا ونسي أوله، وإذا أردت تنقل أمراً فانقل أمراً بين أمرين، واحذر من التّعنت والاستقصاء، ثم أطال الكلام في ذلك إلى أن قال، هذا عزيز ونادر جداً
وقال رضي الله عنه، في قولهم، ( العمل بالعلم ) أي يعمل بما يقدر عليه منه، ويتعلم منه ما يقدر عليه، ويعلّم منه ما يمكنه وعلى هذا وأما معرفة كل العلم، والعمل بكل العلم، فمن يَقْدر عليه؟، ولكنه مع ذلك يعتقد أنه ما بلغ تمام العلم، لا في العمل، ولا في المعرفة، ولا في التعليم
(٢/٢٢)
وسألته رضي الله عنه، عن معنى قول الإمام الغزالي في الشهوة والغضب، أنه يسلّط أحدهما على الآخر، فقال، التَّسليط العرفي، أو قال، الحسي ونحوه، وهو إذا كان طَبْعها يقتضي فعل شيء، فهو الشهوة، والغضب عليها يَقْتضي تركه، فهو الغَضب، فإذا غلبتك في الأكل حتى أكلت كثيراً، ثم بعدُ ذكرت ما فَوّتت عليك من الفضيلة وثواب القناعة، تأسفت على ذلك، حتى غَضبت عليها، وهمَمْت على أن تخالفها فيما تدعوك إليه، فهذا مَثَل التسليط المذكور، أو نِمْت حتى فاتتك الفَريضة أو قِيَام الليل حتى تأسَّفت، أو عَزَمْت على أن لا تنام إلا أربع ساعات فغلبتك عَيْناك حتى نمت ست ساعات، فَتعبت من ذلك، فهذا هو الغَضَب عليها، وتسليطه على الشهوة أو كما قال
وقلت له رضي الله عنه، إذا كان الإنسان يعمل شيئاً من الطاعات، ولم يعلم بشيء مما يفسدها، هل يَتَطَرَّق إليها مُبْطل؟، فقال، لا، إلاّ إن كان يعلم فيها شيئاً من المبطلات، ولا عبرة بالوسوسة ولا تضر، فقلت، فإن وقعت الوسوسة في الصَّلاة، حتى غَيَّرت قلبه، وأشغلت خاطره، هل يضر ؟ قال، لا، إلاَّ الكمال فلا تكون صلاته كاملة، ودواها الإعراض عنها
وقال رضي الله عنه، الدلائل العَقْلية والبراهين تشكِّك، لأنها إنما وضعت للمحاججة مع الكُفّار، والمؤمن لا يَحْتاج إليها، لأنَّ من عرف زيْداً مثلاً، فقيل له انظر إن هذا زيد، إما يشككه فيه، أو يَمْقته الآخر، والبراهين التي عليها المعول براهين القرآن، كيف وكُفَّار قريش لم يَكْذبوا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، في قوله لهم، إن لكم إلهاً خالقاً، وإنما كَذّبوه في الوحدانية وأنهم لم يروه
(٢/٢٣)
وقال رضي الله عنه، في قول صاحب العوارف، إن النفس الحيوانية تولدت من الروح الرباني العُلوي، كما تولدت حواء من آدم، للتوالد وحصول الذرية، فيتولد من النفس الجسمية، والروح، ثم قال سيدنا نفع الله به، كلام الشيخ هذا لا يوافق عليه، وما وافقه عليه أحد من الأكابر، لأنها لو خلقت منه لكانت طيبة مثله، وليس كذلك، وهذا من مشكلات الكتاب، فقد ذكره زروق في الكتب المشكلة، ككتب ابن عربي وغيره
وقال رضي الله عنه في حديث، (( إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن، وعلموهن نساءكم وأبناءكم فإنهن صلاة وقرآن ودعاء))، قال، أي ينبغي تعليمهن ذلك وإن لم يمكن تُكتب وتعلق عليهم، وإن جمع لهم بين ذلك فحسن، وإن أمكن نزعه عند دخول الخلا فليفعل
وقال رضي الله عنه في حديث، (( إن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل ))، قال، فعلى هذا إن الذي أخطأه النور أكثر ممن أصابه، لأن أهل الضلال أكثر من المهتدين
ما قال فى رؤية النبى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم
وقال رضي الله عنه، رؤية النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في صورة رجل صالح، هي بشرى من الله، أو على صورة من ليس من أهل الصلاح، ففي ذلك إنذار للرائي، يدل على أنه شرير، وأما من قال شرط رؤية النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أن تكون على صورته المنقولة، حتى يرى رباعيته التي كسرت، فذلك غُلُو، وقد ذُكِر، إن الشعراوي سأل الله أن يريه مقامه، أو قال مَنْزلته عنده، فرأى أنه على مَطْرحة محشية شَوْكاً، فاستدل بذلك على أنه بقيت فيه بقايا، ماتَطَهَّرَ منها إذ ذاك، وكان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يَسْأل الناس من رَأى منكم رؤيا يَقُصّها عليه، كان ذلك منه أول الأمر، ثم وقعت له رؤيا فلم يسألهم بعدها
(٢/٢٤)
وقال رضي الله عنه، في قول القائل ( وما من يد إلا يد الله فوقها ) إلخ، هذا مشاهد من أفعال الله، من تأَمّل أفعال الله في الوجود، وما نَصَّه الله في آيات القرآن، استغنى عن أشياء كثيرة، وإذا حصل له المعرفة الكُبْرى، معرفة الوحدانية بأي وجه كان فهو المراد، فَكَيف وقد ملأ العوالم كلها، ولكن الجسم المخدور لا يحس بدخول الإبرة، وأنشد رضي الله عنه يوماً،
لي حيلة فيمن يَنُمُّ وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
وأنشد أيضاً،
الكلب أحسن عشرة وهو النهاية في الخساسة
ممن يطالب في الرياسة قبل أوقات الرياسة
وقال نفع الله به، هذا البيت لأبي العتاهية، ولم يسبق إلى مثله قال أي ما سبقه أحد إلى المعنى، لا أنه ما سبق بالبيت وهو ،
ما كل قول له جواب جواب ما يَقبُح السكوت
ويجد المجوب في السكوت عن جَواب من لاَ يعرف لذة، لأنه لو تكلم شغل نفسه مع من لا يعرف بلا فائدة، وله أيضاً ،
تعالى الله يا سلم ابن عمرو أَذَلّ الحرص أعناق الرجال
ثم قال نفع الله به، للشعر موقع عند العرب، ويسمونه ديوان العرب وتكَلَّم كثيراً، ثم قال، هذا هو معنى، الحديث أشجان، ومثله يُنْهى عنه في الصلاة وإن لا بد فتُزْجى به الأوقات
وقال رضي الله عنه لي يوماً، هات سفينتك، فأتيته بها، فقال، اكتب، وأملَى عليّ أبياتاً في معان متفرقة من حِفْظِه نفع الله به، منها هذان البيتان للخليل بن أحمد ،
ألم ينهاك شيبك عن صباكا وتترك ما أضلك من هواكا
وتنكر أن يطيعك قلب سلمَى وتزعم أن قلبك قد عصاكا
قال، و بيتان آخران ،
قد بقينا مذبذبين حيارى نطلب الوصل ما إليه سبيل
فدواعي الهوى تخف علينا وخلاف الهوى علينا ثقيل
قال وبيتان آخران ،
ومن العجائب والعجايب جمة قرب الحبيب وما إليه سبيل
(٢/٢٥)
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
ثم قال، وبيتان آخران ،
تواضع تكن كالنجم في أفق السما يُرى صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخَّان يرفع نفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع
ثم قال، بيت آخر ،
إن الرجال صناديق مقفلة وما مفاتيحها إلا التجاريب
ثم قال، بيتان آخران ،
إذا كنت قُوتَ النفس ثم هجرتها فما تصنع النفس التي أنت قُوتُها
تعيش كعيش الضب في الماء أو كما يعيش ببيداء المفاوز حُوتها
وسمعته رضي الله عنه يقول، هذان البيتان للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، مجرب تكريرها بسرعة الفرج، وهما ،
توقع صنع ربك سوف يأتي بما تهواه من فَرَج قريب
ولا تيأس إذا ما ناب خَطْبٌ فكم في الغيب من عجب عجيب
وكنت كثيراً ما أسمع سيدنا نفع الله به يتمثل بِشَطْر هذا البيت، فأين الله والقَدَرُ، مراراً متكررة، في أوقات متعدِّدة، في أزمنة متطاولة، ولم يذكر ما قبله، ولا ما بعده، وكنت أرغب في تمامه، ولا سألته عنه، فرأيته في بلد الحَسَا في جملة أبيات، وهي ،
يا من ألح عليه الهم والفكر وغَيَّرت حالَه الأيام والغِيَرُ
أما سمعت بما قد قيل في مَثَلٍ عند الإياس (فأين الله والقدر)
خَلّ الخطوب إذا أحداثها طرقت وأصبر فقد فاز أقوام بما صبروا
فكل ضيق ستأتي بعده سَعَةٌ وكل فوت سيأتي بعده الظَّفر
وجاء في كتاب المحبة من "الإحياء"، ما ذكره يحيى بن معاذ عن أبي يزيد أنه رآه واقفاً على قدميه، حتى قال، أدخلني في الفلك السفلي، إلى آخر القصة، ونحو ذلك، فقال، هذه واقعة حال، أو كُبْر حال، أو من تَسَاهل النَّقلة، كما ترى من تساهلهم في المجالس اليوم، وهذه أشياء قَلْبية، والمراد أنها جائزة في قدرة الله ولا عليك، والجائز غير المحال، والمحال غير المستبعد، لأن المستَبعد قد يكون واقعاً، والمحال ما لم يقع
(٢/٢٦)
وقال رضي الله عنه في حديث خوّات بن جبير رضي الله عنه لما مرض فعاده صلَّى الله عليه و آله وسلَّم فقال له، كيف تجدك؟، قال، بخير يارسول الله، فقال عليه السلام له، أوف لله بما عَاهدته عليه، فقال، ما عاهدت الله بشيء، فقال سيدنا، أي، إن كل مؤمن يمرض، يتأَسَّف على ترك الطاعة والإقبال على الله حال صحته، ويَحْصل له عزم على الجِدِّ في ذلك إن عافاه الله وعاد إلى العافية، فقال عليه السلام له ذلك مذكّراً له بهذا العزم، أن يفي به لما رآه متعافياً
وقال رضي الله عنه، في حديث إذا دخل رمضان صفدت الشياطين، أي ما عدا الشَّيطان الكبير، وهو إبليس فلم يرد فيه نَصّ، ولو كان كذلك لما تعرض لهم يوم بدر، حيث أخبر الله عنه بقوله، { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } الآية
ووقعة بدر كانت في رَمَضان وحَظّ أعوانه من الإغواء أكثر منه، فإنه ماله من العمل إلاّ الوَسْوسة، فيوسوس له في الأمور المذمومة، والمصفدون هم المردة منهم، وقيل لبعضهم أينام الشيطان؟، قال، لو نام لاسترحنا ساعة
وقال رضي الله عنه، النفاق على قِسْمين، نفاق الكافرين، وهم من يظهر الإيمان ويخفي الكفر، ونفاق المؤمنين، وهو أن يؤمن ولا يعمل بما يقتضيه الإيمان، ومن علامته أن يضيق ويضجر من قراءة القرآن، والجلوس في المسجد ونحو ذلك، ويستأنس بالهَذْوة، والمجالس والأسواق ونحوها، ولم يُعرف هذا إلاَّ من قريب، وقيل للحسن البصري، إن النفاق والحمد لله ليس في وقتنا، بل في وَقْت الصحابة، وقد انقضى، فقال، لو أن للمنافقين أذيالاً، لما وجدت مكاناً تجلس فيه، يعني لكَثْرتهم، ويدل على نفاقك أن تغضب إذا قيل لك يا منافق، لأن الإنسان ما يخلو من نفاق
وقال رضي الله عنه، يتنزل للعبد من الخير والشر على حَسَب عمله، جزاء وفاقاً، ولا بد أن يرى جزاء ما عمله في الدنيا والآخرة
(٢/٢٧)
أقول، ويؤيد ما ذكر، أنه حُمِل شخص إلى بعض الأمراء، وقد اتهم بسرقة فقطع يده، فقيل للشخص هذا جزاؤك، فقال، إني ما سرقت في هذه ولكن سرقت قبل مرة، فاتهم غيري فقطعت يَدُهُ وأنا أنظر، فعاملني الله بأن قطعت يدي بسرقة غيري
وقال يوماً رضي الله عنه وقد ذكر كِتابَهُ "الفصول العلمية" ثم قال، إنا نتكلّم بالكلام ولا يُعمل به، كالذي يتردد بمتاعه إلى السوق كل ساعة ولا يبتاع لكساده وقلّة الرغبة فيه، كَمَوْلى الزمالة، وهو أنه دخل رجل من بيت جبير في سَابق الزمان إلى تريم حاملاً زمالة مملوءة بَلَحاً، وأراد بيعه فلم يَنْفُق له، ولا أحد ساومه فيه، فضَجر منه، وطَرَحه عند باب بعض المخازن على دكّة، ورآه صاحب الدكان، فلما انصرف أخذه صاحب الدكان وباعه، وميز ثمنه، وبقي يتسَبَّب فيه ببيع وشراء، حتى رَبا وزاد، ثم بعد مدة سنين، جاء ذلك الرَّجل صَاحب الزّمالة عند صاحب المخزن، وَجَعل يتحدَّث معه، وقال، كنت أتيت سنة من السنين إلى هذا الموضع بزمالة فيها بلح، ورميت بها هنا، فقال له، أنت صاحبها؟، قال، نعم، قال، أدخل المخزن، خذ هذا المال فإنه حَقّك، وحكى له بما فعل بها، فأخذه وانصرف، وكانت لأهل تريم مناقب حَسَنة، هذه من جملتها
ومنها، أنَّه مَرَّ رجل عليه دين لآخر على صاحب الدين، ولم يسلّم عليه فتعجَّب منه، وقال، لم تركت السلام؟ قال، حياء منك لأجل دَينك، ما أردت أن تَعْرف أني هنا، وكان بصيراً فقال له، أنت بريء من الدين، فتعال بنا إلى الدَّار، فدخل به داره وأكرمه
(٢/٢٨)
ومنها، أنه مَرَّ رجل على أرض فيها حرث، ومن جملة الحرث غلفق، فَسَرَق منه ملأ مظلَّة كانت على رأسه، ثم وَضعها على رأسه، وسار وصاحب العَمَل يرى جميع ما فعله وهو ساكت لم يُرِدْ أن يَفْضَحه، فلما سار عارضه رجل وحركه، فسقطت وأنتثر فَظنه سَرَقه، فصاح صاحب العمل عليه، وقال، أصلحك الله أردناه ذرْياً فبدَّدته فَزَال عن ذلك الرجل ما ظنه به أو كما قال
وقال رضي الله عنه، بعد ما أكثر المذاكرة يَوماً ثم قال، وكَثْرة المذاكرة لا نحبّها، ولو ذاكرنا أحداً من هؤلاء غرق معنا لكثرة ما قرأناه وطالعناه ولقيناه من المشايخ
وقال رضي الله عنه، العلوم الدينية والأعمال الدينية، يَنْبغي أن لا تُفْعَل إلاَّ مع الإجتماع، ليتم أمره ويَكْمُل، وأما الأمور الدنيوية فما عليه إلا أن يخلص فيه، ولا يَنْبغي السؤال اليوم إلاَّ عن أمور الدين، ، ولا الاستيصاء إلاَّ بها، وأما أمور الدنيا فهم مجتهدون فيها من غَيْر كلام، فلا يُحْتاج إلى الإيصاء به والسّؤال عنه، فالحازم لا يوصي، وهذا موعود به في آخر الزمان، بأن الناس يُقبلون بكليتهم على الدنيا وينسون أمر الدين، قال والناس ما يتواردون على أمر واحد، فإذا تَوَاردوا عليه، كان كالعدم
حكاية أصحاب السرير والمروحة
(٢/٢٩)
كما حكي عن جماعة قصدوا ملكاً يريدون المنزلة عنده، وفيهم عَرَب، وفيهم عَجَم، فأمر بالعجم بمنزل وحدهم، وبالعرب وحدهم في منزل آخر، وأراد يرى ما يَصْنعون ليَخْتَبر أحوالهم سياسة منه، وجعل عند كل فريق منهم في منزله سريراً واحداً، فأما العجم فقدموا واحداً منهم وأجلسوه على السرير، وبقوا تحته يخدمونه، منهم من يفصّ له، ومنهم من يَذُبّ عنه بالمروحة الذّباب، ويُرَوِّحْ عليه، حتى صار كل واحد منهم في خدمة، وأما العرب فكلما أرادوا أن يقدِّموا واحداً، قال الآخر أنا الذي أتقدم وتكونون من تحتي، وقال الآخر مثل ذلك، حتى اختلفوا بينهم فأمر الملك بطردهم وإبعادهم وأجاز العجم وأكرمهم، والعلوم تكلم فيها السابقون، فجاء من بعدهم فوجدهم قد سبقوه بكل شيء من دقايق العلم، وأراد أن يَذْكر غير ما ذكروه، كالذي جاء إلى أرض واسعة، فارغة من البناء، فبنا فيها داراً فجاء آخر فرآها مبنية فكنَّس، فجاء آخر فرآها مكنوسة، ففرش وعلى هذا
وذكر رضي الله عنه المطالعة فقال، أولى ما ينبغي أن يطالَع كتب الإمام الغزالي، على قَدْر حالك، فإن كنت من المُبْتدئين، فالبداية، وإلا فالأربعين الأصل، وإلاّ فالمنهاج، فإن كان لك فَهْم ومَعْرفة بالعلم، فطالع في الإحياء، فإن كُنْت لا تعمل بالبداية، فقل في نفسك، لا شك إذا لم أقدر على العَمَل القليل، فلا أقدر على الكثير، كمن ليست له دواب قوية يَسني عليها، فلا يَزْرع كثيراً بَل قليلاً على قدر طَاقته، ولا يَتَشَوَّف إلى الكثير وهو عاجز عن القليل، والإحتياط للعلوم أولى من الإحتياط للزرع
(٢/٣٠)
وقال رضي الله عنه، في ردّ المظالم والأموال المغصوبة، يسأل عنها أهلَ التقوى من العلماء الذين يخشون الله، وهم الذين يعرّفونك بالسر، ويسترون عليك، ويبينون لك وجه البراءة للذمة، وكيفية التَّقوى، فهؤلاء هم العلماء المحققون، وأما علماء الدنيا فإنما يُسَمّون مُتَرَسِّمين لا علماء، ولو جئت لأحدهم بالمال وأعطيته نصفه أخَذَه منك، فليس أولئك بعلماء، إنما هم متشبِّهون بالعلماء، فأقل الأمر إذا لم يكن من أهل التقوى، فليكن كالشَّمعة تضيء للناس، فتنفع غيرها وإن إحترقت في نفسها، وما عاد التوبة إلا ضحكات يغتسل من الحرام كما يغتسل من الحلال، ويقول، قد تبت، فأين التوبة؟، وأين التائبون صدقاً؟، وأين العلماء المتقون الذين يعرِّفون الناس أمور دينهم؟
ومر حديث، (( إذا الْتَقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار )) فقال رضي الله عنه، هذا يَدْخلها بالنية والعمل، يَعْني القاتل، وهذا يدخلها بالنية فقط، بخلاف ما إذا استسلم أحدهما وقَتَله الآخر، فالمقتول يسلم، ويبوء القاتل بالإثم، كما قص الله في ابن آدم
وقال في حديث، (( إذا التقى المسلمان فتصافحا، وتكاشرا، قسمت بينهما مائة رحمة، تسْعة وتسعون لأكثرهما بِشْراً، وواحدة للآخر ))، أو كما قال في الحديث، قال نفع الله به، فالفضل المذكور للأكثر بشراً إذا كان لله وللدّار الآخرة، لا لأمور الدنيا، فإن الدنيا جميعها ساقطة
وقال رضي الله عنه، كلما شَكَكت فمل إلى ما فيه الإحتياط والنجاة في الآخرة، كالسيل إذا تطرفت، ينبغي أن تميل إلى جانب البَرّ، وإلا سَقطت في الماء وغَرِقت
وقال رضي الله عنه، شَكّ المأموم في الصلاة مع شكّ الإمام من سوء الوضوء، وفي بعض الأحاديث، (( ما بال أقوام يسيئون الوضوء فيشكون إذا شك الإمام ))
قف على ما قال في الكتب المعتمدة
(٢/٣١)
وقال رضي الله عنه، أركان الدِّين عندنا وقواعده أربعة، "البخاري" في الحديث، و"البَغَوي" في التَّفسيْر، وفي الفقه "المنهاج"، ومن الكتب الجامعة "إحياء علوم الدِّين"، هذه القواعد التي عليها البناء، وطَالعنا كتباً كثيرة، ولم نر أجمع منها، والوَقْت قَصير، والقَوَاعد هي التي عليها البناء، وهي العُمُد، وما مذهبنا إلا الكتاب والسنة، حتى إنه سألَنا بعض النَّاس في الحرمين سنة حججنا عن مذهبنا، فقلت، شافعي، وفي المجلس رجل مكاشف من أهل الخطوة، فقال لي، ولم تقول أنت شافعي، وأنت مذهبك الحديث، فقلت، كيف؟ إن أسلافنا كلهم على مذهب الإمام الشافعي
وقال رضي الله عنه، العلم دليل الفعل، فإن لم يكن فهو خَسَارة على الطالب والمَطْلوب، والأحسن للمحترف أن يَعلم ما لا بُدّ له من علوم الإسلام، وعلوم الإيمان، إذا لم يسهل عليه أن يعمل بما في "البداية" ويَشْتغل بحِرْفته، ويترك طلب العلم أي الزائد على الكفاية ، ويَسْلَم من خَطَره، ويدعه على غَيْره، سواء كان بَرّاً أو فاجراً، فإن قدر أن يعمل بها فيطلبه، فإن العلم يزيده خَيْراً، وإلاَّ فمن عجز عن القليل، فلا شَكّ أنه عن الكثير أعجز، وفيها ميزان عجيب، أو قال عظيم، ذكره مصنِّفها فليجرب به نفسه
وقال رضي الله عنه ما معناه، يَنْبغي للمؤذن والمُقِيم، أن يُظْهرا نون التَّنوين، من قول أشهد أن محمداً رسول الله، لأن في إدغامها إشكالاً يوهم
وقال رضي الله عنه في قول بعضهم ( إذا كثر علم الرجل، قل كلامه ) أي لأن الخوف يَمْنعه من الكلام في الفور
(٢/٣٢)
وقال رضي الله عنه، من أراد أن يصير عالماً فَلْيَجْتمع على علم، ويتَمكَّن فيه حَتَّى ينسب إليه، ويتَطَرَّف في بقيّة العلوم، حتى لا يُنكر شيئاً منها إذا سمعها، قال سيدنا عليّ، من جهل شيئاً أنكره، وقال، من أكثر من شيء عُرِف به، ويكون كذلك، إن كان فقيهاً، أو صوفيّاً، أو نَحْويّاً، أو غير ذلك، والسؤال في غَيْر موضعه - أو قال محله - بلاء على السائل والمسئول
وقال رضي الله عنه في حديث، (( إن البيت المعمور بحيال البيت يدخله كل يوم سَبْعون ألف مَلَك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ))، في بعض الأحاديث إن فيه أو عنده عين ماء يدخله جِبْريل عليه السلام كل لَيْلة وَقْتَ السحر ينتفض فيطير من جناحه سَبْعون ألف نقطة، فيخلق الله من كل نقطة ملكاً، فهم الذين يدخلون البيت المعمور، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة
وقال رضي الله عنه، ما معناه بعد ما ذكر في إيداع السلام وتبليغه، من بَلَّغ إلينا السلام ولم يجتمع بنا، فما فاته منا أكثر مما حَصَّله ،كما قال الشيخ أبوبكر بن سالم، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته
(٢/٣٣)
وقال رضي الله عنه، أمران لا ينبغي أن يذكرا للعامة، ولا يسمعونها، دقائق العقائد، ودقائق الأحكام، أو قال دقائق الصلاة، فإنك لو تَتَبعتهم فيها، لما رأيت صلاتهم صَاحّة على المَذْهب من إخراج الضَّاد وغير ذلك، بل إذا حملهم مذهب فاتركهم على ما هم عليه، وإلاَّ شددت عليهم، ولا أمكنك أن تحصّل منهم المطلوب، وكذا في العقائد لا تذكر لهم شيئاً من الخفايا فيها، بل ترى أحدهم يقول، الله مَعْنا الله ناظرٌ إلينا، ونحو ذلك، فاكتف منهم بذلك، فإن أردتهم أن يكونوا معطِّلة محضاً فاذكر لهم شيئاً من أمر الجهة والجسمية، ولذا يقال، العامي لا مذهب له، لأنه يُحْمل على الأسهل، ويقال، الصوفي أيضاً لا مذهب له، لأنه يتتبع الأحوط من كل مَذْهب فيأخذ به، وطَعَن بعضهم في قولِ، لا مذهب للعامي، وهو غالط لا عِبْرة بقوله، أو قال رُدَّ عليه
ومر في الدرس ذكر بعضهم ذَمّ الكلام، فقال نفع الله به، من موبقاته ذكر البراهين، لو كان كذا، لكان كذا، فيوقع في القَلْب التهم، وَلَوْ تَفْتَحُ عمل الشَّيطان، إنما العلم مجرد العقيدة فقط، دون ذلك
انظر ما قال في الشاهد العدل وتساهل أهل الزمان في الشهادة
(٢/٣٤)
وذكر رضي الله عنه الشاهد العدل الذي تُقْبل شهادته، فقال، لابد في العدل من المَعْرفة لما شهد به كما هو، فلو حَضَرَ مجلس بَيْع مثلاً، ولكن ما عرف البايع أو المشتري أو المبيع ونحو ذلك لا تَصح شهادته، وإن صَدَق في حضور العقد وفيما رآه كشهادة الهلال، حتى يكون مع العَدَالة عارفاً بالمطالع والمنازل، وأكثر شهود الزمان ما هم بعارفين بما شَهدوا به، ولا فيهم عدالة، الواحد منهم تمرعليه ثلاث صلوات فأكثر، في مجلس واحد إما حايك أو ضِعيف أو غير ذلك، وإذا لم يقع الاحتياط في صيام أُمَّة، ففيم ذا يكون؟!، في بيع دار أو مَيْسمة أو في حساب قرش، و إذا ما عَرَفوا، فيَنْقلون كلام عارفين وعلماء، ولو كتبوه كتابة، ما ترى، كان هنا أناس أهل علم ومعرفة، فإذا لم يتأدبوا مع الله ورسوله والأكابر، فمع من يتأدبون
تأمل هذه القاعدة الكلية الجامعة
ثم قال احفظوا هذا، إن كل من تهاون بأصول الدين، وبالتَّوحيد من الإيمان بالله، ورسوله، واليوم الآخر، وفِعْل الواجبات، من صلاته وزكاته، ويَرْتكب المحرمات فلا يؤمَن
وذكر سيدنا رضي الله عنه، يوماً رؤية الهلال، واختلافهم في رؤيته، فقال، لما اختلفوا في أول الشهر، اختلف عليهم آخرُه، والأشياء لها أوائل ومقدمات، تَحْتاج أن تضبط، فإذا لم تضبط الأوائل، لم تَنْضبِط لك الأواخر، وهكذا في أمور الدين والدنيا، وهؤلاء لا يعرفون، وإذا عرفوا لا يسمعون
(٢/٣٥)
وسأل رضي الله عنه، عن استهلال الشهر هل هو في ناحية دوعن كما هنا بيوم واحد، فقيل، لا، فيه تَقْديم عندهم، يعني شَوّال في تريم، بالسَّبت، وهناك بالجُمْعة، فلام الناس في تسَاهلهم في الرؤية، حَيْث اختلفوا والمَطْلع واحد، فقال، ما عاد نَحن عند شيء، إنما يتَعيَّن عليهم أن يُرَاعوا الأحكام المتعلقة بالأوقات من العِدَد وتأجيل الديون، والنُّذور، وغير ذلك، فإن بتقصيرهم في ذلك بايحصل التَّقصير في هذه الأحكام، ثم قال أحوال وأمور لو تَصَوَّرها الإنسان قبل وقوعها، هل يمكن وقوعها، لم يجوِّز ذلك بل يَسْتَبْعده، ويَسْتَحيله، ولكل شيء حُكْمُهُ، فإذا تصوّر الأمور الإلهية فلها حكم آخر
أقول، وذلك إنه سنة ١١١٦هـ بعد دعوى رؤيتهم الشهر، في خروج رمضان وثبوته عند القاضي، وإفطار الناس، وسيدنا الحبيب ومن تَبِعه ما أفطروا أول يوم، وما تحقّق رؤيته إلا لَيْلة رابعة من رؤيتهم، فكل من حدثته بذلك، قال هذا كذب ومحال، وهذا مصدقاً لقول سيدنا أحوال وأمور إلخ
(٢/٣٦)
ودخلوا عليه رضي الله عنه جماعة يعودونه، وكان معه حُمَّى وذلك في مرضه سنة ١١٣٠هـ فلما فرغوا من المصافحة، جَعَل يتكلَّم في رؤيتهم الشهر، ويخطئهم فيها، فقال، تمضي ثلاثة أشهر ما خَرَجوا يشوفونه، فإذا كان شهر فيه لهم أكل خَرَجوا له، والنَّاس ما هم فيما يتعلق بذلك، فلا فرق في أكلة تأخرت أو تقدمت، وإنما الحَرَج فيما تتعلق به الأحكام من الأشهر كَمدخل رمضان، وخُرُوجه وشهر يوم الحج، وكذلك العقود والأنكحة والعِدَد وغير ذلك، وهم عَمَّال يدورون الإشكالات، الإشكالات ما هي في الدين، كيف يشهدون به ولا يُرى ثاني ليلة، وقد لا يرى ثالث ليلة، كيف يكون ذلك، ورؤيته تحتاج معها إلى معرفة حساب وهندسة، ليعرف محل النظر إليه، ويعرف إمكان رؤيته، ولكن هذا الزمان ما سكت ولا خَلاّ أحداً يتكلم، إن سكَتَّ ما صَبَرْتَ، وإن تكلمت ما لحقت أحداً يقبل، كالذي يَضْرب بالفاس على حجر، وما معك من الزمان اليوم إلا كما يحكى عن رجل كان ينظر إلى أمرد حسن وهو في الطواف، فما درا إلا بضَرْبة جاءته في وجهه، فقال آه، فقيل اسكت، وإلا جاءتك أخرى، فما لهم إلا مثل هذا، ولو كان ذلك إلا من سلطان قاهر وتَسْهَنه أن تثبُت رؤيته بالإثنين من غير اشتباه، وأن تكون الأمور صالحة، والفتن ساكنة، والشر منطفي، ثم أمر منشداً فأنشد بقصيدة الخِلِّي التي امتدحه بها، (قف بالمطي على الحِمَى يا حادي) فلما فرغ، أمرني بتَفْرقة أسوكة، وقال، أعطهم على واحد واحد، فجاءت على عَدَدِهم كذلك، ثم قرأ الفاتحة وخرجوا
(٢/٣٧)
قوله، تَسْهَنه إلخ أي ترجوه، يَعْني هلال ذي الحجة سنة ١١٣٠هـ، فثبت كذلك بالإثنين، من غير اشتباه، كما رجاه نَفَع الله به، فحَقَّق الله رجاءه، وكذلك ما ذكر بعده من صلاح الأمور، وسكون الفتن، ثم دعاهم رضي الله عنه، للدخول عشيَّة يوم التروية، وهو ثَامن ذي الحجة يوم الاثنين، فدخلوا عليه، فلما اطمأن بهم المجلس، جعل يَتكلّم فكان كلامه كله كان تَنفّس، كالفاقد لمجالسه المعتادة، والمتَعطِّش لجريان المذاكرة بعد انقطاعها
انظر ما قال في الصبر
وقال رضي الله عنه، إذا ابتليت بما يُمْكِنُكَ الصَّبر عليه، فلا تخرج من الصَّبر إلى الجزع ونَحْوه بل إن خرجت منه، فاخرج إلى الشّكر، وإذا دامت الشّدائد أُلِفَتْ وكانوا لما ابتلاهم الله اتسعت قلوبهم، بأن أنزل الله في قلوبهم السَّكينة فصَبَروا ولم يتزحْزَحُوا
وقال رضي الله عنه، إن المحن التي تصيب المؤمن في الدنيا، جَعَلها الله له بمَنْزلة الحدود على ما عَمله، قال ذلك نفع الله به لما كثر المتجوِّرون في الحاوي عِنْده خوفاً من الدَّولة، فقال لهم، هذه عقوبات على أفعالكم السيئة، ثم قال إن المحن إلخ
أقول، يشهد له حديث، (( من أصاب منكم حداً، فأقيم عليه الحد في الدنيا فهو كفارة له ))، الحديث، وكان رجل يَكْتب للدَّولة، فتاب من خِدْمتهم، وبقي يعاوده وجع في الأصابع الثلاثة التي كان يَقْبض بها القلم، فإذا اشتد به وأسهره، جاء إلى سيدنا يقول، اتفل عليه، فيتفل عليه ويقول له، هذا محل القلم السوء
وقال رضي الله عنه، ما يجمِّل أحداً ويستره في هذا الزمان إلاَّ الصَّبر، وفي الحديث، وفي الصَّبر على ما تكره خير كثير وكم من الضرر في فَلتات اللسان، والرّجل العاقل هو الذي يسع، وهو الذي يَصْبر، وأما النساء فلا يَحْتَملن ذلك، وبين عقولهن وألسنتهن برزخ
(٢/٣٨)
ومَرَّة قال، ما يستر الإنسان إلاَّ العافية، والعافية هي السِّتر للإنسان، وعليها المعوَّل في طلب الدين والدنيا
وقال رضي الله عنه، اللسان له طغيان كطغيان الميزان، من غير أن يشعر الإنسان، كرجل يظن أنه يملك لِسَانه أن يتعَدى إلى المكروه، فتكلّم بما يحسن فلم يَشْعر إلاّ وقد تكلم بكلمة تضر ولا تنفع، وكذلك من يظن أن في نفسه سماحة بحيث لا يبالي بما نقص مما يوزن له من الحق، فإذا حضر الوزن تمنى في نفسه أن يزيد الذي له على الآخر، وربما فرح بِغُبار يثقل مقابله، وليس هذا من طبع المؤمن، بل إنما يجب أَنْ ينقص حَقُّه قليلاً، فإن ذلك احتياط له، وسلامة له من التَّطْفيف المحذور منه، وصَدقة له يَحْتسبها في موازين حسناته
وقال لي السيد سالم بن عمر بن الشيخ أبي بكر بن سالم، قال، قلت لسيدنا الحبيب رضي الله عنه، أخبروني بإسنادكم في الخرقة، فقال، إذا قُدَك تَسير على الماء أخبرناك بذلك، فقلت، ومتى يكون ذلك؟ فقال، إذا انتفت عَنْك الحُجُب، قلت، فكيف ذلك ؟ فقال لو مَرّ عليك رجل ولم يصافحك، أتَحْنَق؟ قلت، لا، قال، فإن شتمك أحد وأنت تسمع، هل يقع في خاطرك؟ فقلت، لا، قال، فلو ضاع عليك شيء من الدنيا له قدر، أكنت تَشْتَغل بسببه؟ قلت، لا، فقال رضي الله عنه، إن صدقت فقد قَرُبْتَ
(٢/٣٩)
وقال رضي الله عنه، ينبغي للإنسان أن يُوَطِّن نفسه على مَا هو من طَبْع الدنيا من الكَدَرِ، وإن حصَّل راحةً في شيء فهو عَارض، فقد قيل للجنيد، نَرَاك لم تتعب من أمر يكون عليك من مصائب الدنيا، فقال، اعتقدت أن جميع أمور الدُّنيا مصائب، وَوَطّنت نَفْسِي على ذلك، فأنا كل شيء يرد على نفسي مُوَطِّنه على منواله، ثم قال سيدنا، عمدة الأمور على شَيْئين، القِيَام بوظائف العبودية، وأن لا يَنْسُب إلى نفسه شيئاً من كل شيء، ويكون كالجسم الملقى، والقُدْرَةُ تَتَصرف فيه، كما ذكر عن سهل التُّستري رحمه الله، قال، إذا قال العبد أنا أطعت، وأنا عملت، وأنا فعلت، فيردّ الله سبحانه عَليه بقوله تعالى، أنا خلقت، وأنا غَفَرت، وأنا سترت
وقال رضي الله عنه، ما تأسَّف العرب ما تأسَّفوا على شيئين، فراق الأحباب، وفوت الشباب، وأنشد هذين البيتين ،
شيئان لو بكت الدماءَ عليهما عيناي حتى تؤذنا بذهاب
لم يَبْلغ المعشار من حقيهما فقد الشباب وفُرقَةُ الأحباب
وقال رضي الله عنه لرجل به ألم، ما يتمّ الأمر إلاَّ بالصَّبر والشُّكر، فإن أمور الدنيا ما لها تمام أبداً، طال الأمر أو قصر، لأن الدنيا مبنية على النقصان
وقال رضي الله عنه، شَرْط الصَّبر على الشيء، أو الصَّبر عنه، أن يكون الصَّبر أرجح من مقابله، والا يوشك أن يرجح مقابله عليه، فَيَقع في الحَرَج، فَيفْعله على الوَجْه المأذون فيه، كمن يَضَعُ رِطْلاً في كفَّة ميزان، ودونه في الآخرى، فيرجح لا محالة - قال ذلك - لما مر في قراءة "قوت القلوب"، إن الأولى للمريد تَرْك التزويج، إن أمكنه الصبر
وقال رضي الله عنه، اثنان لهما أكبر المنة على آل باعلوي، الشيخ أحمد بن عيسى، خَرَج بهم من البدع والفتن، والفقيه المقدم سَلّمهم من حمل السلاح، والعمومية بكسره السلاح لما تفقر
(٢/٤٠)
وذكر له رضي الله عنه رجل قد أخذ عن بعض مشايخه، فقال، قد اجْتَمَعْنا به أول مَرّة، وثاني مَرَّة، وفي الثالثة ما رُحْنا عنده، لأنه حصل لنا رؤيا من جهته، وكذلك بعض السَّادة رأى رؤيا، ولا حكى لنا بها إلاَّ ونحن هناك، ثم انجر الكلام كثيراً، ثم قال، ولا أعلم هل يَتعلّق بذلك أم لا، إنّا إذا أشَغَلَنا أحد أو قال آذانا أحد لا ندعو عليه ولا نَكْرهه، ولكن نحبّ أن نتكلم عليه بكليمة حتى نَتَنَفَّس بها من جهته لئلا يَبْقى في خاطرنا عليه شيء، فيأخذه الله بذلك، لأنا جَرَّبنا ورأينا من عادة الله، أنه ما آذانا أحد إلاَّ أخذه الله
(٢/٤١)
وذكر مرة رضي الله عنه، أنه سافر إلى دُوْعَن، وأنه زار الشيخ علي باراس، وكان من تلامذة شيخه الشيخ عمر العطاس، قال، فأراد مِنَّا أن نأخذ منه الطريق، فامتنعنا وقلنا قد أخذنا عَمَّن أخذت أنت عنه الشيخ عمر، والسادة إنما مَدَدهم من بَعْضهم بعض، وغيرُهم إنما يستمد منهم، وألَحّ في ذلك، فلما رأى امتناعنا من الأخذ عليه فعل لنا عَصِيْدة، وأرادنا نَتَغَدَّى عنده، فأَبيْنا من ذلك، فأنكسرت البُرْمة، وسَقَطَت العصيدة في الرماد، فقرأنا الفاتحة وَخَرجْنا، هكذا بهذا المعنى واللَّفظ ذَكَره نفع الله به يوماً في مجلسه بالسُّبير، وسَمعت من يذكر ذلك ممن حَضَر مَجْلسه عند باراس، أنه لما أراد القيام من المَجْلس، قال باراس، ياسيد عبدالله عَجِزْنا عنك من كل وجه، وإن بَعْض الساده من آل الجفري من أهل الخريبة، كان تلك الليلة التي بات فيها سَيّدنا بالخربية بوادي ليسر، فَحَكى ذلك السَّيد، أنه رأى تلك الليلة رؤيا، رأى أن سيدنا عبدالله أقبل على باراس، فاتحاً فاه، وحَنكه الأسفل بالأرض، وأعلاه في السماء، وباراس بين يديه كالعصفور أقبل عَلَيْه ليلتقمه، وإذا السَّيد عمر العطاس معترضه يقول له، لا يا سَيّد عبدالله، لا يا سَيّد عبدالله، إتركه لأجلنا، فتركه، ولم يعلم الرائي بالواقعة، إلا لما حكى بالرؤيا، أخبر بما وقع له معه، وإنما فعل باراس العَصيدة لَمَّا امتنع سيدنا من الأخذ عنه، لأن أكل الزاد عند أهل هذا الفن، أَخْذٌ للطَّريقة ممن أكل زاده، كما قدمناه من كلام سيدنا ( لو يعلم الناس ما في طعامنا وشرابنا ) إلخ
وقول الشعراوي، إنهم يَجْعلون المدد في الزَّاد، لمن لم يمكنه الأخذ، سِيَّما في هذا الزمان، ويقوم لهم مَقَام التَّلقين، ويصير من تلامذتهم، ويحصل له منهم المدد
(٢/٤٢)
وقال رضي الله عنه، الطَّالب إذا أراد الجلوس مَعنا، لا نتعذر منه على أي حال، ولو أنا ما نَقْدر استندنا له، وجَلَسْنا معه، وإنما نتكلف لأهل الرسوم
وقال رضي الله عنه، أهل الدين مَطْمح نظرهم، وسائر همومهم كلها في أمر الدّين، وغافلون عن أمور الدنيا، ومن لم يَكُن غافلاً عنها تغافل، وأما أهل الغفلة فَمطْمح نظرهم وهِمّتهم، وأفكارهم في أمور الدنيا، وإن فَعلوا شيئاً ودَبَّروه وظنوه من الدِّين، فما هو إلاَّ من أمور الدنيا، فيرجع جميع ما يتعاطونه من أمور الدنيا
وقال رضي الله عنه، من اعتقد في نَفْسه الأهلية، نَقَص حظه، وإن أهلوه يكفيه علم الله بأهليته، فإن اعتقدها كان بخلاف ذلك
وقال رضي الله عنه، من عامل الله على قَدْرِه تعالى، جَازاه على قَدْره، وإن عاملٌ عَمِلَ لله على قَدْرِ نفسه، كان جزاؤه على قدْر نفسه
وقال رضي الله عنه، أهل الباطن على الدَّحقة في وَسَط الشَّريعة وأهل الظاهر على طرف الشريعة
وتكلم رضي الله عنه في أحوال الزمان فقال، فقدت الأمانة، وفُقِدَ الحياء، وفُقِد الدين وفِعْلُ الخير، يريدون أن يُغْنوا أنفسهم بقلة خَيْرهم فما زادهم ذلك إلا فَقْرا
وذَكَر له رضي الله عنه رجل حاله، فقال، هي نفسك إن أصلحتها وقَومَّتها فذاك، وإلاّ قَوَّموها بالنَّار
وذكر رضي الله عنه يوماً مرور الأيام والسِّنين على الغَفْلة، وذكر هذا النظم ،
تَمُرُّ بنا الأيم تَتْرَى وإنما نُسَاق إلى الآجال والعينُ تنظر
فلا عائد ذاك الشَّبابُ الذي مضى ولا ذاهب هذا المَشِيبُ المُكَدِّرُ
(٢/٤٣)
فقلت له، ياسيدي، ما سَبَبُ غفلة الإنسان، وعَدَمِ اهتمامه بإصلاح أوقات عُمْره، وَشُغلها بالطاعة، مع أنه مُتَحقق بذهابها سُدَى من غير فائدة، فقال ما معناه، سببه عدم شغله لها غاية الاشتغال بكمال الطاعة، وعدم شغله لها بما يقدر عليه أولاً، وضعف اليقين، وقِلَّة رغبته في خَيْر الآخرة، ومحبَّتهُ لأمور الدنيا أكثر من أمور الآخرة
انظر ما قال في لعب الصبي
وسمع رضي الله عنه صَوْت صَبي يتنَحْنَح، سِنُّه نحو اثنتي عشرة سنة، فقال، من هذا الصغير، فأخبر به وبأبيه، وكان حاضراً، فقال له لِمَ تَرَكْته جالساً هنا، ولَمْ تتركه يروح يلعب مع الصِّبيان، فقال، نريده يستغنم الحضور في مجلسكم، فقال، أنت استغنم عنه، واتركه يلعب الآن، ما دام وَقْت اللعب، حتى يَنْفض جميع ما في الجراب من اللعب ويَرُوْح وقته، وإلاَّ رجع يَطْلب اللَّعب في غير وقته، وحيث لا يَنْبَغي له ذلك، فقد حُكِي، إن رجلاً من الحَنَفيّة جلس للتدريس، وهو ابن عشر سنين، فكان إذا جاع جَلَس يَبْكي وشَكَا بعضهم ابناً له كان كثير اللعب إلى بعض الصَّالحين وأتى به معه إليه، فأخذ الصَّالح بيد الصبي، وقال له انطلق العب، فقال أبوه، لم؟، فقال، دعه ينفض ما مَعَه من اللعب الآن، ما زال أوانه، وإلاَّ رجع يَطْلبه في غير أوانه، والصَّغير ما دام في سِن الشباب، سِيَّما ما قبل البلوغ فإنه يَنْزع كثيراً إلى اللعب والحَرَكة، ويكون كالقِدْر الذي يَفُور، لا بد لك فيه من أحد حالتين، إما تَنْزع منه الغطا، وإما تنزله من فوق النار، والإنسان تَمُرّ عليه أطوار مختلفة، من طفوليّة وشَبَاب وصِبَا وكهولة وشيوخة وهَرم، فَينْبغي أن يكون في كل طَوْر على حالة تناسب ذلك الطَّور، وإلاّ كان ناقصاً، والتمييز و الصَّبوة يسامح فيها أيضاً أكثر مما يسامح في غَيْرها
(٢/٤٤)
وشكا إليه نفع الله به رجل من ولد له غير بَارٍ، وليس هو في رأيه، فقال له ما عاد معك إلاَّ الصَّبر والمسامحة، والصَّبوة في الصِّغر لا تُسْتَنكر، وفي الحديث، عجب ربك لِشَاب لا صَبْوة له والصِّبا شعبة من الجنون وإذا غَلَبتك الأمور فاغلبها بالصَّبر، ولا تَدَعْها تغلبك
وقال رضي الله عنه، طِبَاع النّساء والصِّبيان متقاربة، ومَيْل الكل واحد، حتى إذا خرج الصبي إلى الكبر رأيته مشمئزاً
وقال رضي الله عنه، لا تمنع السَّفيه ممَّا يريد، فإن ذلك عناء بلا شئ، ويَنْقلب عداوة فيما بعد، وأَمْرُ الصّغار والحريم لا يَحْتمل البَحْث، إذا قال صَلَّيت لا تحكّ عليه، فإذا حَكَّيت الحِجَارة لا يَخْرج منها إلاّ التُّراب، ثم قال خذ هذه الكلمة واحفظها، أهل الزمان ما لهم نظام، لا في دين، ولا في دنيا، تراك تراهم في صلاتهم لا يُحْسنونها، ولا يُحْسنون زكاتهم، ولا حَجّهم، فهذه أمور دِيْنهم فما بالك بأمور دُنْياهم، وفي بعض الأخبار يأتي زمان يحج أمراؤهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفُقَراؤهم للسُّؤال
وقال رضي الله عنه، الصّغار اليَوْم ما عاد نَزُرُّ عليهم، إن جاءت منهم زِيْنة بَرَّكنا عليهم، ودَعَيْنا لهم، وإن جاءت منهم عوجا سَرَطْناها، قال الله تعالى، { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الآية، ولو قابلت العوجاء بعوجا مثلها، جاءتك عوجا
وقال رضي الله عنه، لنشاط الأبوين وضُعْفهما تأثير في نشاط الولد وضُعْفه، والأم أكثر لأنّها موضع الحرث، وهي التي تُعْنى به دون الأب
(٢/٤٥)
وتبعه رضي الله عنه رجل بابنه، يوم الأحد إلى السُّبير، وذلك ثامن ذي القعدة سنة ١١٢٥هـ فقال، قل له يَرْجِع، من رأيته يحبّ ابنه كثيراً فلا تكون بركة في ذلك الولد، لأنه يَبْقى يداريه ويَترقَّاه فيتغيّر، فلا تعلق قلبك إلاَّ بربك، والمَطْلوب الوَسَط، وأما فرط الحَنانة فإنما هو محمود للنساءِ، وذلك طَبْعهن، ولهذا إذا طلب الرجل ابنه ليضربه، إلتجأ إلى أمه، وإذا أَلِفَ من أبيه تلك المحبة المفرطة، بَقِيَ بلا أدب منه، فلا يؤدبه، لأنه إنما يعامله بما يحب، فلا يُحْسن تَربيته، أَلاَ ترى السَّلاطين كيف يَدفعون أولادهم إلى من يُربّيهم من بَدْوٍ أو غيرهم، لِتَحْسُنَ تربيتهم، ثم إذا ألف منه ذلك أنكر خِلافه منه أو من غَيْره، فيتَوَلّد فيه حُبّ الجاه والمَنْزلة، فماذا ترى حَصَل لهؤلاء، اسمعوا كلامنا، كل هؤلاء ما فيهم خير، أو قال ما فيهم بركة، ومَثَلُهم كَمَثَل من يريد يخنِّم بِسْرَة ثم طال به الكلام في ذَمّ محبّة الجاه والظُّهور ومَدْح الخمول وما وقع في ابتداء أمره من الظُّهور، مع توقِّيه منه، وما قالوا له مشايخه في ذلك وأنه شكا ذلك أي ما وقع له من الظهور للسيد عمر العطاس، وذكره له ذلك الذي يقبِّل الناسُ حوافر دابته إذالم يتَمكّنوا من تقبيل شيء منه، وإنه قيل له في ذلك، فقال، إنهم ما عظَّموني، إنما عَظّموا اللّه، فلا أَمْنَعهم من تعظيم الله، إلى آخر ما سبق ذكره من ذلك القَبِيْل، ثم قال، لا يظهر أحد من أهل الظُّهور من الأولياء إلا بواسطة جميع الأولياء من ظاهر وخامل، وذكر الشعراوي أن من ظهر منهم وفيه كفاية، إذا رام أحد مُنَازعته في ظُهور مِثْله، يدعون عليه حتى يهلك، وقد ذكرت كل ذلك بتَفْصيله فيما تقدَمّ، ولما استخلف منه ذلك الرّجل، أبو الولد المذكور، يُريد بلده شبام، قال له، الحذر أن تَغْبط أهل الدّنُيا، وَتَوَدَّ أن تكون مثلهم، فتُحاسب في
(٢/٤٦)
الآخرة حساب الأغنياء، وأنت ما معك شيء
وقال رضي الله عنه، الولد في هذا الزمان، لا يؤمن على الأهل، فكيف بالأجانب، لأن الدّين ضعف جِداً، ومن لا دين فيه كيف يَصِحُّ منه الوَرَع، والوَرَعُ إنما هو خوف من الله، ومن يفرق بين التَّمرة والجوهرة، فلا تأمنه على الوَرَع، والإنسان قد يُبْتلى بنفسه أو بغيره، فإذا زرعتَ شهواتٍ فإنها تريد منك سُقْياً
وذَكَر رضي الله عنه، الموت والمرض، فقال، قد يُشْرَك الوالد في موت ولده، إذا لم يَطْلب له في الأمور الطبية دواءً
وسأل رضي الله عنه، عن صبي صغير، هل صَام، قيل نعم، فقال ما معناه، فأي معنى لصيام الصغير الذي لم يجب عليه، ويَشُقّ عليه، ولا يَنْتَفِعُ به، فخَلّوه يُفْطر، يَقْضي لأهله حاجة، فإذا شَقّ على الكَبِير، فَعَلى الصَّغير أشق، فكما أنه يضرب على الصَّوم، ويؤمر به في بعض الأحيان، إذا استطاع، فكذلك يُضْرب على الفِطر ويؤمر به، إذا لم يَسْتطع، ومِثْل الصغير يوم تلزّقه في الدين، مثل الشَّعرة في العجين، والدين إنما هو فِقْه، أو قال فَهْم وعلم بحيث يعرف الذي هو يباشره وإلاَّ غَيّر على نفسه وعلى غَيْره، فكل من لا مَعْرفة له بأمور الدين، إذا أمرته بها غيَّرها وأتعب نفسه بلا فائدة، فينبغي أن يُعَرَّف أولاً كيفية العمل، ويُبَيّن له إذا لم يعرفه من قَبْل، وإنما اكتفى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بأمره لهم على العُموم من غير شرح لهم، لأنهم كانو ا فقها أنفس، يبيعك الواحد منهم ويشتريك بكلامه وأنت لا تشعر وكان الرجل يعرف القرآن وهو ابن أربع سنين، والآن الواحد شَيْبة ما يقرأ سورة إلا أخل بحروفها، فضلاً عن أن يَعْرف مَعْناها، ثم أنشد هذا البيت ،
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
(٢/٤٧)
ولَمْ يُذْكر أن أحداً سَأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، عن معنى لا إله إلا الله لِكَوْنهم عالمين بما تضَمَّنته، عُرْفٌ مَعْروف بينهم، فإيمانهم أَقْوى من قلوبهم، فلو أن محتسباً قام على أهل تريم، لاحتاج أن يُبَين لهم ما يجهلونه، ويطالبهم بما يعرفونه، ويُنْكر عليهم في أمور كثيرة يتعاطونها، ذكر منها نفع الله به جملة، منها أنهم يدَحْرِجون الصغار، في مسجد آل باعلوي، يُدَاحِنُون الكبار في المَسْجد والجَوَابي، ويَتْركون ما هو ألزم من ذلك، فأين الزكاة وغيرها، وما كنا نعرف صغيراً يقدم في الصَّف الأول في مسجد باعلوي، وقد كنت إنما أدخله مع الوالد ولا أصلي إلا في الصف الثالث، وهذه الأمور التي حدثت ما كُنَّا نعرف منها شيئاً، ولو توليناهم، أو تولى والٍ يسمع لنا، لأظهرنا لهم أموراً غريبة من الحق ما كانوا يَعرفونها، وغير ذلك ومثل ذلك وأشباه ذلك، وكم وكم أوكما قال
وذاكرته رضي الله عنه في الكلام المتقدم، في شأن الصغير إذا مَيَّز، بأن يحسن يأكل، ويستنجي ويتوضأ وحده، فيؤمر بالصلاة لسبع، والصَّوم إن أطاقة، قلت فالعمدة في ذلك بالتمييز، أو بالسن، أي بلوغ السبع، قال بهما جميعاً، قلت فلو مَيّز قبل السّبع، أيؤمر قال لا، لأنه لا يوثق بَتَمْييزه قبل السَّبع، ومن كَلّف الصغير أن يُصَلي ويصوم، كما يصلي ويصوم الكبير فقد بالغ وتنَطَّع، وللأمور أوائل وأواخر ووسط، فكل من عمل في أوائلها كما يفعل في أواخرها، فهو المتنَطِّع فخذ هذه حكمة وقاعدة، أيمكن الإنسان طلوع السطح قبل الدَّرجه أو كما قال نفع الله به
وقلت له نفع الله به، تكلمتم بالأمس في تَعْليم الصغار، ولكنه تَفَلَّتْ علينا فقال، النَّاس اليوم لا سَماع في آذانهم، ولا قابليَّة في عقولهم، فلو كان فيهم قابلية، لأخذوا الكلام في ذلك الشئ وفي غيره، فأين نحن اليوم ممن أخذنا عنهم
(٢/٤٨)
وذكر رضي الله عنه، الجُدَري الذي حَصَل في حضرموت، أول سنة ١١٢٦ وقد مات فيه كثير من الصِّغار، فقال لم نعرف منه كثرة الموت هكذا إلاّ من نحو اثنين أو ثلاثة، وقد مر علينا مَرَّات، وإنما قد يَحصل بسببه تغير بعض الأعضاء كالعين، ولعَلّ هذا الموت، الحاصل منه بِسَبب أمور كشُبْهة في أنكحتهم إن لم يكن زِنَا أو عَدم تنزُّه في الوِقَاع، أو عدم ذِكْرِ الله عنده، وأين الناس اليوم قد غَفِلوا جداً، أقل الحال أنه لم يقصد بالنكاح السّنة أو العفاف، أو كف بصره وإنما مراده مُجَرّد الشهوة، واشتغلوا بأولادهم عن اللّه، وقد ذُكِر أنه حصل مَرّة في مصر مَوت ذريع، وفيها الشيخ أبو عبدالله القرشي وكان من الأكابر فدعا اللهَ في رفع ذلك، وتَشَفّع لهم، فسمع صوت قائل يقول لا تأسف على هؤلاء فكل من رأيته مات فهو ولد زِنَا، فخرج من مِصْر قاصداً إلى الخليل فلما قرب منه تلقاه الخليل عليه السلام، فقال له، يا نبي الله ما أريد قِرائي منك إلا أن تَشْفع لأهل مِصر فَشفَع فيهم فَشَفَّعَه الله ورفع عنهم ذلك
وذَكَر له رضي الله عنه رجل أن ابنه مات، فقال، الناس كلهم طحين رحا الموت، إلاّ أن منهم من قَد طُحِن، ومنهم من عاده، فقال الرجل، لكن فيه أنس، فقال سيدنا، أنت قد آنست أهلك، فيَكْفيك ذلك أنساً، وسمعنا فيما سمعنا أن الإنسان قَلّ ما يخطر له الموت في مرض موته، لُطْفاً من الله، وإلاَّ كان انخلع قلبه
وذكر رضي الله عنه، الجدري فقال، طَبْعه الحرارة، إلا أن أهل جِهَتنا ظنوه بارداً، لما رأواْ من شِدّته في الشتاء أكثر منه في الصَّيف، وهكذا عادة الجروح تكون شَديدة في وقت البرد، وإن كان طَبْعها الحرارة، وأكثر موت الصغار بعد تقدير الله والأجل بسبب حَبْسهم في الأماكن الحارة، وقد أوصيناهم من بعد نجم الطرف، أن يجعلوا المقطِّب في البراح، ولكن يَمْنعونه من المهب
(٢/٤٩)
ذكر تاريخ ولادته وإبتداء أمره نفع اللّه به
وقال رضي الله عنه، حفظنا تاريخ ولادتنا من الوالدة، قالت ولدتَ ليلة الإثنين، خامس صفر سنة ١٠٤٤، وقال، جاءت امرأة من الجِيران، كانت حاضرة الولادة، وأنها لَفَّتني في بعض ثِيَاب الوالد، قالت، فبقيتَ تلك الليلة إلى الصّبح، ما طعت تستقل من الصياحِ، فقلت لبعض النساء، شوفوا الولد ما به، مَا له لا يَسْكت، فَفَتَّشَتْ الثوب، وإذا بِعقرب عظيمة مُلتفة بالثّوب، مما يلي البدن بينه وبين الثوب، والبدن متخبّز مُحمر من لسعها وقلت لسيدنا عندما تكلم بذلك، وذكر قصة العَقْرب، في هذا إشارة إلى ما تقاسون من محن الدنيا، كالغَطَّات الثلاث، قال، نعم
قال رضي الله عنه، ووقع في تلك السَّنة يعني سَنة ولادته أشياء كثيرة، فيها خرج السلطان عبدالله، وفعل ما فعل، ومات فيها الشيخ الحسين بن أبي بكر بن سالم، ووفاة السَّيد يوسف ابن عابد الفاسي تلميذ الشيخ أبي بكر بن سالم وفيها قتل السيد بَاجَبْهان على خُبْرة تَمر، وقاتِلُه من المناهيل، وذلك أن اثنين منهم جاءا ليقطعا خُبْره من نَخْلة له، فلما رآهما قام إليهما فكلمهما، وَوَاحد فوق النخلة يقطع، والآخر يتناول، فأراد السيد أن يأخذ الخبرة من المتناول، فرمى الذي فوق النخلة السيد بجنبيّته فأصابت منه مَقْتَلاً فكان بها أجله، ثم التفت سيدنا إلى السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي وكان حاضراً فقال له، أنتم ما تَعْتَادون تورخون المولود قال، بلى، قال لا تَخلّوا ذلك، فإن عليه عمدة كبيرة في المواريث والأحكام ومَعْرفة البلوغ وغَيْر ذلك، ألا ترى ما يذكر في التَّواريخ، من تواريخ الولادة وغيرها وهذا في العُموم فكَيْف في الخصوص، وقد كانوا عندنا يؤرخون بالسيول والنُّجوم ولكن إنما العبرة بالسنين، وذَكَر نَفَع الله به، فى غير هذا المجلس، أن ولادته كانت بالسُّبير، أيام المحلَّة
(٢/٥٠)
وكان رضي الله عنه يوماً جالساً في السُّبَير المذكور، وذلك يوم الأحد واحدى وعشرين من ربيع الأول سنة ١١٢٨، فذكر أيام صغره، وكان إذا ذكر أحوال الصبا يُطْنب في الكلام، ويتعَجّب من تلك الحال، فإذا أطال فيه الكلام ثم سكت يقول، الكلام شجون، وينشد هذا البيت ،
وحَدَّثْتني يا سعد عنهم فزِدْتني شجوناً فزدني من حديثك يا سعد
قال، كنت قائماً عند جَرْب مسجد مقالد، أنا والصّنو حامد تحت عِلب هناك، فحذَفْت العلب بحجارة، فوقعت في رأسه فأدمته، وقد عندنا في الجهة مَثَل يقولون دواء الحجارة أن تدق له حجارة، فأتفق أن جاء يناديني بعد المغرب، وكنا في درس فأبطَيْت عليه، فَحَذف بحجارة، فأصابتني، فشَرَد فلحقوه، فسبحان الله، ما حال الصبا وماوالاه من الشَّباب، وكنت في أيَّام الصبا لا أتعامل معاملة من لا يشوف، لا في مشي، ولا في لعب، حتى إذا سِرْت ما أسير إلا مع أحد ويوم نلعب كنت أَجلس عند صاحب المَد، حتى لا أُغْلَب أو كما قال
وذكر رضي الله عنه، أنه كُفّ بصره، وهو ابن أربع سنين بسبب القَطيب
(٢/٥١)
وسألته يوماً نفع الله به أن يُملي عليَّ شَيْئاً من ظاهر أحواله، من صغره إلى الآن، لنَحْفظها عنه، فلم يُسْعفني بذلك، وقال قد نَسِينا أكثرها ولا عاد بقي إلا كتابات لم نثق بها، ولا عاد معنا دماغ لذكر ذلك ولو ذَكَرناها لاحتاجت إلى مجلدات، ولا عَاد مِنَّا شىء، وقد قلنا لبعض الناس اشرح بعض القصائد، فقال، لا أشرح إلا بشرط، أن أجعل مجلدين أحدهما في ترجمتكم وذكر أحوالكم، والآخر في شرح القصيدة، فما أعجبنا ذلك منه، وأناس مدحونا بقصائد كثيرة، وذَكرونا بها فأردنا أن ننهاهم عن ذلك، لكن خفنا من عدم الإخلاص في نَهْيهم، فخَلَّينا كلا يتولى ما تَوَلّى، ويتدَرّك ما تدرك به، ونقتدي بالنَّبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لما قيل فيه النظم، مما مدح به وأنشد بين يديه، ومدحه عمه العباس وغيره، ونحن هذه الأشياء ما تجئ على بالنا ولا نحبها لنا ولا لمن نحبه
(٢/٥٢)
وتكلم رضي الله عنه يوماً في معنى ذلك فقال، في نفسي من أيام البداية، أن لا أضع لبنة على لَبِنَة، ولا أتزوج إلا على عَرَبية، لتقع راضية، وما منا شئ لشَره الأشراف، ولكن ما قَدَّر الله إلاّ ما وقع، وفي بنائنا من العجائب ما لا يُصدِّق به إلا من رآه، حتى إن دارنا هذه، لم نعلم بها إلاَّ مبوّبة، جعلها الله على يد حيمد بن دامس، وأمور الدنيا يحاسب عليها من نواها، وإن لم يكن عنده شئ منها، ونَحْن خائفون من أن يحاسبنا الله عليها، لكنا منطرحين له، وجاعلين أنفسنا في القاع، ولا نَدَّعي أنا قائمون له بشكر، مخلصين له في عبادة، وأول من تأهلنا على امرأة عربية عند الهجيرة خُفْية، وما علم الوالد إلا بعد في آخر السنة، وكان ذلك في أولها وهي سنة ١٠٦١ وكان مرادهم البركة، وعُلْقَتِ ولد ماهم مثل هؤلاء القناتير، لأن بين ذلك الوقت وهذا الوقت مدة بعيدة نحو ٦٦ سنة تَبَدّلت فيها الناس، وتغيرت أحوالهم، وقد ظَهرت طبقات، بعد طَبَقَات، وفي كل طبقة شئ غير ما في التي قبلها، وكانوا بِرْكين، إذا خطب الشَّريف عندهم فرحوا لأجل التبرك، ولعلقة ولد، وأَتْمَمْنا بناء غرفة الحاوي سنة ١٠٧٤، وَبقينا نَتَعهَّدها يوم الأحد وفعلنالها أشجاباً، والمحلة في السبير، وبنيناها بطين الإكليل وهو سَيْل كبير حصل في نَجْم الإكليل وهي سنة ١٠٤٩ وفعلنا لها أبواباً سنة سافرنا الحج، وهي سنة ١٠٧٩هـ، وفي مجلس قال، كان نزولنا إلى الحاوي، أي للاستيطان سنة ١٠٩٩ سنة ولد ولدنا الحسن، وكان ولادته في الحاوي غرة رجب، وأول ما جلسنا في زاوية الهجيرة سنة ١٠٦١، وبقينا ملازمين فيها إلى سنة ١٠٧٢، فتأهَّلنا أول هذه السنة أي سنة ١٠٦١ أول تأهل لنا، ثم بقينا نَتَردَدّ إليها نَبْقى النهار فيها، ونغيب عنها في الليل، ثم بنينا غرفة الحاوي سنة ١٠٧٤ نحلّ فيها أيام الخريف، ونأخذ زائداً على أيام المحلة إلى
(٢/٥٣)
سنة ولد حسن إبننا في الحاوي، وأقَمنا فيه، وأول زيارة زرناها إلى عينات، زرنا الشيخ أبا بكر بن سالم، و زيارة النبي هود والشيخ سعيد، وسِنّي إذا ذاك نحو ١٥ سنة، وهي سنة ١٠٥٩، وبعد ذلك بسنتين، وهى سنة ١٠٦١ دخلنا الهجيرة في رمضان، وكنا حالِّين في السّبير أيام الخريف، فطلبت المبيت فيه أي في الهجيرة، مدة رمضان لأجل صلاة التراويح، والوترية فيه، وأخذنا نيابة من الفقيه باهارون ونحن إذ ذاك نقرأ عليه، وأخذناها بطيب قلوب أصحابنا وإلا فجدُّنا الذي بناه وجعل نظره ونيابته إلى ذُرّيته، وهو كان لا يحب أن يباشر الأوقاف
وقال رضي الله عنه، ما نَزَلنا الحاوي وتوطَّنا إلا لما رأينا معنا من ثقلة وكثرة الدواب، وأيضاً يجئ عندنا من له نيَّة، ومن لا له نيَّة، ولكن رجعوا يجيئون إلينا هنا بهذه الصورة، قيل ما يجيئكم إلا من له نية، قال، نَعم، نِية وهي نَيِّة، أيحسن أن تأكل اللحم النيئ
أقول، وكان رضى الله عنه في مدة إقامته بزاوية مَسجد الهجيرة المذكور يطوف كل ليلة على مساجد تريم كلها يصليّ في كل مسجد منها ما تَيَسّر له، وقد أدركت خادمه حميد بامزيدان، وسألته عن ذلك، فقال، يطوف المساجد كلها، يصلِّي فيها حتى إن المساجد المغلوقة المهجورة التي لا يصلَّى فيها، كنت أقدم له ظهري يَرتقي عليه ويتسور ويصلي، والمَسَاجد المهجورة كمسجد بامروان الذي قريب المجف كان أخر ما يأتيه منها، وكان هو مَوْضع تدريس الشيخ عبدالرحمن ابن الشيخ علي، وقد سبق ذكر ابتداء قراءته، وطلبه للعلم على باجبير، وذكر ابتداء تدريسه هو نفع الله به في ذلك
وقال رجل لسيدنا نفع الله به، العيد مبارك فقال رضي الله عنه، العواد عادة، لا سُنَّة، ولكنه عادة حسنة، يدخل في جملة التهنئة، كما في قصة طلحة وكعب ابن مالك، ولكن لما قَلَّت المواصلة بالزيارات، كان ذلك سبباً لحصولها سيما بين النساء يولعن به كثيراً
(٢/٥٤)
وقال رضي الله عنه، المعاودة في العيد بدعة قَوَّتها السنة الأصلية وهي زيارة الأخوان محبة في الله، وقد عدمت كما عدم غيرها من السنن، كالهدي وإشعاره، وعدمت أيضاً عيادة المريض، وجعلوها في الزيارة، وإنما الزيارة زيارة الصحيح للصحيح في الله، ومثل ذلك التَّهنئة بالمولود، ومَرّة قال إنما التهنئة بالولد لا بالبنت، وكانوا يقولون، ليهنك الفارس، فقال بعض الحاضرين من السادة، المدد يحصل من أي من ذلك؟، فقال، إنما يحصل المدد للمنخفض، والمماثل يحصل له قليل من ذلك، والمُرتفع لا يحصل له شئ أبداً، قياساً على أماكن الماء، فالذي يحصل له المدد الذي يرى نفسه دون المزور، والذي يَرَى أنه مثله يحصل له قليل من ذلك، ويُحْرَم من ظن أنه أفضل منه، وزيارة الحي في ذلك أبلغ من الميت لأن الميت اندرجت بَشَريته في خصوصيته، فلا معك منه إلا ما تسمع عنه من مناقب وكرامات، فهو مُجَرّد خصوصية، والحي إن كمُل، فهو خصوصية مع بشريّة، وإلا فبشريّة فقط، ويَمْنع من المدد أيضاً إشتغال الخاطر بحيث لا يكون معه اجتماع، وراح بالنَّاس اشتغالهم بهموم معاشهم
(٢/٥٥)
ثم قال الشريف المذكور، من علم بما فيه، مما يمنعه من ذلك، ما يلزمه في حقه؟، فقال، من بلغته الدَّعوة إنما يجب عليك تَدْعوه وتُذكره، لا أن تعلّمه، فقد كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بمكّة قبل الهجرة، إنما يدعوهم إلى الإسلام فقط أكثر مما بعدها، ومن رأيته يصلي ولا يَطمئن في صلاته، وهو عالم بوجوب الطمأنينة، لا يلزمك أن تُعَلمه، إنما أكثر ما يلزم التَّذكيرُ، والإنسان يدّعي بإجتهاده وسَعْيه، ولو وُكِّلَ الأمر اليه في تدبير نفسه لما أحسن ذلك، ولا قدر عليه فضلاً عن غيره، و وجدت الموجودات على مقتضى عقل أعقل الخلق، لو رجح بعقول جميع الناس، لما اقتضى أن توجد أحسن مما وجدت، ثم أطال الكلام في الصلاة فكان من جملة ما قال فيها، إنها عمود الدين وإنها تجر إلى أمور الدين، لأنها تَنْهى عن الفحشاء والمنكر، وآخر ما تكلم به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يوصي بالصَّلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، لأنهم كانوا أهل حرب وأما التهنئة بالبنت، فلا نعرفه والدَّليل فيه مأخوذ من تهنئة كعب بن مالك بالتوبة، وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بن كعب، ليهنك العلم أبا المنذر
وقال رضي الله عنه، لا وَجْه للتهنئة بالبنت، وإنما هي بالولد، وَعَلى هذا يُسْتشهد من لفظ التهنئة من قوله، رزقت بره أَوَ للبنتِ بِرٌّ وبلغ أشده، كلٌ ضمائره مذكرة، ولكن من أراد يحاجج، قال، وما هو إلا كذا، وما رأينا في الكتاب إلا هكذا
(٢/٥٦)
وأوصى رضي الله عنه رجلاً ورغَّبه في مطالعة كتب الإمام الغزالي، فقال، أكبّ على مطالعة كُتب الأمام الغزالي، فإنها في كل الكتب كالخصار في الطعام، بل أعلى من ذلك، فإن الطعام إذا لم تَشْتهه في وقت تَرَكْته إلى وقت أخر، وهذه لا يَسْتغنى عنها بحال، لأنه جَمَع فيها الشَّريعة، والطريقة، والحقيقة، ومواريث السَّلف، وإذا جاء عند ذكر الحقائق حد لها حدوداً، وشرط لها شروطاً، ليتحقق من أرادها، أنه من دخل إليها من غير بابها أنه ضال مدِّع، وقد رأى بعضهم بعدما صُنّف "الإحياء" الشيطانَ يحثو على رأسه التراب، فقال له ما بالك قال، صُنِّف في الإسلام كتاب، أخشى أن الناس يتبعونه وعلوم الحقائق هذه رأيتها أنها كالنَّار المحرقة، أو كالمياه المغرقة، إذا دخلها الإنسان إمَّا غرق، وإلاَّ احترق، ويحس الإنسان إذا نظر إلى الإحياء أنه كتاب مطول، وإنما هو مختصر وذلك لبلغ مجلدات كثيرة، وقد قال الإمام النووي، كاد الإحياء أن يكون قرآناً، وهل ذلك لكثرة ما فيه من آيات القرآن، للاستدلال بها، أم لكونه معجزاً فشابَه القرآن من هذا الوَجْه، وهذا أقرب، ومعنى كونه معجزاً أنه على منوال لم يُسْبق إلى مثله، ويعسر على من أراد أن يُصَنف مثله الإتيان بمصنف على نمطه
وقال رضي الله عنه، الإحياء بالنِّسبة لما اشتمل عليه مختصرٌ جداً، ولو فُصّل ما ذكر فيه لبلغ ستين مجلداً، قال، سمعت عن بعض أهلنا المتقدمين، أنهم سمعوا آباءهم كثيراً ما يذكرون الإمام الغزالي، قالوا له، ما هو الغزالي، سَيّد هو، يعني شريف، قال ليس بسيد و لكنه سيد السادات
وقال رضي الله عنه، إثنان يغار منهما أهل الباطن، ويحسدونهما أهل الظاهر، لأنهم إذا طعنوهما بمَسلة طَعَنَاهم برمح، الشيخ عبدالقادر، والإمام الغزالي
(٢/٥٧)
وقال رضي الله عنه، عن الشيخ عبدالله العيدروس، الإحياء مغناطيس القلوب، يَجْذبها إلى حضرة علام الغيوب
أقول، وما سمعت سيدنا قط، يقول في مسألة ذكرها الإمام الغزالي، أنه لم يُسَلَّمْ له فيها، بل كلّما تكَلّم في مسألة، وفيها كلام لغيره، يقول إن كلامه هو الراجح، إلا قوله في الموازنة بين القيامتين، الصُّغرى وهي الموت، والكبرى وهي البعث وما بَعْده، وأنه يقال في الصُّغرى، ولقد جئتمونا فرادى، فقال، ليس هذا بمسَلّم له، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في غير موضع من القرآن، إنما يقال ذلك في القيامة الكبرى
وذكر يوماً رضي الله عنه الإمام الغزالي، ثم قال، هو والسُّهروردي، والمحَاسبي، يتواردون على منهل واحد، وإن اختلفت الموارد، ولكن من في قلبه دغل يتَعلَّق أوهن البيوت لبيت العنكبوت
ولما خَتَم السيد زين العابدين بن مصطفى كتاب "الأربعين الأصل" للإمام الغزالي، تكَلّم كثيراً في ذلك المجلس، فمن ذلك قال، سبحان الله، كلام الإمام الغزالي يكفي عن غيره، وغَيْرُه لا يكفي عنه، وصَدَق من قال، لو يجوز خروج نبي، كان الإمام الغزالي، وثَبَتت مُعْجزاته في بعض مؤلفاته، وقد رأى الإمامُ الرازي وبعضُ أصحابه النبيَّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال عليه السلام، أتحب أنْ كنتَ قد أدركتني، فقال، كيف لا أحب ذلك، وأنا متأسف على رجل من أمتك ما أدركتهُ، أن لا أكون أدركتهُ، فقال، مَن هو؟، قال، الإمام الغزالي، فقال عليه السلام، ذاك هو الإمام الزاهد الفاعل، حتى عدد مائة خصلة، وكذلك ما رآه الشيخ أحمد الزبيدي ليلة مات الغزالي، وهو أنه رأى أنه خرج من قبره، وعرج به من سماء إلى سماء حتى غاب عنه، فسأل عنه من هو؟، فقيل، الإمام الغزالي
(٢/٥٨)
أقول، قوله أحمد الزبيدي، يَعْني الشيخ أحمد الصياد، وتقدمت قصته هذه، ومكاشفته، وكذلك ما رآه الشيخ أبو الحسن الشاذلي، نفع الله به آمين، قال، نمت في المسجد الأقصى، فرأيت خلقاً كثيراً، جاءوا أفواجاً أفواجاً، فقلت لرجل في جنبي، ما هذا الجمع؟، قال، جميع الرُّسل والأنبياء قد حضروا ليَشْفعوا في الحسين الحلاّج، فدخلوا عند محمد صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في إساءة أدب وقعت منه فشفَّعهم وقبل شفاعتهم وعفا عنه، ثم نَظَر فإذا نبينا صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جالس على التخت بانفراده، وجَميع الأنبياء والرُّسل جالسون على الأرض، مثل إبراهيم وموسى وعيسى ونوح، فوقفت أنظر، وأَسْمع كلامهم، فَخاطب موسى محمداً صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال، إنك قلت، علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، فأرني من أمتك واحداً، فقال له، هذا، وأشار إلى الإمام الغزالي، فَسَأله موسى سؤالاً واحداً، فأجابه بعشرة أجوبة، فاعترض عليه موسى بأن الجواب يكون مطابقاً للسؤال، فقال له الغزالي رحمه الله، هذا الإعتراض وارد عليك أيضاً حين سئلت، وما تلك بيمينك ياموسى، فكان جوابك أن قلت، هي عصاي أتوكأ عليها، وأهش بها على غَنَمي، ولي فيها مآرب آخرى، فعددتَ لها صفاتٍ كثيرة فابتهر سيدنا موسى من قوله وتعجب غاية العجب، قال، صدقت يامحمد علماء أمتك كأنبيائنا، قال الرَّاوي، فبينما أنا متفكر في جلالة قدر نبينا، وكونه جالساً على التَّخت بانفراده، والبقية على الأرض، إذ رفسني شَخْص برِجْله رَفسة مزعجة، فانتبهت فإذا بالقيِّم يشعل قناديل المَسْجد الأقصى، فقال، أتتعجب أن الكل خلقوا من نوره، فخررت مغشيّاً عليّ، فلما أقاموا الصلاة أفقت، وطلبت القيم فلم أجده إلى يومي هذا
(٢/٥٩)
وذكر الشَّرجي في ترجمته للإمام الغزالي، عن أخيه أحمد، قال، لما وضع في قَبْره، رأى يداً تناولته من اللَّحد، وبقي فارغاً لَيْس فيه أحد، وهذه القِصَّة تؤيد ما رآه الشيخ أحمد الصياد المذكور آنفاً، والله أعلم
وذكر رضي الله عنه جماعة كانوا يتَردَّدون إليه من آل الشيخ أبي بكر بن سالم، ثم انقطعوا، فقال، ما كان بَيْنَنَا وبينهم شئ من أمور الدنيا، ولا نالنا منها منهم شئ وهم عالمون، ولو أرسلوا لنا شيء رَدّيناه ولا قبلناه، وإنما مرادنا منهم أن يتربّوا ويتخَلّقوا بأخلاق سلفهم، ما هم داريين إنا نربي الرجل من أولادنا على الخُلق الواحد سنين
وسئل رضي الله عنه عن الشيخ علي بن أحمد، فقال، وأما الشيخ علي فجوهرته محفوظة ولم يَزَل لنا على المحبّة، وخاطرنا من جانبه طَيِّب، أو كما قال
أقول، ترَّدد الشيخ علي على سيدنا، ويكتب إلى سيدنا إذا منعه العذر من المجيء في بعض الأوقات، وما تَردّد على سيدنا إلا بجاذب من الحَقّ ودواعي دَعَتْه، ورأى النَّبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مراراً يشير عليه بذلك وبالإقبال على الله، فأمره الحبيب أن يقرأ عليه في كتاب "فَتْح باب المواهب" لجدّه الشيخ أبي بكر بن سالم، ثم في كتاب "الأربعين الأصل" للإمام الغزالي، وتهذّب السيد على يد سيدنا وفُتِح عليه، وكان الشيخ علي إذا جلس بحضرة سيدنا عبدالله يغيب عن حسه ويذهل عن شُعوره ويغير على رِجْل سيدنا يقبِّلها ويمد له يده ليصافحه ولا يغير إلاَّ على الرِجل، وكان حصل له منه نظر تام وشدة عناية واعتناء من سيدنا، فيهناه ما أوتيه وبقي على الاستمداد دائماً
(٢/٦٠)
وقال رضي الله عنه لرجل من السادة تخلف عن صلاة العصر مع الجماعة خَلْفَه، وذلك يوم السَّبت في ٤ شعبان سنة١١٣٠، ما الذي خلفك عن الصلاة والقراءة؟، قال، جاءني فلان وفلان من السادة اجتمعت بهما في المسجد ثم ساروا معي إلى الدار فَقَطعوا بي، فقال رضي الله عنه حَق مباسطة، كيه ذا حَشَّمُوك، وهذه الأمور لا حرج عليكم إذا طَلَبْتموها على الوجه المباح الذي لا يتعدى إلى محظور، وقد وَصينا أصحابنا بأن يتَوسّطوا فيها ولا يبالغوا فيها ولا يترَفّعوا ولا يتَكَبّروا على غيرهم بل يُسْتحسن لهم فيها الأوسط لأن في طبع أهل هذه الجهة إذا رأوا الإنسان يتواضع لهم دَحَقُوا عليه، وظنوا أنهم أفضل منه وأنه ما يبلغ حِذاهم، وإذا رفع نفسه عرفوا له حقه، وهذا ما يَنْبغي، ولو أنهم رَفَعوا مَن تَوَاضع لهم وَظنوا أنه قد تنزل لهم دون ما يستحق لكانوا قد أصابوا، فلهذا نحب الوسط ولا نحب الغُلو ولا التسَفُّل
وفي مجلس آخر ذكر الرياسات وأهلها فقال رضي الله عنه، الرياسة الحقيقية لا اعتراض فيها وإنما المَذْموم الرِّياسة الصُّورية الوَهْمية ولكن إذا حصلت الحقيقيّة في رجل جاء أَولاده يطلبون الرِّياسة الوهمية المذمومة كالشيخ فلان وهذا أمر عزيز لا يكاد يتم منه للأشراف حتى إنه يشق على السادة انتساب الشّيخ أبي بكر بن سالم إلى معروف باجمال مع أن له مشايخ كثيرة غيره من السَّادة فلم يَظْهر الانتساب إلى أحد منهم والمشيخة إلا بالنسبة لا بالاجتماع اتفاقاً، ودَخلت أم الشيخ أحمد بن الحسين العيدروس بقَهْوة وقالت له، رح بها إلى الشيخ أبي بكر بن سالم وقل له يَدْعو لك وسلم عليه، فقال له، تسلم عليك الوالدة وقالت، أدع لي وأرسلت هذه القهوة حَقّ البَرَكَةِ فقال، إنك ما تحتاج إلى الدعاء ولكني أسلُّ منك حق آل العيدروس كما تُسَل الشعرة من العَجين أو كما قال وذلك يوم الثلاثاء و٢٠ من جماد أول سنة ١١٢٨
(٢
/٦١)
وفي مجلس آخر ذكر أُناساً مشغولين بحب الجاه ويتَكَلّمون فيمن يُذكر بشيء من ذلك ولو من أقاربهم، فقال، إذا لم تتمكن أَن تكون رأساً فدع أخاك يكون لك رأساً وبهذا السَّبب إن الله عكسهم ووقع لهم مثل ما وقع للديك والحدأة فإنه اذا رآها تأخر عنها خوفاً منها ثم لما كبر بقي كذلك فقيل له، لم تتخلف عنها وأنت أكبر منها، فقال، قدني أخاف منها مذ كنت صغيراً، وعَمّال يطلبون حتى يَصير أي أحدهم مما حَصَّل بلا شئ في مداراة من لا يستحق المداراة من عَجم وغيرهم كيف تَتَكبّر على أشراف وفضلاء وتتواضع لأراذل وتكلم في هذا الشأن كثيراً
ثم قال نفع الله به، ما عاد بقي إلاّ هؤلاء الجماعة بُلو بنا وبُلينا بهم وإن كانوا ذو رَحم وما عاد إلا أسير معهم بما يظهر لي ولو ما سرت معهم بما يظهر لي ما وصلْنا إلى هذا الحد، وناس من الأشراف ما يؤبه لهم يبالغون في التواضع لهم، لامهاجرين ولا أنصار ثم قال، وتسطر لهم أنه لا يَسْتقيم لهم جاه إلا بالدحق على أصحابهم وبهذا السبب انظر كيف يتعاملون بعضهم مع بعض وهم فخذ واحد
وقال رضي الله عنه، نحن على القدم النَّبوي وسِيْرة سلفنا السابقين ما استطعنا، ومظهرنا إنما هو مَظْهر علم لا مَظْهر رؤية شيء آخر، لأن الرياسة على أهل الدين إنما هي زَرَا بِهِم
وقال رضي الله عنه، كلما جاوز حَدّ الوسط والأعتدال فهو شَرّ وبلاء وخُصُوصاً في العادات فإن ذلك في العبادات قد يُغْتَفَر إذا زيَّد على قدر الممكن إما شغف بالعبادات أو الاحتياط وستأتي هذه المقالة بأبسط منها هنا قريباً
(٢/٦٢)
وذكر رضي الله عنه جماعة من المعروفين في الجهة، فقيل له رضي الله عنه، إن آل فلان يدّعون في أنفسهم فقال رضي الله عنه، لا عاد تَغْتر في هذا الزّمان بِدَعاوي النَّاس فقد خرجت فيه الأشياء عن أوضاعها فانظر إلى أحد من آل فلان وهم من أحسن النَّاس لو أمنته وسألته كيف يقول لك وأما ابن إسحاق اليتيم، فكان إلا فقيراً لبَاعبَّاد
وَذَكر رضي الله عنه جماعة من السادة المعروفين بحبّ الرياسة، أنهم تَغْلب عليهم السَّلامة حتى تَخْفاهم الأمور الكثيرة، فقال، وهذا لعدم مخالطتهم للنَّاس، حتى فَوّتوا طَلب العلم، وَفَاتَتْهم مجالسة صَالحي زمانهم، فأعمارهم راحت ضائعة، وليست هذه عادة أسلافهم، فإن الناس ما قَدّموهم إلا لكونهم متقدّمين في الفَضْل فيَنْبغي أن يتَربَّوا بغيرهم، حتى يترَبَّى بهم غيرهم، فإذا لم يتربَّ فكيف يُرَبي
وقال رضي الله عنه، الحزم تَرْك الكلام، لأن من كثر كلامه كَثُرت خطاياه، فإذا تركه سَلم من الإثم والفضول
وقال رضي الله عنه، نحن جاه حَضْرموت ما هو على بالنا، ومانَرَى جاهَهَا إلا الخمول، وما يَدْخل علينا لا نَفْرح به، إلا إن نواسي به محتاجاً وما خَفَّنا عن الإقامة في الحرمين إلاَّ خوف الشُّهرة والجاه، وهذا فينا من حيث الطبيعة لا أنا نتكلفه، ولأن الإنسان ما يستقيم أمره ويَصْفو إلا إذا كان فيما بينه وبين الله، وإذا ظهر دَخَلت العلل، إنْ ما دخلته من جانبه، دخلته من جانب الناس
(٢/٦٣)
وشكا إليه رضي الله عنه رجل من فقرائه ضِيْق المعاش، وكان ممن يقرأ القرآن، فقال له، إجعل المصْحف نُصْبَ عينيك، ولا تزاحم أهل الدنيا، وخَلّهم هم الذين يجيئون إلى عندك، لأن صاحب الدِّين لا يحتاج إلى صاحب الدنيا، هل يحتاج من عنده جوهرة إلى من معه وَدْعَه، ومن رأيته يتنعم في الدنيا ويتقلَّب فيها فهو كالمتمرغ في عَدانِه، أي مزبلة هل يُمْكنك أن تَغْبطه وتتمنى أن تتمرغ فيها مثله، لا، بل تَفْرح بالسلامة من ذلك، واصبر مع عيالك وخلهم هم يترقونك بالعشاء والغداء إذا رأوك مهتماً بأمر دينك، وغافلاً عن هَمِّ المعيشة، ولكنك خُذْ منه ربع الكفاية ورد لهم الباقي، وقل أنتم تَتعبون في تَحصيله، وأنا جالس، فهذه هى الطريق لك ولِجُبْنِك ما تعرف الطريق مع طول مجالستك لنا، لا بَلْ تَعْرفها، ولكنك نَفْسك غالبةٌ عَلَيْك، فلا تَقْدر تَعْمل، قال ذلك ضحى يوم الجمعة ثالث جماد أول سنة ١١٢٣
وقال رضي الله عنه، شاغل أهل حضرموت وراحتهم في أيام الخريف، فتظهر في هذه المدّة أشغالهم الباطنة على ظواهرهم، ولكنها أشغال مُسْتلذة عندهم
(٢/٦٤)
وأشار رضي الله عنه، على فقير من بعض فقراء الجِهَة أقام هنا، بالمسير إلى بلاده، وقال له، بلادك الآن خير لك، والخَريف قَرُبَ، فلم يمتثل، واختار الإقامة بتريم، فَتَركه ثم بعد أيام أخبره رجل من أهل بلده أنه حصل بَيْع في نخيلات له ولإخوانه لغيبته عنهم، فجاء يطلب الشور في المسير، فقال له ما عاد شئ شور في المسير الآن وقد سَبَقت لك الإشارة فلم تمتثل، والآن افعل ما أردت، فقال، بل أريد الإشارة والدعاء فقال نفع الله به، ما يصير الإنسان صالحاً، إلا صاحب علم يَعْمل بعلمه أو صاحب حال يَعْمل على حاله، وأما لَقْلَقْ ما يَنْفع، وهذه لَقْلَقة اللِّسان المذمومة، والإشارة ما هي إلاّ استماع وامتثال من غير اعتراض، بل يسَلّم ويمتثل، ولا يقيس بعقله، ثم لا عليه، فلو قلت لك رُح اجلس في يَبْحَر، أما تقول هاه من أين آكل، وأنتم اجعلونا في الإشارة إلا كصاحب علم يشير بما يقْتَضيه عِلْمه، ولو ما عرفتم وَجْه الصلاح فيه، وهو لابد أن العالم ما يشير إلا على مقتضى العلم، ولا عاد تجعلونا أهل صلاح، نشير بمقتضى الصَّلاح، ومن اعترض على العلم اعترض على الصَّلاح أيضاً
وقال في غير هذا الموقف، والإشارة ما تبرز في كل حين، ولا لكل أحد، وإنما هي عارض أي فالممتثل ينبغي له اغتنامها إذا حصلت والاعتماد عليها ساعة يسْمعها
(٢/٦٥)
وقال رضي الله عنه لرجل جاء زائراً، أتريد أن تسافر إلى بلادك؟ قال، الذي تَبْغون، فقال نفع الله به، كيف الذي تَبْغون، هذه كلمة فيها سوء أدب، إنما نستخبركم عما أردتم أنتم، وتعرضونه علينا ما هو إلاَّ إذا قال واحد هكذا نخليه يَمْكث شهرين، حتى نشوف خَبَره، ونحن قد ذكرنا لكم ما جرى لنا مع السَّيد عمر العطَّاس وأمثاله، لتَعْرفوا وتَعْتبروا، لمّا زرناه وخَرَجْنا من عنده، وهي تَمْطر، فقال لنا، عساكم تجلسون، فقلنا له، إن أشرت لنا بالجلوس جلسنا، وإن كنت إلاَّ من جهة المطر فلا عَلَينا من ذلك، فَخَرجْنا وأبردنا، وإنما ذلك مع الانطراح الكلِّي حتى نحن نود أن يكون معنا منه بعض شيء، وقد جاء بعض المريدين إلى بعض المشايخ طالباً، فقال له، رُحْ أولاً إلى عند الشيخ عبدالقادر يعلّمك أظن قال الأدب أو الانطراح، فراح إلى عِنْده فَتَركه نحو مائة يوم أولاً والكذب كذبان، كَذِب يختلقه الإنسان، بأن يقول خلاف الواقع، وهو كذب الفُسَّاق، وكذب في الحال بحيث يدعي أمراً لو امتحن فيه لكان على خِلاَف ذلك، ولا يصير الإنسان من الصدِّيقين حتى يصدق في الأمرين جميعاً، ثم هو على درجات
(٢/٦٦)
أقول، وكان سيدنا رضي الله عنه من سِيرته كما يدل عليه أقواله، أنه إذا أشار على أحد بأمر ورآه راغباً في خلافه، قال له، افعل كذا الذي يريده، أي إذا لم يكن فيه إثم، ويقول له، إنما قلنا لك كذا إيناساً لك، ونحو ذلك، وقد رأيت من جَماعة سيدنا نفع الله به، على هذا الوصف أي من الانطراح الكلي، الشيخ عمر العمودي، حتى إنه يوم الخميس والقهوة تدار حال الخَتْم، وكان قاعداً في الصَّف، وسيِدنا قدَّامه في المحراب، فأعطي فنجاناً وكان صائماً على عادته فقَبض الفنجان وأراد يَشْرب ويَبْقى على ما نَوَاه لكنّه ما استعجل بالشرب، ففي الحال نادى سيدنا الخادم خذ الفِنْجان من يده، فتناوله منه وأعطاه إياه، فعجبت لذلك منه رحمه الله، وزاده من كل خير
وقال رضي الله عنه لرجل مسافر من جانب سَفَره، فقال، على ما تريدون، فقال نَفَع الله به، مُرَادنا إطْلاق الكلام للتَّنْفيس، ولا نقيده فَيَحْصل التَّضْييق، وإذا جعل اللّه لك النَّفس، فلا تُضَيّق على نَفْسك، ليعاملك اللّه بالنَّفَس في دينك، ومعاشك، وكل أمورك، ولو أردنا تقييد الكلام في مثل هذه الأشياء قيدناها، وجعلنا إذا قال، أريد السفر اليوم، قُلنا، غدوة، وإذا قال، غدوة، قلنا، اليَوْم، ولكنّا اخترنا التَّسهيل على النَّاس، فيكون على ما سَهل على الإنسان، إن كان ذلك عن قرب أو على بعد
(٢/٦٧)
وقال سيدنا يوماً رضي الله عنه في معرض المزاح، وهل لو جاء رجل إلى بعض الناس، وقال له أبسط سجّادتك على الماء، أو قال أظن على الهواء، ولم يألف ذلك، ولم يَعْرف القائل له، هل يُطِيعه أم لا، ثم قال، ما أظن أنَّ أحداً يجيب إلى ذلك، إلا فلان، لأن الإنسان لا يَدْري هل ذلك من الصَّالحين أو شيطان ثم إلتفت إليَّ وقال، لو قال لك أحد تعال أوصلك إلى بلادك في ساعة تطيعه؟، قلت، أشاوركم، وأشرط عليه الإعادة على قرب، قال، لا، إنه لو جاءك وحدك، قلت، لا أجيبه، قال، قد قيل، إن كرامات الأولياء وغاراتهم قد طُوِيت، حتى أنه رُوي أن بعضهم جاء بحزْمة سيوف إلى آخر، وقال، هذه أحوال الصالحين طُوِيت، ثم قال سيدنا، ما الإنسان يريد الصلاح ولا الصالحين لأجل هذه الأمور، إنما يريد ذلك لطاعة الله تعالى والدَّار الآخرة، أقول، وأول هذا الكلام مقدّمة لآخره، ولهذا ذكرته
(٢/٦٨)
وأراد رضي الله عنه يوم الجمعة ثاني ذي القعدة يركب إلى البلاد اعترضه ابن ابنه أحمد بن الحسين وسنّه حينئذ نحو خَمْس سنين، أراد يركب معه إلى البلاد، وإذا بمكتِّب جاء بأوراق من الشِّحر، فصَافحه وناوله الأوراق وناوله قرشاً مُرْسلاً به من الشحر، فقال لأحمد، أترجع وتأخذ هذا القرش، قال، نعم، فأعطاه إياه، ورجع فسار سيدنا قليلاً، ثم قال يخاطب الخادم، كأنك حزنت عليه، تريده للجَعْلاَ أما قلنا لك قل، يا فتاح يا رزاق فأبيت، فقلت أنا، إن لم يقبل الإشارة فأنا أقبلها، وأقول ذلك، ثم بَعد قليل ونحن سائرين، قال، ولو كنا نُخَبِّي وندخر لغيرنا من الأهل والمحتاجين، فطريقنا عُمَرِيّة، إنما هو تقدير الأمور وتَرْتيبها، وَوَضْعُ كل شئ في محلِّه، وإن كنّا لا نَحْفل بها فإن عمر كان يُرَتّب ويقدّر لأبي بكر، إذ أبوبكر من أراد منه شيئاً له وجه في أخذه أعطاه إياه، وعمر ينظر من أولى منه، وكان له قوة في تَقْدير ذلك إذ لا يريد شيئاً منه لنفسه، ولو كنا متجرِّدين من الأهل والعيال، لكنا لا نَدّخر شيئاً، ولا نَبِيْت على معلوم، فقلت له، من فَضْل اللّه أنهم رأوا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومن بعدهم رأوهم، وهكذا إلى زماننا، وفي نفسي إننا أيضاً رأيناكم، فقال، نعم والأولياء موجودون الآن، وما عدموا، ولكن يَخْفَون ويقلُّون، وظهورهم وخَفَاهم بحسب صلاح الزمان وفساده، لكن انقسم النَّاس فيهم إلى محب غالي يكاد يعبدهم من دون الله كما كان ذلك في حق سيدنا علي، ومنهم عدوّ شاني حتى لَعنوه على المنابر، ولكن المبغضون لم يزل أمرهم يَضْعف ويتلاشى، وأمر الآخرين يَقْوى حتى في وقتنا هذا منهم المطبوع لنا على المحبة والتَّعظيم ومنهم العدو القالي وإن أظهر المحبة، حتى إن أحدهم لم يطالع لنا كتاباً، وإذا سمع لنا نظماً ضاق منه، مع مجاروتهم لنا في النَّسب والبلد، فلا هُم رَبَّوا دينا ولا رياسة، ولولا انقباضنا
(٢/٦٩)
عنهم وعدم مخالطتنا لهم، كان آذونا وأشغلونا، فذكرت له حينئذ رؤيا وقعت لي البارحة، وهي إني قلت له، رأيتكم البارحة وأنا معكم جينا من مكان، وإذا بكم تقولون، سر إلى المكان الفلاني، وكأني ثقل عليَّ ذلك لعسر فراقكم عليَّ، فلم تعذروني في الترك، فلما رأيت منكم العزم، قلت، فإذاً أكون معكم في الدنيا والآخرة، فقلتم، نعم، فَفَرحت لما قبلتم مني ذلك، فقال، ذلك لتعلقك بالسّلسلة، ولما بلغ أحمد المذكور سَبْع سنين ألبسه حينئذٍ عمامة، فجاء فرحاً بها إلى أبيه الحسين، فأخذها منه، فرجع إلى حبيبه باكياً، فلام أباه في أخذها، فكتب أبوه الحسين إلى أبيه سيدنا الحبيب أبياتاً يعتذر فيها إليه، ويقول، الكبير أولى بالعمامة من الصَّغير، فكتب إليه سيدنا والده هذه الأبيات جواباً له على نمط أبياته، بسم الله والحمد لله ،
وليس على أحمد لكم ملامة وتعذره الولادة والرحامة
وحَسْبك قول من يسأله كسرى من الحكماء أرباب الزعامة
وحب المصطفى المختار صلى عليه الله ما درت غمامة
لابنيه حسين وأخيه بني الزهراء فاطمة الكرامة
وكُلٌّ تابعٌ للكل منهم لأنهم مصابيح الإمامة
وبعد وفاة سيدنا الحبيب بأيام، قال لي أحمد المذكور، رأيت البارحة كأني دَخَلت على حبيبي عبدَالله في قبره وكأنه أعطاني عمامة، ودعا لي
انظر ما قال في الولاة الظلمة وشؤم الظلم
(٢/٧٠)
وقيل له رضي الله عنه، فلان يَعْرفكم، وهو من بعض الملوك، فقال هو يعرفنا ونحن لا نَعْرفه، ومن بَدَهَنا من الولاة الظلمة وعنده الدنيا ما رجع، وأما أنَّا نتعرف بهم فلا، ونحن على القَدَم المحمدي وسيرة سلفنا السَّابقين ما استطعنا، ومظهرنا إنما هو مَظْهر علم، لا مَظهر رؤية شئ آخر، لأن الرّياسة على أهل الدين، إنما هي زرابِهم، وعاد نحن في جميع أحوالنا مترخِّصين في جميع أحوالنا، في حالتنا هذه على مُقْتضى العلم أيضاً لا على مقتضى الباطن، ولو نظرنا وعملنا على ما نَعْرفه من العلم ما سَاغ لنا شيء، ونحن لا نَسْتريح بما يَحْصل لنا من أمور الدنيا لأنا فيها أزهد ممن تأتينا من عِنْدهم، لأنهم يتعَذبّون في تحصيلها، ويَجْتهدون في طلبها، وطريقتنا طريقة الفُقَراء، وهي غير طريقة المشايخ، ونحن ما نريد أحداً يتقيَّد لنا، وإن تقيد فمن غَيْر علم منا
(٢/٧١)
وقال رضي الله عنه، لشخص يذكر الأدب، خذ مني، هذه المراتب تعطي الإنسان، سواء كانت مراتب الدين أو مراتب الدنيا، ألا ترى في مراتب أهل الدنيا ساعة يُعزل عنها يكون على أخسِّ حال، لأن المراتب على أصل الخِلْقة، والخلقة من فعل الله، بخلاف مراتب العمل، فكلّ مرتبة تعطي صاحبها ما يناسبها سواء كانت المرتبة محمودة أو مذمومة، ثم قال، ونحن ما أنكرنا على فلان، أنه يشرب الخمر أو يَزْني، وإنما قلنا، إنه ما يعرف أمور المرتبة، لأنها تحتاج إلى رصانة، وتحتاج إلى رزانة وتحتاج إلى سر، وتحتاج إلى معرفة، والبَخْت من وراء ذلك، فمن كان له بخت أنقلبت سيئاته حسنات ومن لا بَخْت له بالعكس، انقلبت حسناته سيئات، وفَتْكُه إنما كان في لسانه، لا في فعله، ولو كان فتكه في فعله، لتم له أمره، ولكنه في قوله، ومن كان فَتْكه في لسانه، فإنه يهتك ولا يفتك، ولكن وقع ما قَدّره الله، والمملكة الدينية والمملكة الدنيوية لا بدّ لها من تحفظ ومِنْ تأمل ومَن له علم رأى جميع هذه الأمور قد سُبق إليها
(٢/٧٢)
وذكر يوماً رضي الله عنه ولاة الأرض وتَغَيّر أحوالهم فقال، جاءنا فلان فقلنا له، أنتم اليوم والرّعية أموات، ما الحي إلا آل فلان و يافع ولكنهم أول من يُخَرّب، لأن من عَمَرَ نفسه بخراب غيره خَرُب، وهذا سَلَفٌ مجرّب إما أسرع وإما أبطأ، فقد كان بعض السَّادة معه ساقية ماء، وفي البلاد نقيب، متسلط في وقته، فأراد أن يَقْتَطع من ساقية الشَّريف شَيْئاً، فَجَمع لذلك جماعة من العمارين وأمرهم بذلك، فقالوا لا نفعل حتى تَبْتديء أنت فأزال بيده حَجَرات، ثم فعلوا كَفِعْله حتى أخذ منه الذي أراد، فلما أُخبر الشريف قال، خَرّب الله دياره في الدنيا والآخرة، فمَكَث أياماً لم يصبه شيء فتعجّب السيد وقال، هذا تعدى علينا عدواناً ثم لم يصبه شيء، هذا عجب فمَرّ يوماً مقبلاً من التربة، فسمع قائلاً يقول، هي تقع غير ما بَيْن عاجل وآجل، فكان ذلك النقيب في تلك الليلة أو اليوم يَنْزح على بير الحصن، يريد يَسْقي فرسه وحوله جماعة إذ أفلت الدّلو من يده، حتى سقط فقالوا له في ذلك فقال، قطعت يدي يدُ القدرة، فخرج في يده جرح، وهي التي قطع بها الساقية، ثم خرج إلى ذراعه ثم إلى حلقه ثم هَلَك وهكذا سنة اللّه في خَلْقه يَنْتقم الله بالظَّالمين، ثم ينتقم منهم، وإذا تعدى الإنسان ضَرَّ نفسه وضَرَّ غيره، وإذا بقي على حِشْمته ولم يتعَدَّ حدّه نفع نفسه ونفع غيره، ما هو إلاّ إذا رأيت إنساناً مائلاً عن الحق انصحه بما أمكنك إما بالإشارة أو بالتَّعريض فإن قبل فذاك، وإلاّ مِلْ عنه وخَلّه لربِّك، فإن ذلك حَظّه منه، فكل من رأيته على غير الطريق خله لربك
(٢/٧٣)
ودخل عليه السيد زين العابدين، فذكر له مجيء بدر وجماعته إليه فقال نفع الله به، جاء إلينا هؤلاء يلوّحون مثل من يلوّح بعود إلى عِلْب ليسقط منه له شيء وتسييب أوائل الأمور ثم طلبُ الذيل بعد ذلك أمر عسر، ما عاد إلاَّ من يَسْتشيرك في مثل ذلك، تبعد منه وخله على ما هو عليه، أو قل له إسع فيما أردت فإن حَصَّل شيئاً فأنت معه شريك، وإلاَّ سَلِمت من التَّوسط مثل حجة الصيد وهذه الأمور في هذا الزمان ما عادها إلا بالبخت، فلا تعتمد اليوم فيها إلا على البخت والنَّصيب، وإلا فالأسباب ضَعُفت وقَلَّت ومما جربناه في هذه الأيام ببركة السَّادة أنه إذا جاءنا أحد يستشيرنا في شيء لا نريد أن نشير به عليه، نقول له، على ما أنت عليه ولكن الله الله في الدين والصلاة والطَّاعة وقراءة القرآن، ولا نزيدهم على ذلك، ولكن بعد ذلك ما يَحْصلون إلا على خير
وصافحه رضي الله عنه، مَكَّاس بلدة شبام وقد يُجْعل مكاسا في تريم، فقال له، لا تكن عَذاباً على أهل بلدك، ثم تكون أيضا عذاباً على أهل تريم، إذا أُمِرت بذلك فاعتذر، فإنك إن كنت في خَير فيكفيك ما أنت فيه وإن كنت في شَرّ فلا تجمع شراً إلى شرٍّ، وأوصاه كثيراً بالمساكين، وكافة المسلمين
(٢/٧٤)
وقال رضي الله عنه، ما غَيَّر الناس إلا النَّاس، حتى الدولة ما سَبَب غيارهم إلاَّ هم، وإلا فأحسن أن تسامح الغني لأجل الفقير، ولا تطبخ الفقير بمرقة الغني، والظلم يمحق، وتلا، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ } الآية، وهؤلاء كذبوا، وإذا فعل من آمن مثل فعل من لم يؤمن حصل فيما حصل فيه، والتكذيب يكون في القلب وفي الأقوال والأفعال، وهؤلاء كذبوا بأقوالهم وأفعالهم، والله أعلم بما في قلوبهم، وإذا ذبح الرعاة الغنم للذئب ما بالك؟، وقد كان الرعاة يحفظون الغنم عن الذئب، وهؤلاء ذبحوا الغنم للذئب، ولكن الله يُمهل ولا يُهْمل، وقد قال الله تعالى في بعض ما أنزل، أنا الظالم إن لم أنتقم من الظالم، وجاء أيضًا أنه تعالى قال، لو كان الظلم حَجَراً ملقى في الجنة لخربت الجنَّة بسبَبه مع أن الجنة لا تَخْرب، وجاء أيضًا، إذا صلح الولاة والعلماء تَمَنّى أناس من الأموات أن يكونوا في الأحياء، و إذا فَسَد الولاة والعلماء تَمَنّى أناس من الأحياء أن يكونوا في الأموات، والآن هنا أحد في الأحياء يَتَمَنّى أن يكون في الأموات
وذكر رضي الله عنه، أقواماً مخالطين للدَّولة، فقال تكَدَّرت أحوالهم، لأن الصفا يتكدر بمخالطة أهل الكدر، والنَّاس معهم منذ عشر سنين، وهم يذوبون كما يذوب الملح في الماء، والشَّجر في النار، وقاعدة أهل هذا البيت الخراب، وإلا فقاعدة، من له حيلةٌ ضبطَ في مكان، حتى إذا رؤي منه ذلك، انضبط المكان الآخر، ولكن هذا آخر ملكهم، لأنه مُلْك شيبة، وَوَقَع خرابه بأيدي أهله، وهو كالضَّرب في الشَّجرة، وما عاد مع الجزع ثواب بل عقاب آخر
(٢/٧٥)
ودَخَل عليه رضي الله عنه رجل من بيت دولة الجهة، فقال لسيدنا السيدُ زينُ العابدين، لكن رأيتم فلاناً، يَعْنيه، عسى أن يكون له حُرَّاقة ناضجة بحيث تُوري من أول قَدْحة، فقال، سيدنا، إنا قد طَرَحْنا القُرَّاعة في هذا الزمان فلم نقدح لأحد فيه قط
وقال رضي الله عنه، لله في خلقه مثوبات وعقوبات، فمن أحبه منهم أقامه في المثوبة، ومن أبغضه جَعَله في العقوبة، وإذا رأيت أن اللّه جعل أحداً ينتقم به ممن خالفه فاعلم أنه يبغضه
وذكر رضي الله عنه والي اليمن، فقال، هو ظالم لأن الظلم له صورة، وإنما هو عقوبة طَرَحه الله على رِقاب الناس، والوالي الظالم عقوبة، يعاقب الله سبحانه به أولاً ثم يعاقبه
وذكر رضي الله عنه عمر بن جعفر، فقال، حركاتُه كثيرة، وظَفَرُه قليل وإذا أراد الله بالعبد شيئاً أي من الخير جعل حركاته قليلة، وظَفَرَه جَمَّا، فانظر أمر الله في خلقه، أحد منهم في الراحة وأحدٌ منهم في التعب، وأهل حضرموت يَعْملون كالمريض الذي بَعُدَ منه الطبيب ولا معه دَوَاء وليس للناس حاجة بقتل يافع، ما هو إلاَّ يَرْفعون أيديهم من الأموال التي ما تنبغي لهم، وَصِفَةُ العسكري ما هي إلاَّ هكذا، ولو كان أربعة جماعة أردت تقدم منهم واحداً تَعالقوا، والأمر ما هو إلا بالنظام، وقد قَصَد ستّة نفر بعض الملوك ثلاثة منهم عجم وثلاثة عرب، فأمر لكل بسرِير ومِرْوحة، فأما العجم فأَمّروا واحدا منهم، وجعلوا له السرير، وأعطوا المروحة آخرَ منهم، يُرَوّح عليه، والآخر جَعَلوه على الباب بواباً، وأما العرب فاختلفوا بَيْنهم، كل منهم يريد أن يؤمَّر، فلما علم الملك بذلك أمر العجم الثلاثة بالإقامة عنده، وأعجبه حالهم، وطَرَد الثلاثة العرب، وقال هؤلاء مفسدون لا خير فيهم، أو كما قال
(٢/٧٦)
وقال رضي الله عنه في الحض على التأهل للولاية وغيرها، تأهلوا للشيء، والصغير يربَّى كالعَشعش، يُسقَى ويُربَّى حتى يَكبُر، فلو أراد جاهل يتوَلّى القضاء لم يمكنه ذلك والسياسة لها حكم، والشريعة لها حكم، ولكن السياسة تُحكِم الشريعة إذا كانت السياسة من أهلها، كما إن العادة تخدم الشريعة، وقد رأيت الإمام المتوكل، وكأني مررت عليه، وهو في طريق كلها شوك، وعليَّ حذاء، وهو حافي فقلت له، خذ الحذاء فالبسها لأنك صاحب أمر، فقال، لا، ما يُحتاج إليها، وإنما هي لأجْل، ثم تَكَلّم سيدنا بكلام اشتبه عليَّ، ثم أنشد هذا البيت ،
ولربما قتل الفتى أقرانُه بالرأي قبل تقاتل الأقران
ثم قال والأمر ما هو إلا بالرأي والسر والسياسة
وذكر رضي الله عنه تَذبذب السلطان وامتحانه فقال، من تولى على قوم، يفعل الله به في الدنيا كَفِعله في رعيته، كما أتعب الناس بالظلم، أتعبه الله، صام الناس رمضان في بيوتهم، وهو لابِدٌ في غار تحت حِجَارة في شَبْوة وهكذا فأخذهم بأعمالهم
(٢/٧٧)
وذكر رضي الله عنه رَجلاً وكان من سلاطين البلد المتقدمين، أظنه بدر بن عبدالله الكثيري قال ذلك في طريق السبير يوم الأحد، سابع ربيع أول سنة ١١٢٥، فقال نفع الله به، إنه لا بأس به، وإن كان مخلّطاً فإن فيه خيراً يَسْتره، وأما الآن إنما فيهم شوك بلا ثَمَر، مجرد شر بِلاَ خير، وأما لو كان شوك معه ثمر فحسن، فالنخلة فيها شوك وثمر، والعِلب فيه شَوْك وثَمر، وغير ذلك فلما كان جالساً في السُّبير، قال، النخل هذا العام مليح الثمر، ولولا أن المَهْدي تتقدَّمه فتن لقلنا هذه السَّنة من سِنِين المهدي، فقيل له إن بعض النخل، أي نخل السُّبير أصابه السيل، فقال، قد كان فيما مَضَى يصله سَيْل دَمّون، فأردنا أن نأخذ منه له ماء، فخَشينا أن يَكُون ذلك حَقّاً مستمراً فَتَركْناه، ويَنْبغي للعاقل في هذا الزمان فَضْلاً عن الزَّاهد أن يفرح بالسكون ولا يُحَرّك ساكناً، ويترك الناس على ما هم، وأرزاقهم على ربهم، وهو كافيهم إياها ،{أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَه}، وإن تحرك فليتحرك في أمور الدين، فإنها مُعَطّلة، ولو قام عليك عشرون سيفاً أو عَصاً في شيء فأحسن لك أن تتركه، ولو هو مالُك
(٢/٧٨)
وقال له رضي الله عنه بعض السادة وكان قريب عهد بالسّفر ومن عادته الانبساط معه قال، قَدِمْتُ من السفر إلى الآن في كل شهر ثلاثة قروش دُفْعة للدولة يأخذونها منَّا، ولا عاد شيء يقع برهان، وقد كنا في السفر يحصل ذلك كثيراً، فقال رضي الله عنه له، الفوائد تتبع العقائد فهناك تحصل للشريف مَشَمَّة ويُعْتَقد، وأمَّا هنا فالمكان ملآن من الأشراف، إذا تعدَّى واحداً لحق اثنين، فضَعفت العقيدة لذلك، ثم قال الرجل، خاطركم بالفرج عساكم تأذنون في قراءة يس في مسجد باعلوي بنية الفرج للمسلمين، فإنكم لما أذنتم بها في طلب الغيث، لم يفرغوا من مدة قراءتها، حتى ضاق الناس من كثرة الغيث وملوه حتى قرئت بنية قطعه، فقال رضي الله عنه، بِشَرْط أن تقسِّمون على الفقراء والمساكين، إن أردتم يس فقسموا، وكلٌّ يعرف يقرأ يس، كما حكي أن رجلاً وقف يقرأ يس على دار بعض الناس، يَطْلب حاجة من صاحب الدار، فَنَزل صاحب الدار فدارسه إياها، وقال كلنا نحسن قراءة يس، لا تظن أنه لا يحسن يقرأها إلا أنت، ولكن الأشياء إنما هي بالإشارات، وفي الناس مصرّرِين، إذا جاهم الفقير يطلب الزكاة دفعوه وَمَنعوه، فلما لم يعطوا الفقراء حَقَّهم من حقِّ الله، سَلّط الله عليهم من يَقْلعها من مناخرهم قَهْراً، فما أصابهم هذا ونحوه إلاَّ بمنعهم من الحق، ولَوْ لم يمنع منهم إلا واحد، فإنما كان عاقرَ الناقة واحد، ورُبّ فقير محتاج إلى مِلْحفة ما يقدر عليها ما يعطونه من الزكاة ما يشتري له به ملحفة، فأين الزكاة، وأين حق الله، ما يُخرجونه، وأمر بقراءة "الإحياء" في مسجد آل أبي علوي، وقال، إن فهموه، وإلاّ فلا يَخْلو من روحانية أحد من الصَّالحين، أو روح يَحْضر إذ ذاك، لأن الأولياء منهم مَنْ تُطْلَقُ روحه في الدنيا والبرزخ والآخرة، وكثير من السادة آل باعلوي كذلك، كما ذُكر إن رجلاً اجتمع بالشيخ السيد عمر باشيبان في
(٢/٧٩)
المشقاص بعد وفاته، فقال له، مَن أنت؟، قال، أنا من الطُّلَقَة، ومنهم من تُطْلق روحه في الدنيا فَقَطْ، ومنهم في البرزخ، ومنهم في الآخرة، ومنهم من يَمْكث ببدنه في قبره بلا إطلاق لروحه، أو كما قال
وذكر رضي الله عنه كلاماً يُرْوى حَديثاً، إن الله يأخذ من الظَّالم لمن ظلمه ثواب سَبْعين صلاة مقبولة، ثم قال نعم إن حَكَّموه في حسناته يأخذ هذا وزيادة، لكن مقام العدل لا يقتضي هذا، بل يعطى قدر حقه قَلَّ أو كثر، لأن مقام الآخرة كله عدل ظاهراً وباطناً، لأن أمره إلى الله لا سواه، وأما العدل في الدنيا فهو ظاهر، لأنه مَنْسوب إلى الخلق ظاهراً ومنسوب إلى الله تعالى في الباطن أيضاً، وكما إن الله تعالى طلب من الخلق العدل في الدنيا كذلك يعاملهم به في الآخرة
وتكلم رضي الله عنه في أهل الزمان وفي دُول الجهة وفي كَثْرة ظلمهم فقال، أكبوا على جِيْفة الدنيا، وهي حرام إلاَّ قدر الضرورة، قال تعالى ،{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} الآية، ومن تأمل أحوالهم عرف أن ما فيهم رَحْمة، لا الدولة على الرّعية، ولا الرعية بَعْضهم على بعض، فإذا لم يَتَراحموا ما رُحموا، وأكثَرَ في مثل هذا ثم قال، إنا نحب أن نتنفس مع من نحب،فإن لم نتنفس وبقي ذلك مكموناً في صدرونا نخْشى عليهم أن يصابوا
(٢/٨٠)
وقال رضي الله عنه في قول بِشْر، صُحْبة الأشرار تُوْرث سوء الظن بالأخيار، أي لأن الأشرار غالب أوقاتهم يَذْكرون النَّاس بما لا يَنْبغي فيقولون، فلان كذا وفلان كذا، حتى يَصِفوهم بأشياء من سمعها أنكر عليهم، حتى حكى لنا رجل، أنه بقي يوماً يمشي خلف رجلين من أهل تريم يَذْكران صالحيها، وأحدهما يقول للآخر، ما تقول في فلان؟، فقال، إنه يأتونه الدَّولة أو يَرُوح عند الدولة، قال، وفلان؟، قال، إنه كذا وكذا، قال، وفلان؟، قال، فيه كذا وكذا، حتى لم يبق منهم أحد إلا ذكره بشيء، فقال له، كيف قلت إنه الآن لم يبق فيها صالح، ثم قال سيدنا، والقدح في أهل الخير، يقتضي القدح في الدين
وقال رضي الله عنه في حديث، (( من حمى مؤمناً من منافق ينتهك حرمته ))، أي يغتابه، وهذا يدل على أنه لا يغتاب الناس إلا منافق، إلا أنه قد يكون منافقاً تام النفاق، أو دون ذلك
وقال رضي الله عنه، الشَّقاوة لها في قلوب أهلها حلاوة أشد من حلاوة السَّعادة، أو قال الطاعة لأهلها، حتى إن أمير الجيش الذين استباحوا المدينة وهَتَكوها، وقتلوا غالب من كان فيها من المهاجرين والأنصار وذرياتهم، وتُسمى وقعة الحَرّة، وذلك أنه اتفق موته بين مكة والمدينة، فقال عند النزع، إن كان عَذّبه الله بعدما فعل في أهل المدينة ما فعل، إنه لشقي، انظر كيفَ عَدّ فعله ذلك قُرْبة يتقرب بها، وكان الجيش من قِبَل يزيد بن معاوية
وشكا إلى سيدنا رضي الله عنه رجل شدة الظلم من الدولة، فقال له، اصبر على ظلمهم حتى يضجروا من الظلم فيتركونه، أو يضجر الظلم منهم فيأخذهم الله
وقيل له رضي الله عنه، عسى ببركتكم أن الله يكفي الناس شَرّ يافع، فقال، الذباب لا يقع إلا على علة، فعسى الله يكفي الناس شر أنفسهم، إذ لولاها لكانوا في عافية
(٢/٨١)
وذمَّ رضي الله عنه هؤلاء الظلمة، فقال، لو قيل لأحدهم هاك كذا دراهم، و صلِّ إلى شرق لفعل، فالخطاب مع هؤلاء ما يجوز، وما عاد إِلاَّ إمنع على دينك، وأشفق على نَفْسك، وما قدرت عليه من فعل خير فلا تكره
وقال رضي الله عنه، الظَّلمة ينبغى أن يُقرعوا بأشياء، إذا اعتبرها الإنسان في الدين صحت، ولا يَنْبغي أن يسلط الظَّالم على شئ أصلاً، أما ترى في قصة إبراهيم مع النّمروذ، حيث قال له إنها أختي، وكذلك كلماته الثلاث
وذكر رضي الله عنه المَظَالم، فقال، مظالم أهل الزمان إنما هي في ألسنتهم وأعراضهم، وإلا فإنهم أشحاء بأموالهم، وكلٌّ ظَالم ومَظْلوم وما بقي إلا التَّواهب، كما في الحديث، تَوَاهبوا المظالم فيما بَيْنكم وادخلوا الجنة برحمتي
وَدَخل عليه رضي الله عنه رَجل من أهل الدَّولة، فقال سيدنا له، أنتم ثلاثة قد قَصَدْتم هذا الأمر، أنت وعمر بن جعفر وآل الشيخ أبي بكر، ولا انجحتوا، فقال الرجل، أنتم الأصل، وإنما نحن مُدَيْرَة على سترة، فقال نفع الله به، لا تحتج بالأمور الإلهية، فإنها عامة لكل الناس، وفيها حجة لك، وحجة عليك، وها هو الطَّعام تحت الرحا، ولا شيء عود ولا سهم، ولو إنه إمتثل وَرَقَة واحدة من أوراقنا التي كَتبَنْاها إليه كَفَتْه، وقد تأسَّفنا على كتابتها إليه لما أهملها، وقد قُلْنا له اجمع أوراقنا، فإن لم يكن لَكَ بها حاجة، فلنا نحن بها حاجة، ونحن ما أخذنا الرِّياسة إلا من الكتب على قانون الشَّرع، لا مثل ولاية فلان وإن كان لنا منها نَصِيب من جهة سيدنا عليّ، إلاّ أن سَلَفنا تركوها وزَهِدوا فيها
وقال رضي الله عنه في انتصار المظلوم من ظالمه، بعد كلام طويل، ماعاد اليوم إلاّ كل ينتصر لنفسه، ويَرَى أنه هو المظلوم، ولكن يَنْبغي أن يداريهم بِحُسن الخلق، وهذا لمن خَالط الناس، وعرف طبقاتهم وأحوالهم
(٢/٨٢)
وذكر رضي الله عنه جهة الجِرَبْ إنها ضعفت وَتَغَيَّرت، فقال نفع الله به، راح بها دعاء أهلها، إذا حصل عليه بسببه شيء من المتاعب من نحو دولة أو غيرها قال، الله يَفْعل به ويَفْعل، فغيَّر ذلك عليهم، وهذا كما قال الله تعالى، { وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ} الآية، ثم قال، معك خصلتان يمحقان، تعلّق الدولة، وتعلق هِمم الناس، ثم ذكر إفراط ولاة الجهة في الظلم، فقال، لو جاء والي على الجهة يريد أن يدمّرها بِسيَاسة من غير قتل ولا إزعاج، ما فعل بهم مثل هذا الفِعل، وقد أمرنا بعض سلاطين الجهة بشيء من المعروف، وهو السلطان محمد بن بدر الكثيري، فلم يَمتثل، فأرسلنا إليه رَجُلاً ممن يتَّصل به ويداخله، فكلَّمه بكلامنا، فقال، إن فلاناً يريد مني أن أسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، وأنا ما أطيق ذلك، ولا قُدْرة لي عليه، فحكى لنا بقوله هذا، فقلنا للرجل، حُكمك، بَلَّغْتنا كلامه، فهل تُبَلِّغه كلامنا؟، فقال، نعم أبلغه كلامكم، وما عليَّ منه، فقلنا له، قل له يقول لك، تخزى، ما نطلب منك أن تسير بسيرة عمر بن عبدالعزيز، لا أنت ولا نحن في أنفسنا ولا في أهلنا، ولا من هو أحسن منا، وإنما نريد منك أن تَقُوم وتؤدي من حقوق الله وحقوق عباده، ما لا يغيّر عليك أمرك الذي تقصده
وقال رضي الله عنه، جعلنا لمحمد بن بدر قاعدة، أن يعمل بكل أمر من أمور الدين والدنيا التي يُحتاج إليها، بما لا يخل عليهم في الأمر الذي هم بصدده، فقال أما هذا فسهل
ذكر دوعن وآل العمودي
(٢/٨٣)
وذكر رضي الله عنه فتنة دوعن، فقال، إن هذا المثير للفتنة، إنما هو ولد منهم، وليس بطالب رياسة، إنما هو ومن ساعده من البدو تجَمَّعوا طَمَعاً في الأكل، وطالبُ الأكل أمره سهل، بخلاف طالب الرِّياسة، وهو الذي يقوم على صاحبه منكراً عليه أموراً يفعلها، كأن يقول له، إنك غيّرت الطرق، وظَلَمْت الناس وفعلت كَذا وكَذا، مما ينكَر عليه فيها، والأمور تقابل بأمثالها، وما أقام الله الولاة إلا لإقامة الدِّين، وإقامة المعاش بعد إقامة الدين، وهذا وادي مُبَارك ما يقوم فيه إلاّ من فيه صلاح وإقامة لأمر الدين، لأنه إلا مَنْصب وزاوية، لا محل مملكة وولاية، حتى إن الشيخ عثمان ما أخذه بحرب ولا عسكر، إنما كان شيخ زاوية دَخله مع تلامذته وفقرائه، ومن تولَّى منهم طالباً للدنيا فالغالب إنما يموت بِسَفك دمه، كصاحب النَّقعة لما قتله التُّرك، وكذلك ولد عبد الرحمن لما سَلَك غير طريقتهم، قام عليه آل مطهر فقتلوه، ومن حين قَتَل محمد بن مطهر ابنَ عمه، ما تبارك في نفسه، ولا تبارك به أحد، وآل العمودي مالهم بخت في البغي، قال سيدنا علي، مَن سَلَّ سيف البغي على أخيه قُتِل به، ومن حفر لأخيه المسلم حفرة وقع فيها، وآل العمودي بيت صلاح، والشيخ سعيد أخٌ لسيدنا الفقيه المقدم، وكل أهل زاوية وقع بينهم إلا آل باعلوي، وآل العمودي، أما سمعتم فيما يقال إن الفقيه المقدم طَرَح عند الشيخ سعيد شيئاً من الأحوال، وابن هادي كم حاجَّه أصحابه، فانقلبت العاقبة عليهم، والبغي ما له عاقبة، وفي الحديث، (( لو بغى جبل على جبل لَدُكَّ الباغي ))، وخصوصاً فيما يثير فِتْنة في الناس، وشاغلاً عليهم، ولا يقوم في هذا الأمر إلاَّ من فيه علم وديانة، ليقيم للناس أمر دينهم ودنياهم، وهؤلاء ما نفعوا الناس، لا في دينهم ولا دنياهم، وأي شئ وقع للذين تولوا بلا علم، تراهم يتِلتِلون الناس، ومن لا يحسن يصلي ،
(٢/٨٤)
يصلح أن يلي أمر المسلمين؟، وما هو إلا أهل الزمان غلب عليهم الشيطان والهوى، فبقي ناس يحسنون أشياء لأجل أغراضهم، كما قال بامخرمة ،
يا عمر إن توليت أحرموك الولاية وإن رأوك اهتديت با يحرموك الهداية
وأنشد هذا البيت ،
ومن يربط الكلب العقور ببابه فَعَقْرُ جميع الناس من رابط الكلب
ووقعت مرة فتنة في دوعن، بين آل العمودي فجاء خبرها ليلة السبت ١٧ شعبان سنة ١١٣٢، وجاءه السَّيد زين العابدين، يوم الثلاثاء ٢٠ شعبان، فسأله، كيف حالكم؟، فقال ما معناه، نحن بحمد الله في عافية، ولكن ما مع الكِبَر صحة، وأنا أبقي على نفسي لمكان العجز، لئلا إذا حصلت الكلفة يقع القليل كثيراً، وقد كنا يوم الأحد بانخرج إلى السبير، لكن كَمَخْنا خَبَر آل العمودي، لأن هذا الرجل سقوطه سقوط الوادي كله، ولكن هؤلاء منهم الذين قاموا بالفتنة ما يقع لهم خَيْر، وقد ولي هذا الوالي منهم، نحو أربع سنين، ما شفاه منهم أحد، قيل، ما فيه مما يُذَم إلاَّ البخل، فقال، البخل في آل العمودي معروف، وقد طَلَب جدّهم الشيخ سعيد من الفقيه المقدم الدّعاءَ لهم بالبخل، وكلهم بُخَّال بأموالهم
وليلة جاء خبرهم رأيت كأني جالس بين رجلين، وأني أصلي، وأحد الرجلين الشيخ عمر المحضار، والآخر الشيخ علي بن أبي بكر، وقلت يوم الشيخ عمر في الجانب، والشيخ علي في الجانب الآخر، وهو صاحب علم شريعة، يكون الأمر مفرجاً، ولو كان إلا الشيخ عبدالله في الجانب الآخر، مقابل الشيخ عمر، لكنا نخاف من ذلك لكونهما أصحاب أحوال وأهل حقائق
وقال رضي الله عنه، من لا يخاف الله، خَوّفه الله من الناس، ومن خاف الله خوَّف الناس منه
(٢/٨٥)
وقال رضي الله عنه، الناس مع فلان يشير إلى بعض الولاة، كالقائم في طحس أي وحل، كلما تحرك زلت رجله، فإن أموره مضطربة والناس معه كل ساعة في حكاية، والذين يبغونهم الناس ما جاؤوا، والذين ما يبغونهم جاؤوا، حتى يعلموا أن القوة لله جميعا، وقد تَغَيّرت أساليب الدولة كلها على وجهه، وكلما غرق في حِجة قال نجوني منها، وعاده ما ثبتت له قدم، ولا استقام لنا معه أمر، وما هو إلاّ كما قيل، أخذت زوجاً ليقوم بي وبعيالي، فعجز عني ما قام بي بحال أو نحو هذا اللَّفظ، وما مثَله إلاَّ مثل فلان، رجل سماه قال، كان أعمى وشَيْبة ولا يَسْمع، والإنسان فَلْيقع إما ثمر وشوك، وهذا هو التمام، وإما ثمر يأكل منه الناس، وإلا شَوك فيمنع على نفسه، وكان هذا الكلام حاضره السيد زين العابدين، فشكا إليه من أحوالهم، وما هُم عازمين عليه من إيذاء الناس وظُلْمهم، وذلك في شعبان من سنة ١١٣٠ لما جاء بتلك العساكر، فقال سيدنا، لا عاد الإنسان يَشْغل نفسه في هذه الأمور فكم من قربة منفوخة تحسب فيها ماء، ما عاد إلاَّ يتولى الله خلقه، ولا عاد تتعبون أنفسكم بلا قدرة لكم عليه، وإذا عَجَزَتْ قدرةُ العبد عن أمر كان فيه الخيرةُ إلى الله
وطلبه السيد زين العابدين المذكور، أن يصل إلى مكانه فَمَضَى نفع الله به إليه، يوم الأحد تاسع عشر شعبان، فمما قال في مجلسه ذلك، أن قال، إنَّا متعجبون من عاقل يشك في أمر يافع ويُخشى حتى على إيمانه، فإنهم مستحلون أمراً حَرَّمه الله في القرآن، واستحلال ما حَرَّم الله يوجب الكفر، فلا يَمْتري فيهم أحد، ولا يرى أن على من قام عليهم حرجاً
وقال رضي الله عنه، إعانة المؤمن لأخيه أمر مَطْلوب، فإن كان إعانة لوالي أمر كان أمراً عاماً، والعمدة كلها على الرحمة والأمان، ما يستقل الأمر إلا بهما قال السويني ،
(٢/٨٦)
ما حَضْرموت إلا ان صفا كَدَرْها وطاب مَصْعدها ومُنْحَدَرها
أي مجيئها ومراحها، ولا يصلح حال صاحب الأمر ويستقيم أمره، إلا إن طلب المصلحة لغيره، فإذا طلبها صلح، وإن طلبها لنفسه فسد، والظلم كله خراب، ولكن الظلم المرَتَّب، خير من العدل المُسيب، قال بعضهم فأما اليوم فهو ظلم مسيب، وأصل الأموال والجرايات ما تجبيها إلا الرعايا، فإذا كان الوالي ذئباً فمن أين يُجْبونها، وقال بعض أهل السياسة للمأمون، لما ضعف بعض ممالكه، إني لأعلم ما يقوّمها، قال، ما هو، قال، تَرْفع عنهم خَرَاج سنة، والحاصل أن المحسن ينفع نفسه وينفع غيره، والمسيء يضر نفسه ويضر غيره
وقال رضي الله عنه، من علامة فساد الزمان، إن الرجل فيه إذا ظُلِمَ صاح واستغاث وتنَصَّف وقال، ما أظلم الناس، ما يأمرون بالمعروف ولا يَنْهون عن المنكر، وأبطلوا الحقوق، وتركوا الدين، ونحو ذلك واذا وقع الظلم على غيره، تراه بارد الخاطر، ولا يقول كقوله إذا ظُلِمَ في نفسه
وقال رضي الله عنه، ومن العجائب أن الواحد من ظَلَمة أهل هذا الزمان، أنه لَو وقع في وَرْطة تَذَكَّر ماذا فعل في عمره من الخير، فإن ذَكَر شيئاً من ذلك اعتقد في نفسه أنه ما حَصَل عليه ما حصل إلاَّ بسببه، فانظر ما أعجب هذا الأمر، مع أنهم قَلَّ ما يكون منهم شيء من الخير فيما رأينا، فما أحد يطلب من الله الفرج بمعصيته، إنما يكون ذلك بطاعته، فإن الحسنة إذا احتوشتها سيئتان أفسدتاها، فكيف بِحَسنة بين سيئات كثيرة
(٢/٨٧)
وتَظلَّم إليه نفع الله به رَجل فقال، الظلم في الإنسان كالنار إذا اشْتَبَّت، فادع إلى الحق، فإن قُبل منك وإلاَّ فخل بين الظالم وبين الله سبحانه، وهو يَكْفيه، وكان معنا عشدلية مليحة جداً، جعلناها لرجل خُرْفة ولا حَقّ له في أصلها، فمات، فتملَّكها عِيَاله فأعلمناهم بذلك، فلم يقبلوا وجعلوها في جملة مالهم، فتَركناها، ونحن من طَبْعنا من ظَلَمنا تَرَكْنا حقَّنَا له، ولا ننظلم لأهل الزمان، وإن كانوا هم الظَّالمين، ونُظْهر لهم أنهم مُسْتحقين، ونحن نقدر مع ذلك أن نُظهر الحق، ونأخذ حَقَّنا منهم، بالحق لا بالباطل، وكان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قد آذته قريش في عِرضه ومالِه فعفا عنهم وَتَرك لهم مالَه ثم أظهره الله عليهم فَمَلَّكه رقابهم وأموالهم فمنَّ عليهم برقابهم وأموالهم، ونَحْن طريقتنا إلاَّ مثل طريقة الشيخ عمر العطاس من أعطانا شيئاً سكتنا عنه ولم نسأله، وإن طالب به عياله خَلَّيناه لهم، فكم ناس أوصوا وجعلوا لنا أشياء ما أخذناها، وأشياء فَرَّقناها على ورثتهم، وما الإنسان يكره أن يَدَعَ إلا لمن أراد أن يُرْبي به ويتخذه وسيلة للربا والحرام، فهذا لاَ نَدع له شيئاً لأنه لا تجوز المساعدة على الحرام
(٢/٨٨)
وذكر رضي الله عنه ولاة الجهة وشدِّة ظلمهم، فقال، لا تَدْع عليهم، فما عاد معك معهم إلاَّ مثل ذاك الذي شكا أولاده إلى بعض الناس، فقال له، هل دعوت عليهم؟، فقال، نعم، فقال، أنت الذي أفسدتهم، ولا تخصّص أحداً منهم، بل قُل، الوالي أو الولاة، والدّعاء لهم، وتجنَّبهم ولا تَصَلهم، لأنهم معزولون بحكم الشَّرع، لأن الفاسق معزول شرعاً، وأعظم الفسق ظُلْم المسلمين، فإنهم أهلكوا الحرث والنسل، حتى صَيّروا الناس كدود القبر، يأكل بعضه بعضاً، حتى تَبْقى ثنتان كبيرتان، فتأكل إحداهما الأخرى، ثم تموت ولكن قاعدة، كلما فعلوه في الناس من صغير أو كبير، لابد لهم ما يذوقونه أو قال، يقعون فيه كايناً ما كان، لأن الله سبحانه وتعالى قال فيما جاء عنه، ( أنا الظالم إن لم أنتقم من الظالم )، وإن أُخّروا إلى أمدٍ يُريده
وقال رضي الله عنه، أحكم على الظَّالم بِفِعْله، لأن الله وعد بأخذ الظالم (*)
وقال رضي الله عنه، خلافة الخلفاء بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، أما أبوبكر فبالإجماع عليه، وأما عمر فبالوصيّة من أبي بكر، وأما عثمان فبالإجماع عليه، بعد الشّورى، وأما سَيدنا علي رضي الله عنه فبمبايعة أهل بدر والمهاجرين والأنصار، وأما معاوية فبتسليم الحسن بن علي له ومبايعته، وغيرهم إنما هو بالسَّيف والظلم والتَّعدي أي سوى عمر بن عبدالعزيز فإنه بالإجتماع عليه، والمبايعة له، ورجوعها إليه بعد من كان قبله من أهل بيته
وقال رضي الله عنه، اسأل ربك السَّتر، وإلاَّ عاد يصبح الأمر غَير هذا، والبَيْضة فيها وَقْوَقَه، لكن الشهادة فيها الخير، والأمور تجري على قليل قليل، ويُسكت عنها
(٢/٨٩)
وقيل له رضي الله عنه، إن السُّلطان مساهن ما وعدتوه، من أنه يكثر عليه الخير، حتى لا يجد وعاء يَطْرح عليه، فقال، هذا إن اتقى الله وعدل فإن جار وظلم لا يَحْصل له ذلك، يطرح الرِّجْلين ويريد أن يستقيم له الأمر، إن الظلم ييبِّس الإنسان حتى يصير كالعود اليابس، حتى لو نُقّع في الجنة ما عاد انتقع
وقال رضي الله عنه، لا بُدَّ بعد كل سَبْع سنين تَحْصل حركة بين الولاة والعَسْكر من حَرْب، وتَبْديل سُلْطان بآخر، ونحو ذلك
(٢/٩٠)
وتكلم رضي الله عنه في الفاطميين، وبَني العباس، وبَني أمية، فكان من جملة ما قال، إن محمد بن عيسى، أخا الشيخ أحمد بن عيسى، قَاتَل بَني العباس، وكان إذ ذاك شَوْكتهم قائمة، وإذا قهروا أحداً من بني فاطمة لا يَسْتأصلونهم كبني أمية بَل يجعلونهم عِندهم في بيوتهم مع أهلهم، ولما علم عبدالله بن عمر بِقَتْل الحسين بَكَى، حتى خرج الكحل من عيونه مع الدموع، ثم قال، أما والله لو حدثكم أبو هريرة، بأنكم ستقتلون ابن نبيكم، وتُخرِّبون بيت ربكم لكذَّبتموه، وقلتم ما صَدَق أبو هريرة، وها أنتم فَعَلتم ذلك، فقلت لسيدنا، ألم يكن معاوية، وهو صحابي عهد إلى ابنه بالخلافة فَفَعل هذه المُنْكرات، فقال رضي الله عنه، إنه قيل، إن معاوية لما عهد له بها قال، إني تفرست فيه خيراً، فإن صدقَتْ فراستي فيه فذاك وإلا فتِلْك من محبّة الطبع، محبة الوالد لولده، وأنا أسأل الله أن لا يطيل بقاه، فلما بَان على خلاف ما ظَنّه فيه، لم تطل مدته ومات مقتولاً قَتْلَةً قبيحة ذَبَحه لما أرسل إلى الحرمين، لقتل ابن الزبير، وهدم الكعبة - وأكثر في ذلك - حتى قال، ينبغي للإنسان أن ينطويَ باطنه في أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم على المحبة وحسن الظن بهم، ولا يسيء ظنه فيهم، حَتَّى يصير من الذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وأما يزيد، وابن زياد، والحَجَّاج، ونَحْوهم فلا لهم حُرْمة الإسلام ولا هم بشيء حتى يذكروا، وهذه الأشياء كلما اجتنبها الإنسان، كان أحسن، لا سيما إذا لم يكن فيه مسكة دين، وخرج رجل ممن يحب أهل البيت في العَسْكر الذين خرجوا لقتل الحسين، وبقي فيهم مختفياً، فلما كان وسط الليل أنشد ،
يارب رب الناس والعباد العن زياداً وبني زياد
وذكر هذا النظم أيضاً ،
جاءوا إليك يا ابن بنت محمد متزمِّلاً بدمائه تزميلاً
(٢/٩١)
ويكبرون إذ قتلوكَ وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا
وقال رضي الله عنه، لو أن الخلافة صارت بعد عثمان أو بعد معاوية إلى بَني هاشم، ولم تَصر إلى بني أمية، لكان لم يَبْق لغيرهم مجد ولا فَضْل، ولكن لله تعالى في ذلك مُرَاد، وهو سُبْحانه يحبّ أن يَتَشَارك عباده في الفَضْل والمجد، ولولا ذلك لكان مختصاً بهم ومقصُوراً عليهم وليس لِغَيْرهم منه شيء، لأن فيهم النبوة والرِّسالة وفيهم الحَسَب، وعَدَّد أشياء، ثم قال، ولكن الله أراد ذلك ليتفرق في جميع قبائل العرب، ولهذا لا تخلوا قبيلة من مناقب وفضائل، كثرت أو قلَّت، ولَوْ خصلة واحدة، ليستر ذلك ما فيهم من المذموم
وتكلم رضي الله عنه في الولاة ممن سبق فقال، إن أولئك، وإن كانوا ظَلَمة فالمَظْلومون في زَمَنهم قليل، فيقلّ لذلك الدعاء عليهم، وفيه حتف على الظالم، وأعماله أيضاً حَتْف عليه
وذكر أن بعض ملوك الروم، أو قال، الملوك، أو ملوك الإسلام، أرسل بريداً إلى ملك الصين، أو قال، ملك الهند، فقال، قل له، فلان يقرئك السلام، ويَسْألك لِمَ تطول أعمار ملوككم، وتَقْصر أعمار ملوكنا، فأراه شَجَرة ثابتة عُرُوقها في الأرض، فقال له، إذا سقطت هذه الشجرة عن أصلها أجبْتُك، فبقي مدة مستبعداً لسقوطها، ويتَمَنَّاه وخاطره متعلِّق بها، فبعد مدة سقطت، فتعجب من سقوطها، فقال ذلك الملك له، إن ملوككم يَظْلمون فتَتَعلَّق بهم همم المظلومين حتى يَهْلكوا، وهُنا الظلم قليل، والشَّاهد سقوط الشجرة، لتعلق همة هذا بها، هذا ما حفظناه مما تكلم به ضحى يوم الخميس حال القراءة في ٢٩ صفر سنة ١١٢٤
(٢/٩٢)
وتكلم رضي الله عنه يوماً كثيراً في حوادث الزمان وظلم الناس، فقال، وَرَد عن الله، لو أن الظلم في حجر في قعر الجنة لأخرَبْتُها لأجله مع أنها لا تخرب، ثم ذَكَر الصحابة وما جرى بينهم، وقال، الذين بايعوا سيدنا عليًّا من أهل الحديبية , نَحْو مائة رجل، ومن أهل بدر وأحد والمهاجرون والأنصار ولم يَتَخلف عن بيعته من الأنصار، سِوَى رجلين أحدهما كان صغيراً، وأكثَرَ في ذلك ثم قال، إنما مرادنا من ذِكْر ذلك لِيَكُون في بالكم، فربما تسمعون فيما يأتي بأشياء من هذا القبيل، فلا تُنْكرونها وتَبْقون حسنين الظَّن بأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فالله الله بحسن الظن بالصحابة، نُوصيكم بذلك كثيراً، استوصوا بحسن الظن فيهم، وما كان لنا مطالعة في ذلك إلا لما وَصَلوا الزيدية إلى الجهة، احتجنا إلى المطالعة فيها، فطالعنا بِقَدْر ما نحتاج إليه
وَذكَر رضي الله عنه الولاة والرؤوس، فقال، إنما الرأس من تنفذ كلمته، ويُسْمع قوله، وأما من لا يبالَى به، ولا يُسْمع كلامه، ولا يَنْفُذ حكمه وأمره، فليس برأس
وصافحه رضي الله عنه بَعْضُ عبيد الدولة، فقال له، أنت الذي في تريم، فقال، نعم، فقال سيدنا له، تريم مباركة، إذا وَصَلتها النَّار انطفت، ومن مَدَّ يَده إلى ما لا يحل قَطَع الله يده، وإن الله يمهل الظالم ثم يُحضفه
وقال رضي الله عنه، أكثر ما يُشْغلنا في المجالس، كَثْرة المصافحة، والكلام أكثر، ونحن لحقنا الناس خاربين قد خَرّبهم أناس قبلنا، فَجَعلنا نحن نصلِّح بشدة، لأن أكثر الناس قد طال بهم العهد، ولو أنهم على ما كانوا عليه كان أسهل، وإذا جاءك إنسان وبقيت ساكِتاً ولم تتكلم، خرج غَضْبان، كأنك أخذت عليه شيئاً فكيف لو رَدَدْته، ثم يلقاه أناس يضعفون عقيدته، وحسن ظنه، ويقولون له، لو قد جبرك أو وَكّد عليك، وهل كذا وكذا وما كان الناس هكذا
(٢/٩٣)
أقول، قد قال لي يوماً السيد الجليل الفاضل أحمد بن عمر الهندوان، رحمه الله، لو قد جئت إلى عِنْدي، فقلت لك، إرجع يا فلان، ما أنا خَليّ لك، هل تحنق ويقع في بالك، فإن غضبت فقد كرهت ما هو أزكى لك، وقد قال الله تعالى، { وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } فلِمَ تكره ما هو أزكى لك، قلت، يا سيدنا إن كان مرادكم تفعلون معي هذه القصة، فأخبروني حتى أبقى على حذر، وإلا فإني لا آمن قيام النفس عند ذلك
وخرج رضي الله عنه إلى السُّبير يوم الأحد في ٢٥ شعبان من سنة ١١٣٢ فكان مما تكلم به أن سأل عن أحوال فلان وفلان، من صغار أهل بيته، فقال، أحسن أحوال أهل هذا الزمان، أن لا تكون له حاشية، بل يكون سليم القلب ما يَدْري إلا بما هو حاضره في الحال الحاضر، فإن الحاشية في هذا الزمان، ما تدعو الإ نسان إلا إلى الرّغبة في الدنيا والمنافسة فيها، لضُعْف وَقْتهم وجِهَتِهِم، فالله يحسّن أوقاتهم، ويَرْحم جِهَتهم، وإلا فما هم إلا ضعاف مساكين
وذكر رضي الله عنه السيد محمد بن علوي، والسيد علي بن عبدالله، فقال، ما تظهر بركات الصالح على من صَحِبه إلا بعد موته، قال، وكان الناس أهل حسن ظن، ( وما الناسُ بالناس الذين عهدتهم )
انظر ما قال فيما يتعلق بالرحمة
(٢/٩٤)
وذكر رضي الله عنه الرَّحمة، فقال، ما بَدَا رَتَّبْنا ثلاث أربعينيّات {يَس} لأجل الرحمة إلاَّ هذه السنة، يعني سنة ١١٢٨ ولقد خَشِينا أن يكون ذلك من الإلحاح على الله، وقد بقي بَعْض موانع ذَكَر من جملتها الرِّبا والظُّلم وقلة إخراج الزكاة وغير ذلك ثم رأينا أنه ورد عن الرسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إن الإلحاح على الله في الدعاء مطلوب، سواء كان الإلحاح في أمر محمود تريده، أو أمر مكروه تخافه، فإن كان في أمر مطلوب فهو من باب الشكر، أو مكروه فهو من باب الصبر، وكل منهما مطلوب، مع أن الضعف جِبِلّةُ خِلقة الإنسان، وقاعدة، إذا وقعت الأمور المحمودة، فقل، هذا من الله، وإذا وقعت الأمور المكروهة، فقل، هو من الناس، ولا تحتج وتذكر القضاء فيهما، وإن كان لا بد منه في الأمرين كما ورد، ومثال ذلك، كقُفّة لها عروتان، إحداهما إلى الله، وهي بيد المَلَك، والأخرى بيد الآدمي، فإذا سَيّب الإنسان الذي يَليه فالتقصير منه، وينسب إليه، والله سبحانه هو المُقَدّر لجميع ذلك، ولكن يذكر بالأمر المحمود، ولا يذكر بالأمر المَكْروه
وشكا إليه رضي الله عنه رجل من قِلّ الرحمة، فقال، إبْن أمورك كلها على حُسْن الظن بالله، مع التّعلق بطاعته، وقد جاء في بَعْض الأخبار، إن الله ليعجب من قنوط ابن آدم مع قرب الفَرَج منه ولو قد أردف لهم السَّيل مرتين أو ثلاثاً لضاقوا وتَبرّموا، وقد انتشرت الرحمة في أماكن، وهذا ما هو قليل، والمرجو من فضل الله وكرمه أن يُتم ويعمّ، والقليل من الله كثير، فاشكروا واعرفوا موضع القليل لئلا تُبخسوا في الكثير، فإذا شَكَرتم على القليل أعطاكم الكثير، وإن لم تَشْكروا منعكم الكثير، ولم يَنْفعكم الذي معكم، وما هو إلا لحظة من كرم الله ويعم الكافة في ساعة واحدة
(٢/٩٥)
ومر رضي الله عنه ذات يوم وهو بُكْرة يوم الإثنين رابع رجب سنة ١١٢٦ بجهة وادي ثبي، وإذا نخيلُه كما هي أيام الشتاء، لا خَريف فيها لِعَدم الغيث، فقال، سبحان الله، إذا أثمر أثمر بمرة، وإذا تَعَطَّل من الخريف انقطع منه بمرة، وبهذه الأشياء يستخرج اللهُ تعالى من عباده الصّبرَ والشكرَ، ويوم الأربعاء سقى الله تعالى تلك الجهة وغيرها ببركته، فقال نفع الله به، إن الله تعالى قائم بِتَدْبير خَلْقه، وإنما طلب منهم الدُّعاء إظهاراً لعجزهم وفاقتهم إليه، ثم إن الغيث كثر جداً وكَثُرت السُّيول من كل وادي، حتى مَلَّت الناس وخافوا الضَّرر، وسقط بعض الدُّور، فشكا إليه بعض النَّاس من ذلك، وسألوه الدعاء في خِفَّته، فقال رضي الله عنه، هَلْ حَلّ حوالينا ولا علينا، فقيل، نعم، فسكت حتى كان صلاة الظُّهر، فقرأ بعدها يس بنية اللطف وقَطْعِه منهم، فخَفّ بِفَضْل الله، فقال، إن خير الدنيا مبشر بِشَرّها، وشَرَّها مُبشّر بخيرها، كما في قصة الراعية التي مر عليها عيسى عليه السلام
وذكر رضي الله عنه الرَّحمة أيضاً، فقال، في بعض الآثار عن الله، إنه سبحانه يقول، عجبت من إياس الآدمي وقُرْب الرحمة منه لأن الإنسان ظاهرُ فعلِه أن يَقْنط وييأس لعدم حصول الرحمة له، وظاهر أمور الحقّ سبحانه حصول الرحمة منه عن قرب، لأن الرَّب تعالى على قَدْره والعَبْدَ على قَدْره، وسَقَط علَيَّ هنا بعض الكلام، ثم قال، وهذه أرض كَدٍّ، ولا تستقيم أرض الكد إلا بمساعدة أمور السماء ويسمى وادي العَجَل، لكونها أرض مَسْنا وليس فيها أنهار، وقد ضَعُفت الآن جدًّا لقلة مساعدة السَّما وعَدَم القَطْر ثم أطال الكلام في ذكر أناس قد مضوا ثم قال، إن شاء الله الخلف في بركة السلف، وإلاَّ فالوقت اليوم والدنيا إلا مضادة للحال الأول، ما هي مخالفة بل مضادّة، إذا تأملت أحوالهم وقستها بأحوال السابقين
(٢/٩٦)
وقيل له نفع الله به، خاطركم، ادعو للناس بالرحمة فإن الدواب أدركها التعب، فقال، لَعَلّ الرحمة تَحْصل لأجل الدَّواب، فإن في بعض الأخبار، إنما يُسْقى الناس بِسَبَبِها لعدم تَكْليفها، ولو رُحموا لم يَرْجعوا إلى الطاعة، فقد كانوا، إذا قحطوا يَشغلهم أمر المعاش عن الذّكر والطاعة، وما مَطْلوبهم إلا السَّلامة من ذلك ليتفرّغوا لهما، وأما اليوم فلا، ولكن ادعوا ربكم فإنه كريم رحيم إن أعطى أعطى برحمة، وإن منع منع بحكمة
وقال رضي الله عنه، كلما ثار السّحاب رجا الناس الرَّحمة، وكلما ثار إِضمحل، فكأن الناس يهمّون بِفِعْل الخير ثم لم يفعلوا
(٢/٩٧)
وذكر رضي الله عنه فَسَاد الزمان والفتن، فقال، من آن مات النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، تَبدّد الحُبُّ المجتمع، ولكن في وَقْت الصَّحَابة كانوا مجتمعين، والأمر مَسْتور، ثم بَعْد ذلك ظهر، وهذا الأمر قُده مِنْ قديم، وكان الناس فيهم أهل اليَقَظة، يرحم الله بهم أهل الغفلة، وهنا لو نظرت إلى البَوادي ونحوهم لرأيتهم أكثر تضرعاً إلى الله منهم، ولهذا رحمهم، وترك هؤلاء، وكانوا أي الأولون إذا حصلت لهم نِعْمة ازدادوا تضرعاً وخشوعاً، وهؤلاء إذا حصلت لهم بَطروا، فترى الواحد منهم يقطّع اللحم يأكله والطَّلاَّب يَسْأله فلا يعطيه شيئاً، ثم تَكلم في هذا كثيرًا ومما قال، والرحمة ظاهرة، ما بقي إلا مَظْهر الرَّحمة، ولا عاد يقصّر أحد من التَّوبة والاستغفار، والتّصدق بما تيسر، وذكر كلاماً تقدم ذكره، من أن ينقِّص بعض المأكول فيتصدق به، ثم قال، فلا عاد تدعو المدْبرين إلى الصَّدقة، بل إلى المقاربة، فإن أهل الزمان مُدْبرون، فإن من عِنْده شيء ودَعَوته إلى الصدقة إستثقل كالسُّلطان الظالم إذا قلت له في الجور اشتغل، ونحن لاعاد أحد يوصينا بالدعاء بالهداية والصَّلاح للمسلمين، والظُلْمة ما هو إلا إن القلوب مُظْلمة، ولو سَمِعْنا أحدًا، يَدْعو علينا ما تركناه من الدّعاء له بالهداية والصَّلاح، ولا عاد كلام، ودَخَلت الناس دَوَاخل فكلّ منهم اتهم صاحبه، ولا عاد شيء قلوب مُجْتمعة
وذكر رضي الله عنه ما حَصَل من الرحمة في الأرض، ثم قال، سبحان الله الذي عَلّق الأشياء بالمشيئة، فقال، { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَآءُ} فكيف لو عَلّقها بالمحبة، فلو كان كذلك لما أعطاها إلا من يُحب، وكل بلاء يتبعه رحمة وعافية، وهذا بلاء ساقوه إلا بأنفسهم إلى المسلمين بلا نية وبلا صلاح
(٢/٩٨)
وقال رضي الله عنه، حَرْث السماء يضاهي التِّجارة في بركته، فهو أقرب إلى الحِل، وفي قوله تعالى، {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} التجارة، {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ}(٤) الحرث
وذُكِر له رضي الله عنه بعض الأشراف وفيه خربطة، فقال، هذه الأمور ما تسلك لك إلا بشيئك أو بدِينك، إما معك مال يحملك، وإما إن تكون صاحب دِين يُحسَن بك الظن، وهذا الرجل ما مَرَّ تلك الطريق التي مر بها إلا باسمنا، ولا كلمه الناس إلا كذلك، والآن إن مر بها لا يُعرف، ولا يكلمه أحد، وهذه حالة الجنون، وآل باعلوي معروفون في الجهات بالصلاح والسِيَر المحمودة، ومجنونهم صالح، وما كانوا يعرفون مثل هذه التفْتفات، التي أهلها يدلهم الشيطان على مواضع الغلط ،{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} الآية، والحق له صَوْلة، والباطل له دولة
وذُكِر له نفع الله به بعضُ السَّادة بحسن عقيدة فضَحك، وسكت ساعة ثم أنشد هذين البيتين، لكل إلى شأو العلى حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات
غيره، كل من في الوجود طالب صيد غير أن الشباك مختلفات
وَذَكر رضي الله عنه محبَّة الناس للبنين، وتَرْجيحهم على البَنَات، فقال، هذا من طَبْع أهل الجاهلية، والطبايع دائمة على حالها الأول، فكل أمة طبايع آخرها كطبائع أولها، وإنما يهونها قوة الإيمان والرياضة، وأكثرَ من ذلك حتى قال، إن بامخرمة قال وسَقَط عليَّ هُنَا كلام، لعلَّه ما ذُكِر من أن طبايع الآخرين كطبع الأولين ؛ قال يعني بامخرمة ،
خاف شيء ذا لشيء يا اهل الحِنَات الدَّويلة كل من لا يزيل المنكرْ الله يزيله
قال نفع الله به، وفي كلامه حِكَم، ولو هو على هَيْئة كلام العامة، فإنه عالم صوفي صاحب رياضة، ما هو بصوفي جاهل
(٢/٩٩)
وزار رضي الله عنه التربة لَيْلة الثلاثاء في ٢١ربيع الأول سنة ١١٢٧، فلما انصرف ذكر الصَّالحين في الأزمنة المتقدمة وظهورهم فيها، وفي هذا الزمان وخفاهم فيه فقال، كان الزمان صالحاً، وبِضَاعتهم مطلوبة، فظهروا لذلك، وأما اليوم فالزمان فاسد، وبِضَاعتهم مَرْغوب عنها، فلذلك لم يظهروا ألا ترى لو أن رجلاً معه بضاعة لايطلبها منه أحد، فإنه لا يُظهرها، و لا يذكرها لأحد، ومن معه مسك يروح يجلبه للزبالة؟، ولو أن رجلاً انفرد بطلب شيء لم يطلبه أحد غيره لم يجده، ولو كان له طالب غَيْره وللناس فيه رغبة لوجده أو كما قال
وقال رضي الله عنه، من يُحب الطاعة فالله يحبه، ومن يبغضها ويستثقل منها فالله يبغضه، ومن يحب المعاصي فالشَّيطان يحبّه، والشَّيطان لا يعبأ بهؤلاء، ولا يهمّ بهم، لأنهم في حوزته وتحت يده، وإنما يهمّه أمر المتمسكين الملازمين للطاعة، وله حبال طويلة، وحبال قصيرة، فمن كان في حباله الطويلة، فإنه بعيد جداً كالذي يميل في مسيره عن الطريق ميلاً كثيراً حتى لا يراها، فما معه ممن يدعوه إليها إلا السماع، من غير ما يعلم أين هو، وأما من هو في حباله القصيرة، فإنه قريب عندك بيدك تأخذه من قريب، وله مَعاليق يَصيد بها العُبَّاد، حتى إن يحيى بن زكريا رآها، فقال له، هل لي فيها شيء، فقال نعم، شبعت ليلة من الطعام فَثبَّطناك عن قيام تلك الليلة، فقال، لا جرم، لا شَبعتُ بعدها أبداً أو كما قال
ما قال في الإلباس رضي الله عنه
(٢/١٠٠)
وذكر رضي الله عنه الإلباس والتلقين فقال، إن هذه الأمور لا تتكرر، ولا هي عادة السادات تَكْريرها، لأنها إذا كثرت هانت، ولهذا لا يَنْبغي أن يأكل مع الشّيخ، لئلا يرى بشريته، بل يَنْبغي أن يَعْرف خصوصيته، ولا تُعْرف إلاَّ بالإيمان، وهذه الأشياء قد دَرَست، وإنما نحن جَدَّدناها، ولا يَنْبغي أن تُعْرف إلا منّا، وقد قالوا، قلَّ من ينتفع بالإنسان أهله ومخالطوه لعدم احترامهم له بسبب المخالطة به
أقول، هذا في من لم يكن لهم منه نصيب، وإلا فهم أحق بالانتفاع به من غيرهم كما تقدم نحو معنى ذلك
فقال له نفع الله به رجلٌ، كيف لنا بالقرب منكم، عسى يحصل الاجتماع بكم عن قريب، فقال، إذا أردت الانتفاع فتقرب بقلبك، بأن تعتقد وتجتهد في الاقتداء، وترى أناساً تحت الرِجْل ما انتفعوا، وقد رأى أبو يزيد رجلاً يمشي خلفه ويضع رجله على دحقته، يريد أن يسير على سيره، وطلب هذا أو غيره منه أن يلبسه من ملبوسه، فقال، لو لبست جلدي ما نفعك حتى تسير بسيرتي، وفي مجلس آخر قال، لو سلخت لك جلدي، ولبستَه ما نفعك حتى تسير بسيرتي التي سرتُ عليها إلى الله أي تقتدي بي في أفعالي وأقوالي وأخلاقي، وهذا يدل على إنما الانتفاع بالاقتداء بالشيخ في ما ذكر، والاجتهاد في ذلك، وكل يحصل له على قدر همته وتوفيقه و ما قسم له
قال رضي الله عنه، والإلباس إنما يتكرر إذا حضر واحد لم يتقدم له الإلباس إلا حينئذ، فيحصل معه المشاركة للباقين، وإن تقدم لهم ذلك، أو رجل ختم كتاباً فيُلبس أيضاً ويُلقن، وإن كان قد تقدم له ذلك، ويكون معه للباقين كذلك، وكان قد ختم السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي صحيح البخاري، فألبسه و ألبس كل من حضر تبعاً له، وقال، هذه الخرقة أي القبع المعروف خرقة أبي مدين وخرقةُ الشيخ عبدالقادر ألطف منها بقليل، والإلباس رابطة بين اللابس والمُلبِس
(٢/١٠١)
وقال رضي الله عنه، السِّر في السر، فإذا أتى المريد بالاستعداد، فما على الأستاذ إلا أن يُوري المِصْباح، وإذا تَنَوَّرت النَّفس صار الليل نهاراً، وإذا أظلمت صار النهار ليلاً
ومَرَّ في القراءة في كتاب ذم الدنيا من "الإحياء" أيما أفضل تحصيل المال وإنفاقه في الخير، أو تَرْك ذلك والاشتغال بالذكر، وذكر المصنف أن كل قول من هذين رجحه جماعة من السلف فقال سيدنا عند ذلك، فإن حصل المال من غير سَبب ولا تَعَب كإرث، فما الأفضل، فنقول، الأفضل أن يأخذه إن وثق بنفسه، ظاهرًا ويتصدق به سرًّا، ولا يتمتع به، بَل يَأخذ منه ما يَضْطر إليه ويقدّمه للآخرة، لأنه إذا كانوا أرادوا أن يُعْطوه في الجنة بيوتاً من ذهب وفضة وجواهر وترابها مسك، وهو في الدنيا لعله ما رأى المسك ولا الذَّهب ولا الفِضّة ولا الجواهر بعينه، فماذا يريد بمتاع قليل، فَلْيقدمه إلى ما هو خير له
أقول، وقد رأيت مرة في النوم، كأنّي في جَمْع، وسيدنا الحبيب عبدالله نفع الله به حاضر وفي جنبي رجل من طلاب الدنيا وكأني معه نتجادل فيقول هو، إذا كان عندي مال، أفعل به خَيْرًا من بناء رِباَطات ومَدَارس ومساجد وغير ذلك، خير من أن أبقى لا أقدر على شئ، ولا أفعل من ذلك شيئاً، فقلت له، سلامتك من الدنيا، ولو ما فعلت شيئاً أفضل، فلم يُوَافق، ثم قلت، لم لا أسأل الحبيب ونعمل على قوله، فسألته عن أي الحالتين أفضل، فقال، تريد أن تفعل تلك الأشياء لترائي بها وليقال، فقلت، إنما أفعلها خالصة لوجه الله، فقال، ما فعل الله بك وأجراه عليك من تلك الحالتين هو الأفضل
(٢/١٠٢)
ومَرَّ حديث، (( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده )) فقال نفع الله به، إذا كان واجداً فلا ينبغي أن يُقتّر على نفسه إلا إن كان بنية زهد، وكان من أهله، وفي الحديث، (( إن الله يحب أهل البيت الخصب ))، أي في المعيشة إذا كان هناك شيء بغير إسراف، وفي حديث، (( هل بقي من برِّ الوالدين شيء، فقال عليه الصلاة والسلام، نعم أن تصل الرَّحم الذي لا توصل إلا بهما، وأن تَصل أهل ود أبيك ))، ثم قال، هذا إن عهد إليه في شيء من ذلك، وفي حديث، (( إن الله يلوم على العجز، ولكن عَليك بالكَيْس )) أي الحذق في الأُمور، بأن يأخذ فيها كما ينبغي، ولا يجلس و يَتَسهَّن من الناس، وفي حديث النهي عن الحلف بالآباء أي من ليس فيه صلاح، فإن كان فيه صلاح فإنما هو حلف بالله، إذْ لا يَنْبغي أن يَحْلف به تعالى كل حين، فَيبْتذل الإسم الكريم، وفي الغالب إنك لا ترى من يحلف بأحد من آبائه، إلا إن كان فيه صلاح، إلا إن كان أحد من النساء، ولو حَلف حالف بما كان يحلف به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، مثل والذي بعثني بالحق، فيقول والذي بعث محمداً بالحق فيحسن إذ يحصل به التعظيم له عليه الصلاة والسلام، والتبرك بذكره، والسلامة من اليمين، ومن حظر الحلف بالآباء
أقول، قوله فإنما هو حلف بالله إلخ، في هذا تَوْسعة من توسّعات لغة العرب، كما في حديث، (( لا تسبوا الدهر، فإنما الدهر الله ))، أي فعل الله إذ الدهر هو الليل والنهار، وهو خلق الله والصلاح أيضاً خلق من خلق الله يجعله في من أحب، فالحالف بأحد بسببه حالف بوصف من أوصاف الله
(٢/١٠٣)
وقال رضي الله عنه، في حديث، (( لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، فإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ))، قال، أما خوفه في الدنيا، فبأن يجتنب ما نُهي عنه من حرام ومكروه وفضول ونحو ذلك، وأمنه بالغفلة عن الله وتضييع ما ذكر، ويتناول كل ما يشتهيه، ويقول كل ما أراد و لا يبالي، و لا يمنع نفسه مما يُذم
وتكلم يوماً رضي الله عنه بكلام كَثِير لم نَحْفظه كله، فمن جملة كلامه أن ذَكر العلم والمال، فقال، العلم الظاهر هو دربك الذي تسير عليه لا بد لك منه، فإذا صَلَّيت مثلاً على ما سَمِعت، ودُمت على ذلك رَسَخ، وبعد رسوخ العَمَل تَظْهر ثَمَرته، وأما المال فإن المال الحرام يَرُوح في الحَرَام، والشُّبهة يروح في الشُّبهة، وذَلك أكثر ما تروح فيه أموال أهل الزمان، وهو دَليل على أصله، فَتَرى أحدهم يُخرج في هَوَى نفسه، أموالاً غَلَطاً من غير طَرَف، ومن غير حَدّ، وإذا جئنا إلى فِعْل الخير لَحِقْنا ساقيته يابسة، وفي الحقيقة هو الدائم وذاك هو الفائت
وذكر رضي الله عنه الشّح المطاع، والهوى المتبع، والاستغناء بالرأي، وقد مَرّ الثلاثة في الحديث، فقال، قد يكون في الإنسان الشح، ولكن لا يضره إلا إن أطاعه، بأن أطاعه في ترك واجب كالزَّكاة، أو فِعْل حرام كأخذ مال حرام، فلا شَكَّ أن ذلك يضره، والشُّح هو الذي جَرّه إلى ذلك، وكذلك الهَوَى كُلٌّ فيه هوى، لأنه من طبع النفس، فإن اتبعه حتى وقع في حرام، مما تدعو ه إليه نفسه أو تَرك ما يَلْزمه، فلا شَكَّ أن ذلك مما يهلك الإنسان والاستغناء بالرأي، لكونه يَمْنعه من أن يَستشير من هو أعرف منه فَيقع هو في المحذور
(٢/١٠٤)
وقال رضي الله عنه، الزمان مَعْكوس، فجاء أهله على طبيعته، وقد قال الشيخ عبدالرحمن بن علي في زمانه، يا ابن الفقيه هذا زمان معكوس فإن كان ذ لك الزمان معكوساً ومنكوساً فاليوم قد زاد الانعكاس والانتكاس
وقال رضي الله عنه، في القرآن غنية وكفاية عن كل شئ، وإنما عليه إذا أشكلت عليه كلمة، أن يسأل عنها فقط، لأن فيه موجود التواتر والصحة والإعجاز، وفي غيْره ربما يقال، هل صح أم لا
وقال رضي الله عنه، قَلّ ما نُقل عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قراءة القرآن إلا في الصلاة
(٢/١٠٥)
وقال رضي الله عنه، ثلاثه أشياء أنا متأسِّف عليها، وما حصلت لنا إلا إن كان بالنية، التشفيع في صلاة التراويح، وصلاة الصبح بوضوء العشاء، وتخلِّي العشر الأخيرة يعني اعتكاف العشر الأخيرة من رمضان كما هو السُّنة، أي لم يساعده الفراغ على هذه الثلاثة في وَقْته الحاضر، وقد فَعَلها في ابتداء أمره، فقلت، قد فعلتوها فيما مضى فيَكْفيكم ذلك من فعلها الآن، قال نعم، لكن ذلك الحين أيام البداية، والبصيرة ضعيفة، لأن العُمْدة على البصائر، ولكن الصّبر في ذلك الوقت قَوِي، والآن كَلّت القوى وضعفت، والبصيرة أَقْوى، لأن المريد حال بدايته الصّبر فيه قوي والبَصِيْرة أضعف، وفي النهاية البَصيرة أقوى والصَّبر أضعف، ونحن إلاَّ من شواغل الناس وعلائقهم أكثر ما كان، فإن هؤلاء المتردِّدين إلينا أحسّ في باطني لكل واحد خاطراً، فأقول هذا جاء لكذا، وهذا جاء لكذا، وأريد مراعاة كل واحد على ما في نَفْسه فَرُبَّما جاء واحد يستشير وآخر يطلب شيئاً وعلى هذا، وهذه الأمور مع الضّعف شاغل كبير، وهي مع النَّشاط وتراجع القوة أسهل، وما حَال الإنسان إذا كان ضعيفاً واحتاج مع ذلك إلى أن يدبر الأمور، ويضع كل شئ موضعه؟ وقد كان بعض خلفاء بني العباس أَفْضت إليه الخلافة وهو ابن ثمانين سنة، فبقي يتأسف في نفسه ويَتَحسّر، ويقول، أي خلافة في هذا السن، ويود لو حصلت له في صِبَاه، قلت، فلو انتبه الإنسان في بلوغ سنه، وحال كبره أكان يتأسف أن لو كان ذلك في الصِّغر، قال، نعم قد يتأسف وقد ذكر ابن عربي أن بعض أعمامه دَخَل في الطَّريق وهو ابن ثمانين سنة، ولكن الإنسان إذا استيقظ في تِلْك الحال، وأقبل على الله يعطيه الله سبحانه عِوَض ما فات عليه من الأعمال، لأنه خزائنه سُبحانه مملوءة من الأعمال، وما قَدْر عمل ابن آدم الضَّعيف، فلو عمل ما عمل، فإن مَلَكاً واحداً من الملائكة عمله يوازي أعمال جميع بني آدم ،
(٢/١٠٦)
فإذا كان الملائكة مع كَثْرتهم للواحد منهم كذا كذا رأس وَوَجه ولسان، يَعْبد ويَسْجد ويسبح بكل واحد، فما عمل ابن آدم بالنسبة إليهم، ولكنه تعالى شَرَّف بني آدم بعبادته، وللآدمي مزيّة وخاصيّة، إذا أقبل على الله عَوّضه الله عما فات، كما وقع لآدم حين أقبل على الله في كِبَره وتاب وأناب إلى الله، تاب الله عليه، وعَوّضه عما فاته، وكانت هذه المزية منه في ولده
أقول، وكلامه نفع الله به، يدل على أنه تَمَنَّى تلك الثلاث تحصل له حال كمال البصيرة وتمامها، ولو أنها قد سَبَقت له في تلك الحالة التي ذَكر، لكن ما منعه من ذلك في وقته الحاضر إلا شواغل الناس وضعف القوى حينئذ، ولكن قد حَصَل له ثوابها بالنية كما قال
(٢/١٠٧)
ولما خرج رضي الله عنه لصلاة العَصر تاسع رمضان سنة ١١٢٨ سكت ساعة، ثم ذكر حديث ذهب المفرّدون بالأجر وحديث، (( فاز المخفّون ))، ثم قال، ليس مراده عليه الصّلاة والسلام في هذا ولا في غَيْره أمر الدنيا، وحاشاه من ذلك، ولكن إذا أخذ اللَّبيب من كلام نبيه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم معنىً لأمر دنياه، فلا حرج عليه، وما في شئ من أمور النبوات من أولها إلى آخرها إن أمر المعاش أصل في شئ أبداً، وإنما هو عارض، وإنما بعث الله الأنبياء ليدعوا مَن جعل أمر المعاش أصلاً - إلى الله، قلت، ومعظم الناس مع ذلك جعلوا أمر المعاش اليوم هو الأصل الذي عليه المعوّل، وغيره تبع له، قال، ولهذا بعث الله الأنبياء ليَدْعوهم من الدنيا إلى الآخرة، قيل، فهو مع ذلك يضطر إليه جداً، قال، نعم، لهذا ميز الله سبحانه بين المخلوقات، وفضَّل بعضها على بعض، وإلا لاشتبهت الملائكة وبنو آدم والدواب لا فضل لشئ منها على آخر، فلو لم يضطر الحيوان إلى المعيشة لاشتبهت المخلوقات، وقد أحوج الله الناس بعضهم إلى بعض في جميع حرفهم، ليعمروا الدنيا وينتظم أمر المعاش إلى حين، قلت، وقد يحب الإنسان أن يكون متجرداً للآخرة وزاهداً في الدنيا، ولكنه يعجز عن ذلك، فقال رضي الله عنه، قد ذكر الإمام الغزالي، أنه لو أكل الناس الحلال أربعين يوماً خربت الدنيا، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، والرجل من أهل العلم، يتمنى أن يكون شجرة أو حطبة ونحو ذلك كما قد سمعت في ترجمة إبراهيم بن أدهم والفضيل، ولا يَرَون أنفسهم شيئاً، قلت، وهم مع ذلك في أحسن الأحوال، قال، نعم، عند غَيْرهم لاعند أنفسهم
(٢/١٠٨)
وسَأله رضي الله عنه رجل إلباساً فقال له، قد معك إلباس، ولكن بَقي عليك الانتظام والسلوك، فالله الله في السلوك والانتظام، واطلب العلم لا تجلس سبهللاً، فإنه قبيح بالرجل سيما إن كان خطيباً أو معروفاً، وكان الرجل خطيباً، أن يجلس المجلس أو قال يجلس بين النَّاس، ليس معه شئ من العلم، لو سئل عن شئ ما عرفه، ويَنْبغي أن يتطرف من كل شئ وشكا إليه ذلك الرجل كثرة الخواطر والوساوس، فقال نفع الله به، ذلك بسبب الخلطة والطُّعْمة، إذا لم تُطَب، فإن طاب ذلك لك وإلا، فإن كان ولا بد فخذ منه القليل، أي كما يأخذ المضطر، ومراده القليل من الأمرين معاً، الخلطة والطعمة
وقال رضي الله عنه، ورد أنه لا ينتشر مجلس رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلا متفرقين عن ذواق، ورأينا المناسب هنا الانتشار عن ماء، فهو سَبَب ما يعتاد شربه من الماء عند القيام من المجلس
(٢/١٠٩)
وذكر رضي الله عنه الملائكة عليهم السلام، فقال، إنهم تجردوا عن هذا العالم السفلي، فلا يَحْتاجون لأكل ولا شرب ولا نكاح وغير ذلك للعالم العلوي، وبَقُوا في مقام الخصوصية، والترقي في الأفضلية، بمعنى إن بعضهم أفضل من بعض، فليس جبريل في ذلك كأدنى واحد منهم، والكل قائم بما كَلَّفه الله، ومن فَضّل خواص الآدميين عليهم، فإنما ذلك من وَجه، وباعتبار من حيث إنهم قاموا بما أمرهم الله به، مما لم يكلف به الملائكة، مع إنهم في قواطع كثيرة عن القيام به، وأولئك مجردون لما كلِّفوا به، ثم إن الآدميين في قيامهم بما أمروا به، مع العجز بسبب البشرية، إنما مَدَدهم من الملائكة، كما وَقَع في بدر وحنين، والأمور الإلهية لا تكيّف، بل تُوكل الأمور إلى المقدور، كما حكى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن حال المعراج، وتردّده إلى موسى عليه السلام مَرّات متعدّده في ساعة واحدة وهو في السّماء السادسة، ويقول له في كل مَرّة، ارجع إلى ربك واسأله التَّخفيف، مع أنه غار من كَثْرة من يدخل الجنة من أمة محمد، فغَيرته لذلك، لا لكونه فَضُل عليه، وهذا عجب وإلا لكان قال، ارجع إلى أمتك بالخمسين الصلاة
وقال رضي الله عنه، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بسبب يهودي، لا تفضلوني على يونس بن متى ولا ينبغي تأويله ؛ بأن ذلك كان قبل أن يعلم أفضليته، بل السكوت عن التأويل أحسن وقال رضي الله عنه، ومن هذه الأشياء - يعني ما تقدم - وما وقع لسيدنا موسى مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، يتطرق للأولياء الإنكار فيما يقولون، لأن مقام الولاية لا يبلغ مقام النبوة
(٢/١١٠)
وسئل رضي الله عنه عما جاء، إن الملائكة لهم أجنحة، يلتحفون ببعضها ويَفْترشون بِبَعضها، وإن الواحد منهم كالجبل، ونحو هذا مما يوهم أنهم صور حسية، مع إنما هم أرواح، فقال، هم كذلك على الصور التي يتمثلون فيها، كما رأى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جبريل عليه السلام، وقد سد الأفق، وقال، إنه على صورة دِحْيَة، وكذا في القرآن، {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ}، وأما حالتهم الأصلية فهي الروحية، والآدميون إنما يتمثلون كذلك بعد السلوك، فحينئذ يمكن منهم ذلك، وأما الملائكة فهذه حالتهم الأصلية
وقال رضي الله عنه، الروح ما يتغَذَّى بالأكل، وصاحب الأمر إنما غذّا روحه في الأمر والنهي، في قوله، افعلوا كذا، واتركوا كذا، وحطوا كذا، وأخروا كذا
وقال رضي الله عنه، ليجهد الإنسان في سلامة نفسه أولاً، ثم في سلامة غيره، ومن هو غارق في بحر كيف ينجي غيره، ويغرق نَفْسه، ما عاد إلا اعمل في نفسك، واشكر الله على ما أعطاك، ولا تقل في الناس إلا خيراً، إنما ذاك إذا صادف الإنسان، وفيه داعية إلى الخير من نفسه، وأما عند التكلف فلا يمكن شئ، ولكن مادام يرجو الانتفاع لنفسه لا يقصر، وتعرف ما يجوز السّكوت عليه - أو قال عنه - وما لا يجوز، ومثل ذلك لمن رأيته في تقصير، فإذا طلبت منه الصَّواب، فلم يفعل، جعلت تغتابه، فتقع في الحرج، كمن رأيته في وحل، أردت تخرجه منه فغرقت عنده في الوحل
وقال رضي الله عنه في وقت القراءة، ما عاد إلا يأخذ الإنسان ما تيسر على قدره مع المسامحة، عسى تحصل المسامحة من فَوْق بالنسبة إلى نفسه، وإلى زمانه، وإلى إعراض الخاص والعام
وقال رضي الله عنه بعد ما فرغ القارئ الذي يقرأ في "منهاج العابدين"، إن هذه الأشياء لا تَظْهر إلا بالتَّكرار والتأمل ثم الاستعمال، فطالعه مرة و مرتين وأكثر، وتأمل ثم اعمل، وإلا كنت كالذي يعرف الدواء وهو مريض ولا يستعمله
(٢/١١١)
وقال رضي الله عنه، غداً يوم القيامة التحاكم بيننا وبينهم إذا رأيت صلاتهم وزكاتهم ومعاملاتهم الباطلة، وقد يكون ذلك رأساً فبماذا يُحسَن الظن فيهم، غاية حسن الظن بالمسلم العاصي أن تعتقد أنه لا يبقى على ذلك، ولا يصر على المعصية، وانظر ذلك في نفسك ولا تحدد في هذا الزمان، فإنك إن فعلت رأيت ما يسوؤك، وفي الزمان السابق، إذا حَدَّدت رأيت ما يسرك، وما راح بالإنسان إلا الأماني، يُمَنِّي نفسه بالتَّوبة، أو بمن يشفع له، وهذه أماني باطلة، وأما محبة البقاء فطول أمل، يشغل عن العمل الصالح، وشفاعة الأولياء ذكروا إنما هي لمن شابههم، فبسبب المشابهة لهم تحصل الشفاعة منهم كالمغناطيس، والأمور قد بعدت، فيأخذ في درجة أصحاب اليمين، وإذا أردت تعرف تباعد الأمور، فانظر بين حال أهل وقتك، وحال من قبلهم، فيكون حال كل متقدم أزهد في الدنيا، وهلم جرا، لأنه لولا النزول لما قامت الساعة، لأنها يوم تقوم ما يبقى إلا شرار النَّاس، يَتَهارجون بها تهارج الحُمُر، ولا تقوم إلاَّ بغتة لكن تَتَقدَّمها علامات وفي الحديث إذا ظهرت علاماتها، تبقى الساعة في قربها كالحامل المُقْرب
وقال رضي الله عنه، من رأيته على مَعْصية، فقد أبدى صَفْحته، فلا مَعْنى لحسن الظن به، إلاَّ أن يظن به التَّوبة وعدم الإصرار، وأما إذا كان ظاهر فعله طاعة، أو يحتملها فلا وَجْه لسوء الظن، وفي الحديث من أبدى صفحته فلا غِيبة له
(٢/١١٢)
وذكر رضي الله عنه أهل الوقت، فقال، إن الإنسان لا يقيس إلاَّ على نفسه، فإذا رأى صالحاً في وَقْته ظنه مثله، لوجود بشريته، وإن كان فيه خصوصية، ومن مات إنما يُسمع بخصوصياتهم دون بشرَّياتهم، فيُعْتقد فيهم لا محالة، وبُدُّك من يطوي البشريّة، وينظر إلى مجرد الخصوصية، وهؤلاء ما يريدون الصالحين لأجل التعلم منهم والاقتداء بهم، وإنما يريدون منهم أن يُبرهِنُوا لهم فيما يُزيد دنياهم، ويريدون الفقهاء لأجل أن يعلموهم الحِيَل والرُّخص في أمور الدنيا، ويريدون لو مات الفقراء كلهم، حتى لا يبقى فقير يسألهم، أو يقف عند أبوابهم، ليتَفرّغوا منهم ويستقلوا بدنياهم، ومثل هذا، فجميع مطالبهم الدنيا فقط، لا عناية لهم بأمر الدين البتة أو كما قال
وقال رضي الله عنه، اليوم الناس في العمل، من هو مجتهد بالنسبة إلى من قبلهم، كالأعرج في أسفل الدرجة، والآخر صحيح في أعلاها، وهو يراه ويتأسَّف أن لم يكن عنده فيمسكه، وأما غير المجتهد فالعياذ بالله، يَتَكلَّم بكلام فظيع، ومن طالع في كتاب ما عاد قنع بالجنة، وهو ما يُسْوى شيء، وبعض أصحابنا قال، إني أستريح بالأماني، ولكني ما يبقى في يدي منها شيء، فقلنا له ما بلغك شئ مما قيل في الأماني ،
أمانيُّ إن تصدق تكن غاية المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
قال، بلى
وقال رضي الله عنه، أمور الدنيا من قُدّر له منها نصيب، وصبر على أوائلها إرتقى إلى أعلاها، لكنّه سريع ونَشَغ به، هذا في أمور الدنيا، وأما أمور الدين فإذا ارتقى فيها إلى منزلة عالية، فإنه لا يزال في علو وارتقاء
وقال رضي الله عنه، الإنسان ضعيف، إذا وقع في أمر من خَيْر أو شر ظن أن هذا هو هو، فإذا كان بعدُ تَبيّن له أن ما هناك شيء
(٢/١١٣)
وقال رضي الله عنه في إعانة الله عبده في الأمر، ما يعين الله الإنسان في أمر يَفْعله أو يتركه حتى يَهِمَّ به ويشرع فيه، فإذا شرع أعانه، سواء كان ذلك في الفعل أو التّرك
وذم رضي الله عنه أحوال أقوام، فقال، فُرْط الشهوة والبخل يَشْتد في الإنسان، حتى يقيم الحجة لِنَفسه على رَبِّه، وحقائق الدين قد خرجت من الباطن، وإنما بقيت صور، لا إن الصّور الظاهرة تدل على الباطنة، إلاّ أهل الدواير من الأولياء، ولو قلت لواحد تَصَدَّق وافعل الخير، أتاك بمائة علة ثم يَشْتهي أن يكون من أولياء الله وهو من أولياء الشياطين، وأرادوا الكرامات يتزيدون بها في دنياهم، وإذا هم إلاَّ هكذا، فترى الدجّال فيه كفاية، وتتبعه الكنوز فليحرص الإنسان في تصحيح أصول الدين، وفعل الظَّواهر التي لا عذر في تركها، ويَعْتقد في نفسه التقصير، وَيَعْتَبر في يومه وليلته، ويرى أيَّ الأكثر، من صار إلى الله، أو إلى الدنيا، فيعرف لما يرى، مع أن المصير إلى الله هو الذي عليه المعوّل، فليناقش نفسه إذ هو أعلم بها من غيره، والناس في ستر الله، لا اطلاع لأحد على أحد، والعلماء يفرحون بعدم اطلاعهم على النَّاس، ويَحمل الدينَ من كل خَلَفٍ عدولُه
وقال رضي الله عنه، الزمان زمان أثقال وأشغال، فيَنْبغي أن يخفف فيه عن نَفْسه، ولا يثقّل عليها فيُهْلكها، ولا يتكلف ما يشق عليه، كالبعير المحمَّل إذا ثقل عليه يخفف عنه، والمركب المشحون إذا احتاج إلى التَّخفيف يَرْمون ثقله في البحر خوفاً عليه من التلف، ولا يجوز أن يلقي نفسه في التهلكة ويغرقها لأنه لا يَمْلكها بالتَّصرف فيها، ومن رمى نفسه في البحر مختاراً، وإن كان يمكن أن يُسبّب اللهُ سبباً ينجيه، لكنه ملوماً متعدياً بذلك فلا يجوز له، لأن نفسه ليست له إنما هي لله فلا يجوز له إتلافها
(٢/١١٤)
وقال رضي الله عنه، العمل القليل مع الإحسان خير من الكثير بلا إحسان، قال الله تعالى، { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَىَ اللَّهُ عَمَلَكُمْ }، أي حَال العمل، فيَنْظر كيف عملكم له للمطالبة بالإحسان، { ثُمَّ تُرَدُّونَ } إلى آخر الآية للمجازاة عليه بما وَعَدكم به إن أحسنتم فيه، ولا تكتب الملائكة إلا ما كان مَصْحوباً بالإحسان، والقراءة مع العجلة لا تكتب، وكذا الصَّلاة والدعاء لا يكتب، ولو خَاطَبْت مخلوقاً واستعجلت في الكلام، أعرض عنك فكيف بالخالق، والملائكة في هذا الزمان من حيث النظر، لا من حيث العلم يحيرون في طاعات أهل الزمان، إذ لا فيها إحسان فيكتبونها حسنة، ولا هم لم يفعلوا شيئاً منها فلا يكتبون شيئاً، إلا إن كان فيها داعية رياء فيكتبونها سَيّئة، وقيل، إن فاعل الطاعة مع عَدم الإحسان أحب إلى الشيطان من التَّارك لها أصلاً، لأن التارك أمره ظاهر، وسلم من التعب فيها، والفاعل بلا إحسان أَتعب نفسه، وأعجب لظنه أنه فعل طاعة، وصدور أهل الزمان تضيق من الحق، لأنهم لم يألفوا إلا الغفلة، لأن مجالستهم مع بعضهم بعضاً، ولو تذكر متذكر منهم ومال قلبه إلى الخير رأى أنه زاد على أقرانه، فأعجَبَ ورجع من حيث أتى، فعلى قلوبهم شياطين، تَمْنَع دخول الخير إليها، والموعظة لا تصل إلى القلب إلا بيد مَلَك، فإذا أَراد أن يدخلها إليه صادف الشيطان قاعداً عليها فأحْسِن، فالقليل مع الإحسان خير من الكثير بلا إحسان، فدرّة واحدة خير من عشرين حِمل وَدْعٍ، أو كما قال انتهى ما حفظناه في هذا المجلس المبارك، بعد عشاء ليلة الأربعاء في ١٥ محرم عاشورا عام ١١٢٣
انظر ما قال في حسن الخلق
(٢/١١٥)
وقال رضي الله عنه، شَمْخُ الإنسان بأنفه، إن كان من كِبْر أو سوء خلق، فإنه شؤم يُبْغِضه إلى الخالق والخَلق والأخلاق الحسنة قِسْمة من الله لمن أراد، ويتولاَّها النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، والسيئة أيضاً قسمة من الله لمن أراد، ويتولاَّها الشيطان ثم تمثل بهذا البيت ،
العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي
وقال رضي الله عنه لرجل، نَفْسك منطوية فيك، أدنى كلمة تخلِّيك تفور، ولهذا ثَقُلْت على الناس فإن النَّاس ما يلينون إلا على الوطاء
وقال رضي الله عنه، ما عاد مجالستنا لأهل الزمان ومداراتنا لهم، إلا كمداوي الجرحى، والمداراة هي التي نسميها المراعاة، ولكنّها إذا كانت بالدين لأهل الدنيا فهي مداهنة، ولكن التَّودد إلى الناس بحسن الخلق من المداراة والتَّوْءَدَةُ، التَّثبت في الأمر، حتى يتبين رُشْده، فإذا تبين فالتأخر توانٍ وهو مَذْموم والمحمود التأني فيه حتى يأتي به على الوجه المَطْلوب، وينبغي أن يداري الناس بحسن الخلق، وهذا لمن خالط الناس وعَرَف طبقاتهم وأحوالهم
انظر ما قال في الغضب
وذكر رضي الله عنه الغضب، فقال، هو طبيعة في الآدمي لا يُمْكنه أن لا يغضب، ولا يُلاَم عليه، إلاَّ إنه لا يَنْبغي أن يُكثر منه فيُخْرجه من الحق إلى الباطل
وقال رضي الله عنه على قوله عليه السلام، (( وخالق الناس بخلق حسن )) أي لا تجفو على الناس، ولا تشحَّ عليهم، ولا تُنْكر عليهم، ولا تَكُون ثقيلاً على الناس، ولا عتَّاباً على الناس، حتى على أهلك وأولادك
وقال نفع الله به، بحسن الخلق يُسْتجلب خير الأخيار ويُسْتكفى شر الأشرار
(٢/١١٦)
وشكوت إليه نَفَع الله به يوماً في خَلوة، وذلك بين الظُّهر و العَصْر، من يوم الإثنين في ٢٧ مُحَرَّم سنة ١١٢٦ من سَوْرة الغضب، تعتريني أحياناً فقال، كيف تجده، قلت، يصيّر الناس عندي سواء كرجل واحد، بلا تمييز وتظهر لي عيوب في كثير منهم، وأتكَلّم على من لا يستحق الكلام عليه، فقال، ليس هذا صفة الغضب، إنما الغضب ما كان له سَبب من جهتك، أو من جهة أحد من الناس، بأن فعل معك ما تَكْره، ولكن هذا ضِيْق في الحوصلة، لعدم وُسْع في الصدر، فقلت، فكيف مداواة هذا قال، بمخالفته، بأن تفعل ما تكره فعله حينئذ، وتترك ما تحب أن تفعله إذ ذاك، والرياضة على قسمين، رياضة الشهوات بالصوم والمجاهدة بالجوع وكسر النفس، ورياضة الأخلاق بالتّكلف، بأن تخالف ما يدعو إليه الخُلق السيء، وتَفْعل ما يَدْعو إليه الخلق الحسن، كتكلّف التَّواضع والنَّفس لها كمائن ودسائس، فتدّعي شيئاً وإذا جاء هواها لم يصح شيء من دعواها، وما قرن الله اسمه الواسع في القرآن، إلا مع اسمه العليم أو الحكيم، فقال تعالى ،{وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} {وَاسِعًا حَكِيمًا} وفيه دليل على أن سعة الصدر تكون من العلم، وفيه، الحكمة أم الفضائل، { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}، قلت، فما معنى المجاهدة التي يذكرونها قال رضي الله عنه، تَصْحيح التَّوحيد، والعمل على مُقْتضى الشرع، وتَذْليل شَهَوات النفس، وتَعْديل أخلاقها، حتى يَسْتقر كلٌ على الأمر العدل الشرعي، وقد يفتح الله على الولي بعد المجاهدة، بفتوح من عنده يتحقق له إنها لم تحصل له بمجاهدته، بل حصلت فَضْلاً منه تعالى ومِنّة، وقد يجتهد ولا يحصل له شيء، ليسلم بذلك من العُجب، فلا يَرَى أنه حصل له من مجاهدته شئ، ولا بد من المجاهدة، قال وسمي جهاد
(٢/١١٧)
النفس أكبر، لأنه دايم ولازم لكل أحد أو كما قال
وقال رضي الله عنه في قول صاحب "الإحياء"، الطريقة الثالثة في تهذيب النَّفس، أن يَتّخذ شيخاً صفته كذا فيرشده ويبصّره بعيوب نفسه إلخ، قال، يكون ذلك بالإشارة، إن كان من أهلها، وممن يَفْهم بها، أو بالتَّصريح في الأمور التي لا بد منها، ومن نعم الله عليك أن لا يُشَافهك بالأمر والنهي، بل بالتعريض
أقول، وهذه سيرته هو رضي الله عنه، في المتّصلين به والملازمين له، لا يكاد يواجه أحداً بأمر أو نهي، إلا إن وَجَب ومن رآه على أمر فعلاً أو تركاً، لم يكلمه فيه، إذا اتسع له فيه العذر شرعاً، وإن استأذنه أحد أو استشاره راعى مراده وما يميل إليه كما تقدم ذلك من قوله مراراً، ما لم يكن إثماً أو مذموم العاقبة، وإذا علم من أحد فعل مكروه، أو ترك محمود، ذكر الفعل بعينه، وبالغ في ذم ما يُكره، ومدح ما يُحمد بحضرة فاعل المكروه، وتارك المحمود، كما بالغ في ذم الكلام، حال انتظار الصلاة، ولا قال، يا فلان لِمَ تَتَكَلَّم فما سَمِعته قط يقول ذلك، وكذا إذا علم من أحد تَرْك ما يَنْبغي فعله، ذَكَر فوات الفضيلة المرتبة على فعله بحضوره، ومن له بصيرة يَفْهم الإشارة، ومن عُدِمها لا يُفيده التصريح بالعبارة، ومع هذا فله نفع الله به، تَرْبية خاصَّة معنوية، بإذن ربانية، لمن سَبَقت له السعادة، لا يطَّلع عليه الخلق ولا من يربّيه، لا يختص بها القريب، ولا يُحْرم منها البعيد، كما قدسمعته يقول، ومن ربيناه يفوق غيره لأنا نربيه تَرْبية لا يَشْعر بها، فيا سعد ويا فَوْز من حصلت له، هنيئاً له هنيئاً، جَعَلنا الله من أَهلها وممن نالها وفاز بها
وقال رضي الله عنه، إلْزق بالأرض تواضعاً، فإن اللّه ما خَلَق الخلق إلا ليَتَواضعوا لعظمته، وإلاَّ فخزائنه مملوءة من الأعمال، ولا اعتراض على المتواضع وما يَجد المعترض؟
(٢/١١٨)
وعنَّف رضي الله عنه رجلاً على جَلاَفته، وقوّة طَبْعه عند المصَافحة، فقال له، طبعك قَوي، ونَفسك منطوية على كِبْر، ومادام الإنسان ونفسه ما يحصل على شيء، وأقل الحال الأدب، ولو بأدب العامة، من السّلام والتّحية، والصلاة على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، والإنسان لا يخلو إما أن يكون قلباً خالصاً فذلك من جند الرحمن، أو نفساً خالصاً فذلك من حزب الشيطان، أو قلباً ونفساً مرة يغلب القلب ومرة تغلب النفس، وغالب الناس لا يخلو من هذه الثلاثة الأقسام، وقد أثبت الله الشيطنة بقوله شياطين الإنس والجن، وقد عجزوا حتى عن التأدب بالأقوال فكيف بالتأدب بالأفعال أو الأحوال، فإذا كان الإنسان قائماً مع نفسه، فكيف يمكنه التأدب بالمشايخ والاقتداء بهم، والتخلق بأخلاقهم، ونحن الآن ما عاد رأينا محلا يصلح للكلام، ولا قابلاً له، ولا رأينا أحداً نتكلم معه، وإلا فمعنا كلام كنا نتكلم به، لكن ما رأينا له محلاً لائقاً، ما عاد يريد أحدهم إلا يقرأ كتاباً و يطرح كتاباً، لا غير، وإلى متى هذا، ما هو إلا كما قال عمرو ابن العاص، لما قيل له إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كان يحب إنشاد الشعر، ويعجبه الأنس، قال عند النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أشياء لا نعلمها، أو كلمة نحوها وذاك الذي له تلميذ يقرأ عليه، فأراد يوماً يقرأ عليه، فقال له اتخذتني حرفة لقراءتك، إقرأ على ربك، أو كما قال قال نفع الله به، ولم يزل في نفسي من كلمة عمرو شيء، وقد لامه السلف جداً حتى فضلوا معاوية عليه، فقال الحسن أي البصري وكان معاوية خير الرجلين
وقال رضي الله عنه، ينبغي للإنسان في هذا الزمان، أن يسير إلى الله باللطف، ويأخذ نفسه بالتي هي أحسن، ومن تبعه فهو منه، ومن عصاه فإن هذا الزمان هو الذي ذكر في الحديث آخر الزمان، الذي على الإنسان بخويصة نفسه، ولا عليه من غيره، لأن الروابط قد ضعفت في هذا الزمان
(٢/١١٩)
وقال رضي الله عنه، الأخلاق الشريفة، من لا يعلمها يتعلمها، فإذا لم يتعلمها وأراد يعملها لا يعرف كيف العمل بها، وقد جمعها الإمام الغزالي وذكر، إن من تواضع لكناس أو دباغ مثلاً غير محمود، وإنما يحمد التواضع للأكابر، وأهل العلم
وقال رضي الله عنه، مقابلة النفس بالنفس، تورث العداوة، وإنما ينبغي أن يقابل النفس بالقلب، والشر كله في الكلام، فينبغي لمن ثارت عليه نفسه أن يسكت ولا يتكلم، ما دامت كذلك، وأنا من طبعي، إذا غضبت على أحد، فإن تكلمت استمر بي ذلك، وإن سكت سكن مني، وإن خرجت مني كليمة على أحد من المحبين، فإنما هي حق التنفس، أو كما قال
وقال رضي الله عنه، إنا نتكلف إساءة الخلق، وطبيعتنا عكسه، بخلاف الغير فإنهم يتكلفون حُسْن الخلق، وطبعهم ضده
وقال رضي الله عنه، إذا حسنت أخلاق الشخص، ساءت أخلاق أخدامه
وقال رضي الله عنه، الغل، إضمار البغض لمسلم وهو شديد، إلا إن كان من غير اختيار، كأن ظلمه حقه، فلا يَحْرُم لكن ينبغي أن يكفره بكراهته والاستغفار منه، ويعزم على أنه إن تمكن منه، لم يخرجه عن حد المباح فذلك تكفيره
وقال نفع الله به، سوء الخلقِ ضيْقُ الصدر
وقال رضي الله عنه، أهل شبام، كثيري الكلام، كل ذلك لِضِيْق صدورهم، فَلِضيقها يتَنَفَّسون بكَثْرة الكلام، وضِيْق صدورهم لضيق بيوتهم ( لأن من ضاق بيته ضاق صدره )
(٢/١٢٠)
وعاتب رضي الله عنه خادماً له، فكان مما قال، إذا حسنت أخلاق الرجل، ساءت أخلاق خادمه، وأحب إلينا أن يكون ذلك فيهم، ولا فينا، وما كنا من حين ابتداء أمرنا نظن أن نلابس شيئاً من أمور الدنيا وأسبابها للطَّرَف، حتى صارت الأمور إلى غير الاختيار وأقبل الناس علينا، فلما رأينا ذلك علمنا إنه إنما كان بسابق إِلهي ساقهم إلينا، فيجب علينا الصبر فيه، وتمشَّت لنا من الأمور المعاشية أشياء ما يكاد يصدق بها الإنسان كالمحال، تسْتَبعدها العقول، ومن رآها وسمعها تعجَّب كثيراً، وقال، بعيد جداً أن يكون هذا الأمر من هذا الباب أو كما قال
(٢/١٢١)
وقال رضي الله عنه، الأوصاف ما تَصير أوصافاً إلا إذا قويت وثَبَتت، وهذا في كل الأخلاق، المحمودة منها والمذمومة، كالحسد وغَيْره، وأما الخواطر المتردّدة فلا يُعْتد بها ولا إثم بها، ولا مَدْح ولا ذَم، والكبر والإعجاب وحبّ الدنيا ماحِقَات كلّها، والقليل منها يجر إلى الكثير، وفي الحديث، إذا رأيتم في إنسان خلقاً محموداً فاعلموا أن هناك له أخوات، وإذا رأيتم فيه خلقاً سيئاً فاعلموا أن له أخوات، ثم قال، انظروا إلى أماكن الشّوك والنمل، كيف يدل القليل على أكثر من ذلك، وكذلك في الأماكن المُسْبِعة، ولكن راحت بالناس الأفهام، فلا معهم أفهام يعرفون بها الأمور، ولا مفهّمين يُعرِّفونهم بها، فبَقُوا حائرين لا يَدْرون وِجْهتهم ولا أين هم متوجهين، وذلك حتى في أمور الدنيا، لا تحقق لهم بها، وهذه الأشياء لا يقبلها الله تعالى ما دام الإنسان يقبل التشكيك في الأمور الدينيات، و الإنسان، أو قال، وما زال الإنسان يقبل التشكيك في الأمور الدينيات فلا يقبلها الله، والإنسان في مطالبه على قَدْر همته وطَلَبه، فلو كان إلاِّ إنما يريد نكاح امرأة، أو شراء ضَيْعة، فإذا طلبت النفيس من ذلك صعب عليك الأمر، وإن طلبت ما اتفق أمكنك من ذلك كثير، فطالب الصعبِ أموره صعبة وطالب السَّهل أموره سَهْلة، أو كما قال، قال ذلك عشية الثلاثاء في ٢١ جماد الآخر سنة ١١٢٩
وقال رضي الله عنه، النَّفس قاسية رغيبة، إذا رأت الشيء لم تَقْنع به، لكن إن رأته كثيراً تبارك وإن كان قليلاً، وإن رأته قليلاً ذَهبت بركته وقلَّ، وإن كان كثيراً
وقال رضي الله عنه، من تهاون بطاعة الله الظَّاهرة، ووقع في معصيته لا بد له من الموت عاجلاً وآجلاً، وأول ما يموت منه قلبه
انظر ما قال في البر وقطيعة الرحم
(٢/١٢٢)
وتكلم رضي الله عنه في قطيعة الرّحم، فقال، إذا أراد الله بامريءٍ سوءاً سَلّط عليه قَطِيعة الرَّحم، فعند ذلك يسرع إليه الذهاب والدمار والهلاك،وقد ورد، ((صِلْ رحمك وإن قَطَعَتْ))
وقال رضي الله عنه لبعض السادة، الله الله في الوالدة أنّسها واجبرها، لعل تحصل لك منها دَعْوة، والكَبير قد يَتَغَيَّر طبعه فيحتاج إلى صَبْر، وما مع الإنسان إلا إعانة الله، إن أعان تَيَسر له الأمر الصعب، وإن لم يعنه لم يقدر يشل ثيابه، والبيت بيت أجر وصبر، والأجر يبغى صبراً، ولا شئ إلا بالصَّبر، حتى لو أحد جعل لك دواء احتجت فيه إلى صبرٍ في مقاساته ومرارته ومعالجته، وقد قالوا، الراحة لا تنال بالراحة وإنما تنال الراحة بالتَّعب، وأنشد ،
بقدر الكَدّ تُكْتَسَبُ المعالي ومن رام العلا سهر الليالي
وبعده، تروم المجدَ ثم تنام ليلاً يغوص البحرَ مَن طلب اللآلي
في أبيات تنسب لسيدنا علي، ومنها ،
لنَقْلُ الصخر من قِلَلِ الجبال أحب إليَّ من منن الرجال
وقال رضي الله عنه لرجل يوصيه في أبويه، الله الله فيهما، برَّهما واتبع رضاهما، وكن لهما كالعصا المركوزة، ولا تتحرك إلاّ إن حركاك
وذكر رضي الله عنه البر وأهله، فقال، البِر فيه بركة، وصلة الأرحام مباركة، فيها طول العمر وسعة الرزق وكفاية الأعداء، ومن وَفّقَه الله فهو بخيت، وإذا أضل الله عبداً أو أراد هلاكه، لا ينفع فيه شيء
(٢/١٢٣)
وَذُكِرَ له رضي الله عنه إن رَجلاً غضب على ابن له، فرماه بشفرة، فكان فيها حتفه، فقال سيدنا، لا حَوْل ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا سبب الغضب، والغَضَب من الشَّيطان، فينبغي للإنسان أن لا يعمل شيئاً حالة الغضب أبداً، لأن كل شئ يفعله في تِلْك الحالة غير سديد، ويُرَيِّض الإنسان نفسه بتكلف الصبر، والإمساك عَمَّا يقتضيه الغضب، حتى يتعَوَّد ذلك، فلا يَغْلبه الغضب، وقد أمر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إنه إذا كان قائماً فَلْيقعد، وإن كان قاعداً فليقم وفلان لا يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يدعوه إليه الغضب، سمّى رجلاً من آل فلان، كان في الحاوي خادماً، فإذا وصّاه في بعض الحوائج، يراه وعليه أثر الغضب جداً، فيزعله ذلك منه
انظر بعض مكا شفا ته رضي الله عنه
(٢/١٢٤)
ومن العَجب إن هذا الرجل كان يقول، إن سَيّدنا عبدالله قد كان أوعدني بالحلول والإقامة بوادي الدَّواسر، وكَرّر ذلك عليه مراراً كثيرة، قال، كلما خاطبني قال لي، ما لك إلا بلاد الدَّواسر، وظاهر هذا إنما هو توعد لا وعد، فاعتقده وعداً، أو إنه سيصير له بها مَظْهر واسْم وصِيْت، فاستعدَّ لذلك بكتب فقه وخُطب، وقال إنها بلاد عامَّة، يحتاجون لذلك، فحين وصَلَها وافق حضور الأجل، ففي سُرْعة من الوقت انتقل، فكان الوعد له بسكنى في القبور، لا بسكنى في الدور، فأَعجِبْ من بُعْد مرمى كشف سيدنا وقد قال نفع الله به، كلما بَعُدَ ما كُوْشف به الأولياء كان أصح وأقوى للكشف، فتبَيّن بهذا أنه تَوعُّد لا وعد، كما تَوَعَّد عيسى بن بدر، لما كثر ظلمه على الرعية، فقال سيدنا، ما له إلا الكثيب الأحمر، أي كَثِيب عينات، وكان مقامه بشبام، فانحدر إلى عينات فحضره أجله في يومه، ومات ودفن في الكثيب الأحمر، كما ذَكَر، وتقدَّمت قِصَّته، وكذلك لما قال نفع الله به لي، قال لنا حسين بافضل، إن بَدَت لكم حاجة، الحذر ما تَذْكرونها لي، فقلنا، إن بدت حاجة تُطلب من الخلق، فما أولى منك، وقِدْنا ببيتك، وإن قَضَى الله الحوايج فما بقي كلام، ثم قال لي، فاعلم ذلك واعمل عليه، وهذا منّة بفضل الله لي، وعد لا توعد، فمن حين وضعت رجلي بالحسا من سنة ١١٣٤ قيض اللّه لي بعض المحبين الصادقين، أن قال لي، إن بَدَت لكم حاجة فلا تَسْتقضونها إلا من عِنْدي، ولا تَسْتَقضون حاجة من غَيْري، فقلت له، إن شاء الله إن بدا لنا غرض، فأنت أحق بذلك وأولى به، فكان لنا معه في أمور المعاش أحوال غريبة جداً، لا توجد في أهل هذا الوقت، من جملة ذلك إنا بقينا نَتَسَلَّف منه إلى أن بلغ ذلك ١٧٠، غير ما يعطي بغير سَلف، وهو أكثر من ذلك بكثير، فقال عند ذلك، أنت بريء من ذلك كله، ومَرَّة كان للأهل عند رجل ثلاثمائة ،
(٢/١٢٥)
فَذَكرنا ذلك له فأعطاناها، وقال، أنا أجوز معه، وغير ذلك حتى صِرْنا نقْضي أمورنا من بعيد، ومهما علم بشئ قضاه من غير ما نعلم، إلى أن جانا هذا الوقت، وهو سنة ١١٦٣ الذي أقعد الأقوياء، وأفقر الأغنياء، صِرْنا نخْفي عنه بعض الحوائج، شَفَقَة عليه، وهو يطالبنا بذكرها، ونخْفيها عنه وعن غيره ما استطعنا، ولا يمكن اليوم إلا القناعة، لتغَيّر الزمان وأهله، ومَيْلهم عن شَاكلة الصَّواب، لغلبة البخل والشُّح عليهم، نعوذ بالله من أحوال ما تَدْعو إليه النُّفوس في هذا الزمان، وكان سَيِّدنا نفع الله به يقول في وقته ما معناه، لو يتصور الإنسان هذه الأمور الوَاقعة في هذا الوقت قبل وقوعها، هل تقع أم لا؟، لكان لا يجوّز وقوع ذلك، فلو قيل لك، هل يمكن إن رجلاً كان يحسن إلى الناس ويعطيهم، إنه سيصير يستعطي ممن كان هو يعطيه، لقلت، هذا ما يمكن، وهذا وقع في هذا الوقت كما ترى، وكلُّ ما يُستنكَر وقع، فكل ذلك مما أشار إليه نفع الله به، وهو من أمارات الساعة
(٢/١٢٦)
ومن جملة مكاشفاته نفع الله به، قِصَّته مع حسين بافضل عام حجِّه، وملخّصها، إنه رضي الله عنه رأى وهو في المدينة المشرفة، وفي صحبته إذ ذاك الشيخ حسين بافضل، وكان مريضاً، قال، رأيت كأن باباً مفتوحاً له من المدينة إلى مَكَّة، فقلت، إنك لا تموت إن شاء الله إلا في مكة لأنا رأينا لك كذا وكذا، فقال، وقد قبري في مكة مَبْحوث، و حَصل لنا بسبب مرضه، أنا رجعنا إلى مكة، وجددنا عهداً و اعتمرنا، و إلاّ فإنه إنما خرج معنا ميتاً وراجعاً، و نقل شليه عنا هذه الرؤيا، ونقل معها أيضاً كلاماً ليس على بالنا، و لا نَعْلم بوقوعه منَّا، إلا إن كان قد نَسيناه فَيُمْكن، والسيد ثِقَة، و هذه الأشياء لا نريد أحداً ينقلها عنا، و لا نمكّنه من نقلها، وهو إنه ذكر، إنا وَهَبْنا له من عمرنا أياماً واستَوْهبنا له من الجماعة أياماً، فلما تمَّت مات، إلى آخر ما ذكر وهو مذكور في ترجمته، من المشرع الروي بأبسط من هذا
أقول، وقد سَألته عن هذه القّصة ثلاث مَرّات لأنقلها عنه، فالأولى سكت فيها، ولم يرد جواباً والثانية قال، ذكر هذه شليه، وهو ثِقة والثالثة قال، ذلك من بركة المتابعة وذاكرته في قصة سقاية قَسَم، فقال، ذلك وأشباهه من بَركة الإتباع، ونور النبوة، ومن معجزاته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم
(٢/١٢٧)
ومن عجيب مكاشفاته رضي الله عنه وبُعْدِ مرائي إشاراته، قصة محمد المغربي، الذي كان ينزح على بير زمزم، وقد جاء إلى حَضْرموت ومَكَث عند سيدنا في الحاوي مدة، فكان ليلة كما ذكر ذلك عبدالله باشراحيل بمَعْناه في مَجْموعه الذي جَمَعَهُ في كرامات سَيِّدنا، وهم في الراتب، وهو يفص رجلَيْ سيدنا الحبيب، إذ شَراه ظَهْرُه، فجَعل يحكّه وقال، يا حبيب ظَهْري يشْراني، فَرَفع سَيّدنا يده و ضرب بها على ظَهْره، وقال، هذا إبراهيم في ظهرك فنريد أن نزوجك، فحين ما قال له ذلك، أمر رجلاً كان حاضراً، و قال له، سر إلى أختك، و استأذنها أن نزوجها بفلان، فسار إليها واستأذنها فأذنت له في ذلك، وزَوّجها إياه بحَضْرة سَيدنا وزُفّت إليه، ومكث معها أياماً، ثم جاء إلى سيدنا يطلب الإذن في المسير إلى الحرمين فأذن له، فلما جاء يَسْتودع مسافراً، قال له، إن زَوْجتك حَملت بولد، فإذا وَلَدَته سَمَّيناه إبراهيم، فإذا بلغ يحج أحد من عيالنا ويحج معه، فَولِّم له كل ما عندك من الدَّراهم، واجمع له ما قدرت عليه منها، ثم يجيئك بعد مدة حاجًّا ويجيئك من عندنا بكفنك، يكون هذا على بالك، فسافر وقد حفظ منه ما قال، وصار ذلك على باله، ثم ولدت زوجته ولداً و سمّاه سيدُنا، إبراهيمَ، فلما بلغ وكان سنة ١١١٨ حج السيد الحسين بن الحبيب، فحَجّ إبراهيم معه و إذا بأبيه مجمّع له ما قدر عليه، فدَفَعه إليه، وهو سَبْعون قرشاً، فجاء بها فغرس واشترى منها نَخْلاً، و بنى داراً، و تزوج منها، ثم إنه حج مرة أخرى بعد الأولى بنحو عشر سنين، فأعطاه سيدنا لأبيه ملحفته التي يلبسها، و قال إدفعها لأبيك، و قُدْ معه خَبَرها، أي كونها كَفَنه الذي عهد به إليه، فلما سَمع أبوه بوصوله إلى جدة قادماً، حَزن حزناً شديداً، فَهنّاه بعض أهل المدينة بقدوم و لده، فقال، فبم تهنيني، أتهنيني بالموت، فإنه جاء يبشرني
(٢/١٢٨)
بالموت، فلما قدم المدينة و أقبل على أبيه يحيّيه، قال له، هات كفني الذي جئت به من عند حبيبك، فدفع له الملحفة، فَتَمسَّح بها وقال له، ليتني ما رأيت وَجْهك، ما كان تَرَكْتني أذوق الرُّطب، وكان قد قرب إدراك الرطب، فَمرض من يومه أو ثاني، والحاصل ما بقي إلا نحو ثلاثة أيام، وتوفي، فيا للعجب، من هذا العجب
ومن جملة مكاشفاته نفع الله به بشارته للسَّيد الحبيب أحمد بن زين الحبشي، بابنه جَعْفر قبل يولد، وذلك إنه توفي للسيد أحمد ولد اسمه علي، وكان قد حفظ القرآن وطلبَ العلم، وكان أبواه مشغوفين به، فحَزنا لموته، فقالت أمه لأبيه، زُرْ بنا السيد عبدالله الحداد، أريد ألازمه، يدعو لي بولد مبارك يخلف عليّ ذلك الولد، فأتياه زائرين، وتَكَلَّمت له بما في نَفْسها، فقال لها، اصبري الآن، عادكُما إلا جئتما، فإذا أخذتم كم يوم أرسلنا لكم، فلما مَكَثا المدة التي قال لهما، أرسل لهما فأتياه، فقال، سِيرا على بركة الله، ونُبشّركما بولد مُبَارك سَمياه جعفراً، فسارا على إشارته، ثم بعد أيام جاءت من السيد أحمد وَرَقة، ذكر أن الشَّريفة حملت، ثم بعد ذلك أرسل كتاباً آخر، وذكر إنها ولدت ولداً سميناه جعفراً، ثم نشأ هذا الولد نشواً حسناً، وصار فيه بركة كما وَعَد سَيّدنا، وصار اليوم القائم في مقام أبيه، فانظر وافهم، واعتبروا يا أولي الألباب
انظر ما قال في موت الفجاءة
(٢/١٢٩)
وقال رضي الله عنه، ينبغي إذا مات أحد فجاءة أو بِمَرض خفيف أن لا يُسْتعجل بِتَجْهيزه، حتى يتحَقّق موته إمّا بتغير، أو علامة تفيد اليقين، أو معرفة طبيب حاذق ماهر في الطب، ورأينا في بعض كتب الطب، ذكر علامة وهي أن يُجعل عند أنفه قطنة مندوفة مهبَّاة، فإن تغيرت بنحو حرارة أو غيرها، دل ذلك على حَياته، لأن ذلك من أثر النفَس، ثم أطال الكلام في ذلك، وذَمّ أحوال الناس في استعجالهم بالجنائز، فقال، إنما نحن إذا عَرَضت لنا مسألة تَكَلَّمنا فيها و بَيَّنا تساهل الناس فيها، ولا أحسن للإنسان من اتباع سَلفه، لأن للناس سلفاً هم أهل علم و صلاح، و يكفيهم الأمر في تَجْهيز النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ما جَهَّزوه إلا لثالث من مَوْته، أَوَ هُمْ ما رأوا سُنّة يعملون بها في زَعْمهم إن مرادهم السنة في السّرعة بِتَجْهيز الميت إلا هذه؟، و التَّجهيز للميت بعدما يتحقق موته، لا في الحال، فرب من تَحْصل له سَكْتة أو إغماء يظنّ أنه مات حتى ذكر، إن رجلاً خَرَج من قبره، بعد أن دفن عاضًّا بإبهامه، دُفن حيّاً، و قصته مشهورة يسمى عاض الإبهام، و آخَر سمع صياحه في قَبْره، فلما بَحَثُوا عليه رأوه في آخر رمق فمات، وذكروا، إن الإنسان قد يموت من شم ريح الكافور، فيفزعه وهو حاله ضعيفة فَيَمُوت، وليس عَمَلهم من عمل الدين، ولا من أعمال أهل الجهة فإن البلد مدولة، دَوْلة عِلْم، ما هي دَولة جَهْل، فينَبْغي إذا مات عشيَّة أن ينتْظر به إلى الصّبح، أو ضحوة ينتظر به إلى عشية ليتحقق مَوْته، فإنما التَّجهيز للميت لا للحي، أَوَ ما رأوا سنّة يعملون بها إلا هذه؟، فلأي شيء ما يطمئنّون في الصلاة، و يَتْركون الهَذْوة في المساجد وفي الحزب، كيف هذا، ويريدون يَعْملون بالسنة، فينبغي أن يشبه الماعون الماعون، ثم ذكر قِصصاً وحكايات كثيرة في هذا، كقصّة هارون الرشيد، لما ظنوا مَوْته و أرادوا تَجْهيزه، فدخل عليه
(٢/١٣٠)
طبيب فأمر بجريد فأتي به فضربه به، فجعل يتحّرك قليلاً قليلاً، حتى انتبه من حالته، ثم برىء بعد ذلك و صَحَّ، و ذكر غير ذلك ومما ذكر قال، حكاية نَسْمع بها، إن امرأة حبلى، رأوها كأنها أسكتت فظنوها ماتت، فأرادوا تَجْهيزها، فجاء إليها طَبيب، فقال إئتوني بإبرة فأتوه بها فغرزها في بَطْنها فتنفست، وتحقّقوا حياتها، فسألوه عنها، فقال، إن ابنها وضع يده على مَوْضع نَفَسها، فتنَفّست من مغرز الإبرة فصَحّت، أو كما قال، وذلك عشية الأربعاء في ٢٢ محرم سنة ١١٢٣
أقول، سمعت إن الإمام البيضاوي، حَصَل عليه مثل ما ذكر، فجهز ودفن حَيَّا فانتبه مما جَرَى عليه في قَبْره، وَعَرف أنهم ظَنّوا موته، ففعلوا به ذلك، فنذر إن أخرجه الله سالماً ليفسرن القرآن، فجاءه نَبّاش كان ينبش القبور، ويأخذ الأكفان، فنَبَش عليه حَتّى إذا وصل إليه تنحَّى له عن الكفن، وقال له، امض إلى بيتنا آتني منه بِقَميص، فارتاع النَّباش وغشي عليه، فقال له، إنهم ظنوني مُتُّ فسر إليهم بَشّرهم، وآت لي بِثَوْب ألبسه و خذ هذا الكفن، فذَهَب و أتى له بقميص، فلبسه وَ خَرج، ثم فَسَّر القرآن التَّفسير المشهور
وقال رضي الله عنه، الأمور الفجائية، التي تأتي الإنسان بَغْتة، أو يُخْبر بها كذلك، قد تَقْتل وقد تُرْعب رُعْباً شديداً، بحيث يغمى على الإنسان، كما حكي، إن حارساً كان في بَعْض الحصون رأى جرادة في الجو طائرة، فظنها سهماً فوقع من الحصن، فبقي مطروحاً إلى اليوم الآخر كذلك، ثم أفاق، وكذلك اتفق لشخصين مسافرين أن نام أحدهما ولم يَنَم الآخر، فرأى حية لدغته، إلى هنا رأيت في الوَرَقة، وأظن إن النائم رأى ذلك فصاح فقام مرعوباً فقام إليه الآخر وأمسكه
(٢/١٣١)
وقال رضي الله عنه، إذا أفرط الإنسان في محبة أمر أو بغضه انعكس إلى ضده، لأنه لا ضابط حينئذٍ، فينعكس الأمر، كذلك الذليل جداً لو سمع خربشة يفزع منها يظنها شيئاً يخاف منه، وليس كذلك، كما ذكر إن رجلاً رأى جرادة طائرة قاصدة نحوه فظنها سهماً فصاح فوقعت عليه، فسقط وهو يقول بصياح شديد، أصابني سهم حتى مات، وآخر خرج من بعض الحصون، فسمع ضربة بندق فظن إن رصاصة وقعت فيه، فسقط فخرج إليه أهله فرأوه ملقى، فلما أفاق قال، إنه أصابني، إلا إنه لما آتيتموني ذهب ذلك عني
ومر رضي الله عنه في طريقه من الحاوي إلى السبير في باجبهان بنساء ضعاف ومنهن عميان، فسألوه فقال للخادم، إعتن، أما لك عناية بالمساكين، أما ترانا بعد كل صلاة ندعو، إن الله يحبب إلينا المساكين، يعني في الدعاء بعد الصلاة، اللهم إني أسألك فعل الخيرات، إلى أن قال، وحب المساكين، فقيل، إنهم مساكين بلا دين أي بلا صلاة قال، ولو، لأن الله يحب المساكين، ولو أن غنياً بلا دين، وآخر مسكيناً بلا دين، يكون ذلك المسكين أحب إلى الله من ذلك الغني، ففيه وصف مما يحبه الله، ولو قلت له، لِمَ لا تصلي؟، لقال، ما علي ثوب يعني يعتذر بذلك أو غيره، ولا يقول، ما عليَّ صلاة فينكرها
وذكر رضي الله عنه جماعة من آل الشيخ أبي بكر كانوا يترددون ثم انقطعوا، فقال، ماكان بيننا وبينهم شيء من أمور الدنيا، ولا نالنا منها منهم شيء، وهم عالمون بذلك، ولو أرسلوا لنا شيء رديناه ولا قبلناه، وإنما مرادنا منهم أن يتربوا ويتخلقوا بأخلاق سلفهم، ماهم داريين إنا نربي الرجل من أولادنا على الخلق الواحد سنين
ما قال في عقيدة أهل شبام
(٢/١٣٢)
واستأذن عليه رضي الله عنه بعض السادة من شبام، فأذن له بالدخول وذلك بعد إشراق يوم الثلاثاء في ٢٥ صفر سنة ١١٣٢، فكان مما تكلم به أن قال له، أهل شبام لهم عقيدة وحسن ظن في السادة ظاهراً عليهم، ليسوا كأهل تريم، فإن لهم أيضاً كذلك لكنهم مستبطنينه لا يظهر عليهم إلا عند الاختبار، كما ترى إذا كانوا في سفر أو رأوا أمراً نزل بالشريف فيظهر عليهم أثر التعب حينئذٍ، وما ذاك إلا لكثرة الأشراف، ومخالطتهم لهم، كالمسك إذا قل عَزَّ وإذا كثر هان
وسأله عن رجل بشبام، كيف هو وأهله، وامتد به الكلام إلى أن قال، أرسل أهله إلينا نأمره بالفراق، ونحن كلامنا ماعاد نسيبه لأهل الزمان، لقلة امتثالهم، وماذا ينفع الكلام مع قلة الاستماع له والعمل به، كالذي يعجن الطحين بلا ماء، كيف يمكنه عجنه بلا ماء، لأن فيهم مباهتة وكذباً، إن ذكرت له حال نفسه وما فيه من مذموم الخصال لأجل نصحه وتبيين عيوب نفسه، حقد عليك، وربما أقر على نفسه بذلك، وقال مثلاً، نحن إلا كذا وكذا، فإذا وصفته بما وصف به نفسه ثقل عليه ذلك، وأضمر لك الحقد، وما يحسن في هذا الزمان إلا الإنفراد عنهم، إن أمكن، أو المجاملة معهم وهي المداراة المطلوبة في الشرع، وأنشد بيتاً للزمخشري وهو ،
قد كان لي كنز صبر فاضطررت إلى إنفاقه في مداراتي لهم ففني
(٢/١٣٣)
فقال له ذلك السيد، أهو معتزلي؟، يعني الزمخشري، فقال، نعم، في العقائد دون الفروع، فإن مذهبه حنفي، ثم جرى ذكر أبي طالب وإجتهاده في نصرة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومنافعه له، فقال سيدنا، لكن ما نفعه ذلك، لأنه كان لمجرد العصبية، ولا كتب له إسلام حيث عرض له النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بكلمة التوحيد، وطلب منه أن يقولها، وكان عنده أولئك الرجلان من كفار قريش، حتى كان آخر ما قال هو على ملة عبدالمطلب ومات، ثم قال سيدنا، ما يحصل للعبد التثبيت، إلا إن ثبته الله وإلا أدنى خاطر يخطر له يزلزله، فقال ذلك السيد، أدعوا لنا بالتوفيق، فقال سيدنا، إذا جرى شيء في خاطرك فهو بايقع لك، لأن الله سبحانه وتعالى لا يخطر في خاطرك رجاء حصول أمر إلا ويريد أن يعطيكه، لأنه سبحانه لا يؤمل أحد منه أمراً فيقطع به عنه، لأنه تعالى كريم رحيم، وما خلق الخزائن الا ليعطيها عباده، مع قوله تعالى، { أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} ثم سأله في شيء من الكتب يطالع فيه، قال، في "الأربعين الأصل" و "المنهاج" فقال له، كتاب الأربعين الأصل فيه أشياء ليست في الإحياء، وهو كتاب جليل، وسماه الشيخ عبدالله العيدروس الصراط المستقيم، وفي كتب الإمام الغزالي خاصية، وهي إنها تجلب القلب الى الحضور مع الله بالخاصية لا بمجرد العلم، وقد ذكر الشيخ عبدالله أي العيدروس لذلك مثالاً، كما يحصل السواد بمجرد اجتماع الماء والزاج، ثم أمر بالقهوة، وبعدها بالدخون، ثم قرأ الفاتحة ثم خرج ذلك السيد، وتم ذلك المجلس المبارك
(٢/١٣٤)
وذكر رضي الله عنه أهل شبام، فقال، كان فيها ناس زهاد، ولا رغبة لهم في الدنيا، أهل خير، فصاروا اليوم كلهم مشغولين بالدنيا، فصاروا إلى لهو ولعب فإن كان في أحد خير فهو اتفاق وكان الفقيه بامجبور إذا جاءه حَكَمان يتحاكمان يبكي أولاً قبل الحكومة ثم يفتي فانظر الآن، وهكذا كانوا، وما يستجري العامة، الا باستجراء العلماء، وأدركنا كثيراً من أهل الأحوال في الجهة، مساتير ومشاهير، ولكن انطفى ذلك النور، واشتعلت بدله نار، ولو كان هنا أحد من أهل الكشف لرآها ناراً من أعمالهم لا من غيرها
وفي بعض الأيام وهو يوم السبت ٢٣ ربيع آخر سنة ١١٣٢ دخل عليه السلطان عمر بن جعفر في داره في البلاد بعد صلاة الصبح، ووصلت من الحاوي وهو داخل، فوقفت في الضيقة الى أن خرج، ثم خرج سيدنا وقال، يوم هو هنا قدْ جيت، قلت، نعم، ولم أجزم بالدخول فقال، نعم نحن الغِنا، وهو العَنا، إذا دخل علينا لم نخل أحداً يحضر إلا إن كان العيال، لأن الناس ليس فيهم أمانة في حفظ الكلام، وأيضاً إذا كل من جاء حضر فما فائدة في كلام الخلوة، وكذلك إذا كان عندنا سماع، إذا خلونا لانمكن أحداً من الحضور إذا كان السماع خاصاً في خلوة، فإن كان ظاهراً فلا نمنع أحداً أو كما قال
وشكا إليه رضي الله عنه بعض السادة، من ألم ضرس أضرَّ بِهِ فقرأ عليه، ثم قال، يقال بئس الصاحب الضرس، إذا رأيته ما نفعك، وبئس الصديق الدرهم ما ينفعك حتى يفارقك، ثم قال لي، إحفظهما
وقال رضي الله عنه، أكثر زلات أهل الزمان في ألسنتهم، ومعاملاتهم الفاسدة، و يظن أحدهم أنه يتعدى شجرة إلى فوق يريد الجنة، وعاد العلم وعاد العمل، و إذا نظر الإنسان إلى أهل طبقتين وتفاوتهم يرى بينهم بُعدًا، حتى إنهم مايتعارفون، فإن الزمان إلى نزول
(٢/١٣٥)
وذُكِر عنده رضي الله عنه جملة من صالحي الزمان، فقال، فلان كذا، وفلان يجيء عند الدولة، يعيبهم بذلك، ثم قال، كانوا أهل يقظة وانتباه، فقد كان بعض الصالحين له صاحب، فرأى صاحبه أنه يناوله شيئاً يأكله، فتأمله فإذا هو خَرَا الجرذان، فحكى له بالرؤيا، فقال، نعم، إن لنا جماعة مالُهم غيرُ حلال، يجيؤون لنا بشيء فنرده ولكن قد دَخّنتك بشيء من دخونهم، ثم امتنعَ منه ولا عاد عالقه ولا صارمه
وقال رضي الله عنه، بعدما ذكر جماعة نقلوا من كلامه شيئاً، قال، فلم يعجبنا نقلهم، فإنهم قد يأخذون بالمعنى ولا عرفوا مقصود الكلام، وقد نهى بعض العلماء عن نقل الحديث بالمعنى، لكن ضاق عليهم الأمر واحتاجوا لذلك، والكلام له أول وآخر، وعلى مقتضى السؤال يكون الجواب، وقد قال لنا رجل، إنكم تذمون فلاناً يعني من سلاطين الجهة مرة، ومرة تمدحونه، ولا عرفنا كيف حاله، فقلنا إذا ذُكِرَ بظلم تكلمنا بما يناسب ذلك، وإذا ذُكِرَ بنفع تكلمنا كذلك، أَوَ نسكت مع ما نُسأل؟، وكثيراً إذا سألَنا أحدٌ مسئلة في المجلس، أود أن أخلِّف جوابه إلى بعد المجلس، والجواب أوسع من السؤال، وقد قالوا، لا ولد أكبر من أبيه إلا الجواب، فهو الولد والسؤال الأب، وكتب لنا يعني ذلك السلطان، وقال، إنكم تشددون في نقل الكلام، ولا يمكننا نحضر مجلسكم مع ذلك، وقيل لسيدنا نفع الله به، فلان يريد يكلمكم، وذلك عند خروجه لصلاة العصر يوم الخميس في ٢٧ صفر سنة ١١٢٨، فقال، للكلام وقت غير هذا، وأما مع اجتماع القلب للصلاة فلا يحسن الكلام، وما شُرِعت النوافل قبل الصلاة إلا ليحصل فيها اجتماع القلب على الله، حتى يدخل الصلاة بحضور وإقبال على الله، وقد كدت أمس أن أسهو في الصلاة لكون قد صافحني جماعة وأنا خارج اليها
(٢/١٣٦)
وقال رضي الله عنه، إذا سار الإنسان في الدنيا إلى ربه في طاعته، سار إليه في الآخرة إلى جنته والجنة فوقهم فهم يمشون في الدنيا تحتها وهي فوقهم، فإذا كانوا في الآخرة صعدوا إليها، والعصاة يمشون فوق النار في الدنيا وهي تحتهم، فإذا كانوا في الآخرة نزلوا إليها
وقال رضي الله عنه، الصُّعلوك إذا أطاع الله، نال رتبة الملوك، وحصلت له الآخرة، وجاءته الدنيا فتكون من خلفه، لأن الدنيا كالظل، إذا استقبلها الإنسان صارت خلفه
وقال رضي الله عنه، كل ما مَنَعَ من المباح فهو محمود، وما المذموم الا مامَنَع من الخير الصريح، ولكن ينبغى أن يُعرف الفرق بين الأمور
وقال رضي الله عنه، ما كان من الأمور بسبب الضعف، يعذر اللهُ تعالى فيها كما تعذر الشريعةُ، فإن الشريعة من عند الله أيضاً وما استنبطه العلماء فيها فهو من هذا القبيل، وهكذا في جميع أمور الأرواح المقتضية للترقي والمقتضية للنزول بحسب الأخلاق، فترقى إلى أعلى عليين وتنزل إلى أسفل سافلين، تصعد وتنزل في مراقي الصعود والإنحطاط، ثم ذكر قصة الشيخ أحمد الصياد، من أهل زبيد لما رأى كشفاً وهو بزبيد، أن الأمام الغزالي صُعِدَ به من قبره إلى آخر القصة السابقة
(٢/١٣٧)
وذكر رضي الله عنه، حديث معاذ، تصعد الحَفَظَة بعمل العبدالخ، ثم قال، وهكذا في سائر أحواله، فإن مات ولم يتب صار على مثل هذا الحال، ثم قال قد تطول بنا المذاكرة، ونخاف على دماغنا منها، وإذا طالت بنا في المدرس، نود أن القاريء يكون واحداً ولكن كل واحد يريد لنفسه قراءة، وإذا كان أحد من السادة فيه فضيلة، نريد عيالنا أن يتباركوا عليه بقراءة الفاتحة فقط، لأن مدد آل باعلوي من بعضهم بعضاً، فإن جاء شيء من غيرهم، كان كالسيل يجيئك منه رِدف فقد كانوا متعلقين بالأخذ كل واحد عن غيره حتى الصلاة، فإن كل واحد تعلمها من أبيه عن أبيه، إلى سيدنا علي إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ولما فرغ القاريء في حضرة سيدنا نفع الله به في مجلس القراءة في شرح الحكم لابن عباد، قال، القصد أن تكون متعلقاً بالله، وإلا فمعلوم أنه لا غنى به عن ربه حتى في عشاه وغداه، وكثيراً مايستبعد الإنسان أشياء من نفسه وهي موجودة عنده، لا يعلم بها، وترى من هو في خدمة ملك متى رأى منزلته، واختار شيئاً لنفسه عزل عنه، وإنما المراد، أن يقوم بما أقيم فيه، تحقيقاً للعبودية، لا ليختار ماشاء
وذكر رضي الله عنه واقعة علي بن موسى الرضا رضي الله عنه، حيث لم يضره الأسد في قصته مع زينب الكذابة، فقال، الكرامة وخوارق العادة، لا تأخذ بها تجربة لا في نفسك، ولا في غيرك فإن الله سبحانه يجيب المضطرين، ولا يحب المتكبرين، والله تعالى إنما يقبل المخلصين، واختلفوا في أن الإخلاص ما هو، فقالوا، إنه ما ليس للنفس فيه حظ، وهذا عزيز، وللنفس دسائس خفيّة، حتى لو كان اثنان في مرتبة واحدة، لدعت أحدَهما نفسُه أن يسعى في إزالة صاحبه عن مرتبته لينفرد وحده
(٢/١٣٨)
وقال سيدنا رضي الله عنه يوماً في معرض المزح، وهل لو جاء رجل إلى بعض الناس، وقال له، أبسط سجادتك على الماء أو على - أظن قال الهواء- ولم يألف ذلك، ولم يعرف القائل له هل يطيعه أم لا، ثم قال، ما أظن أن أحداً يجيب إلى ذلك إلا إن كان فلان، لأن الإنسان لا يدري هل ذلك من الصالحين أم شيطان، ثم التفت إلي وقال، لوقال لك أحد تعال أوصلك إلى بلادك في ساعة تطيعه؟ قلت، أشاوركم وأشرط عليه الإعادة على قرب قال، لا، إنه لو جاءك وحدك قلت، لا أجيبه قال، قد قيل، إن كرامات الأولياء وغاراتهم قد طويت حتى إنه رُوي أن بعضهم جاء بحزمة سيوف إلى آخر وقال هذه أحوال الصالحين طويت
وذكر رضي
الله عنه التقوى فقال، التقوى يريد ورع وقناعة، فلا يفتح بطنه، فإذا فتح بطنه أمتلأ ناراً، فلا يملؤه إلا النار
وسأل رضي الله عنه عن رجل غائب، هل أموره متيسره أم لا فقيل، لا، فقال مازحاً، هو ما يبرهن مثل أبيه؟ وكان أبوه مقبولاً عند الناس، لو إن كل من جاء نجر مابقي في الوادي شجر، بل ولا حجر، وما كل الناس يبرهنون، وأحد يبرهن لنفسه وأحد يبرهن له غيره، ومن هو يبرهن لا يعد هذه الأمور شيئاً
وقال رضي الله عنه ما معك من أهل الزمان إلا خير، وليس شيء هين إذا قامت النفوس والأهوى، وأما أمور الدين والتقوى وأمور الآخرة، فقد تخلفوا عنها ولا بالوا بها، فإذا انخلع الإنسان من الدين والتقوى، فماذا يبقى من الخير فيه
قف على تقسيم الرزق
(٢/١٣٩)
وذكر رضي الله عنه السفر وذَمَّ الرثاثة فيه، ومَدَح الحزم والنباهة، فقال، ما السفر إلا نَظَر، ولو إن الرزق مقسوم، لكن الحركات بها البركات، والأسباب موزعة على المسببات، فكم من جالس من غير سعي، يبقى جائعاً، وساعياً قد نال ما يطلبه، وهذا جرياً على الغالب، وإلا فكم من ساع محروم، وجالس مرزوق، وذلك بحسب الأقسام المقدرة، فإن الرزق نوعان، مضمون ومقسوم، فالمضمون ما به قوام بُنية البدن، وذلك لكل موجود إلى مدة أجله، والمقسوم ما زاد على ذلك، والناس فيه مختلفون، فمنهم الموسَّع عليه والمقتَّر
وذُكِرَ عنده رضي الله عنه أنه قد سُرق شيء منسوب لبعض السادة ممن تقدم، فقال، تغيَّرَ الناس اليوم وانقلبت قلوبهم، ودَخَلَتْها دواخل، فهم كما قيل، لو قطّعت الإنسان قطعتين مابالى، وأهل هذا الزمان دخلت بواطنَهم شياطين، فما عادهم ناس، فلا عاد تلوم الآخذ، وإنما تلوم المضيع
وقال رضي الله عنه، إن الله لا يؤاخذ الإنسان بوساوس الشيطان إذا كان كارهاً له وعقيدته بخلافه، وهذا الوسواس مانقيم له وزناً لأن عندنا، كلما خرج عن الإختيار لا نرى فيه حرجاً، وهذا منهي عنه، حتى في حق الرجل مع زوجته، وفي الحديث، (( لا تكونا كالعَيرين))، وقد قال لنا يوماً فلان، ما أنا مشغول إلا من الورود، ما أدري كيف نكون، فقلنا له، لا تشغل نفسك بهذه الأمور، وأمور الآخرة ألا قَصِّرْها ولا تطولها على نفسك، فكيف يكون دخول القبر وسؤاله
وقال رضي الله عنه، سبحان الله، يسهن الإنسان الأمر يأتي من جانب، فيأتي من جانب آخر فلهذا وجب التسليم
وقال رضي الله عنه، لا يخلو الزمان من الأفاضل من آل أبي علوي حتى يخرج المهدي، إما خامل مستور، أو ظاهر مشهور
وقال رضي الله عنه، المريد أو المعتقد في أحد إذا سمع منه كلمة فيعمل على مقتضاها إن أراد العمل، ولا يثني فيها الكلام
(٢/١٤٠)
وقال رضي الله عنه في حديث، (( لا تغضب )) أي إن أمكنه ألا يغضب فذاك، وإلا فله أدوية فليستعملها ولا يجري على مايقتضيه غضبه، والأدوية إن كان قائماً قعد، أو قاعداً قام، أو يتكلم سكت، أو ساكتاً تكلم، أو يفعل شيئاً تركه، أو يتوضأ أو يغتسل، أو يقوم من مكانه ذلك، وأمثال هذه الأشياء، فإذا سألت في الحديث عن شيء فقل، ما الحكمة في كذا ولا تقل، ما العلة فيه، إنما العلة في الفقه
وذكر رضي الله عنه الحِرَف فقال، ما يأخذ الإنسان معرفة الشيء وأحكامه إلا من أهله، ومن لا نفعته التجارب ولا تنفع التجربة إلا من له عقل غريزي لأنه الأصل، والتجربة فرعه، ولا ينفع تجربة الأحمق، وإذا جرب شيئاً فينتفع به في نفسه، لا في حق غيره إلا إن أعلمه بأنه جرب الأمر كذا قبل، فإن أخذ الأحمق بتجربة العاقل فإن انتفع فمليح، لكن الشيطان لا يرى الإنسان في أمر إلا أمره بأمر آخر، حتى يشتت عليه أمره من أمر الدنيا والدين، لكن يأخذ في الدين بما اتضح عنده ويترك ما اشتبه عليه ،
خذ مارأيتَ ودع شيئاً سمعتَ به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَلِ
قف على درجات العقل
ثم قال، العقل على أربع درجات، أعلاها أن يزهد في الدنيا ويرغب عنها، وكل من لم يعرف شيئاً أنكره، فلو قلت لأحد، إنه يمكن أن يبلغ الإنسان إلى حالة يستوي عنده الذهب والحجر لم يصدق، فلينظر إلى حالة الذي في سكرات الموت، كيف لا يلتفت إلى شيء في حق نفسه، لكنه يريده لولده، ومن هو في تلك الحالة، فهو في الآخرة بقلبه، وإن كان جسده في الدنيا، والكرامات التي تظهر عليهم، ما عادها من أمور الدنيا، بل من أمور الآخرة، قيل، أَفَمِن لازِم العاقلِ أن يجرب الأمور ويعرفها بالتجربة، قال نفع الله به، إن لم يكن فيه هوى وكلما قوي الهوى ضعف العقل، وكلما ضعف الهوى كثر العقل
(٢/١٤١)
وذكر رضي الله عنه المجددين من أهل القرن الحادي عشر، فقال، ما عاد عليهم إلا يقبلون من غير دعاوي ولا بلاوي، ما عاد في هؤلاء مجددين، إنما هم مقددين، وضرب نفع الله به مثلاً لدعاء أهل الزمان إلى الخير وإنهم لا يجيبونه، كمثل نائم غلب عليه النوم، فتنبهه ليقوم للصلاة وتجر برجله، ثم يخالفك وينام، فإن كان نومه إلى أُمَّة قليلة أشكل ممن نومه إلى الموت ثم ينتبه حينئذ، وكل ينتبه إذ ذاك
وقال رضي الله عنه، العمل إذا رُفِع أو نُسِخْ نُسِي، وربما يؤخر عمل الخير ليزداد صاحبه ندماً
وقال رضي الله عنه، كان السادة آل أبي علوي، إذا ظهر واحد منهم انطوى فيه الباقون، وخملوا هُم، حتى لايبقى لهم وجود لأن النسب واحد ولهم في بعضهم العقيدة التامة ولا رغبة لهم في جاه ونخوة، ومناقبهم لم يُدَوَّن أكثرها، وإنما عرفنا منها ما عرفناه بطول مطالعتنا في الكتب من سابق الوقت، وكثيراً عرفناه ممن أدركنا من شيابتهم، وقد أجاد الشيخ علي في ذكره المناقب، في " البرقة" وأفاد، لأنه أتى بهم من أولهم، ولم يذكر الكرامات، وكل بيت آل أبي علوي بيت مناقب، ولكن تؤخذ مناقب كل بيت من أهله، إذ كلٌّ يحفظ مناقب أهله ولا يعرف مناقب غيرهم، إلا إن كان واحد ظاهر كثيراً ولا لوم عليه إذا لم يعرف غير ذلك وهذا بسبب نقصها في التواليف حيث ذكر مؤلفوها ما سمعوه من مناقب غيرهم ولم يسألوهم عنها، ولكن أين المناقب اليوم إنما المناقب اليوم والمناصب، الحِرَف والكسب والأولون قد صححوا بهما المناصب والمناقب فأنفقوهما في سبيل الله وطاعته، ومثلهم اليوم كالذي قيل له، مامهنة أبيك؟، قال، مفلِّح، قال، قد خرج رمضان، ويُسلَّم للإنسان في معرفة أهل بيته ما لا يُسلَّم له في غيرهم
(٢/١٤٢)
وقال له رضي الله عنه رجل، لا تروا علينا في قلة الأدب، فضحك وقال، و نحن وإياكم وما نرى أنفسنا أن نستاهل حسن الأدب إنما هو لأهل العلم الذين هم في الكتب مذكورون، وعدم رؤية النفس هو الذي يرفع الإنسان، فإن كان هناك شيئٌ كان متواضعاً، وإلا سلم من الدعوى، ويَقبُح جداً أن يدعي من غير حقيقة، كالمرأة التي تدعي الجمال، وهي في غاية القبح، وإنما يرى الإنسان نقص نفسه، إذا تأمل أحوال السابقين وما كانوا عليه من الجد والإجتهاد، فعند ذلك يعترف ويتحقق أنه ماهو شيء ولا ينظر إلى أهل زمانه المتشبحين من غير شيء فما حصلوا من ذلك على طائل
قف على من يتجاوزون الحد
وقال رضي الله عنه، ثلاثة يتجاوزون الحد، المعتقد، والشاعر، والعدو، لايقفون على حد الوسط فيما يتكلمون به، المعتقِد في معتقَده، ولا الشاعر فيمن يذمه أو يمدحه على من عداه، وإن كان هناك من هو أفضل منه
وقال رضي الله عنه، مانحب مجيء الناس إلينا ولا نحبهم إلا لأجلهم، ولا نكرههم إلا لأجلهم، وأهل الزمان يفتحون أقفال الفتنة وهي مقلودة ولا يفتحون أبواب الخير إلا بزعمهم، هذا يفتح باب الفتنة من طرف، وهذا من طرف
وقال رضي الله عنه، ينبغي للإنسان أن يقتصر من الملبوس والمأكول والنوم والكلام على ما لا بد منه، لأنه على هذا درج السَّلف والأخيار وخصوصاً في هذا الزمان، الذي كثر فيه الحرام وقل الحلال والنيات الصالحة، فإن كان ممن وسّع عليه فيُنفق منه إن وفقه الله في كل الأوقات، وإلا ففي بعضها، وإن كان ممن قتر عليه فما معه إلا ذلك، أي ما أمكنه
وقال رضي الله عنه، أصلح الصالحين من لا يرى إنه من الصالحين
وقال رضي الله عنه لرجل، الله الله في السكون وترك الحركة، واستعن بالله وبكتابه فإن الله خلق الإنسان متحركاً، وقال له، اسكن، فقدِّرْ أن الذي أردته من الناس قد أعطوكه أمس وبقيت الآن بلا شيء منه، وذكر الأبيات التي أولها،
(٢/١٤٣)
أقسِمُ بالله لرضخ النوى وشرب ماء القُلُب المالحة
أحسن للإنسانمن حرصه ومن سؤال الأوجه الكالحة
فاستغن بالله تكن ذا غنى مغتبطاً بالصفقة الرابحة
اليأس عز والتقى سؤدد وشهوة النفس لها فاضحة
وهي مذكورة في رسالة المذاكرة
وقال رضي الله عنه، وأهل الزمان كبرت جسومهم وصغرت عقولهم
وذكر رضي الله عنه البيع والشراء فقال، البيع فيه بركة، خصوصاً إن حَمَل الطعام من مكان إلى آخر، وباعه بسوق وقته من غير احتكار إلى أن يغلى، فإن الإحتكار لا بركة فيه، إذ لا خير في اغتنام الناس، وقد نهى بعضهم عن بيع المأكول، خوفاً من أن يتمنى الغلاء على المسلمين، وكذا عن بيع الأكفان والذبح لأن ذلك يقسي القلب، لأنه إذا اعتاد الذبح وتمرن عليه، ربما لا تبقى في قلبه رحمة، فقد قيل لنا عن رجل من آل بافضل وكان يبيع الأكفان، إنه ماتت له أخت، أو بنت أخت فترك حضور جنازتها وراح القنيص، وكان سليم القلب
وقال رضي الله عنه، الإنسان في هذه الدنيا مغرور يجرونه، ويُنَبَّه، وينام فكلما جروه انتبه، وإن تركوه نام
وذكر رضي الله عنه الميراث فقال، كلما ذكر الإنسان في مرض موته شيئاً من النخل ونحوه يريد يجعله لله ذكر أولاده وأهله فآثر أن يكون لهم، ولا يجعل لله شيئاً
وقال رضي الله عنه، للأنبياء معجزات، وللأولياء كرامات، هي من بركات النبي أو الأنبياء، ولا ينبغي أن يقال أكثر من ذلك، ولم يذكر عن ولي في كرامته أنه أشبع أناساً كثيراً من طعام قليل كما جاء معجزة
وذكر رضي الله عنه الطرائق، فقال، كل علم الطريق علم واحد وإن اختلفت الطرق، وإنما من تعلق بمسألة منهم نسب اليها وإلا فهو علم واحد، هو علم التصوف، وهو الذي قرره الشاذلية، وقرره الإمام الغزالي والقشيري والسهروردي
(٢/١٤٤)
وتكَّلم رضي الله عنه على بعض القُرَّاء وقت القراءة فقال، ليعرف أحدكم اللَّفظ أولاً ثم المعنى، ثم يعمل ويعلّم، ولو تركناكم على هذا ما فهمتم، وليس المراد مجرد القراءة بل المراد شيء آخر فحاك في صدر الرجل خوف، إن تغير خاطره عليه، فقال عند ذلك، إني لا أغضب على أحد إذا تعاطى معنا ما يغضب، إلا إن تكلمت كلمة أو كلمتين، وإلا فلا، وذلك لعدم المخالطة فهذا من طبعي، والإنسان متردد في الخطاْ، إلا إن عصم الله، وكان عندنا خادم إذا غضبت عليه أعطيته شيئاً ليزول عني الغضب عليه، فيقول ليته يغضب علي كل حين، وهذه عادتي إذا تكلمت لأحد بما يغضبه، إني بعد أترضاه بما يرضيه، من قول أو عطاء، ثم قال، مرادنا العيال والجماعة وأنت تتباركون، وإلا كان جعلنا السيد أحمد إذا جاء يقرأ وحده، والباقون يستمعون، نخاف إن العيال يحتاجون إلى أحد في ذلك أو أنت إن أردت تقرأ - وهذا قوله لي والقاريء المذكور غيري
ما قال في التطفيف في الكيل والوزن
وذكر رضي الله عنه من يبخس الكيل والميزان، وأطنب في ذمه، فقال، هو من بقية مَدْيَن أهل البخس والتطفيف، فكل من يعمل بعمل قوم فهو منهم، ثم أطال الكلام حتى قال، لما انفردوا بها وأقبلوا عليها، نُسِبُوا إليها، والكبائر حتى في الجنة محرمة كإتيان المحارم والزنا وغير ذلك، ولو كان الأخت في بعض الصور حلالاً في وقت آدم
وقال رضي الله عنه، قاعدة، إنا إذا عزمنا على أمر لانظهره للناس، خوفاً من عدم الوقوع، ولكنا نعلقه بالمشيئة، ولكنهم ينسون المشيئة ويتعلقون بالقول
ووقعت ذات يوم مشاجرة بين بعض الناس في الحاوي فبلغه ذلك، فقال نفع الله به، إن أناساً يقيمون عندنا، ولم يكن فيهم أهلية للجلوس، فمَنْ حَسُن خلقه واستقام على الصواب فذاك، ومن خالفه فهو في حبل المقصورة، وحسبه الله
(٢/١٤٥)
وقال رضي الله عنه، عجبت من أهل الزمان إذا طلبت منهم الإستقامة، لم يمكنهم ذلك، وتعدوا منها إلى الإفراط والإعوجاج، وذلك لأنهم تبعوا نفوسهم وولَّوها، وصاروا منقادين لها، والنفس خبيثة كالمرأة السوء، وقد قال عليه السلام، (( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ))
وقال رضي الله عنه، مع كبر السن وخشونة العيش، قَلَّ ماتحصل في البدن قوة، بل لا يكون مع ذلك إلا الضعف، إلا بين ضعيف وأضعف، أمّا مع ليونة العيش، فقد يكون بعض قوة أو مع صغر السن، اللهم إلا إن كان معه قوة روح فيحصل فيه قوة مع كبر سنه وخشونة عيشه، لكن قوة الروح أعني الروح الإلهي الأمري إنما تكون بأمر آخر، فقُوْتُه الذكر لا الأكل فإنه قوت الروح الحيواني وهو النفس التي تطلب منافع البدن من اللذات، فقلت له، فكثرة الخواطر من أي شيء تكون، قال، من غبار النفس، فقال رجل كان يمكث فيما أظن ريدة المشقاص أياماً قال، وكنت هناك مطمئن الفؤاد، وقليلاً ماتخطر لي الخواطر، فلما جئت إلى الحاوي تشعبت علي من كل وجه، ولا أراها تكثر إلا فيه، فقال له سيدنا، لأنك فيه في طاعة، وفي معزل عن الشيطان ولا له قدرة عليك، فلما كان كذلك جعل يوسوس، حيلة العاجز لما لم يقدر على غير ذلك، وأما هناك فأنت في قبضته، كالمقبوض في اليد، وقد حكي، إن رجلاً صالحاً مرَّ بالشيطان قائماً على باب مسجد فيه رجل نائم، وآخر يصلي، فقال له يالعين، ماتفعل هاهنا، قال، أردت أن أدخل على هذا المصلي فأُفْسِدَ عليه صلاته، لكن منعني نَفَس هذا النائم عن الدخول إليه، قال ذلك نفع الله به في مجلس جلسه في الضيقة بين الأذان والإقامة، من ظهر يوم الأحد في ١٢ رمضان سنة ١١٢٥
(٢/١٤٦)
ومرة قال نفع الله به، إن الطاعات والمعاصي تختلف باختلاف العاملين، وهم فيها مختلفون، أحد أوفر حظ منها من أحد، تختلف المعاصي باختلاف نياتهم ومقاصدهم، وكذلك الطاعات، وقد تحصل منها واحدة وقد تكون مضاعفة، والعاملون بما ذكر مختلفون، من حيث الصدق وعدمه، حتى إن بعض الأكابر مر على الشيطان وذكر القصة المتقدمة آنفاً ثم قال، لأن النائم كان شأنه الصدق فيما بينه وبين ربه بخلاف الآخر فبهذا السبب لاتقع طاعة هذا وما عمل من أعمال البر كذاك، بل ذرة من عمله أفضل عند الله من أمثال الجبال من أعمال الآخر مثلاً لأن الصدق هو الأساس، وما لا أُسَّ له لا ثبات له
أنظر تعريف الأخلاق الحسنة
وقال رضي الله عنه، إذا أردت محبة قوم والإنتفاع بهم، فَلِنْ لهم وتَخَلَّق معهم، ولا تناكرهم، وتأدب معهم، حتى يثبتوك، ويتأدب معك غيرك وينتفعوا بك، وإن بقِيْتَ مثل الحجارة تباعدوا عنك وتباعد عنك كل من قربت منه، فقد قال معاوية في خلافته، لو أن مابيني وبين الناس إلا شعرة أقودهم بها لما انقطعت بيني وبينهم، لأني إن رأيتهم اشتدوا لنت لهم، وإن لانوا اشتددت معهم، وايش تكون الشعرة وما قدرها حتى يقود الناس بها، وإنما هذا مثال حتى صارت مثلاً يتداول بين الناس، يُضْرَب لمن لاَنَ وحَسُنَ خلقه فيقال فلان ألين من الشعرة واللين والشدة لكل منهما مَحَال ومواضع، فاللين مع الأكابر ووجوه الناس إذا لم ينفع معهم إلا ذلك، والشدة والعنف مع أداني الناس إذا لم ينفع معهم إلاّ ذلك، وكل من اللين والعنف مع أحد الفريقين ليس كهو مع الفريق الآخر
(٢/١٤٧)
وذكر رضي الله عنه، كثرة الشواغل من الناس، في زياراتهم ومصافحاتهم، ومطالبات مَنْ بَعُدَ بالأوراق، ثم قال، أهل الزمان يطالبون الإنسان بالحظوظ لا بالحقوق، وفرق بين الأمرين فإن طالب الحق يطلب الشيء لله، وطالب الحظ يطلب الشيء لنفسه، وماعاد معنا لهم إلاّ المسامحة، نسامحهم لعل الله أن يسامح الجميع، كما في قصة الذي كان يعامل الناس، ويأمر أخدامه بالتجاوز عن المعسر إلخ، حتى قال الله تعالى، نحن أحق بالتجاوز منه فتجاوز عنه
واستخلف منه رضي الله عنه رجل يريد الحج، وبعدما أوصاه بالتقوى، وملازمة الطَّاعة، والدعاء في الأماكن الشريفة، قال ذلك الرجل، اعفوا عنا، ولا تروا علينا فيما قصرنا به من حقكم، فقال رضي الله عنه، لا، إنما نحن نخاف أن نكون قصرنا في حق الوافدين والزائرين، أي فكلنا نسأل من الله سبحانه المسامحة في التقصير
وصافحه رضي الله عنه بعض الصغار فلما أحسّ به، ذكر هذا المثل فقال، إن هؤلاء غلبت عليهم المَصْرخية، ثم ذكر لهذا حكاية وهي، إن النبي سليمان عليه السلام، كان ذات يوم في حرّ شديد، والطير تظله بأجنحتها، فأمرها أن ترفع كل واحد منها جناحاً، وتخفض جناحاً ليحصل الظل من المرتفع، ويدخل الهوى من المنخفض، فمكث كذلك فلما رآها هكذا، قال، غلبت عليها المصرخية، ومعناه، إن المَصْرخية اسم لطير معروف، هو أكبرها ومعها أصغر منها، فغلبت هذه لكبرها على تلك لصغرها، أي لم يظهر لها كثير أثر معها، والشَّاهد فيه كون المصافحين، فيهم الكبير والصغير، إلا إن الكبار أغلب وأكثر، ولما أحسّ بذلك الصغير، ذكر هذا المثل في خاطره فذكره بقوله
(٢/١٤٨)
وخرج رضي الله عنه إلى مسجده الأوابين، يوم الثلاثاء سابع ربيع ثان عام ١١٢٥، فمما تكلم به أو معناه، أن ذكر رجلاً كبير السن بأنه في عشر السبعين قال ومن لم يبلغها ففيه قوة، وإنما الضعف منها، وفيما بعدها، ومن العجيب إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم نحر في حجة الوداع، وسنه نحو ثلاث وستين سنة، سبعاً وستين بدنة، ونحر سيدنا علي بقية المائة وإن الرّجل من أهل هذا الزمان يعجزه ذبح اثنتين، ثم قال، أما مَن عادته الحركة وإن كَبُر سنا فهو أقوى من المتخمّل وإن كان دونه، فالرياضة خير له من القوة، ويحتاج إلى القوة في الكد على نفسه وأهله في المعيشة وفي تحصيل الأعمال الصالحة حاجة شديدة، ثم امتد به الكلام إلى أن قال، إن خزائنه تعالى مملوَّة من كل شيء، مملوَّة بالرزق والأعمال والرَّحمة، وإنما أراد سبحانه من العبد أن يملأ خزائنه هو مما ينفعه وهو الطاعة، فإن أوقات الإنسان التى تمر به تعرض عليه في الآخرة، التي مرَّت في الطاعة مملوَّة نوراً، والتي في المعصية ناراً، أو قال ظلمة، والتي مرت بلا شيء فارغة، فتتقطع كبده من التحسر على الفارغة، أن لو كانت مملوَّة نوراً، فكيف بالتي فيها المعصية، و هذا في حق المؤمن الذي ثبت له أصل الإيمان، وأما الكافر فيجازى بما عمل من خير في الدنيا لأن الله تعالى عدل، لا يأخذ بلا حجة، ولهذا بعث الرسل وقال، { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }، وعرض جبريل عليه السلام لفرعون في صورة رجل، فقال له ما تقول، لي عبد أنعمتُ عليه وأعطيتُه وفعلتُ به كذا وكذا، فلما تَمَّت نعمتي عليه ترك أمري وادعى أن له مِثْل ما لي، فقال فرعون، لو أن هذا عبد لي أغرقته في بحر القلزُم، فقال له، أكتب لي هذا في ورقة، ففعل فأخذها وانصرف فلما كان وقت غرقه في البحر عَرَض له جبريل، وأراه كتابه وقال، هذا حُكمك على نَفْسك، أي فأُغْرِق في بحر القلزم، كما حكم على نفسه، ولهذا اشتد
(٢/١٤٩)
حرص الأكابر على ثبوت أصل الإيمان وتقويته واشتد خوفهم من زواله، وحكى لنا بعضهم، أنه رأى في النوم باباً، وكأنه باب الجنة وهو من خارجه، قال ففرحت، و قلت الحمد لله قد صح لي أصل الإيمان ثم المفاضلة في الأعمال وتعرف في الآخرة بالميزان فمن كثرت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن كثرت سيئاته على حسناته دخل النار، إلى أجل معدود، إلا أن يغفر الله، ومن استوت حسناته وسيئاته جُعِل في الأعراف، إلى أن يأذن الله له بدخول الجنة، فتفكر في هذه الأشياء، لكن إبليس قائم للناس بالمرصاد، و يوسوس لهم بخواطر لا حاصل لها، فلو كانت نافعة لنفعته هو، كيف ضَلّ في نفسه ولم ينتفع، ولا نفعته وساوسه هذه التي يوسوس بها، بل ضَرته وهو يريد أن ينفع بها غيره، وهو إنه يُمَنّى الإنسان مع المعصية أو عدم العمل الصالح بفضل الله وعفوه، وهذا هوس و باطل، أيظن المغرور أن العفو والفضل يتعدى من جميع الأمة وفيهم أهل الطاعة ومن لم يتعمد معصية إلى هذا المغرور، وهو وغيره في كرم الله تعالى لتَرتُّب الجزاء على الأعمال
تأمل أيضاً ما قاله في القضاء والقدر رضي الله عنه
(٢/١٥٠)
وأَمْرُ القضاء والقدر خفي جداً، وأمر دقيق لا شيء أخفى منه وينبغي أن تفطم عنه العامة بالكلية حتى لا يخوضوا فيه أبداً فإن الخوض فيه زندقة، ولئلا يغتروا، فإن هذه أمور دقيقة جداً، ولا أخفى منها أدق من بيت العنكبوت، لأنها تنزلت قليلاً قليلاً وكلما لها تَدِقُّ حتى انتهت إلى العلماء وهي في غاية الضعف والدقة، فلا وصلت إلى العامة إلاَّ وهي شيء لا يكاد يُدرَك بسبب ذلك، وفي الخوض فيها خطر عظيم، لا ينبغي أن يفشى، ومنه فرَّت القدرية حتى سقطوا في الجانب الآخر، و قد قال بعضهم إن القدرية مُعظِّمون للحق أي الله تعالى أو كما قال انتهى، ثم ختم المجلس بقراءة الفاتحة، ودعا بهذا الدّعاء وفيه مناسبة للمجلس، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى و العافية واليقين والثَّبات على الحق، والوفاة على الإيمان، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة
وحصل شدة برد وذلك في نجم الطرف، فقال نفع الله به، إنه فيما يعتاد عندنا إن البرد بعد دخول الطرف يفتر، وكان العرب في هذا الوقت يُخرجون الغنم من الزرائب لأنهم حينئذ قد أمنوا من شدة البرد، ولكن لعل ذلك لأمر أراده الله، فإنه سبحانه يُحدث الحادث للحادث، مما لا يعلمه إلا هو سبحانه أو بعض ملائكته أعني الموكلين بتلك الأمور لا كُلُّهم، فإنه بلغنا أن الله تعالى خلق ملائكة موكلين بالأشجار والثمار وشدة البرد عندنا في ستة نجوم، أولها الثريا وآخرها النثرة، يَعني النجوم الشبامية، وهي معروفة عندهم لغالب الناس حتى الفلاحين وكثير من الصغار والعوام
وقال رضي الله عنه، أكثر ما يُدخِل الناس الجنة التقوى وحسن الخلق، وأكثر ما يدخلهم النار الأجوفان، البطن والفَرْجُ، وقد ورد، أشقى الناس من أدخله أجوفاه النار
(٢/١٥١)
وقال رضي الله عنه، إن الله يُذَكِّر عباده في الدنيا بذكر الوعد والوعيد، فإذا كان يوم القيامة جَمَع الخير كله في الجنة لأهلها، وجمع الشر كله في النار لأهلها
وقال رضي الله عنه، إذا فزع الإنسان من شيء، أو فعل به أحد شيئاً أو هاب من وقوع الأشياء، فيتوضأ ويصلي ركعتين، لأن الله تعالى قال، {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَلوة}
وقال رضي الله عنه، كان بعض المشايخ إذا أراد شيئاً أو دفعه أمر، طلب من المريدين الدعاء له بذلك، لأن المشايخ الظاهرين بالمشيخة، يغلب عليهم الرضاء بالقضاء، فلا ينزعجون لشيء، وإنما ينزعج المريدون، ويتضرعون إلى الله فيه، ولأن الدعاء بلسان الغير مستجاب، لما جاء، إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، ادعُني بلسان لم تعصني بها، ومعناه أطلب من غيرك أن يدعو لك
قف على الفرق بين الإيثار والمواساة
(٢/١٥٢)
ومر في القراءة ذكر آداب الطعام، فقال رضي الله عنه، إذا أكل القوم بقصد الكفاية بلا شَرَهٍ مع اعتقاد الإيثار ولا يَكْرَه أحدهم أن يأكل صاحبُه أكثر منه نزلت عليهم البركة، وإلاَّ نُزِعت البركة من طعامهم، وقد ذُكِرَ، إن جماعة من الأخيار جلسوا للأكل ليلاً وكل واحد منهم معتقد للإيثار من غير ما يعلم بذلك أصحابه، فأطفأوا السراج، وجلسوا قدر مدة الأكل، وكل منهم يوهم أنه يأكل، ثم قاموا وإذا بالطعام على حاله ما نقص منه شيء، وكذلك قصة الرأس في سبعة من الصحابة، أو من التابعين، وهي إنه أُهْدِيَ لواحد منهم رأس، فدفعه لواحد من أصحابه، فدفعه الآخذ لآخر، وكانوا كلهم محتاجين، فدفعه لآخر حتى رجع إلى الأول، فهكذا كانت سِيَرهم، فقل لهؤلاء الذين يجلس أحدهم يأكل ويقطع اللحم، ويسمع السائل ما يعطيه شيئاً، وهو يتبلع بالطعام، والإيثار شيء والمواساة شيء آخر، فالإيثار أن تمسك وأنت محتاج، وتعطيه محتاجاً آخر، والمواساة أن تعطيه شيئاً منه، وقد قلنا لهم في أيام الأزمنة الشديدة، انقِصُوا من طعامكم المعتاد قليلاً بحيث لا ينقص كل واحد من عادته إلا نحو ثلاث أو أربع لقم، وتواسون بذلك محتاجاً
وقال رضي الله عنه، إذا أخذت شهوة فقدم قدّامها أو بعدها ذكر الله، حتى ترفعه الملائكة، شوبوا مجالسكم بذكر الله
وقال رضي الله عنه، إذا أردت أن تفعل الخير هونه على نفسك حتى يسهل عليك، وأكثر منه ما استطعت
وذكر رضي الله عنه الصدقة فقال، إن الآخذ قد يكون من الأنبياء والأولياء والأبدال، وأهل هذه المراتب متجرّدون، لا يأخذون من الدنيا إلا كفايتهم، ويردون الزائد، وإن احتاجوا عند الفاقة سألوا بقدر الحاجة، وجعلهم الله يبتلي بهم أهل الجِدَة والسعة، وكذلك قد يبتلي بملائكة خصوصاً عند المساغب والأزمنة الشديدة، فإذا رأيت فقيراً يسأل فبادر إلى إعطائه، فلعله ساقه الله إليك اختباراً لك
(٢/١٥٣)
وقال رضي الله عنه لرجل من دوعن، يستفهمه عن إرادة السفر قرب شهر رمضان، فقال سيدنا له، الزائر لأحدٍ فهو في كنفه، وقاعدة، من هو في كنف أحد لا ينبغي للمزور أن يقول له رح، ولكن الزائر إذا خطر في خاطره شيء يخبره به، وإذا أمرت أحداً بما في نفسك، وهو خلاف ما عنده أتريده يوافقك، ويترك ما يريده؟، أترى صاحب السفينة إذا أراد السفر، فقال له بعض الرَّاكبين، أريد أن تتخلف إلى غدوة، يطيعه؟ وقد قلت لكم غير مرة، إنا لا نشير على أحد بخلاف رأيه، ولكن نرد الرأي إليه، فإن وافق فذاك، وإن عمل بما يريد لا بأس ونسلم نحن من اللوم، ورمضان إلاَّ مقبل، والسكون فيه خير من الحركة، وقد ذكر الله السكون في عدة مواضع من القرآن ولم يذكر معه الحركة، منه قوله تعالى، {وَلَهُ مَا سَكَن} الآية، كل ذلك للأمر بالسكون وترك الحركة، ثم قال هذا البيت لابن الفارض ،
في هواكم رمضانُ عمره ينقضي ما بين إحياء وطي
(٢/١٥٤)
ثم قال، فلان قد مر القصيدة مرات كثيرة ولو سألته عن البيت الذي قبله ما عرفه، فقال المشار إليه، لا، ولو آية من القرآن، فقال، دريت، وقد نزل الناس اليوم نزولاً كثيراً، نزلوا إلى الأرض، ولو ماشي أرض ظاهرة، ولكن من تخلّق بخلق مذموم، أو عمل عملاً مذموماً فقد نزل، ولم نر في الزمان إلا رجلاً له نفس غير مطمئنة، أو قلب مضطرب، أو روح منزعج، ومن استقام منهم كان في درجة أصحاب اليمين، فهو شأن من صلح من أهل هذا الزمان، وأما السابقون فقد تقدم زمانهم، ولو خرج اليوم منهم واحد لأنكروه، ولم يعرفوا حتى كلامه، وأصحاب اليمين ما هم كالسابقين، ولو كانوا سواء لما فاوت في ثوابهم في سورة الواقعة، ثم ذكر رجلاً من أهل الدَّار خرج إلى الخلا ومكث أياماً فقال، نحن من عادتنا أن من كان في كنفنا فخرج من عندنا لا نكلف عليه في الرجوع، ولكن لابد ما يخلف الله علينا خلفاً خيراً منه، أقله الصبر عنه
وذكر رضي الله عنه رجلاً وإنه كان مجذوباً منظوراً، قال، لكن فيه تَمَسُّك، ثم ذكر عياله وأنهم يَقْصُرون عنه، ثم قال، ليس بول الإنسان كنفسه، لأن الولد من البول، ولا يكون كأبيه، كما لا يساوي البول من بال، ثم قال، هذا الزمان، الصالح فيه من لم يحصل منه أذى، فمن كان كذلك فهو من صالحي الوقت، وأما حصول النفع فقلّ أن يكون
وقال رضي الله عنه، صاحب القلب يأخذ العطا بشرطين، أن يراه من الله وأن يستعين به على طاعة الله، وفي قضاء الحاجة إرفعها إلى الله ثم أنزلها إلى من جعلها الله على يديه، مع تعلق قلبك بالله
وقال رضي الله عنه، وما مثال من اهتم بطاعة من أهل الزمان، إلا كالذي كان نائماً فانتبه من نومه فزعاً
ما قال في الخوف والرجاء
(٢/١٥٥)
وقال رضي الله عنه، الرجاء أوسع من الخوف، لأن النفس مغرورة، ومن لا معه معرفة بقدر خوفه، يُخشى عليه الإنقطاع، ثم قال، إن وَضَع على عبده عدله ما نفعه عمله، وإن عامله بفضله يرجى له السلامة بأدنى شيء، والخوف أهم من الرجاء، لأن فقده مضر، ويسوق إلى المعاصي، والنفس كالمرأة السوء، كن شديداً عليها في الظاهر، مع التحنن عليها في الباطن وهي قط لا تدعو إلا إلى الشر، ومن لازِم الرجاء الخوف، و وُسْعُ المعرفة، وأما هؤلاء فيرجون بلا خوف ولا معرفة
وقد قيل، الخوف كله للرَّاجين، والرجاء كله للخائفين، وطبيعة النفس طبيعة ما هي من طبائع الدين، بل هي طبيعة جاءت من جهة الطين وأحوجَ الإنسانَ إلى قدر الضرورة من الدنيا، ولو اكتفَوا منها مثل الملائكة لاستراحوا، وأولئك قد كانوا ضعفوها بكثرة الأعمال الصالحة، وأعمال الدين، وأنت اليوم كلما لك تجدّد على نفسك ما يشغلك ويؤذيك، وما زاد على الضرورة فهو عندك بمنزلة الأمانة، وعاد متعلق به شواغل و أمور أخرى، ولكن لم يتم لك شيء فإن الإنسان خلق محتاجاً، وخلق مبتلى، ومثل ذلك، قد أسسها لهم آدم، إذ أخرجه الشيطان من الجنة، ولكن عليك بتذكر ما يسليك، فإذا لم يُعَزِّك أحد فَعَزِّ نفسك
وقال رضي الله عنه، الطاعة في الأماكن بركة ونور، وقد جاء، إن أماكن الطاعة تتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض
وذكر رضي الله عنه الحيوانات والدواب، فقال، جميع المخلوقات تُسَبِّحُ خالقها، وهي لا يتعارف بعضها مع بعض
وذُكِرَ له رضي الله عنه مجلس يجتمع فيه رجال ونساء، فقال، هذا مجلس من حَضَره يَغْضَبِ الله عليه
انظر ما قال في أهل القرن الثاني عشر
(٢/١٥٦)
وتكلم رضي الله عنه في الزمان وأهله، فقال، هل سمعتم أحداً ذكر القرن الثاني عشر، قط، لا ما ذكره أحد، إنما آخر ما ذُكِر القرن العاشر، وقد كُنَّا لما كنا صِغاراً، يعيّبونا الكبار يقولون، اسكتوا إنما أنتم أهل القرن الحادي عشر، ثم قال مشيراً إلى نفسه، نفع الله به، وقد قال بعض آل باعلوي، أنا في طرف البساط، فلو قَدْ مُتُّ لطوي البساط، أعني بساط العمل، ولو سئل إنسان، أأنت من الأولياء؟، فقال، لا، وسئل آخر فقال، نعم، لاحتُمل صدق كل واحد منهما، وإن كلا منهما ولي، فالعلم واسع لا طرف له
كلامه رضي الله عنه فيما يسهّل أمر المعاش
وقال رضي الله عنه لرجل رآه مهتماً بأمر معيشته، طالع في كتاب "الفرج بعد الشدة" وواظب على، {وَمَن يتِّقِ اللّه يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجًا} إلى، {قَدْرًا}، ولو ثلاثاً بعد كل صلاة، ومبنى الكتاب على هذه الآية، ثم قال له، ابن أمورك على حسن الظن بالله حتى ينشرح صدرك، فإن الأمور إذا بنيت على حسن الظن بالله تيسَّرت والإنسان ضعيف، جبله الله على ذلك، وما ذكر الله قصة آدم وقصَّها، إلا لينبِّه بها على ضعف ابن آدم، فإن الله سبحانه جعل له جَنَّة وغيرَها، فلما نهاه عن أكل الشجرة عجز عن الإمتناع ويس ولا إله إلا الله، دواء لكل شيء، وإن تعسرت عليك السورة كلها، فاقرأ إلى، {يُبْصِرُون}، لأنها قلب القرآن، وشأنها عند المؤمنين عظيم، حتى إنهم إذا مَرِض الإنسان، أو عثر، أو ذُكِر بعيب، أو سقط، أو وقع عليه شيء من المصائب، أو أي شيء يُتَرَحم عليه منه، يقال له، يس عليك، يحصِّنونه بها لمكانها من المؤمنين، لما كانوا عليه من التعظيم لها، وعاد أثر ذلك إلى الآن
قف على الأحرف النورانية
(٢/١٥٧)
ثم قال له، وعادنا نكتب لك الأحرف النورانية تكررها وهي أربعة عشر حرفاً، ا ل م ر ك هـ ي ع ص ط س ح ن ق من أوائل سور من القرآن، أقول، هي أوائل ست سور الر ،كهيعص، طس، حم، ق، ن، وكذلك أول أربع سور كهيعص، طس، ق، الرحمن، وكان عبدالرحمن بن عوف وجماعة من الصحابة يكتبونها على أمتعتهم، لسلامتها في بر أو بحر، ويقولون اللهم بحق كذا وكذا، سلم هذا المتاع، ويسميه
وقال رضي الله عنه، ينبغي أن يأخذ الإنسان من الأعمال على قدر ضعفه، وضعف زمانه، ولا يَدَّعي القوة في غير موضعها، لأن أمور الدين كالمسك، كلما ازددت له شمًّا نقصت رائحته عندك
وقال رضي الله عنه، مقام ساداتنا آل أبي علوي الضعف والمسكنة والخمول، غير ما هو لغيرهم من الأولياء من ضد هذه الصفات، والصفات المذكورة أمر عظيم في التقرب إلى الله والسلامة في الدين
وقال له نفع الله به رجل، أعطوني طريقة آل أبي علوي، فقال، انظروا إلى الأعمال، ولا تنظروا إلى الأقوال، ومن أرادها ينظر إلى أفعالهم وأقوالهم، ومن رآنا ظن أنا على الطريق الخاصة، طريقة المقربين، وليس كذلك إنما نحن على الطريقة العامة، وهي طريقة أصحاب اليمين، ظاهر الكتاب والسنة
(٢/١٥٨)
أقول، ومعنى ذلك، أن مقامه مقام الدعوة إلى الله لعموم الخلق، وأن يقتدوا به في سيرته، وأعماله وأقواله وأخلاقه، عبادةً وعادةً، وهذه هي طريقة أصحاب اليمين، ولا ينبغي أن يسير فيما بين الناس ويدعوهم إلى الإقتداء إلا عليها، فهي سيرته ظاهراً لعموم الخلق، وأما شأنه وحقيقة أمره، فيما بينه وبين ربه، فهو على أكمل حال، وأعلا مقام من طريقة المقربين، ومن سمع ظاهر الكلام يظن أنه في الحالين على ما ذَكَر، وليس كذلك، بل على ما ذكرناه، وراثة نبوية، وإذا اتفق له من هؤلاء المخصوصين أحد من أهل طريقة المقربين، رقَّاه إليها، فهذان مقامه في الدعوة للناس على طبقاتهم، كما تقدم من قوله لعبدالله باسعيد العمودي، كم ألسنة الدعوة إلى الله، فقال الله أعلم، فقال سيدنا، خمس، وتقدم ذكرها في أول هذا النقل، وقلت له، يا سيدي ما لنا بعد رسول الله إلى الله وسيلة، سوى رؤيتكم، والإتصال بكم، والإنتساب إليكم، فقال نفع الله به، إن فضل الله إنما يجيء من باب واحد
أقول، لعل مراده إنما يصل من الله إلى عبد من عبيده بواسطة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، أو من ينوب عنه، وهو واحد في كل زمان
وقال رضي الله عنه لي، جاءتنا كتب من أناس من أهل الحسا، يسلمون عليك، وذكروا إن أردتم حاجة أو شيئاً، قولوا لنا، ونحن لكم في الخدمة أَوَ نحن تجار حتى نحتاج إليهم؟، ما حاجتنا إليهم إلا أنهم يتقون الله، ويؤدون ما عليهم من حقوق الله وحقوق عباده، فهذه هي حاجتنا التي نطلب منهم، لأن هذه هي حاجتنا من أنفسنا نطلبها منها، فنحتاج إليهم فيها، ونطلبها منهم أيضاً أو كما قال
(٢/١٥٩)
وقال رضي الله عنه، الملائكة والشياطين محيطة بالإنسان، وعنده لكل منهما متاع، فإذا تكلم الإنسان بالأمور الغيبية، كحال المجذوبين، فإن كانت من الحق، فهي على لسان مَلَك، وإن كانت من الباطل فهي على لسان شيطان، كما ورد في حالة الجماع، إذا ذَكَر اللهَ حضره المَلَك، وإن لم يذكره حضره الشيطان
وقال رضي الله عنه لرجل من الحاضرين، كتبنا لفلان وقلنا له، يسلم عليك الشيخ فلان، فسميناك شيخاً، تفاؤلاً بأن تحصل لك رتبة المشيخة، فقال ذلك الرجل، ما مقصدي إلا أن أكون مرضياً عند الله وعندكم، فقال له، إتبع رضى الله ورسوله، ولا عليك، فالباقي تبع له، والإنسان لا يقطع بحسن العاقبة لأحد إلا لمن ورد فيه نص كالعشرة من الصحابة، فسلم ما فيه القطع، ودع عنك غير ذلك، فلو قيل لك، إن فلاناً من المشايخ السابقين، هل تقطع بأنه في الجنة؟، لقلت، لا، فقال له، لكن بعض الناس يقع في الخاطر إنه كاليقين إنه من أهل الجنة، فقال، لا إنما هذا عيش النفس، فلو قَوَّمَكَ من مجلس أنت فيه جالس إلى مكان آخر، تغيرتَ عن تلك الحال، وإنما ذلك ما دمت راضياً، فقال له، فالعمر يمضي على هذا التلبيس من النفس، ولم يُعرف الصواب، فقال، لا، الزم الطريقة المثلى والمحجة البيضا، ولا عليك من هذا، فكل شيء يرجع إليها، فقال له، فهذا التلبيس من النفس يكون لبعض الناس أو لكلهم؟، فقال لبعضهم، وبعضهم يكشف الله لهم الحق، ويقيمهم عليه من غير تعمل منه، مثل الذي يتكلم من غير لحن، وهو لا يعرف نحواً وإعراباً، وآخر يعرف أحكام النحو وهو كثير اللحن، فقال ذلك الرجل، فعسى ببركتكم يحصل التوفيق لطرح الأشياء على من هي عليه، ويستريح الخاطر والبال منها، فقال، نعم، هذا هو الصواب، إلا إن الله يقيم الناس على درجات كما يريد، ولا يمكن الإنسان ولا يثبت له أن يقيم نفسه في شيء، ولهذا كانت الجنة درجات، والنار دركات، فلو كان مع
(٢/١٦٠)
إنسان عشرة أعبد هل كل واحد يقيم نفسه فيما يريد، أو سيدهم هو الذي يقيمهم، بل هو، فيجعل واحداً على الباب مثلاً، وآخر في الضيقة، وواحداً في الرقاد، وواحداً عنده في الغيلة، ونحو ذلك، ويوعد كل واحد بما أراد إذا قام بما أمره به، وكل منهم فائز إذا قام بما عليه، وإن اختلفت درجاتهم، ووعده لهم حاصل، إذ لا يُخلف، وأما العبد السوء فيبقى متعلقاً بالوعد، حتى إنه يطلب أجرته قبل العمل درهماً إذا وعده عليه بدرهم، وإنما المطلوب أن يكون متعلقاً بالخدمة لا بالأجرة، وما وَعَده لا يفوته، وفي هذا اختلفت درجات العبَّاد، انتهى ما حصل في هذا المجلس الأنيس ومثل هذا يكون من التبسط معه في أوقات البسط والفسحة كما قال القائل ،
أويقات وصل لو تباع شريتُها بروحي ولكن لا تُباع ولا تُشرى
فرضي الله عنه ونفعنا ببركاته وأسراره في الدنيا والآخرة
انظر إلى هذه الرؤيا
(٢/١٦١)
أقول، ومما يناسب هذا الكلام، إني رأيت في ٢١ ربيع ثاني سنة ١١٢٥، رؤيا ملخصها، كأن سيدي يقول لي، نريدك تسافر إلى بلادك، فقلت له، يا مولانا دعوني أتمتع برؤيتكم، فقال، لا، قد طالت بك المدة هنا، والأمور إلا جميلة، فسر إلى بلادك، فقلت، تفضلوا علي بالمقام عندكم، فقال، سر إلى بلادك أحسن لك، فطلبت الجلوس، هكذا وقع ثلاث مرات، إذ لا طاقة لي بفراقه، كما لم أطق الجلوس بعده، فلما أكَّد علي في المسير، ولا قبل لي عذراً، قلت له، أروح بماذا؟، أريد أن تظهر عليَّ ثمرة مقامي عندكم، أتريدون أن أروح كما جئت، لا يكون ذلك أبداً، فلما علم ما أردت سكت ساعة متبسماً كما هي عادته يقظة، وأراد أن يجيبني بكلام، وخاف أن يثقل ذلك عليَّ، ويشتغل خاطري منه فضرب لي مثالاً ففهمت منه ما أراد، فالله المستعان، وهو أنه قال، إن واحداً له عبدان، أحدهما صادق في خدمة سيده، ومخلص فيها بظاهره وباطنه، كما يحب سيده، وسواء كان بحضرة السيد أو في غير حضرته، والسيد يحبه لذلك كثيراً، والآخر ليس كذلك، يعني لا في خدمة السيد، ولا في محبته، بل إذا كان في مرأى من السيد، تكلف أن يكون مثل الآخر، وإذا خلي لا يبالي، ولو ضيع حق سيده، فاتفق أن كانا يوماً بمحضر من سيدهما، فقال السيد لذلك الصادق، نِعْمَ العبد أنت يا فلان، فلما سمعه الآخر غار، فزاد في التكلف في حضرة سيده، طامعاً أن يثني عليه كصاحبه، فاتفق أن قال له وصاحبه الصادق يسمع، يا فلان ولو تكلفت ما عسى أن تتكلف من خدمتنا ما أنت إلا بئس العبد، قال الرائي، فغلبني البكاء كثيراً، حيث فهمت أنه أراد أنك مثل هذا العبد المقصر، وأنت تطلب أن تكون عند سيدك مثل ذلك الصادق، نسأل الله العافية والتوفيق، والتسديد والرشد، والهداية والتأييد، والمثال المذكور يدل على قوله نفع الله به، لا تقطع بحسن العاقبة لكل أحد، إلا لمن ورد فيه النص، وبودّي أن قد قصصتها
(٢/١٦٢)
على سيدي، وكان يمكنني أن أقصها عليه وأسمع ما يقول فيها، كما قد قصصت غيرها عليه، وذكرت ما قال فيها كما تقدم أول هذا النقل، وإنما منعني أنه لزم علي فيها في السفر إلى بلدي ثلاث مرات، وأنا أعتذر، فخفت إذا سمع ذلك أن يجعل الرؤيا يقظة، والمثال حقيقة، فهذا الذي منعني، وبعد ذلك وددت أني فعلت وأبقى بين الخوف والرجاء، ولعل ما خفته لا يكون، ويكون ما رجوته كما قيل ،
ولعل ما تخشاه ليس بكائن ولعل ما ترجوه سوف يكون
ولكن ما أراد الله إلا ما قد كان
وذَمَّ رضي الله عنه أهل الزمان، فقال، أهل الزمان كلهم أقفية، وليسوا بوجوه، فإذا لم يكن لك بهم نسبة لا في شور ولا عطا ولا غير ذلك، فهو أحسن، فإنك لو أحسنت إلى أحدهم، ما رجع منه إليك إلاَّ شر، وكل أمورهم راجت، الدَّولة والفقير وغيرهم، وهم كقوم جاءهم صيَّاح فاختبطوا، منهم المقبّل، ومنهم المشرّق
وقال رضي الله عنه، في معنى قول بعضهم، أن ترى الله في كل شيء، أي ترى وتعتقد أنه فعله، وهذه حالة تقع على القلب ضرورة من غير تكلف، ولو تكلفها لم تحصل له تلك الحالة
(٢/١٦٣)
وقال رضي الله عنه، عندما خرج لصلاة الظهر، لذلك الرجل المشار إليه، وذلك يوم الخميس غرة جماد آخر سنة ١١٢٦، هل صليت الاستخارة، وانشرح صدرك لذلك الأمر الذي قلنا لك، فقال، صليت الاستخارة ولا ظهر لي شيء، ولكن ما أشرتم به هو الصواب، فقال نفع الله به، لا، قد حكينا لكم أن طريقتنا أنَّا لا نأمر أحداً ابتداءاً بأمر لأنا قد صحبنا على ذلك أقواماً ما فعلوا معنا إلا هكذا، وإنما نشير على من استشارنا بما نرى فيه الصواب، ونبين له وجه الصواب فيه، وهو بالخيار مثل ما إذا استشارنا فقير في الصوم فننظر في مزاجه وقدر طاقته، ونحن في هذا الزمان لا يتأتى لنا ذلك، لأنا رأينا أهل الزمان وجربناهم مراراً كثيراً، تقول له في الشيء وكأنه لم يسمع منك فيه كلمة، والتجربة تحصل بمرتين من شخص لا أكثر من ذلك، وقد مكث صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ١٣ سنة، يَعرض نفسه على الناس يدعوهم إلى الله، وما قابلوه إلا بالأذى، ولو قلنا لواحد، افعل كذا، لراح وترك، وربما أوجب له ذلك الإنقطاعَ عَنَّا، وإنما نحن مُيسِّرين، ونَسْتَجِرُّ الناس إلى الصواب، وتلك درجة أصحاب اليمين، ولا يجينا إلا من أردناه، ولو جلسنا منقطعين عن الناس في جبل فمن يجينا، ومن كان عندنا من ولد وفقير وخادم فإنما هو في كنفنا ولو أمرناه بأمر لا يمكنه إلا أن يجيب، ولكن ما نحن بجالسين لهذا، وإنما إذا أمرنا أحداً بأمر وطلبناه منه، إن استراحت بذلك نفسه ولا يشق عليه، أو نعرّض له بفعله إن أراد فعله، أما مع استثقال نفسه، إن فعل مرة ما فعل أخرى ثم لا يدوم، ولا نحب أن نأمر أحداً بما يشق عليه أبداً
(٢/١٦٤)
أقول، وذلك لأن قولَه حجةٌ، يلزم إمتثاله، ويأثم بتركه، فهذا شأن القائم في مقام الدعوة إلى الله، لأنه قائم في مقام النيابة عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فانظر كيف يجب امتثال أمر الإمام، إذا أمر الناس في صلاة الاستسقاء بالصدقة وصيام ثلاثة أيام، فهذا من ذاك القبيل، فقيل له رضي الله عنه، كان عادة المشايخ، مَن صَحِبَهم، لا يراعون معه ذلك، فقال وأين هذا، كانوا إذا جاءهم أحد، لا يجيء حتى يجعل إليهم النظر في نفسه، حتى لو أرادوا ذبحه لا يقول في نفسه، إن هذا لا يجوز في الشرع، ثم تكلم في هذا كثيراً، و بَعَّد الأمر فيه جدَّا، ثم قال، لو قلنا لك اعط فلاناً ثيابك، خطر لك عشرون خاطراً من هذا القبيل، وقد سَكِر كثيرٌ من الناس من الصوم، حتى مَلَّهم الصوم وما مَلُّوه، ولم يحصل لهم من ذلك ذرة، لأنها قِسَم ومواهب لبعض العبَّاد، ألا ترى إن الإمام الغزالي بعدما ملأ الأرض علماً، لما جاء إلى بغداد وأراد أن يدرس امتسك لسانه عن التدريس من غير سبب ظاهر، فهذا بأي سبب كان، حتى قيل، إن عينا أصابت الإسلام، والإمام النووي مع جلالته وكثرة علمه، يثني على الصوفية ويستحسن أحوالهم، ولكنه ما تصوف، فماذا منعه من التصوف، وهو يعتقد إنه الحق، فاعرف بهذا، إنما هي أقسام، قيل له، لكن يحصل نشاط فيما تأمرون به إبتداءاً دون ما تُستأذنون فيه، فقال، نعم يتوهم إنه يحصل له بذلك شيء، وتلك الأشياء قد قسمت، أما تسمع قوله تعالى، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم} ، {نَحْنُ قَدَّرْنَا} قيل، فعسى ببركاتكم يحصل كمال الرضى بالقضاء، فقال، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( اتركوني ما تركتكم )) أو كما قال
وقال رضي الله عنه، لا تطلب من زمانك غير طبعه، فإنك إن طلبت منه ذلك فقد طلبت محالاً ثم أنشد هذا البيت ،
ومُكَلّف الأيام ضدّ طباعها متطلب في الماء جذوة نار
(٢/١٦٥)
فرحم الله امرءاً عرف زمانه، وسالَمَ أقرانه، وقد قال سيدنا علي، الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وما عاد إلا تَغافَلْ ما أمكن التغافل من غير مداهنة، والخير في هذا الزمان وأهله قليل، ولكن إذا وجد يرجى أن يدفع الله به عن الناس البلاء، لأن السراج الواحد يضيء في أماكن متعددة، وقد كان الرجل يقرأ الآية من القرآن فيمرض حتى يعاد، لعظم ما يظهر له من معانيها، كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وآخر سمع النبيَّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يقرأ الطور، فكاد قلبه أن ينخلع، لأن قلوبهم وأبدانهم متعلقة بالآخرة، وهؤلاء على العكس، قلوبهم وأبدانهم متعلقة بالدنيا، وتركوا قلوبهم مفتوحة للدنيا، فدخلت فيها وقَلَدَتْها، وبقيت من داخلها، ومن يحتاج إلى سعي وكسب وعبادة، فليجعل الكسب في بعض الأوقات والعبادة في الباقي، والليل فيه البركة، فليجعل معظم اجتهاده فيه، وكل هذه الأشياء ما تنالها إلا بالصبر، أو كما قال
وقال رضي الله عنه، سِترُ الأمور بحيث لا تظهر للناس غم، خصوصاً إذا لم يحصل منهم نفع، ولا كلمة طيبة، والتدبير عَسِر خصوصاً في أمر المعيشة إذا لم تعرف من أين يجيء، وكم ظاهر الحال سُوْقِيٌّ أَرْوَحُ منه، وقد قال بعض أهل البيوت الثقيلة لعبد كان يحمل لهم الماء، من أتعب من يكون في البيت، فقال، أتعب من يكون أنا وأنت، أنا آتي لهم بالماء، وأنت تأتي لهم بالطعام، وهم يأكلون ويشربون ولا يدرون، وكلُّ مقيمٍ بحضرموت فهو في التعب، إلا من أعطاه الله قلباً بارداً أو كما قال
وقال رضي الله عنه، الأرزاق وحشية لا بد لها من قنص
وذكر رضي الله عنه المطر، فقال، الإنسان خلق من الطين، وما يلينه إلا الماء
وذكر رضي الله عنه العين، ثم قال، اللهم إني أعوذ بك من شر الجان، ومن عين الإنسان وإن بعضهم كان يحس حرارة تخرج من عينه، ثم قال، كلُّ متعلقٍ بشيء يكون راغباً فيه، ورغبة الإنسان تُتْلِفْ
(٢/١٦٦)
وحضر مجلسه رضي الله عنه يوم عيد الفطر من سنة ١١٢٤ في الغيلة على الغدا، رجل من الدَّراويش الهنود فذكر عند ذلك المساكين، وقال، نحن في بركة المساكين، وهم في بركتنا، وهذه هي حالة التجريد والإنقطاع الذي يذكر عن الصالحين الأولين، ما هو متعلق بمال ولا حال ولا أهل ولا راجي لذلك، بل منقطع عنه بقلبه لكن بقي معرفة الشروط وأمور الباطن وقوةُ اليقين، ومعرفة الرُّخص وأوقاتها، والتصوف على شعبتين، إما ظاهر مشهور، كحالة الحسن البصري، وحالة الإمام الغزالي أول عمره، وإما خامل مستور كحالة أويس القرَني، والإمام الغزالي آخر عمره، وكذلك الفقه أو قال العلم الظاهر وإن كثرت طرقه، فهو على شعبتين إما عالم على الحق معترف بالتقصير، وإما عالم فاجر مخلط، ثم قال، ولو خيرت أنا بين حالتي التصوف، الظهور أو الخمول، لاخترت حالة الخمول لأنها أسلم، يبيت الإنسان في مسجد طاوياً لا يعلم به أحد، وإن كانت الأولى فيها نفع للمسلمين، فلو كانت أحسن من الثانية لما تركها كثير من الأكابر واختاروا الأخرى، أحد منهم من أول أعمارهم كإبراهيم بن أدهم والفضيل وغيرهما، ومنهم في آخر أعمارهم كالإمام الغزالي وغيره
وأنشد منشد بحضرته رضي الله عنه في مسجده الأوابين، يوم عشر صفر سنة ١١٢٦ بقصيدة ابن الفارض ،
ما بين معترك الأحداق والمهج أنا القتيل بلا ذنب ولا حرج
فقال للمنشد، أتحسن أن تشرحها؟ ثم قال، الكلام في الأعمال ومعاملات النفوس، ورياضتها أسلم وإلا فعلوم الحقائق إن ما غلط في التصنيف فيها غلط في إخراجها لغير أهلها، والإختصار والإيضاح أولى، فاختصِرْ ما فيه النفع
(٢/١٦٧)
وقال رضي الله عنه، كان المعزمون في وقت الشيخ عبدالقادر، إذا طلب أحد منهم عزيمةً، لم يفعلوا ويقولون، إنا نحضر مجالس الشيخ عبدالقادر ومَرُّوا سلفنا ولم يجلسوا لذلك، فقلنا، ذلك منهم لعذر، لأن الناس في وقتهم مستجيبون، ويتنافسون في الطاعات، والمتصدقون إذ ذاك أكثر من المتصدق عليهم
قف انظر هذه المقالة
وكنا أردنا أن نفعل مثل ذلك يوماً في الأسبوع في الحاوي، أو في مسجد باعلوي، لكن رأينا إعراض الناس إما اجتمعوا وأشغلوك، وإما جاءوا يومين وانصرفوا، وهذا يحتاج إلى إذن وإلى مساعدة، وهذا الكلام ليس ككلام التصنيف، لأن هذا عام يجتمع فيه طبقات الناس، وحتى النساء، وكل أهل طبقة من الناس في موضع وحدهم، وكان العزم منا على ذلك من زمان قديم، حال القوة والنشاط، وأما الآن لو جاءوا يطلبون ويسألون ما أجبناهم، وقد عزمت على أن لا أتكلم مع أهل هذا الوقت، فإن كان من حيث التحذير، فقد بلغ ذلك منا حده، فترى الإنسان منهم إذا تكلمنا في أمر الصلاة، وإنها بترك الطمأنينة لا تصح ونحو ذلك، قام يصلي صلاة لا تجوز، وقال، يُبطِّل علينا صلاتنا أو قال على الناس صلاتهم، أو في أمر الزكاة والتقصير فيها، خرج وقال، يغتاب الناس، فينبغي إذا سمع أحد ما فيه، فليمتثل ولا عاد يقول، يغتاب الناس، وهل قد ذكرناه بالخصوص حتى إنا اغتبناه قال، وكان الشيخ عبدالقادر إذا تكلم في مجلسه كثيراً، ولم ير أثر الإجابة على الحاضرين، يقول، لا تظنوا أني أتكلم عليكم، إنما أتكلم على أقوام لا ترونهم، وعلى أقوام تشتب في رؤوسهم النار، وكان ابنه عبدالرزاق جالساً تحت المنبر الذي هو قائم عليه فرفع رأسه فاشتبت فيه النار فنزل الشيخ فأطفأها بنفسه، أو كما قال
(٢/١٦٨)
وقال رضي الله عنه، السر في العقيدة، ما هو بالأوراق، كما في قصة ولد الشيخ عبدالقادر، حيث تعلم العربية والعلوم واجتهد فيها حتى أتقنها، يريد أن يقوم مقام أبيه في الكلام على الناس وَوَعْظِهم فاستأذن أباه يوماً أن يتكلم على الناس، فقال له، ليس هذا بالفصاحة وإنما هو سر، ثم أذن له فصَعَد على المنبر، فتكلم بكلام بليغ فصيح، فضجوا واستغاثوا منه بالشيخ وأبَوا من سماع كلامه، فنزل وطلع الشيخ والده، فأول ما تكلم به أن قال، البارحة قَدَّمَتْ لي زوجتي أم الفقراء دجاجة في غضارة، فدفعتها الهرة فانكسرت فلما سمعوا ذلك ضجوا بالبكاء والنحيب بأجمعهم حتى لم يبق أحد إلا بكى فالشأن في السر والإقبال القوي فَخَلِّها تُقْبل أولاً
ما قال في ضرب الأمثال
(٢/١٦٩)
ومر في القراءة في "الإحياء" ضرب بعض الأمثلة في كتاب الشكر، فقال نفع الله به، هذه الأمثلة لإيصال المعاني إلى قلوب العامة، إذ لولاها لما عرفوا تلك المعاني، ومثله ما مَثَّل به في الذكر، من إنه كالجوز له قشران ولب ولب اللب، ولا بأس بضرب الأمثال، فقد ضرب الله ورسوله للناس الأمثال، ولكن قال الله، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُون} وإن اعترض على ذلك معترض، فإنه منافق، فإن المنافقين واليهود قد اعترضوا في تمثيل الله بالذباب والبعوض والعنكبوت وأمثالها، ولكن قال الله تعالى، {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} الآية، وكل من اعترض في شيء فإن ذلك هو الذي بلغه، ولو بلغه أكثر من ذلك لاعترض عليه أيضاً، وقد سمعنا فيما سمعنا عن عبدالله بن عمرو بن العاص إنه حفظ من رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ألف مثل، ولما قيل له، ألا قاتلت مع علي رضي الله عنه؟، قال، امتثلت أمر رسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إذ قال لي، لا تفارق أباك، فتأولَه في هذا، ولكن بان لهم الأمر بعد قتل عمار، إذ كل من الفريقين معه علم من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إنه تقتله الفئة الباغية، حتى إن معاوية رجع يعتذر من سيدنا علي رضي الله عنه، وعند ذلك جبنوا واستحيوا، إلا بقي معاوية يشجع عَمْراً، وعمرو يشجعه، ولا عاد ينفع، فينبغي لمن أراد الإقدام على أمر خطر أن يتحقق الأمر أولاً، وخصوصاً إذا لم تطعه نفسه على تركه إذا تبين خطؤه، أو يتركه من أول الأمر احتياطاً أو كما قال
(٢/١٧٠)
وذكر رضي الله عنه الشهرة، فقال، الشهرة ما تعطي الرفعة عند الله تعالى، فكم من مشهور في بركة مستور، وكان سيدنا الفقيه المقدم غاية في الخمول، وله من التواضع ما لا يكاد يوصف، حتى إنه مع عُظْم حاله يكره أن يسمى شيخاً، وأول من سُمِّيَ به ابن ابنه عبدالله بن علوي ابن الفقيه المقدم، وكان عبدالله إذا قيل له، يا شيخ، قال، الشيخ أبوك، وإذا سمع الإنسان سِيَرَ الأولياء اليوم يقول، ما هذه إلا أضغاث أحلام، فأين هي اليوم، وإنما المتعنتين هم الذين يطلبون معرفة أيهم أفضل، وبيقين، إن الأنبياء والأولياء بعضهم أفضل من بعض، ولكن من الذي يعرف ذلك، وإذا وُزِن بعض الفضائل ببعض عُرِفَ الأفضل، ولكن في ذلك فضول ولا حاجة إليه، وإن دعت حاجة إلى ذلك ينظر بقدرها، كما دعت العلماء الحاجة في أمور العقائد بسبب المعتزلة إلى تأويل وتفضيل، وإلا فلولا ذلك لكان بعدما يحرز معتقده ودينه، ما عليه إلا العمل، ولا يوسوس إلا إن كان حصلت وسوسة في العمل، كما تكون في الصلاة، وخذه من هنا من حديث قول الله تعالى لآدم، أَخْرِجْ بعثَ النار إلخ
وذكر رضي الله عنه الشيخ عبدالقادر نفع الله به، قال، كان صاحب رياضات ومجاهدات، حتى إنه قال لأمه، هبيني لله، فوهبته، فخرج إلى العراق سائحاً متغرباً، فما نالوا ما نالوا بسهولة، وكان إذا غلب عليه الحال، إنما يقول مثل قوله، يا غلام سِرْ مِيلاً زُرْني، أو كل عندي لقمة، أو اشرب من عندي شربة، ونحو ذلك، ولا يفضل نفسه على أحد، فإن عباد الله العقلاء لا يفضلون أنفسهم، فكيف الأولياء
(٢/١٧١)
وقريء عنده شيء من نظم ابن الفارض الخمرية وغيرها، فقال نفع الله به، أشياء تظهر لهم بعد الرياضات والمجاهدات، وقد ذكروا، إنه لا بد قبل الدخول في السلوك والرياضات والمجاهدات من معرفة العلم لئلا يتغير اعتقادهم من ذلك، لأن للشيطان فيها مجالاً، ولهذا لابد فيها من موافقة الشَّرع الصريح الذي هو الأصل، ماهو أقوال العلماء واختلافهم، ألا ترى كيف اعترض للشيخ عبدالقادر، فامتد له عمودًا من نور، وقال له، أسقطتُ عنك التكاليف، فقال له، إخسأ يا لَعِين، فاضمحل عند ذلك، فقال له، قد فتنتُ قبلك بهذا سبعين صدِّيقاً، فبم علمت ذلك؟، قال، بقولك، أسقطت عنك التكاليف، وكذلك قصة الذي شكوه إليه، لما قال إنه ينظر إلى الله عياناً فعذره الشيخ بين الناس، وقال إنه انخرق بصره إلى قلبه فرأى بعين قلبه، فظن إنه رأى ببصره، وعاتبه خفية في تكلمه بذلك بين العامة ورؤية العقل بالعلم، فإذا دقق فيه فكأنه رأى بعينه، حتى إن الشيخ أباعبدالله القرشي قال، انفتح لي باب النظر يوماً فرأيته من كل الجهات الست، وهي رؤية العقل، فلو كانت رؤية بالبصر، فما كان فرق بين رؤية الأنبياء، ورؤية غيرهم، وهذه الأمور كلها فيها القرب من جانب، والبعد من جانب، ولا فيها شيء من الحلول والتشبيه واسمعوا عنا، السعيد في مثل هذه العلوم يمرها ولايدري بها، وإنما يمرها للتبرك، ولايتفكر فيها، فإن التفكر فيها ضلالة، فاحفظوا هذا عنا وانقلوه، فربما تدركون أحداً
ما قال في الغزل
وسمع رضي الله عنه، شيئاً من نظم السودي فيه غزل، فقال، يذكرون أشياء لا يعرفونها، يعني مايشبه ذكر النساء والخمر، وهم بُرَآءُ منها، فيدل هذا إن هناك شيء آخر، ولهم خمر وراح غير ما يعرفه الناس، ولا حرج على من تغزَّل، وإنما يُخشى أن يستزل به الضعفاء، وصاحب الحال معذور فيما يقوله لكن يخشى عليه في آخر أحواله أن يغلط بشيء من أمور الدعاوي
(٢/١٧٢)
ماقال في الوجد
وتكلم رضي الله عنه يوماً في الوجد فقال، من تمكن في روحه غلب عليه وجد الروح، ولا يظهر عليه وجد البدن، فإنهم لا يرونه شيئاً، ومن هو كذلك غلب على كلامه وجد الروح، كما إن من غلب عليه أمر الجسم، غلب على كلامه الكلام في أمر الجسم ولا معه إلا وَجْدُ الجسم أو كما قال
ما قال في الوسواس
وذكر رضي الله عنه، الوساوس في الصلاة والتلاوة والذكر، وقد فَصَّل ذلك في "الفصول العلمية"، وفي "إتحاف السائل" أكثر، فقال، لا أحسن للإنسان في الصلاة من تركها أي الوساوس والإعراض عنها، ولا شك إن الخواطر الحاصلة في طاعة تدعوه إلى طاعة أخرى إنها من الشيطان لأنها تسلبه الحضور، فإن دعته إلى مباح كان أخس، فإن كان إلى حرام والعياذ بالله فالأمر أشد، وإذا لم يمكنه الحضور الكلي التام، الذي يعرفه من ذاقه، وفيه يكون اللسان تابعاً للقلب، فلا أقل من أن يجعل القلب تابعاً للسان، بحيث يجري عليه معاني مايجري به اللسان، ويتأمل مايقرؤه، ومن العجائب إن الإنسان في حالة الأكل تَقِلُّ خواطره، لأن النفس مجتمعة على مطلوبها، فإذا قام إلى الصلاة تفتحت عليه الخواطر من كل جانب لأنها خلاف مطلوب النفس فتضيق منها
(٢/١٧٣)
وقال رضي الله عنه في قولهم، حضرةُ الله، هي حضرة معنوية، ومن حضر في صلاته، فهو في الحضرة ومن وسوس فيها بمباح فهو خارجها، أو بمحرم فهو في حضرة الشيطان، والرياء هو الفعل بالقصد، غير الخواطر التي تخطر من غير اختيار فإن قلوب الضعفاء تكثر فيها الخواطر من هذا الجنس، حتى يتخلى القلب من الخلق، وقليلٌ خطورُها في قلوب المتقين، فإذا خطر منها خاطرٌ، نادراً بادَرُوا إلى الرجوع عنه، وهو معنى قوله تعالى، {إِنَّ الذِّيِنَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} الآية، وذلك حين يتخلى القلب وينخلع من كل ماسوى الله تعالى، وذلك هو الكبريت الأحمر الذي يعز وجوده، ويُتَحَدَّثُ به ولا يوجد، أو كما قال
وقال رضي الله عنه، النفس تحن إلى السماع أكثر من حنين الروح، لأنها تطرب إلى هذه الأمور، وإنما لذة الروح بالمعاملة وسماع القرآن، والنفس كثيفة تحب هذه، أما ترى الضَّعْفا كيف يرقصون عند سماع الأشعار، فكل هذه حظوظ النفس، وإنما ميل الروح إلى العالم العلوي، ومن نزل منه نزل إلى أسفل السافلين، وإن الله ما أنزل الروح إلى الجسم إلا بعد ما أخذ عليه العهد، فكلما تعلق بالحادث فهو ناكث، وذكر بعضهم، إنه إذا بالغ في الرياضة إن الروح تسمع طنين العرش، فتجد لذلك من اللذة ما لا يدخل تحت الوصف
(٢/١٧٤)
وحضر مجلسه رضي الله عنه ليلة الجمعة وقت الذكر بعضُ العامة وكان قد تفقر فتحرك فلامه على تحركه، وقال له، أنت على طريقة العيدروس أو طريقة بن علوان؟، فقال، بل على طريقة العيدروس، فقال، فَلِمَ تتحرك؟، فقال، لضيقٍ يحصل في قلبي، قال، هذا من الشيطان، لأنه يُضيِّق القلبَ إذا دخله، وأما الحق فإنه يُوَسِّعُ القلب، قال الله تعالى ،{أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} الآية، وقال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( إن النور إذا دخل القلب انشرح له وانفسح )) فإذا حصل عليك مثل ذلك فليقرأ عليك أحدٌ شيئاٌ من القرآن، وإلا فقم إمش خطوات، والعامي الذي لا يعرف الطريق يَدخُل الشيطانُ في صدره، والشيطان إذا دخل القلب لم يُرِد أن يبقي من الإنسان للحق بقية، وقد ذكر ابن عربي إنه حضر محضراً فيه سماع، قال، وكان في المجلس رجل صالح مكاشف، يعتقده الحاضرون، فبينما هم كذلك، إذ به يقول، إن الشيطان دخل إلى الحلقة، وإنه دخل في صدر فلان، فما تم كلامه حتى قام الرجل الذي ذكره يستوجد
انظر إلى عَتْبِه على من لم يحضر ضيافته
(٢/١٧٥)
وعتب سيدنا نفع الله به على رجل ممن يتخدم له أن لم يكن حضر وليمة ليلة العشرين من رمضان، فقال له، أتتأخر لَمْ تجئ وأنت تطيق، ولا عذر معك يمنع، ماهذه حالة المتعلقين، والتغصَّاب ماينفع، ألا ترى فلاناً ندر وحضر وهو محموم، وما طلع إلا راكباً، ولو أُخْبِرتَ بحَجَّة في شبام سرت اليها، فقد علمنا إنك لما كنت تدور للحَجَّات لا يجيء منك شيء لأن حب الدنيا ذنب لا يغفر، فقال الرجل، ياسيدي، الآن عمري سبعون سنة، وليس معي منكم شيء، ولا عُرِفَ لي بكم اتصال ولا نسبة، فعسى ببركتكم يقع لي شيء، فقال رضي الله عنه، أوَ أَنَا أطرح فيك ما ليس فيك، إنما الأنبياء والأولياء مهيِّئون ما جعله في العبد، ومن لم يجعله الله فيه، فماذا يفعلون به، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( إن الله هو الرزاق، وإنما أنا قاسم )) لكن معك القرآن ما يسيبك، ولو إنك لم تعرف منه إلا لفظه دون معناه، وما أحد يسيب الدين للدنيا لأن أمور الدنيا معروفة من محارثها وتجاراتها، وما سيب الدين منها، {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ}، {وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين}، لكنك أكثرمن قراءة القرآن والإستغفار والصلاة على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إن سقطت من هذا ما سقطت من هذا، ولو إنك على الطريق التي دخلتها لكان الناس يتبركون بك، ولكن اخرج القابلة إلى الحاوي افطر، والسباق إلى هناك يافلان، فإذا بُسِطَ بساط الكرم فلا أحد يغتر به، فبكى الرجل عند ذلك بكاءً كثيراً، هذا أو كما وقع وقال
(٢/١٧٦)
أقول، كل هذا العتاب له، حيث لم يحضر العزيمة العظيمة، وكان لسيدنا بها اعتناء كثير وبمن يحضرها خاصة دون غيرها وإن كان شأنهن أيضاً كذلك، لكن لهذه زيادة حيث جعلها في وقت شريف عند العشر الآواخر، وفيها من تقسيم المدد المعنوي أمر عظيم كما مر قوله، من أكل من طعامنا إلخ، وقول الشعراوي عن الشيخ المتبولي، إنه يحصل بأكل الطعام ما ينوب عن التلقين ولهذا طال عتاب سيدنا لهذا الرجل المشار إليه، فرضي الله عنه ما أشفقه على أصحابه ومن انتمى إليه
وقد سمعته نفع الله به مرة قال لرجل من السادة اعتادحضور مجلسه يوم الأحد في السبير وقد تخلف عنه ثلاثة أسابيع لِحُمَّى أصابته، وفي كل مرة يسأل عنه، فلما حضر بعد ذلك قال له، أين كنت؟، فذكر عذره، فقال، قدسألنا عنك كلما جلسنا ولم نرك، أتظن أن من تعلق بنا وأمسكناه، أنا نسيبه؟، لا، ولو سَيَّبَنَا هو، أصل إنا نمسكه، ثم بعد لا نسيِّبه أو كما قال
وأنشد منشد بين يديه بقصيدة فيه، مُدِحَ بها، فقال نفع الله به، نحن مانستثقل من هذه الأشياء، لأن ما وقع لنا طرحناه في بحر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لأن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم منبع الفضائل كلها وهو الممدوح بها كلها، فكل من مُدِحَ بعده بفضيلة فإن مدحه يعود إليه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لأنه السبب في حصولها والشيطان منبع الرذائل كلها، فكل من ذُمَّ برذيلة فذمه عائد إلى الشيطان، لأنه السبب في حصولها، وناس يكرهونها، أحد كذب ورياء وأحد من نفسه
وقال الإمام الشافعي رحمه الله، من عرف نفسه لم يضره المدح
وقال له رضي الله عنه رجل، الله الله فينا، لا تنسونا، قال، الأمر في هذا من عندك أي العبرة في حصول الإنتفاع بالعقيدة منك، فمن اعتقد انتفع ومن لا، فلا
وقال رضي الله عنه لرجل يريد السفر، عليك بحسن الظن في الله مع حفظ أمرِه يكن لك، إحفظ الله يحفظك، وماذا تكون قدرة العبد وجهده، ولكن يبذل جهده في طاعة الله سبحانه، ويعتذر فيما قصر فيه ويستغفر
(٢/١٧٧)
ما قال في الذي يأخذ من أيدي الناس
وذكر رضي الله عنه الآخذَ من أيدي الناس فقال، إعتقد إن الله تعالى هو المعطي حقيقة، ولا تُعلِّق قلبك بالخلق، ثم خذ ولا عليك، وإنما المكروه أن يأخذ ما استشرفت إليه نفسه، بأن يرجوه من محل مخصوص، فقد كانوا يردونه كما في قصة الإمام أحمد مع الحَمَّال الذي حَمَّله ابنُه له متاعاً من السوق إلى داره، فشم ريح خبز في البيت، فأعطوه قرصاً فرده فلما خرج من الدار وذهب، أَلحَقَ الإمامُ ابنَه بالقرص خلفه فأخذه فقال الولد لأبيه، لِمَ رده أولاً ثم أخذه آخراً فقال، إنه كان رجلاً صالحاً فلما شم رائحة الخبز استشرفت إليه نفسه فرده وكان صائماً فلما مضى وأيس منه أخذه، فقلت لسيدنا، ما الذي يُذهِب من القلب التعلق بالخلق؟ وكيف له بأن يَقْدِر أن يرد ما استشرفت إليه نفسه مع احتياجه، ولا شك إن الأخلاق المحمودة محبوبة بالطبع ولكنه يعجز عن ذلك؟، فقال رضي الله عنه، حتى يعلم إنه مُصَرَّف غيرَ متصرف فإنه لا يحصل له ما أراد، وأنشد هذين البيتين لأبي الدرداء، وقال ليس له من النظم سواهما ،
يريد المرء أن يُعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
ثم قال نفع الله به، هذه خصوصيات عزيزة لله سبحانه يجعلها في خواص الناس، ولو كانت في كل أحد ماصار لها موقع وانتفت عنها العزة، ولاختلاف الناس خلق الله الجنة والنار، ولو كانوا على حالة واحدة، لكان إحداهما كافية
وقال رضي الله عنه، صاحب اليقين يأخذ العطا بشرطين، أن يراه من الله ويستعين به على طاعة الله وفي قضاء الحاجة ارفعها إلى الله ثم أنزلها إلى من جعلها الله على يديه مع تعلق قلبك بالله
(٢/١٧٨)
وقال رضي الله عنه، الأمور الإلهية السماوية أعظم وأعز من الأمور الأرضية السفلية، وكلما قرب إلى العلو زاد على مادونه ولذلك زادت السماء الدنيا على الأرض بأضعاف كثيرة مضاعفة حتى صارت فيها كحلقة درع ملقاة في فلاة ثم هي في الثانية كذلك، ثم هما في الثالثة كذلك، وهكذا إلى السابعة ثم هي وما دونها في الكرسي كذلك، ثم الكل في العرش كذلك، وهكذا وكلما هو إلى العلو كان أعز وأعظم، ولذلك عظمت علوم الصوفية، وعزت على ما سواها، لأنهامن العلو، وهي علوم إلهية سماوية، والعلوم الأرضية دونها فيما ذكر، كعقود الأنكحة وغيرها، ولكن من لزم العلوم الأرضية، بحيث استقام عليها، ولم يخالفها في شيء، أفضى به ذلك إلى العلوم الإلهية السماوية، ولمَّا كان مجرد العلو أعز وأعظم من مجرد السفل، كان الناس في جميع الأشياء درجات بعضهم فوق بعض، بنسبة بعضهم إلى بعض في الإستعلاء والتَّسَفُّل
وقال رضي الله عنه، قال سيدنا علي في من قَصَّر ثم رجا المغفرة، هبك إنه قد عفى عنك، أليس يفوتك ثواب المحسنين، فسمعها بعض السلف فبكى عليها أربعين سنة، قال الإمام الغزالي، لقد دُفِعْنا إلى أمر إن كذَّبنا به كنا من الكافرين، وإن صدَّقنا به كنا من الحمقى المغرورين
وقال رضي الله عنه، ما عاد معك في هذا الزمان إلا الصبر والتغافل، ثم ذكر الناس وتقصيرهم في العلم، فقال غرقوا في بحار الدنيا، فترى الواحد منهم كالغريق في البحر، ما يرى بَرَّ النجاة إلا نادراً، كما ينظر الغريق البر عندما يرتفع رأسه بحركة الماء لأنه غريق حيران، ومن هو هكذا لا يمكنه النظر
ما قال في مدح الخمول
وقال رضي الله عنه، من حكمة الله، إن الخاشع قلبه كالماء ولكنه لم يزل يقسو من المعاصي، حتى يصير كالحجارة، قال الله تعالى، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة} الآية
(٢/١٧٩)
وذُكِرَ له رضي الله عنه من حال رجل منسوب إليه، فقال، الولي أو قال، الصالح إذا كان منسوباً إلى أهل البيت، لا يُخشى عليه في ظهوره، ويُحصِّل من هنا ومن هنا، ولكن لا ينبغي أن تظهر في هذا الزمان إلا إن كان معك نجم وقَّاد أو شمس مشرقة، وإلا فإن معك إلا سريج، فاترك الظهور لئلا تطفيه الرياح، ولا تشعله في النهار فلا يكون له أثر، لأن الخاملين فيه على خطر، فكيف بأهل الظهور، لأن فيه رياحاً شديدة وظلمة شديدة، وقد كان في الأزمنة الماضية إذا كثر فيها الفساد إما الظلمة وإما الرياح، فقد يظهرون، وأما اليوم فقد اجتمعتا فيه، أو كما قال
وذكر رضي الله عنه، أقواماً أفرطوا في محبة الجاه والرعونة، فقال، إذا استحكم الحسد، ومرة قال، الجهل، يخرج الإنسان عن دينه، فيحتاج أن يسير بالنور المذكور في القرآن، { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِهِ}، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} وإلا وقع في الأخرى أي العكس، {كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} فكل شيء في القرآن ما خرج منه شيء، إلا إنه يحتاج إلى قوة فهم
أقول، وهذه المقالة تبين معنى المقالة التي قبلها، فالنور في هذه هو النجم الوقاد في تلك، والشمس فيها عبارة عن قُوَّته، والسريج عبارة عن ضعفه، والرياح الشديدة والظلمة عبارة عن شدة الفساد والبدع المشتمل عليهما الزمان الفاسد، والنهار عبارة - والله أعلم - عن الرجل الصالح، والزمان الصالح، فإن نوره كثير لكثرة الصلاح والصالحين فيه أو كنت أيضاً في حضرة شيخك، الذي أنت مقتد به فإن نوره يغشاك ونورك مندرج في نوره، هذا ما ظهر لي من وجه الموازنة والله أعلم
وقال رضي الله عنه، لا ورع إلا ما كان مصحوباً بالعلم، لأن العلم كالميزان للشيء، إن زيدت قليلاً أخطأت
(٢/١٨٠)
وقال رضي الله عنه في حديث، (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، هذا يقتضي عدم الحسد والبغض ونحو ذلك، تعتقد هذا في قلبك، وما عليك من فعل الله أن لا يكون فِعْلُه لك أو له، أو لواحد دون الآخر
وقال رضي الله عنه، لا يَحدث شيء من الأمور السماوية كمنع قطر، وقحط ونحو ذلك مما يُشغل الناس، إلا بحدوث شيء من العباد كمنع زكاة وقطع رحم وعدم المبالاة بالفقراء، ونحو هذا
وقال رضي الله عنه، إذا رأيت الإقبال فأقبل، وإذا رأيت الإدبار فأدبر، وإذا أقبلت كن مُوَحِّداً، فانظر إلى الله وعلق به قلبك ولا تعلقه بغيره، بل ارحمهم كما قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه، أيست من الناس لأنفسهم، فكيف أرجوهم لنفسي، ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي
وقال رضي الله عنه، الأمور التى يطلب القصاص فيها، ورخص الشرع في ذلك، هي الأشياء الظاهرة بخلاف الباطنة، فمن ضربك تضربه بقَدره ونحو ذلك ولا تحسد من حسدك، أو تبغض من أبغضك، بل تحب الصنعة المحمودة، وتُحرِّم المكروهة على أي حال، وإن كان منطوياً لك على خلاف ذلك
وقال رضي الله عنه، يسمع بعضُ الناس كلامَ الحال، فيظنه كلام المقال، وليس كذلك، وليس هو على ميزان الحس، بل على ميزان آخر، فإذا سمع من يقول، قال لي الله كذا وقلت له كذا فلا يظن أنه كَلَّمَهُ مشافهة، وإنما هو لسان الحال، كالمريض تراه يحكي لك بحاله، وهو ساكت، فإذا سمعنا من يقول من ذلك شيئاً عرضناه على الشرع، فإن كان له وجه قبلناه، وإلا رددناه، ومن سمع كلامهم وأشكل عليه فليسلم لهم على كل حال، وينسب التقصير إلى نفسه، وقلة فهمه
وقال رضي الله عنه، إذا أضل الله عبداً وأراد هلاكه، لا ينفعُ فيه شيءٌ
(٢/١٨١)
وقال رضي الله عنه، أمور الآخرة كلها محتملة، ولا على الإنسان إلا أن يؤمن بها مجملة، ولا يفصِّل، وقد استدل بعضهم بقوله تعالى، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } إن الجن مؤمنوهم يدخلون الجنة، ولما كانوا خلقوا من النار التي خلق منها إبليس قال العلماء، إنهم لا يرون الله تعالى، ولم يَرد ذلك في صريح الأخبار وصحيح الأحاديث الواردة، حتى إن النساء لم يصحَّ حديثٌ بالرؤية لهن، بل في الأحاديث الصحيحة ما يوهم عدم ذلك، كما في حديث يؤذن لأهل الجنة في مقدار جمعة إلخ، وفي آخره فيأتون أهليَهم، فيقولون لهم، قد ازددتم بعدنا حسنا وجمالاً، فهذا شاهد على أنهم أُبْقُوا في منازلهم، ولم يزوروا معهم
(٢/١٨٢)
وقال رضي الله عنه، أكثر صالحي الزمان لا يَعلم بأنه صالح، ولو نادى مناد بين السماء والأرض، بالغرور مثلاً، بأن قال، من فعل كذا فهو كذا ما صدقناه، كيف والشيخ عمر يقول، لو صَحَّت لي سجدة لعشيت أهل تريم ولو وقع اليوم نحو عشرة جماعة في شدة، فدعوا الله ففرَّج عنهم، لادَّعى كل واحد إنما هي كرامته هو، عكس ما كان عليه صالحو الزمان السابق، من أن كُلاًّ يراها إنما هي لصاحبه لا له، فيتداعَون الكرامات كما يتداعَون الأموال، وكانوا يرون الصالح مَن هو خامل إذ هو أكمل، ومَثَل الظاهر منهم والخامل، كرجلين مع كل واحد زِق عسل، فالظاهر أخرج بعض زقه، والآخَر بقي زقه ملآن على حاله، ثم ذكر، إن الشيخ أحمد باجحدب، سأل من المعلم باجابر أن يَصَل تريم فقيل، إنه يخاف فيها من السلب، فقال، أنا أضمِّن له اثنين يَضْمَنون له الأمان من ذلك، واحد من أهل الظاهر، وهو الشيخ محمد بن حسن، والآخَر من أهل الباطن، وهو الشيخ أحمد بن الحسين العيدروس، ولكن لا يجلس في تريم إلا ثلاثة أيام، فجاء وجلس في مسجد بروم للإلباس بأمره له بذلك فألبس نحو ٩٨ نفساً، فقيل له، هل يُسْلَب أهل الظاهر، فقال، إنه من أهل الباطن أيضاً لكن أقيم في الظهور فيجري على ظاهر الفتوى أو كما قال
وسأل رضي الله عنه عن بعض الخطباء في بعض البلدان، فقيل له، لا بأس به، وكان من المترددين عليه، فقال، هل يخطب ببكاء أو بغير بكاء؟، فقيل، بغير بكاء، فقال نفع الله به، سبحان الله كأنهم بلا ذنوب ،لا، بل هم بلا قلوب، وإلا فكل معترف بالذنب، ومن يخلو من ذنب؟، وأتاه هذا الخطيب يوماً زائراً فسأله عن ذلك أيضاً، فقال له، الخطبة بلا بكاء كالقوت بلا ماء
انظر إلى هذه التورية به عن نفسه نفع الله به كما هي عادته
(٢/١٨٣)
وقال رضي الله عنه، الحقائق المجردة لا تنفع، ولا تنفع الأعمال المجردة أيضاً، إلا أنها تستر مولاها، ولا تعجبوا من كلامنا هذا فإن له أصلاً، والكلام الذي له أصل يؤخذ منه معان كثيرة، فقد قال الشيخ أحمد باجحدب، من جالَسَنا أربعين يوماً إذا قال للشيء كن فيكون، أو ما هذا معناه، ولما سمع منه ذلك بعضُ الناس جالسه لأجل ذلك، فلما كان بعدُ، مَرَّ يوماً وهو حامل شيئاً فرماه يريد أن ينقلب ذهباً فلم ينقلب، فانقطع عن الشيخ ففقده فسأل عنه، فقيل له، إنه مختلٍ في بيته إلا إن الإنسان قد يترقى من شيء إلى شيء إن كان أهلاً للترقي، كالذي يريد المنزلة عند الناس، حتى يكون في أعلا عِلِّية، ومن لم يكن منهم كان ينزل إلى أسفل سافلين، لأنها إنما هي مرتبتان إما علّيون أو سِجِّين، وهذا يعرف بالبصائر وله شواهد قرآنية وحديثية، (( من أحب قوماً فهو منهم ))، وغير ذلك وبعيد أن يكون منهم ولا يعمل بعملهم
وقال رضي الله عنه، من العجائب، إن الروح تحجب الجسم، حتى إن بعض من يغيب ويصعق لو سئل ماذا رأى، قال، ما رأيت شيئاً، منعه الجسم من الإطلاع، ولم يزل الإنسان يلطِّف كثافاتِ نفسه حتى يرتقي إلى طبع الملائكة، وقد تعاوده البشرية، كالذي يمكث مدة عن الأكل ولم يزل يكثِّف نفسه حتى يحصل في طباع الشياطين، وقد يرتاح الروح لحصول مطلب النفس، كمن يفرح بأكلة ستحصل له، وقد تكون النفس كذلك ترتاح لحصول مطلب الروح، كما إذا التذ بالطاعة فالنفس تلتذ بها تبعاً للروح، وكل واحد فيما يخصه أصل، والآخر تبع له فيه، أو كما قال
وقال رضي الله عنه، من رأيت فيه أدنى ميل عن شاكلة أهل الزمان إلى طريق أهل الخير، فهو صالح الزمان، ومن رأيته مائلاً عن ذلك كذلك إلى طريق الشر، فهو فاجر الزَّمان
(٢/١٨٤)
وقال رضي الله عنه، كان السابقون إذا عملوا شيئاً للدنيا جعلوا بعضه للدين، وقالوا، لا نجعل هذا كله للدنيا، وهؤلاء عميت بصايرهم، فلا ينفعهم مع ذلك رؤية أبصارهم، فتراهم يعملون في الدنيا جهدهم، ولا يهتمون للدين بشيء البتة، فقيل له، إن الإنسان قد يهتم بطلب شيء ولم يكن أهلاً لذلك، فقال، الإنسان أهل لكل شيء، لكنه يطلب ما يطلبه لطاعة الله، ومن طريقه
وقال رضي الله عنه، قلوب أهل الزمان انقلبت في وجوههم، فلذلك يحصل للإنسان بسببهم خواطر، ولكن هذا أهون من أن يتعطَّلوا من الأمرين جميعاً فيبقون بلا قلوب ولا وجوه
وقال رضي الله عنه، أهل الزمان ما يراعي أحدهم إلا نفسه فقط، أعني نفسه الدنياوية، لأن النفس نفسان، نفس غذاؤها في لقاء الله ومحبته وذكره ومعرفته، ونفس غذاؤها في الأكل والشرب، فهذه هي التى أفرط أهل الزمان في مراعاتها
وقال رضي الله عنه، ينبغي أن يحترم الإنسان جانب الربوبية أولاً، ثم جانب النبوة، ثم جانب العلماء العاملين، ثم جانب أولياء الله لأنهم خاصته، ولا يعترض على أحد ويخصصه، والإمام الغزالي مع كثرة ما اعترض على علماء السوء لم يخصص أحداً بذكر
فائدة
وقال رضي الله عنه، ينبغي للإنسان في هذا الزمان أن يسير إلى الله بلطف، ويأخذ نفسه بالتي هي أحسن
(٢/١٨٥)
وقال رضي الله عنه، من أتى بأذكار النوم عند المنام فتكلم بكلام أجنبي، ينبغي أن يعيد { قُلْ يَاأيُّهَا الكَافِرُون} و( الإخلاص ) فقط لأنه ورد أن يأتي بهما آخراً فإن انتبه أثناء الليل ونيته العود إلى النوم يكفيه الأول، فإن قام وليس نيته العود إلى النوم، ثم بدا له أن ينام يأتي منه بما تيسر، ولم يرد في القيلولة شيء، ولا بأس بيسير منه، ولو لم يرد إذ ذاك، فإن أوقاته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كانت محفوظة، ثم تكلم كثيراً ثم قال، وأين ملبوسنا ومأكولنا وجميع أشيائنا من الأولين، لكن الدَّائرة دائرة التوحيد تشملنا ولم يرد في شيء أن فيه النجاة من النار، أو من مات عليه دخل الجنة، سوى التوحيد
وقال رضي الله عنه، خروج الروح عند الموت، من حيث سهولة خروجها، وتعسره على قدر زهده في الدنيا وانزوائه عنها، أو رغبته فيها وتعلقه بها، فمن كان زاهداً فيها فارغ اليد منها سهل عليه خروج الروح، ومن كان محباً لها وواجداً لها عسر عليه خروج الروح، ويختلف أيضاً باختلافه قوةً وضعفاً، ومثاله، كطير في قفص، ضجر من الحبس فيه، فإذا فُتِحَ له القفص فيفر منه مسرعاً إلا إنه إن لم يعوقه شيء ولم تتعلق رجلاه بشيء من داخل من حبل أو غيره واتسع له المخرج خرج بسرعة بلا مهلة، وإن كان شيء مانع أو عائق عن الإسراع تعوق على قدر ذلك
وقال رضي الله عنه، والعمدة على اجتماع الأرواح، وبالأبدان يكون الإجتماع في الدنيا، وبالأرواح يكون الاجتماع في الآخرة، ولا عبرة باجتماع الأبدان مع مفارقة الأرواح
(٢/١٨٦)
وأخبرني السيد محمد بن شيخ الجفري، إن سيدنا تكلم عليهم يوماً بهذه الكلمات وما يتعلق بها سابقاً قبل وصولي إلى حضرته من بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وتركوا قراءة الحزب لذلك، وبكى الحاضرون وهي مما تقدم نقله عنه من قوله، طريقتنا نحن هذه طريقة الإمامة، وهي طريقة مظلمة ينبغي للمتعلق بنا أن لا يسأل عن شيء وإذا رأى شيئاً يقول في نفسه الصواب خلاف هذا، بل يسلم قياده ويسكت، ويكون كالأعمى الذي يقوده بصير، أو كمن في ظلمة وماسكه من يعرف الطريق وهو لا يعرفها، فلا يقول تعال من هنا أو ارجع إلى هنا، ثم قال، إنما المقصود بهذا الكلام أنت يعني المخبر لي بذلك، وفلان يعني زين الحبشي قال فاشتد علينا وبكينا، فلما رآنا كذلك جعل يمدحنا ويسكن خواطرنا، وقال، إنما نحن ننتظر بركاتكم
وقال رضي الله عنه في قول صاحب "الإحياء"، من لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه، قال، لأن أسرار الطريقة أمرغامض جداً، لا يطلع عليه الذكي، لأنه يرجع إلى العقائد، وقد يدرك الذكي شيئاً من خفي ظاهر الشريعة وباطنُ الطريقة لا يطلع عليه إلا الشيخ، وقدكان الإمام الغزالي في أيام سلوكه يسأل في طريق السلوك، وكان معه ذكاء مفرط
وقال رضي الله عنه، لا أعسر عليَّ من الطَّعام والكلام، فإن الكلام مشق علي جداً، إلا إنا نستذكر به ما معنا من العلوم، لا فائدة فيه إلا ذلك، وذلك بسبب قلة مخالطتي للناس، ولا نجلس معهم إلا أوقاتاً متقاربة، لو جمعت كلها ما بلغت ساعتين، وغالب جلوسي إنما هو وحدي، ولو أنا نجلس مع العيال والصغار في الدار، وأوقاتاً مع الجماعة كل ذلك لايبلغ أكثر من نحو ما ذكر
(٢/١٨٧)
وضرب رضي الله عنه مثلاً لدعاء أهل الزمان إلى الخير، وإنهم لا يجيبون من دعا، قال، هم كمثل نائم غلب عليه النوم، فتنبهه ليقوم للصلاة، وتجر برجله ثم يخالفك وينام، قال، فإن كان نومه إلى مدة قليلة، كان أشكل ممن نومه إلى الموت، ثم ينتبه حينئذ، وكل ينتبه إذ ذاك
وقال رضي الله عنه، قاعدة، إن من تعلق بالدين ثم بعد ذلك مال إلى الدنيا أصبح بلا دين ولا دنيا، فليُفهم
وقال رضي الله عنه، من هَمَّ على معصية، فقيض الله عارضاً منعه منها، فهو يحبه، ومن هَمَّ بطاعة فقيض الله له مانعاً منعه منها فهو يبغضه
وقال رضي الله عنه، كرامات الأولياء منذ زمان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لم تبلغ معشار عشر معجزاته عليه السلام، لأن من معجزاته القرآن، وتحت كل آية معجزات لا تحصى
وقال رضي الله عنه، من لم يحسن النظر مع أهل الباطن، لم يحصل له منهم ظاهر ولا باطن، وإن حصل له شئ من الظاهر لم يبارك له فيه
وقال رضي الله عنه، إذا اجتمع باعث ديني وباعث طبيعي في أمر، كان العبد أقوى ما يكون في فعل ذلك، وغالب ما ينبعث لأهل هذا الزمان الباعث الطبيعي، وأما القوة المجردة في فعل ما انبعث له في فعل الدين، فلا يكون إلا لنبي أو قطب، فإن رأس القطب تحت قدم النبي، يستمد منه، فهمة العوام في الأمور الدينية هي طبيعة القطب، والقطب هو الغوث، وكل من ارتفع في مقام على غيره فهو قطب أهل ذلك المقام، أي رئيسهم فيه، كما يقال قطب الراضين، وقطب المتوكلين، ونحو ذلك، وإذا رأيت إنساناً يعمل شيئاً من أعمال الدين فاتركه عليه، ولا تذكر له النية وإخلاصها، فإن فعله ذلك نية، ولعله لا يعرف معنى اخلاص النية فيتكدر عليه الحال
ما قال في المحبة
(٢/١٨٨)
وقال رضي الله عنه، معاني المحبة تَلْطُف وتجل جداً عن التحدث بها، لأن العبارة لا تأتي على معانيها، ولا يمكن التعبير بالمعاني بحال، لأنها لا تدركها العبارة، ولهذا ترى أهل المحبة لما أدركوا من معانيها ما يجل وصفه ولا يمكن كشفه، واحتاجوا بسبب ذلك إلى التنفس والتروح، يعبرون عنها بقوالبها التى هي صورها، والمعاني أرواح قائمة بها، وذلك لما عجزوا عن التعبير بالمعنى، وذلك كتغزلهم بليلى وسعدى وسلمى ولبنى وهند ودعد، وغير ذلك لما ذكر، ألا تسمع إلى ما ذكر، إن رجلاً جاء إلى بعض الأنبياء وقال له، ادع الله أن يرزقني ذرَّة من محبته إلى آخر القصة المتقدم ذكرها، ثم ذكر قصة موسى لما رأى العصا ثعباناً هرب منها، لأن ذلك حصل له بغتة، ولم يكن بصدده إنما كان يطلب جذوة من نار، فلما أن تمرَّن وكلمه ربه لم يقنع بالكلام، حتى سأل الرؤية ولم يحصل عليه عند الكلام ما حصل عليه عند الخطاب الأول، لأنه قد تعود وتمرن على ذلك، وقد جعل الله له في المرة الأولى الشجرة سبباً لسماع النداء، وجعل في الثانية الطور سبباً لسماع الكلام، ولهذا لما أُسري بنبينا محمد صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لم يفزع في شيء من المواطن، لأنه من ابتداء أمره إلى منتهاه كان في صحبة المَلَك ورؤية الملائكة والترقي من حال إلى حال، فلم يندهش في شيء منها، بخلاف ما لو كان فَجَأَه أمر في أول وهلة، فإن هذا من طبيعة البشر، كما وقع لموسى ولنبينا عند ابتداء الوحي، لما قال، زملوني، زملوني، دثروني أو كما قال من جملة ما تكلم به ضحى يوم الثلاثاء ٢٤ جماد أول سنة ١١٢٤ في غرفة السيد حسين بن عمر بلفقيه في الجحيل
ما قال في أدب السائل
(٢/١٨٩)
وسمعته رضي الله عنه يقول، من تأمل أحوال الصحابة، وتوقفهم في الأمور عما لا يعني، عرف آداب الرجال، وآداب العلم، وآداب الأئمة، وعرف ما ينبغي أن يستكثر منه من العلم ويستقل منه، وما يُظهر منه، وما يكتم، انظر كيف لم يسألوا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن الرجل الشديد بياض الثياب، من هو، ومن أين جاء، حتى ابتدأ بنفسه يحكيه لعمر بعد مدة، ويعرف من ذلك منع الإخبار عن الشيء قبل وقته وإذا جاء أخبر من غير سؤال، وكيف لم يسألوا عن المرأة التى طلبت أن يقام عليها حد الزنا، وعن الرجل الذي أتاها وهل هو بغصب أو برضى منها، ونحو ذلك
وقال رضي الله عنه، إذا أردت أن تعرف أنك لم تعلم عيبك من نفسك، وإنما تعرفه من غيرك، فانظر إلى نخامتك ومخاطك ونحوهما، كيف لا تكره ذلك من نفسك لو وقع في أي موضع منك، ولو وقع بك من غيرك ولو في طرف إصبعك، لكنت تستقذره وتكره الفاعل، فكذلك العيوب، فاترك كلما يكرهه غيرك منك، وما تكره من غيرك
ما قال في انتظار النفحات
وقال رضي الله عنه، باطن العادات عبادات، وباطن العبادات مشاهدات إن كان له ترقي، والنفحات ما تنتظر إنما هي يتعرض لها، فقد تحصل في عروض الأوقات
وقال لي نفع الله به يوماً، استفتح الباب بأظفارك لعل أن يفتح لك، فقلت، التعرض للنفحات الوارد في الحديث بماذا يكون؟، فقال، بالدعاء والجلوس في الأوقات المرجو حصولها فيها والإنتباه وعدم النوم إذ ذاك، فإذا وردت النفحة عليك وأنت نائم فما يقال لك متعرّض
ما قال في التوبة
(٢/١٩٠)
وقال رضي الله عنه، من تاب من ذنب وفي نفسه إنه إن تمكن منه فَعَلَه، فهو مصرّ عليه، ولا توبة له، وإن انتفى هذا العزم بعد التوبة ثم رجع بعدُ بباعث آخر، صحت توبته الأولى، وتوقفت إثابته وإثمه على أن يتركه خوفاً من الله أو يقتحمه، وإن تاب كذلك صحت، والعبرة فيها بالندم وفاعل الذنب كمن يأخذ القَدوم ويهدم، والقدوم الذنوب، والمهدوم الدين، والطاعات بناء له
ما قال في خداع الشيطان
وقال رضي الله عنه، من دسائس الشيطان أن يشغلك عن الخير بخير آخر حتى لا تحسن الأول، فلا تستعجل بخير لتفعل خيراً آخر، بل أحسن الذي أنت ملابس له، ثم افعل الثاني، وشغله له بأن يوسوس له ويهممه على الذي يكون غير ملابس له عما هو ملتبس به فيتعلق قلبه به عما هو فيه، وبهذا يعلم إن كل خاطر يخطر للانسان في الصلاة والذكر والقراءة فهو من الشيطان، وإن كان خاطر يخطر يأمُرُ بخير فضلاً عما يأمُرُ بمباح، بل عما يأمر بمكروه، فإن أمر بحرام كان أشد
انظر إلى هذا التأويل البديع
وقال له رضي الله عنه رجل، إن فلاناً كُف بصره فتعب لذلك، وقال، ما مرادي إلا لأجل أنظر في المصحف فأقرأ نظراً، ورأى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في المنام فقال له، اكتحل بالعِظة، وإنه سأل عنها فقيل له، هي كل شجرة ذات شوك، ويريد منكم تأويل ذلك، وكيف الكحل بذلك، فقال له نفع الله به، قل له، يقول لك، العظة إنما هي الإتعاظ والصبر، فليصبر على ما أصابه، ولا عاد يسأل، ولا عليك من أهل الزمان، فإن مطالبهم كلها دنياوية، وإنما يسترونها بأمور الدين، كمن لا مال له، فيقول، لو أعطاني الله مالاً تصدقت منه، وفعلت وفعلت، فانظر لو حصل له مال واجلس له عند داره
(٢/١٩١)
وقيل له رضي الله عنه، نظركم علينا، فقال، نظر الله يشملنا ويشملكم، وإذا رأيت المنقّر يسقط من الدار، فاشرد لئلا يسقط عليك، والوسائط ما عليهم إلا أن يفتح الواحد منهم لك بابه، والمدد يجيئك مثل البحر، وأصل المدد من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومنه تتفرع طرق السماء، ثم ذكر قصة الحنفي مع تلميذه في المشي على الماء، وتقدمت، وكذلك قصة سهل بن عبدالله التستري، وقد قيل له، نريد أن نرى منك كرامة نراها مشاهدة، فنحب أن نراك تمشي على الماء، فقال، سل فلاناً المؤذن، فسأله فقال، ما أعرف منه كرامة إلا إنه يوماً جلس يتوضأ، فزلق في النهر، فلولا أني أمسكته لغرق، وكذلك ذكر قصته نفع الله به مع باجبير، لما زار معه الشعب، ومرورهما المعجاز، وكان باجبير صائماً، قال، فلما وصلنا الشعب قلت لباجبير في الليل، نم، فأبى فقال، أخاف اذا نمتُ زرتَ الشيخ أحمد بن عيسى وتركتني، قال، فعالجته على النوم، فما صدقت على الله أن ينام، هذا حد لفظه في حكاية القصة، وسمعتها من غيره، ورأيتها أيضاً مكتوبة إنه أمره بالإفطار من الصيام، وعالجه فيه، وقال له، إنه في الحديث، (( ليس من البر الصيام في السفر)) ومع كل ذلك أبى أن يفطر، وبقي على صيامه، وسلط الله عليه شدة العطش، فلما صعد المعجاز، ورأى هناك سقاية ماء، فوقع كالمغشي عليه، فشرب كثيراً حتى تقيأ ما شربه
(٢/١٩٢)
وقيل له رضي الله عنه، قيل لفلان من السادة، ينبغي لمن أراد الهند، أن ينوي إنه إذا حصل له عوين يحج به، فقال سيدنا، هذه نِية نَية، لأنه إن أراد الفرض فينظر في كتاب الله من حيث الشروط والإستطاعة، وإن أراد التجرد والإنقطاع، فليكن كل يوم حليف مسجد، ونحن مانطالب أصحابنا بالإجتماع، أي علينا، ولا نحبه منهم، بل الأحسن أن يبقى كل مكانه، حتى تبقى القلوب سليمة، ومع كثرة الإجتماع لم تحصل سلامة القلوب، ونكره كل أمر يكون فيه وحشة الخاطر على أحد، فينبغي أن تحصل السلامة في القلب، ليحصل المدد والإنتفاع، وقد ذكرنا لكم اختلاف المذاهب، وقصة الحنفي والتستري، وقصتنا مع باجبير، لتعرفوا بذلك ماهنالك، وأهل الزمان مامرادهم إلا كرامات كخوارق السِحْر، أو كما قال
وسأل نفع الله به عن شخص مات، وكان قائماً بتدبير بيت، وهل قام مقامه أحد مثله، قيل، نعم، فقال نفع الله به، من عمل عملاً وأحسن فيه، نفع اثنين المقدِّر والمدبّر، والإحسان في الدين أعظم من الإحسان في الدنيا بكثير، ومن أين إلى أين
وقال رضي الله عنه، من حج - أي حجة الإسلام - ليصح حجه لغيره، فأمره مشكل، ويصدق فيه قول القائل ،
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كلَّ طيبة ما كل من حج بيت الله مبرور
(٢/١٩٣)
وقال رضي الله عنه، قد يجيء شيخ صاحب طريقة، وهو على حق، ثم يجيئون ناس يترسمون برسومه، فإن كانوا على قصد الإقتداء به، لايخلون من خير وبركة، وإن قصدوا أن يظهروا التشبه به ليظهر أمرهم عند الناس ويُعرفوا ويُعظموا، فهؤلاء إنما هم أكلة الدنيا قد حبط عملهم وخاب سعيهم، وينبغي لمن له سلف صالح، أن يتشبهوا بهم ويهتدوا بهديهم، فإن لم يقدروا على ذلك فليترسموا برسومهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك بقصد التشبه بهم لايخلون من خير وبركة، والأكابر لايقتدى بهم في العوائد والحقائق، كيف يقدر أن يقتدي بهم في أن يصلي الصبح بوضوء العشاء كذا مدة، أو يمكث كذا أياماً من الأكل، هكذا ماحفظته على مافهمته من كلامه، ضحى يوم الثلاثاء ٢٤ ربيع الثاني١١٢٤ في دار آل فقيه، عندما حصل منه التلقين لجماعة من السادة
وحضر رضي الله عنه في مجمع في داره الشرقية من الحاوي التي فيها ابنه السيد حسين، وذلك يوم الأحد١٨ ذي القعدة سنة ١١٢٦، وختم ذلك اليوم السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي كتاب صحيح البخاري، وحضر من الطعام ماتيسر كطعام المداد فمن مجموع ماتكلم به إنه ذكرت له زوجة السيد أحمد الهندوان توفيت، فقال، اللهم إنا نسألك حسن المصير عند المسير، وحسن الثبات عند الممات، ولم يزل يتكلم حتى حضرت القهوة، فقال، الفاتحه إن الله يوفق الأحياء، ويرحم الأموات، ويغفر للجميع، وكان عادته قراءة الفاتحة عند القهوة وذكر هذا البيت للبوصيري،
وإذا تحققت العناية فاسترح وإذا تحققت العناية فاجهد
(٢/١٩٤)
فقال نفع الله به، فاسترح أي في الباطن، فاجهد أي لا تجلس بطالاً، فلو قيل لك، إنك سعيد، أتجلس وتترك العمل وكأن بين أول البيت وآخره مباينة، فكيف إذا تحققت العناية يستريح وإذا تحققت يجتهد فهو على ما ذكرنا، والبيت للبوصيري، في قصيدة مَدَحَ بها شيخه أبا العباس وشيخه أبا الحسن الشاذلي، ونحن أول ما أخذنا طريق الشاذلية، وطريقتهم تميل إلى الشكر، أخذوا ماجاء فيه عن الله ورسوله، فشرحوه وفصلوه واختصروه، وأول ماطالعناه من كتبهم "لطائف المنن" ولو بقينا عليها، لحصلت علينا أمور، ولكن تداركَنا الله بكتب الإمام الغزالي لأن ماجاء عن الله ورسوله شبه الأدوية، وهو شرَحَها وأوضَحَها، وجعل العلماء يقدمون في كلامه، أو قال فيها ويؤخرون، والإمام الغزالي ما استيقظ، إلا وقده مقبل على الآخرة، لأنه أفنى عمره في طلب العلوم، فتداركه الله بعد، فكأنه مااستيقظ إلا وهو على التجرد، وإلا فكان كهؤلاء الذين يُحضرهم الوزراء والسلاطين، فاستنقذه الله ولكن قد معه علم واسع
ماقال في كتب ابن عربي
(٢/١٩٥)
وذكر رضي الله عنه، كتب ابن عربي وبعض مشكلاتها فقال، ينبغي للإنسان أن يرجو ولا يغتر، ويخاف ولا ييأس، ولا يتساهل بخطرة ولا نظرة، وهذه الأشياء ذوقية، ولا يُسلَّم لصاحب الذوق إلا فيما وافق الشرع الصريح، ولا أسلم ولا أحسن ولا أجمع من كتب الإمام الغزالي، لا في الشريعة ولا في الطريقة ولا في الحقيقة، ويدَع ما أشكل عليه، والمراد بذكر هذه الأشياء الحزم حتى يحذرها الإنسان كالبحر أول ما يدخله إلى الركبة مثلاً ثم إلى الوسط، ثم إلى القامة، ثم يغرق، ودليل هذه الأشياء في القرآن، لكن لأهلها، ومن هو في القاع من يجيء له ما في السماء، وهذا إن لم يُخْطِ في ذلك والله أعلم بهم، وقد سمعنا عن الشيخ الفقيه حسين بافضل، إن ابن عربي ما سار إلا في ظل الإمام الغزالي، ولولاه ما جاء ولا راح، ولكن إذا خالط الإنسان القاع إلى خمس ما يدري ماذا يقع له، انتهى ماحفظناه مما تكلم به في هذا المجلس في هذا اليوم المذكور، وفي اليوم الذي يليه يوم الإثنين وقت القراءة تكلم في العلوم من العقائد وغيرها وفي الأعمال، أن يعلم مايلزمه من أمور الإعتقاد بالإجمال ومعرفة العبادات ويشتغل بالعمل، ولا يلتفت إلى ما يصد عنه من آدمي أو خاطر أو قاطع، قال، وهذا هو دين التصميم على الفعل من غير تعرض لإزالة شبهة، فإن التعرض للشبهة يدعو إلى شبهة أكبر منها، ولا أشد من التعرض للجواب، وأمور الشيطان مالها إلا مثل هذا، كل أمر تعرف إنه يشغلك، حتى في المعاشاة وفي أمر الرزق من الخواطر لأن الشيطان يريد أن يشغلك فإذا تدحرجت له في الأمر الصغير، جرك إلى أكبر منه، وهو مثل العدو المنازع، فإن كان معك له مكافأة وإلا فَرُدَّ عليه بابك، والأمر ولله الحمد مكفول إن تركت الأمر على الله وعرفت الأمور الواضحة وقد وقعت لنا هذه الخواطر سابقاً، عندما أنشأنا هذه القصيدة ،
إن كان هذا الذي أكابده يبقى عليّ فلست أصطبر
(٢/١٩٦)
إلخ وذلك نحو سنة ١٠٨٧ وسنّه رضي الله عنه إذ ذاك نحو ٤٣ سنة أو قريباً من هذا، قال، والشيطان ما قام في مقام النبوة، وإنما قام بالباطل في مقابلة الحق، ومتابعتُه أقذارٌ، وإنما غمس أتباعه في الأقذار من فعل المعاصي، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وهكذا كل معصية، ولا تدَّعي القوة فتخفي ضعفك أصلاً، وإلا ظهر ضعفك بشيء سهل، ولو بشوكة، والقاع القاع، ألق نفسك في القاع، فإذا كنت لاتطيق فهم يشلونك، ولاتلام في ضعفك
وذكر رضي الله عنه قول النبي سليمان عليه السلام، لأطوفن الليلة إلخ، ولم يقل إن شاء الله، الحديث، فقال، ينبغي إسناد الأموركلها إلى المشيئة، إلا ما لا خير فيه مما فيه سوء أدب، وليس هذا بحكم منه، إنما هو الفعل
وتكلم رضي الله عنه في القُصَّاص فقال، كانوا يفتشون أحوالهم وينظرون ماذا جاء، وماذا حدث
ما قال في كلام الحقائق والحذر منها
(٢/١٩٧)
وذكر رضي الله عنه الشيخ ابن عربي وذلك عشية الثلاثاء في الحاوي سادس ذي القعدة سنة ١١٢٦ فقال فيه، إنه تقدم له زهد وصلاح فيُسَلّم له أمور الدين والآخرة، وكذلك ابن الفارض والسهروردي، وأمثالهم من المتكلمين بالحقائق، ثم قال، أمر الله عظيم، وكل يقول ماهو إلا أنا كالشمس والقمر، كل يراهما، ولهذا مثل الله بهما في الامور الإلهية، ولو ظهر لهم جبريل، مااستطاعوا النظر إليه، لكن الآدمي ضعيف، وهو معذور لضعفه، ومن طبيعته التيه، لكن إذا كان ذلك في محل العفو، بأن لايكون متبطراً ولا كاذباً، وقد مثل الإمام الغزالي في هذا بالفيل، واختلاف مرائيهم فيه مثلاً، وكل منهم صادق، ولكن إذا لم يكن شعور، وفيه إشكال فينبغي البيان ممن يعرفه، لئلا يدخل على الناس منها التعقيد والتشبيه، وإلا فإن سلم من الناس ماسلم من الله، فربما ادعاه أحد من الناس فاغتر به، فترى أُناساً يروحون يطالعون في "الفتوحات" ونحوها، ويتركون مطالعة "الإحياء" لأن أنفسهم تهوى أمثال ذلك، وتشمئز من "الإحياء" لكون فيه تبيين الأحكام وتعريفها، فينبغي إجتناب أقاويلهم المعقدة لئلا يدخل منها التشبيه والتعقيد، فما الفائدة في ذلك، ومن يحل لهم التعقيد إذا ركب في قلوبهم، وقد جاء في القرآن وفي الحديث، إن الأمور الإلهية لا تُتعقل ولا تكيف، وأين الإسراء إلى فوق السبع السموات إلى العرش، من سماع الخطاب من الشجرة في الأرض، يعني في قصة الإسراء بالنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وسمعه لكلام الله من قاب قوسين، وتكليم الله لموسى عليه السلام من الشجرة وسماعه لذلك، والمتكلم واحد، والأماكن متباعدة غاية البعد، ففي هذا دليل على أن الأمور الإلهية أمرها على غير ماتعرفه العقول، وأنه لا يسع إلا الإيمان بها والتسليم، والله أعلم، قال، والغلبات لها أحوال، وهذه المسائل لها حقائق عند أهلها، لكنها لها عندهم أشياء، وفيها مخاطرة حتى في الدنيا فضلاً عن الدين، وقد ذكر
(٢/١٩٨)
الإمام الغزالي، أن من أراد أن يسلك، فليأخذ ما اتفق عليه أهل العلم وصح، ولكن إذا تغير المزاج مايقع شيء، وقال الفقيه بامخرمة، ماهي إلا معاني ماتسعها العبارة ولأي شيء ما يروح الإنسان في الأمور الواسعة، ويدخل في سم المخوط، وقد ذكر ابن عربي، إن كل أحد ما يخرج من الدنيا إلا مكاشف حتى الكافر، لأنه يرى عند الموت ملك الموت، والأرواح مثل السرج، وكل ما جئت بسراج زاد الضوء، وقده حاصل بالسراج الأول، لأن هذه معاني ماهي صور، قال الشيخ عبدالرحمن السقاف، مانشل الراتب إلا وعند السارية نحو ثلاثة آلاف من الصالحين، وكم قد وقع غلط في الأمور الظاهرة، فغلطوا في فجر ونحو ذلك، لكن الإنسان ضعيف، والضعيف إذا دخل ما لايقدر عليه يلام، كمن دخل في بحر بلا سفينة، وإذا حمل التغزلات على الروح، فماكان من هجر ومطل وكل مايذم، فمن صفات النفس، وما كان من لطافة ومدح فمن صفات الروح، وما كان من الشوق وتمني اللقاء، فمن شوق النفس إلى الروح، والمعاني قد تضيق، واللسان قد يطغى، كمن يصب دن ماء في فيجان فيأخذ منه مايسعه ويتطير مازاد، هذا أو كما قال
وقال رضي الله عنه لبعض المنشدين، لا تقصر عن أن تحفظ لعبدالرحيم أي البرعي لأن نفوس الناس تطمئن إلى نظمه لكونه يمدح نبيهم، أي فتميل بذلك أرواحهم إلى ذكره، وتطرب أسماعهم وأسرارهم إلى مدحه، والثناء في الحقيقة إنما هو لله تعالى ولنبيه، وما عدا هذين الحضرتين، فكلهم أخدام، إلا مابين خادم رفيع وخادم وضيع، وفي مكاشفة الشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه فإنه قال، وقفت على أبواب الله كلها، فرأيت كلاً منها عليه تزاحم شديد إلا باب الفقر رأيته خالياً
وقال رضي الله عنه، إن لله نظرات ينظر بها من نفسه إلى نفسه، ومن كرمه إلى رحمته، لا مدخل للعباد في ذلك
ما قال في أقسام الصُّحبة
(٢/١٩٩)
وقال رضي الله عنه، الصحبة ثلاثة أقسام، صاحب يصحبك لك فقط، وصاحب يصحبك لك وله، وصاحب يصحبك له فقط، والأول فيه من وصف الله تعالى، وهو أكملهم، لأنه لمجرد نفعك من غير مايرجو منك شيئاً، والثاني فيه إنصاف إن أقام العدل لأنه يأخذ ما له ويؤدي ماعليه، والثالث أضعفهم ولا يؤمَن مثل هذا ولا يُصحب، ومَثَله كالمرأة
ماقال في الفتن
وقال رضي الله عنه، لا تظن أن الفتن في هذا الزمان تسكن ،لا، بل كلما رأيت فتنة سكنت فهي كالنار تحت الرماد غير ساكنة بل استترت، لأن الناس غلبت عليهم محبة الدنيا والمال والجاه، ومن كان محباً للمال والجاه لا يَعُدُّ نفسه إلا في الفتنة، حتى يبرئ نفسه منها، وقال، من لا يخاف من النار ولا من العار لا تعده إنساناً
وبلغه رضي الله عنه أن فتنة حصلت في الحرمين بين الحاج الشامي وحرب أي قبيلة حرب ومثل ذلك في مصر ومثله في الهند، وفي أماكن أخر متعددة، فقال، قد ظهر في هذا الوقت أشراط الساعة، فإنه لا يصل أحد من جهة بعيدة إلا ويخبر بفتنة، وإن فلاناً وفلاناً من أعيان الناس قد قتلوا، وإن بقيت هذه الفتنة عامنا هذا- أي وهو عام ١١٢٤- فليتحقق الإنسان أن هذا هو أشراطها، فلا يجوز للإنسان أن يخرج من بلاده، بل يتعين عليه الجلوس في أرضه صيانة لدينه وحفظاً لصبيانه ومكالفه، لأن الإنسان أحسن مايخرج إلى حرم الله، وإذا حصل فيه الفتن والقتل فإلى أين يخرج، وهذه الأشياء وأمثالها هي الأمور الموعود بها، وصدق الله وبلّغ المرسلون
وقال رضي الله عنه، هذا الزمان زمان نار، وأهله مفتونون وفتنتهم في قلوبهم، لو جئت بشرارة جاءوا هم بحطب وأوقدوا عليها حتى تشتعل
وقال رضي الله عنه، الشبهة أشد على المتنسك من الحرام لأن الحرام يَعرف أنه حرام فيجتنبه، وإن وقع فيه تاب منه، والشبهة أمرها عسر، فربما اعتقد حراماً أنه حلال أو بالعكس
قف على دعاء الحبيب بعد الجمعة
(٢/٢٠٠)
وكثيراً ما أسمع سيدنا نفع الله به يقول إذا انصرف من صلاة الجمعة ،
إلهي فيك قد أحسنت ظني فحقك يا إلهي لا تهني
وقال رضي الله عنه، لا يَنْبغي للضَّعيف أن يُدخِل على نفسه أمور أهل الزمان، لأن مَثَلهم كَمَثَل من رأى شرارة اشْتَبَّت فراح يطلب لها حطباً يزيدها، فلا ينبغي أن يتكلف زائداً على وُسعه فيَحْصل من ذلك حتى تغيّر المزاج
وقال رضي الله عنه، لاتحرك المرأة في هذا الزمان في أمر دينها لأنها فيه على شَفَا، فلو قلت لها، هذه الصلاة غير صحيحة، قالت، هذا الذي أعرفه، وتَرَكَتِ الصلاة رأساً وقد كان في الزمن السابق القلوب منورة وفارغة، فأخذوا الدين وشربوه شرباً كما يشرب الظمآن الماء، بخلاف هؤلاء
وقال رضي الله عنه، تشبَّهْ بأهل الخير مااستطعت فإن لم تكن منهم فتكون من محبيهم
وقال رضي الله عنه، قد يكون التحسر على فوات فعل الخير خيراً من فعله، لأن الفعل يفتقر إلى نية، والنية قد تعز ولا تصح، وأما التحسر فلا يحتاج إلى نية
وذكر رضي الله عنه، همته في الحركة والسكون، فقال، قد أقوم وأروح وأجيء، لأجل النشاط ولا ألغب، والهمة المتعبة للبدن مؤلمة ،
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ما قال في طريق الشط
(٢/٢٠١)
وذَكَر رضي الله عنه بعضَ من سافر على طريق الشط مع بعض فقراء آل إسحاق، فقال، هو طريق مخوف أشد من البحر بأمور كثيرة، والفقير مسافر دنيا لا متبرعاً، فلو كان متبرعاً لكان معه سيف من القدرة، وآخرهم على طريقة الفقراء الصادقين الشيخ شيبان، وكان من حال الزهد والتجرد بمكان عظيم، وكان غالب حاله مايكون عنده شيء، حتى جاءه رجل مستودع منه مسافراً أراد منه الإلباس، فلم يجد على رأسه كوفية يلبسه إياها، وجاءه رجل بحمل بر، وقال له، لك نصف هذا الحمل، ولكنا محتاجون، فأسألك تقرضني إياه ونجيء لك بحمل بعد ذلك، فقال، هو لك هبة، وكان له مدة أيام ما لَهُ ولعياله عشاء، وحضره ضيف فقال لأهله، ماذا عندكم؟، قالوا، رأس غنم، قال، إذبحوه ففعلوا، فقالوا مامعنا حطب، فقال، كسّروا هذا السرير، لسرير تحته ينام عليه، وغير ذلك من الأحوال، وهؤلاء يسافرون بالقوافل متشبهين بأولئك، وليسوا مثلهم، وإنما يقولون، أهلنا وآباؤنا، فأين هم منهم، أو كما قال، ثم انتقل الكلام إلى ذكر الآباء وشفقتهم على أولادهم، فقال، كلهم شفيق عليهم، إلا منهم من فيه مع الشفقة رقة ويُظهر ما في نفسه، ومنهم من يخفيه
ما قال في سبب الجذب
ثم ذكر رضي الله عنه الجذب وإن منه جذب سماوي وسفلي، فإن كان سماوياً يكون عقله تالفاً بالأمور السّماوية، وإن كان سُفليّاً فذهاب عَقْله بالأمور السفلية والعلويةُ كخوف من الله أو شوق إليه ونحو ذلك، والسفلية كعشق العامة
ما قال في ذكر السيد علي بن عبدالله العيدروس
(٢/٢٠٢)
ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين ضحى يوم الثلاثاء ثامن عشر شوال سنة ١١٣١، وذلك في الغيلة في الحاوي، وطال به المجلس معه، فكان مما خاطبه به أن قال بعد ماجرى ذكر السيد علي بن عبدالله، قال، كنت أظن أني والسيد علي بن عبدالله يكون موتنا في عام واحد، فاتفق أني رأيت كأني وهُو في جمع في غرفته بالسبير، اجتمعنا لأمر يوجب الإجتماع من وليمة عرس أو نحو ذلك، وكنت جالساً في المجلس إلى قبلة، وهو في المجلس إلى شرق، وبعد ماتفرقوا قام وسار مُشَرِّقاً يريد الهند، وكأني أعالجه أن يبقى ولايروح، فأبى وراح، فأولتها، رجوع روحه وأنه يتوفى هناك، وأن لا أكون معه في عام واحد، قال، ورأيت البارحة أي ليلة الثلاثاء المذكور، كأنّ رجلاً أعجمياً وقف فوق هذا الكرسي عندي في الغيلة، وجعل يصرخ ويقول، الليلة مات القطب، وأصبح السيد محمد بن سقاف متوفياً تلك الليلة، قال، ولا أرى الرؤيا تصدق عليه
(٢/٢٠٣)
أقول، لما حكى سيدنا نفع الله به بالرؤيا هذه للسيد زين العابدين فحفظتها وأرختها وراحت الأيام والليالي، إلى ثالث أو رابع جماد أول أو الثاني من السنة التي بعدها سنة ١١٣٢، وإذا بخطوط وصلت من الهند من السيد أحمد باعمر وغيره إلى سيدنا يعزونه في السيد علي بن عبدالله وذكروا، إنه توفي ليلة ١٨ شوال المذكور، وهي ليلة تلك الرؤيا فصَحَّتْ فيه، وتسميته بالقطب توسعة وتوسع من حيث اللغة كما يقال قطب الراجين وقطب المتوكلين، وإلا فسيدنا هو القطب الغوث والإمام المطلق وقوله نفع الله به في تأويله رؤياه الأولى، أن لا أكون معه في عام واحد، إنما خرج عن عام وفاته بعشرين يوماً، والكرسي الذي رأى الرجل الأعجمي يصرخ عليه، كرسي لسيدنا يجلس عليه ويضع عليه عمامته، وقوله، أعجمي أي غير عربي فتكون لغته هندية، وإنه جاء من الهند يخبر بذلك، وكثيراً ما يذكر سيدنا السيدَ علياً، ويطيل الكلام فيه حياً وميتاً ويطنب في وصفه، ومن ذلك قال، لم نعلم أحداً من السادة بقي في الهند ستين سنة مع توقعه للخروج إلا هو، حتى إن السيد علي الشاطري قال، ماجلسنا معه مجلساً إلا ذكر تريماً، وتمنى الوصول إليها وقد رأيناه مراراً في الخلاء، ومراراً في البلاد، إنه جاء الى تريم، وفي كل ذلك وهو يريد الرجوع إلى الهند، وأنا أشير عليه بالجلوس، وعدم الرجوع، وهو عازم على الرجوع، فكان ذلك زيارة روحه، وحفرتُه هناك، ولكن الغريب شهيد، لأن موت الغربة كئيب، وإن كان بين أهله وولده، وقد توفي بعض الصحابة في غير بلده، فقال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، هو شهيد، يقاس له من موضع قبره إلى منتهى أثره وسأل ابنَ ابنه محمدَ بن عبدالله بن علي هل بلغكم قدر مدة مرضه؟، قال، نعم، طال مرضه نحو سنة، ولكنه لم يمنعه ذلك من عاداته ومجالسه وصلواته وجميع عوائده، إلا قبل وفاته بثلاثة أيام، انقطع فيها عن الخروج، وأعتق جملة عبيد نحو عشرة، وأسكت قبل الوفاة بقليل
(٢/٢٠٤)
وسمعت إنه قال لسيدنا بعضُ أهل بيته، الله يطيل لنا عمرك، وإنه قال له، ما أغرمك، ما أنت داري أن السيد علي بن عبدالله ينتظرني، قال، وكنا عقدنا بيننا وبينه عقد الإخوة، عند قبر سيدنا الفقيه المقدم
أقول، وكانت وفاة السيد علي المذكور ١٨ شوال سنة ١١٣١ كما تقدم، وبعد صلاة عصر يوم وفاته قرأ سيدنا {يس} وقرأها الحاضرون معه وأهداها له، ووقت نشيد يوم الجمعة، التي تليه أمر بإنشاد المراثي كمرثيته للسيد أحمد الهندوان، وقصيدته (مرت لنا بالحمى المأنوس أعياد)، كل ذلك استشعار منه نفع الله به لخطبٍ ورُزء يعناه، وهو السيد علي، ولم يتبين أنه هو إلا بعدما جاءت الأوراق بتعزيته، بعد نحو ثمانية أشهر، فافهم، وذكر في جوابه للسيدأحمد باعمر على كتاب تعزيته، قال، ولما فشا خبر وفاته بتريم أخذتنا الوحشة الكبيرة لعلمنا بأنه لاخَلَف منه على مثل ما كان عليه لكونها اجتمعت فيه من الخصال ما يعز اجتماعه في مثل هذا الزمان المبارك، من العلم والعمل والسماحة التي لايبقى معها الإبقاء على شيء من الدنيا ولا احتفال بها، وغير ذلك من الفضائل والفواضل، فالله يرحم ذلك الوجه، ويخلفه بالخير خلفاً صالحاً في عقبه الميمون السعيد، عبدِالله بن علي وأولاده وعسى الله، والأمركله لله، وهو المنفرد بالبقاء والدوام، ولا نقول إلا ما يرضيه، إنا لله إلخ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون وإذا أتتك مصيبة تُشجى بها إلخ وقول الآخر، فلا تبك ميْتاً بعد ميْت أجنة إلخ وقول الإمام الشافعي، إني أعزيك البيتين وقول بعضهم، وما كان قيس هُلْكُه هُلْكُ واحد، ولسنا نذكر بقية هذا البيت، لأنا نرجو من فضل الله وبركات رسوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أن يبقى اجتماع، ومن يبقى به الإنتفاع والدفاع، وما ذلك على الله بعزيز، ولأهل هذا البيت النبوي ماليس لغيرهم عند ربهم من الإقامات والخصوصيات، والظن في الله جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل
(٢/٢٠٥)
وذكر نفع الله به للسيد زين العابدين، إنه كتب إلينا السيد أحمد باعمر يعزينا في السيدعلي فكتبنا له جواباً، وكتبنا له في الجواب صدر هذا البيت، وما كان قيس هلكه هلك واحد، وتمامه ولكنه بنيان قوم تهدما، فتركناه خوفاً من التفاؤل به، أو كما قال، وكان من عادة سيدنا رضي الله عنه مع السيد علي زيارة التربة معاً بعد العشاء، وسمعت إنهما يقفان بعد الزيارة يتذاكران فيما بينهما في فنهما ويستغرقان في المذاكرة حتى يطلع الفجر ولسيدنا نفع الله به في أبيات كثيرة من قصائد متعددة إشارات إلى تلك المذاكرات والمسامرات كقوله،
وكم حبيب وفيّ العهد مجتمع على المودة لا بالعاجز الوكلِ
إلى أن قال ،
فهل ترى عائداً في الحي مجتمع مع الأحبة بالأبكار والأصل
وبالمسامر من ليل وقد هدأت عين الشناة وأهل النقل والعذل
يدور مابيننا كأس الحديث من الـ ـقديم نُسقى بها في النهلِ والعَلل
ومما نقل عمر باحميد عن سيدنا نفع الله به، قال، سمعته يقول، ما فَهِمَ معنى قولنا في القصيدة الرائية ،
بقية قوم قد مضوا وخلفتهم وهو خَلّفوني في الحمى عندما ساروا
إلا السيد علي بن عبدالله العيدروس
(٢/٢٠٦)
أقول، أي إنه من كون الإشارة في القصيدة إلى شيخه السيدمحمد بن علوي، وإن معنى خلفوني، إنه خليفته، والأمر كذلك، ويدل عليه، إن خرقته لما أرسلها لسيدنا وصلته في اليوم الذي مات فيه السيدمحمد، وكان سيدنا رضي الله عنه طالعاً إلى البلاد ليلة، وهي ليلة الثلاثاء أول ليلة من رجب سنة ١١٣٢، فلما كان عند مِقطب ساقية ثِبي، التي إلى الحاوي بين الأسوار، لما انحدرت الفرس من علو إلى سفل، قال، إن كان عاد رحنا إلى عند آل عمر يوم يحلون أو ندرنا إلى بيت جبير، بانطلب الفالكي نركب فيه ماعاد منا شيء لركوب الفرس، لأن السيد علي بن عبدالله هَدَّ قواي جملة كافية، فقلت له، عسى الله أن يعوضكم عنها عِوضاً مباركاً، فقال، ماعاد أحد مثله، نرجو أن نكون نحن وإياه ممن يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ونحن وهو لم نزل متحابين في الله، في حال الإجتماع الحسي، وفي البعد، لم نتناكر أبداً في حال الحضور ومع الغيبة، ولو كان السيد علي في غير بلاد الهند كما في الشحر أو عدن، أو بعض بلاد اليمن، ولم يتفق له المجيء للزيارة سرنا إليه نزوره، ولكن لايمكن ذلك في الهند سيما لمن هو معتَقَد ومعروف في الناس، وإلا فعلوا له مثل أهل الذييبي، حيث مر بهم بعض السادة من أهل الفضل فاعتقدوه كثيراً، ثم أرادوا قتله ليجعلوه مقاماً عندهم يزورونه ويتبركون به، فلم نزل نرى منهم مثل ذلك كثيراً، انتهى مااتفق لنا ذكره مما يتعلق بالسيدعلي بن عبدالله العيدروس نفع الله به
قف وانظر ما أخبر به عن نفسه الشريفة
(٢/٢٠٧)
ومما نقله أيضاً عمر باحميد عن سيدنا قال، سمعته مرة يقول، لله تعالى علينا منتان لا يمكننا أن نقوم بشكرهما، إحداهما منحنا الله سبحانه علماً واسعاً لا نحتاج معه إلى علم كل من على وجه الأرض، وما بقيت النفس تَتُوقُ إلى لقاء أحد إلاّ علي بن عبدالله العيدروس، والثانية أعطانا الله عقلاً كاملاً لا نحتاج معه إلى عقل أحد
وذكر رضي الله عنه، إن السيد أحمد بن الحسين العيدروس خطب ابنة عم له، وهي رقية بنت عبدالله بن شيخ ابن الشيخ عبدالله العيدروس، فأبى أبوها من زواجها فنذر لله إن تيسرت له أن يطالع كتاب "الشفا" كله في ليلة واحدة، وهي ليلة زفافها، والسراج في يدها، ثم إنها تيسرت له، فلما زفت إليه طرح السراج في يدها، وجعل يطالعه من أوله حتى أتى عليه كله، وهي ماسكة له السراج
وذكر رضي الله عنه الناس فقال، ضاعت الأمور التي لم تدرك حقيقتها، فأشياء قد مضت أوائلها حتى بقي الإنسان فيها كأنه ماسك بالذَّنَب، وأشياء ما يعرفها إلا بقرائنها، وأشياء لاتعرف له
(٢/٢٠٨)
واستخلف منه رضي الله عنه رجل يريد الهند، فقال له، ما الشيء إلاّ هِمَّة، ولا يعين الله العبد في الأمر حتى يَهِمَّ به، ويشرع فيه، وقد كان بعضهم إذا أراد أن يرسل أحداً إلى أحد في حاجة فقال، أخاف ما ألحقه، قال له، اجلس، وأرسَلَ غيره، والعمدة على الهمة، ماهي خفخفه، وامتثِلْ لفلان فقد وصيناه فيك، وإذا لم تمتثل فلا تلم أحداً فيك، فاللوم على قليل الإمتثال، واعتَقِد البر والصلة إن يسر الله عليك، حتى يحصل لك ذلك، فلما أدبر قال سيدنا في ضعف أرزاق أهل الجهة، إنهم لا يحصل نيل مطلوب إلا بفوات فضيلة، حتى لو أراد يأكل أكلةً فَوَّتَ نحو جماعة أو فضيلة أخرى لأنهم ماهم معوَّدين هذه الأمور ولا مُرَفَّهين، ولا تعودوا أن يُخدموا، وقد جاء عن ابن عباس، إن أرزاقهم كمِثْل قليلِ حَبٍّ مُرْتَكِمٍ هبت عليه رياح فبددته، وقد هيأ ربك لك الأمور وأسبابها فاعمل على ذلك، وإن كانت الأمور مقدرة
وقال رضي الله عنه، خَلَق الله في الإنسان نفسه ليحجبه بها عنه فإذا أراد تعالى وصول عبد إليه ستر عنه حُجُبه
ولما فرغ القاريء في "شرح الحكم" لابن عباد من قراءته قال سيدنا نفع الله به، هذه أشياء مفهومة، وواقع الإنسان فيها، وإذا كان مع الإنسان أصل الإيمان، فما عدا ذلك زائد، فترى الإنسان إذا عصى رأى نفسه منكسراً، وإذا عمل أدنى طاعة، إذا به يتحمحم والإنسان مخلوق على النقص، وطُلب منه الكمال، فهذا أمر عسر، فليعتبر الإنسان بقصة آدم، كيف عمل الطاعة ثم لم يلبث أن وقع في المعصية، فوَرَّث ذلك لذريته، فهذه الأشياء في جبلة الآدمي لا يخلو منها، ثم قال، ضعفت في هذا الزمان النيات والمُرُوَّات والهمم، وضعفها أكثرمن ضعف الدين
(٢/٢٠٩)
وكان رضي الله عنه في البلاد، يوم الثلاثاء ١٤ربيع الآخر سنة ١١٢٨، وذُكِر له استئذان بعض الناس، فقال، دَعْه فإنه مبلى لأنه فتح على نفسه أموراً لا تحسن منه، وإذا ضعفت قوى الباطن حصل مثل هذه الأشياء، وأهل الزمان ما عاد اكتفوا منا بالمجالس العامة، ما أرادوا منا إلا مجالس خاصة، ولا جبنا من مجالستهم بطائل، وأوقاتنا الخاصة بنا نحن مشغولون بها بما يهمنا، ثم تمثل بهذا البيت ،
تولى زمان لعبنا به وهذا زمان بنا يلعب
ودخل عليه رضي الله عنه رجل فسأله عن حاله وقوته، فأظهر التجلد، ثم قال له مباسطاً كيف عادتك في ذلك الأمر، فأخبره، فقال نفع الله به، كلما أمعن الإنسان في هذا الأمر وأحسنه كان أضعف لقواه الظاهرة والباطنة، وما ذكر من ذلك عن الأكابر فلا يحتج به، فإن الله قد أمدهم من القوة من معدنها ماهو الغاية، فلا يقيس نفسه عليهم، وإلا فكيف سيدنا علي يحمل باب خيبر، وهو قُوْتُه كما عرف من تقشفه، فليس معهم مما يضعف القوى مما يعتاد عندنا شيء، فإن أمورهم مقدرة
وذكر رضي الله عنه أمور الصالحين فقال، الأمور الإلهية ما لها حد، فترى جماعة في وقت واحدكل منهم يقول، أنا أنا، فلمن نسلم له منهم، أحد باليمن، وأحد في حضرموت، وأحد في المغرب، وأحد في العراق، ولكن أمر الله يسعهم، كما قيل لبعضهم، إن قبوراً كثيرة تُذكر إن سيدنا علياً مقبور فيها، فأي قبر منها يصح أن يكون مقبوراً فيه، فقال، إذا حصلت النية والتعظيم فكل منها هو قبره، لأن أمور البرزخ لا تتقيد، فإذا لم تتقيد أمور الدنيا، فالأولى أن لا تتقيد أمور البرزخ
(٢/٢١٠)
أقول، ذكر السيد يوسف الفاسي في رحلته، إن جَدًّا له يقال له، أبو الوكيل، مقبور في بعض بلدان المغرب، في قبيلة من البربر، وكذلك له ثلاثة قبور في ثلاث بلدان في ثلاث قبائل، فتداعى الأربع القبائل، كل يقول إنما قبره الذي عندنا، وتماشعوا السيوف للقتال، واشتكوا إلى ولده، فقال، كل منكم يحفر القبر الذي عنده، ففعلوا فوجدوه في الأربعة القبور، فسكن غيظهم
انظر إلى هذه الحكاية فيمن يتبع رأي النساء
وذم رضي الله عنه أحوال المنقادين لأزواجهم، فقال، إن سليمان بن داود عليهما السلام، أمر الهدهد أن يمضي إلى بعض البلدان، فيَعُدَّ رجالها ونساءها، أيهم أكثر، وكان المعلوم من تلك البلدان رجالها أكثر، فقال له، عددتهم فإذا عدد النساء أكثر، فقال، كيف ذلك؟، فقال، كل من رأيته منقاداً لزوجته عددته امرأة، فعلى هذا الحساب صرن أكثر منهم، فتنبه سليمان عليه السلام من ذلك لمحبته لبلقيس
انظر ما قال في البناء
وسأل رضي الله عنه رجلاً عن دارٍ بناه، فأخبره، فقال، كل عمل قد يثاب عليه إلا البناء، والذي ورد النهي به منه تعلية البنيان دون التوسعة، وقد جاء، إنه يقال له إذا أطاله، إلى أين يا أفسق الفاسقين، وهذه الأمور من المباحات إنما هي بالنية، والإقتصار على قدر الحاجة منها، وأهل الزمان لم تصح النية لهم في العبادات، فضلاً عن العادات
وقال رضي الله عنه، إن الله سبحانه يستحي أن ينزع النعمة عن شاكر، ولذلك قال سبحانه، { إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}
وقال رضي الله عنه لرجل، هل عادكم ملازمين للحضرة؟، قال، نعم، فقال، الخير لا ينبغي التخاذل عنه، بل التعاون فيه والمداومة عليه، وإنما ينبغي ذلك في الشر، والعالم يستنبط ذلك من قوله تعالى، {يَآ أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ}
(٢/٢١١)
انظر ما قال في ذم طول السفر
وصافحه رضي الله عنه رجل مسافر فقال له، قد صارت اليوم الأسفار أعماراً، لأنه قد كثرت المطالب وأَ كَدَّتْ، وتوسعوا فيها، وطول السفر وقصره بقدر ذلك، وقد كانوا في سفرهم إذا طال فهو ستة أشهر، لأن الأمور متيسرة والقناعة حاصلة
قف على ما قال في سيدنا عمر رضي الله عنه
وقد كتب عمربن الخطاب رضي الله عنه إلى كل من غاب ستة أشهر أن يرجع إلى أهله أو يُطلِّق، ومع طول السفر يتعلق الإنسان برسوم وعوائد لا أصل لها، ولو كان إلا طالب رسوم لو تواضع ارتفع عند الناس، كيف لو كان مطلبه دينياً، وهذه أشياء لبَّسها الشيطان عليهم، وهذه هي مداخل الشيطان التي كان أدخلها على الأمم الخالية قبل الإسلام وبعده، مثل بني أمية، حتى أفسدوا وحاربوا أهل الخير والصلاح، وقد قال، {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ } وكان في معرض المخاطبة لا على لسان واسطة، وقد عم بذلك الكافة، ولكن كان إستثناءه انما هو للقليل من ذلك العام الكثير، والحاصل، إن هذا الزمان السوء إذا لَحِقْت فيه تمرة واحدة في وِجْب حَشَف، فَكُلْها، خصوصاً في هذه الجهة الضعيفة، حتى قال بعضهم، ماتتم لأحدهم شهوة حتى تفوت عليه فضيلة، والدنيا بَحْر عميق كما قيل ،
فما قضى أحد منها لبانته إلا انتهى غرض منها إلى غرض
ومن تعب فيها وحصَّل منها راحة فحاله أحسن من حال من دأبه الشغل فيها والكد والجمع ولا يستريح فيها، فهذا حاله كحال العامل العادل أيضاً، وعند أهل الحكمة، من أمكنه الإستراحة بأمر الدنيا فليستغنمها، وقد كانت فيهم شهامة عدمت منهم اليوم
(٢/٢١٢)
وقال رضي الله عنه، الجنة لا شمس فيها ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، ولكن بكرة وعشية، تنعكس البكرة على العشية وتنعكس العشية على البكرة، وهي أشبه شيء بوقت الإسفار بعد صلاة الصبح مع اعتدال الوقت ولطف الهوى في ذلك، ومن طبيعة الشمس الحرارة، ومن طبيعة القمر البرودة، فإذا كان يوم القيامة يكورهما الله تعالى ويسلبهما نورهما فيجعله في الجنة زيادة في نعيم أهلها، ويجعل حر الشمس وبرد القمر في النار زيادة لعذاب أهلها، وإنما ذكر الله الشمس في قوله، {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا} لكون الشمس عنصر الحَرَّ، كما إن القمر عنصر البرد، فزيادة حر النار من الشمس، وزيادة بردها من القمر وهو الزمهرير، وبلغنا، إن الله يوم القيامة يسلبهما نورهما فيجعله في الجنة زيادة في ضوئها ونورها، ويلقيهما في النارمع الذين كانوا يعبدونهما زيادة في حر النار وزمهريرها، وليست الجنة درجة واحدة، بل هي درجات مختلفة لاختلاف أعمال أهلها، كما إن النار دركات، لاختلاف العصاة، لأن منهم من عصى الله بالكفر، ومنهم بالنفاق، ومنهم بالمعاصي، والدرجات إرتقاء من حين يدخلها يرتقي في درجاتها إلى أعلاها، الفردوس، والدركات نزول، من حين يدخلها ينزل في دركاتها إلى أن ينتهي
إلى أسفلها، الهاوية
(٢/٢١٣)
وقال رضي الله عنه في حديث، يؤذن لهم أي أهل الجنة في مقدار جمعة، إن كان من جُمَع الآخرة فما هو إلا بعد سبعة آلاف سنة، لأن اليوم من أيامها ألف سنة، وإن كان من جُمَع الدنيا فقريب، وهذا الإذن عام لخاصة المؤمنين وعامتهم، وإنما يتميز الخاصة عن العامة بقرب المجلس، وأحوال الكرسي وتجليه تعالى لكل مؤمن على قدره، كما ورد، إن الله تعالى يتجلى لأبي بكرخاصة، كما يتجلى لغيره عامة والقول بعدم إرادة الجنة أو عدم الخوف من النار من شطحات الصوفية التي اعترضوا عليهم فيها، لأنهم إذا أرادوا النظر فلابد لهم من الجنة، ومَثَل ذلك كقول من يقول، ماأريد إلا أن أدخل على السلطان وأراه ولا أريد غير ذلك، وهو يأكل ويلبس، ويركب من ماله، وإنما ـ ـ ـ (وسقط بعد ذلك كلام) ولعله، إنما المراد من قولهم ذلك، إنما نعبدك مجرد امتثال لأمرك وانقياد لعبوديتك، لا غير ذلك من طلب ماتهواه النفس أو فراراً مما تنفر منه، والله أعلم
ا نظر هذا التأويل العجيب
وتقدم قوله، إن معنى ماقالوا في العبادة، لا رغبة في الجنة ولا خوفاً من النار، إن معناه، إن مطالب الأرواح وما تلتذ به غير مطالب الأجسام وما تلتذ به، فإن مطلب لذة الجنة من الفواكه والنعيم والحور والقصور، وكراهة النار وعذابها وأنواع بلائها، إن ذلك من ملاذِّ الأجسام ومكارهها، وأما التلذذ بالعبادة والذكر امتثالاً وانقياداً من العبودية للربوبية، فإن ذلك من ملاذِّ الأرواح ومطالبها، هذا في الأصل ولابد من تلذذ أحدهما أو تعذبه بما يلتذ به الآخرأو يتعذب به تبعاً
وقال رضي الله عنه في معنى حديث، (( يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم من أيام الآخرة )) إلخ أي فقراء كل طبقة يدخلون الجنة قبل أغنيائها بذلك القَدْر
(٢/٢١٤)
وذكر رضي الله عنه السادة آل باعلوي، فأَكْثَر ثم قال، مامدد آل باعلوي إلا من بعضهم بعض، وكم من مشهور في بركة مستور، وكان السادة في طبقات العامة، يدخلون الأسواق، ويخالطون الناس من غاية الخمول، وإنما ظهر منهم الشيخ عبدالله العيدروس فلاموه، وأهل الجهة من سابق محرومون، حتى إنه ما انتفع به إلا أولاده وعمر صاحب الحمراء، ويحصل للولي بمخالطة العامة تمكن وزيادة فضل، والله أراد لهم الخمول، وأرادوا ذلك لأنفسهم، لأن مانقص من الدنيا زاد في الآخرة وساعدهم القَدَر على ذلك،وكانوا يُسَمّون الرِّقَة لمن غالطهم أو أخذ عليهم شيئاً
قف على هذه المقالة
ومنْ نَقْل مَن نَقَل عن سيدنا نفع الله به، قال، سمعته مرة يقول، الذين أخذوا منا وانتفعوا بنا أكثر ممن انتفع وأخذ عن الشيخ عبدالله بن أبي بكر العيدروس والشيخ أبي بكر بن سالم، مع إنا معترفين للشيخين المذكورَين نفع الله بهمابالتقدم في كل شيء، إلا إن لله تعالى في ذلك حِكَماً وأسراراً يطول ذكرها، وتكاد ترجع إلى اختلاف الأزمنة والأمكنة، والأتباع كالأولاد، فقد يقلون ويكثرون من غير أن يتعلق ذلك بذات الوالدين فرب مفضول أكثَرُ أولاداً من فاضل، فليتأمل في ذلك المتأمل
انظر ما قال في من يحفظ من كلامه المنظوم شيئاً
وسمعته نفع الله به يقول، إن المنشد إذا مات وقَدِم على أهل التربة، يستنشدونه، فقلت له، كل منشد، فقال، المنشد بقولنا خصوصاً لأنه لا يعرف ماقلناه إلا أهل البرزخ، لأنا صادفنا زمان جهل وسلفنا صادفوا زمان علم، لكن مع حسد انتهى ما نقلت من نقل ذلك الناقل
(٢/٢١٥)
وقال رضي الله عنه لرجل، كيف أنت؟، قال، كذا، أي يتشكى، فقال له، قل، بخير، إنما يُذَم التجلد على الله وهو أن يغفل عما عليه من النعم ويقول بلسانه، أنا بخير وقلبه ملآن من الشكوى، ومن تجلد على الله ابتلاه، وإنما المحمود إذا كان معه بعض بلاء فذكر ما عليه لله من النعم فقال، بخير شاكراً على تلك النعم فقد سئل الجنيد وبه بعض مرض، فذكره فقيل له، أتشكو الله؟، فقال، إنما أذكر قدرة الله علي، أو كما قال
وذُكِرَت عنده رضي الله عنه الرحمة في الأودية، وإن وادي ثبي حصل فيه سَيْلاَن، الأول كبير، والثاني صغير وحصل منه خير من الأول فقال نفع الله به، السر في البركة والشكر، السر في البركة والشكر، قاله مرتين، أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يحتسب
وسأله رضي الله عنه بعض السادة، أن يلقنه الذكر، وكان ذلك في مجلس القراءة عشية الإثنين ٢٣ ربيع الآخر سنة ١١٢٤، فقال، إن هذا لا يكون في المجلس العام، ولا لعموم الناس، وإنما هو لطالب مخصوص، في مجلس مخصوص، ولا يكون له أيضاً حتى يُسأل ليُعرف صدقه، وشدة تعطشه، وأنتم ما دريتم بهذه الأشياء، ظننتم أنها حصلت لنا باردة من غير تعب، لا، بل إنما حصلت لنا بعد التعب الشديد، لو علمتم بذلك، فقد سافرنا لأجلها إلى مشايخ، وزرنا لأجلها آخرين، وصحبنا آخرين، وما علمتم بذلك، ولو أن معي تحت السجادة هذه جواهر مع عدم مبالاتي بها ما فتحتها لأهل الزمان ينظرونها، وهؤلاء الحاضرون، منهم من ساقِيَتُه ملآنة ومنهم من ساقيته مربودة
(٢/٢١٦)
وقال رضي الله عنه، يجب على الإنسان أولاً أن يصحح مقام التوحيد، فإذا أحكمه صحح الواجبات من الصلاة والصوم، والزكاة إن كانت عليه، وغير ذلك، ولايفعل مندوباً قبل تصحيح الواجب، أتراك من له عليك دين لازم، وأنت تتركه وتعطيه شيئاً متبرعاً به، هل يقبله إلا بعد إدَّاء اللازم، وما عاد إلا تمتع بما تراه من الخير، ولا تنكده على أهله، ولا عاد مع الناس إلا بركة رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم والسلف الصالح
ما قال في شرب التنباك
وذكر رضي الله عنه شرب التنباك يوماً، فقال، إن عفو الله عن العبد إلى حد محدود، فإذا بلغه يقول له، رح ما عاد أغفر لك ولا أعفو عنك، فيقطعه الله من عفوه ورحمته، لأن من الذنوب ما لا يغفره الله، ثم قال، إنه إذا تعوده الإنسان صارت طبيعته عليه، فيتغير طبعه وعقله، والأصح أنه يَحرُم، لأنه يزيل العقل، وذكر أشياء من حكايات من خف عقله بسببه، ثم قال، ومن لم يُحَرِّمه يقول، لأنه لم يرد فيه نص بالتحريم فإنه حادث، ومثله الأفيون، فمن تسبب في إتلاف عقله مختاراً ـ فإنه تجري عليه أحكام التكليف ويخاطب بها ولا يعذر فيها، سواء أزاله بخمر أو غيره، ومن ادعى ممن يستعمل التنباك أنه لا يزيل عقله وطَلَب الجواز لذلك، فنقول، إنه من شأنه أنه يزيله، وما ثبت مع تناوله له إلا بعد أن أزاله مراراً، فلا يعذر فيه، أو كما قال
وسمعته نفع الله به يقول، إن تاريخ ظهوره بغي، يعني سنة ١٠١٢
(٢/٢١٧)
أقول، وممن أفتى بحرمته أيضاً، سيدنا الحبيب أحمد بن عمر الهندوان، وكان يُشَنِّع على شاربه ويكفي فيه هذان الإمامان، مع ما رأيته منقولاً، قال ناقله من تفسير المُقْنِع الكبير، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، يا أباهريرة، يأتي أقوام في آخر الزمان يداومون هذا الدخان، وهم يقولون، نحن من أمة محمد وليسوا من أمتي، ولا أقول لهم، أمة لكنهم من الشوم، قال أبو هريرة وسألت رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، كيف نَبَتَ يارسول الله؟، قال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إن الله خلق آدم عليه السلام، وأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله تعالى، { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُد إِذْ أَمَرْ تُكَ، قَالَ أَنَا خَيْر مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين} ،{ قَالَ فَاخْرُجْ منها فِإنَّكَ رَجِيم، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين }، فعند ذلك خاف إبليس فبال من الخوف، فنبت هذا الدخان من بول إبليس، فهل يستوى الإيمان في قلب من شرب بول الشيطان ولَعَن مَنْ غرسها ونقلها وباعها، قال عليه السلام يدخلهم الله النار، وإنها شجرة خبيثة انتهى ملخصاً
ورأيت ما صورته، سؤال في التتن، سئل عنه الشهاب القليوبي ،
ماذا يقول الإمام العالم العَلَم بشرب قوم دخاناً هل همو أثموا
به وهُو حرام أم يباح لهم ما الحكم فيه أفيدونا فترحموا
الجواب ،
بالحمد أبدأ وبالتسليم أستلم
اسمع جوابك يا من جاء يسألنا
فيَحرُم الشرب للدخان أجمعه
فيشغل القلب عن تسبيح خالقنا
يا ويح شاربه يوم الحساب إذا
ما قال هذا حلال عالم أبداً
من قال هذا حلال جاهل أبداً
من رد قولي هذا ضل عن طرق
فنسأل الله ربَّ العرش موجدَنا أرضى لطالبه الفضل والنعم
عن شرب نارٍ غداً في النار يقتحم
أيضاً وفيه خصال كلها نِقم
يسود الدُّمغ والأموال تنصرم
جاءت صحايفه مسودة عُدُم
قط من الإنس لا عرب ولا عجم
(٢/٢١٨)
أو قال هذا مباح لم يُصِب حِكَم
أيضا عن الحق في آذانه صمم
بلخير يبدي وبالإيمان يختتم
تم ذلك وإنما أطلنا الكلام لكونه انتشر بين الخلق، لعل إنساناً إذا سمع قول سيدنا، وما في ذلك النقل وما أفتى به الحبر الشهاب القليوبي أن يرعوي قلبه عنه ويتركه
وذكر رضي الله عنه رجلا قد مرض، فقال، إذا حلت المقادير، حارت التدابير، وليس لهؤلاء معقول يدبرون به أحوالهم، والغيار يدخل على الجسم مع عدم التحفظ في الصغر أكثر مما يحصل في الكبر، لأن الصغير جسمه ضعيف، أدنى شيء يضره، والكبير وإن كان ضعيفاً وأدنى شيء يضره لكنه فيه شدة في بدنه، مستصحَباً من حال القوة، بخلاف الصغير
وقال رضي الله عنه في قول يحي ابن معاذ في الرسالة، الزاهد يُسْعِطُك الخل والخردل، والعارف يُشِمُّك المسك والعنبر، أي إن الزاهد يشدد عليك الأمر ويتقصى في الإحتياط، ولا تكاد تسمع منه ما فيه سهولة، بل كل أموره شديدة والعارف بخلافه يسهّل عليك الأمر، وإذا رآك في غفلة أو مُصِرًّا على شهوة تركك ولا ينكد عليك ولكنه يرغبك عنه ويذكر لك الفضيلة في تركه ويستجلبك بلطف ورفق، فأي الحالين ترى موجباً لانقيادك وميلك إلى الحق، فلا يكون الإتباع إلا للثاني
(٢/٢١٩)
وقال رضي الله عنه في قول ذي النون المصري فيها أيضاً وقد سئل متى أكون زاهداً في الدنيا، قال، إذا زهدت في نفسك، قال سيدنا، يعني لأنك إنما تريد الدنيا لنفسك، فإن كانت راغبة في الدنيا مشتهية لها، فأنت تطلبها لها لتنال منها شهواتها، وتتمتع بلذاتها، وتتنعم بها، وتفعل بها هي ما تريد منها، وإن كانت قانعة بما تيسر منها، مأكلاً وملبساً ومسكناً، وغير ذلك، فتكتفي بكسرة خبز تسد بها الجوع، وخرقة تستر بها العورة، وزاوية مسجد أو في غوضة، فإنك لا تطلب الدنيا، بل تزهد فيها، فمحبتك للدنيا وزهدك فيها على حسب نفسك، رغبة وقناعة، فترى السُوَّال الذين يفرح أحدهم بكسرة الخبز لو حصلت له، في غاية من الراحة، وهم أكثر استراحة من الملوك والتجار والذين هم في بيوتهم ولو أنهم اتقوا الله لكانوا مع السابقين
وتكلم رضي الله عنه في الأعياد وذلك ثاني عشر ربيع الأول سنة ١١٢٤ فقال، ضعفت العبادات والطاعات، وقويت العادات والشهوات، كانوا إذا أقبلت هذه الأيام، والأشهر الحرم، خصوصاً سيما شهر رجب، يفرحون ويتأهبون بالصدقات وفعل الخيرات، وأهل هذا الزمان يتأهبون للأعياد ويفرحون لأجل نيل أهوائهم وشهواتهم المعروفة فيها
وذكر، إن امرأة من السادة لها ولد يعطيها نفقتها لكل شهر من التمر والحب، فاكتفت بالحب عن التمر، ولم تأكل من التمر شيئاً، وتصدقت به فدخل عليها يوماً، وذلك في آخر جمادى الآخرة فرأى عليها أثر الجوع، فدخل الدار يتشوف فرأى في زير تمراً، ورآها جاعلته ثلاثين صيما، فقال لها لم تجوعين وهذا التمر أراه عندك، فقالت إنما ادخرته لصدقة رجب، وجعلته ثلاثين لكل يوم واحد أتصدَّق به
وقال رضي الله عنه لرجل يحذِّره من أكل الصدقات إذا كانت على يده كالأثلاث ولا يخرجها لوجهها، الحذر من أكل الصدقات أو خلطها بالمال فإنها تفسد الجسم والمال وتحرقهما كما تحرق النار الحطب وتفسده
(٢/٢٢٠)
وقال رضي الله عنه، ينسب إلى الإنسان من المقامات ما يغلب عليه، ولا يتحقق بمقام إلا وقد حصل له شائبة من جميع المقامات، إذ لا يكون زهد بلا ورع وصبر وخوف ورجا، ونحو ذلك كذلك، ولم يبق عليه إلا إحكامها، وتحقيق كل مقام بما يخصه، وكلما أحكم مقاماً حصل له من القوة ما يقويه على الذي بعده، وعلى هذا
ذكر نفع الأموات للأحياء
وقال له رضي الله عنه رجل، هل الأموات ينفعون الأحياء بشيء، فقال، نعم، إنهم يشفعون لهم، ويدعون لهم، فإن أعمال الأحياء تعرض عليهم، فإن رأوه حسناً دعوا له بالثبات عليه والزيادة منه، أو سيئاً دعوا له بالتوبة والمغفرة، كما ورد والأموات أكثر نفعاً للأحياء منهم لهم، لأن الأحياء مشغولون عنهم بهَمِّ الرزق، والأموات قد تجردوا عنه، ولا لهم هَمٌّ إلا في الذكر، وفي ما قدموه من الأعمال الصالحة لا تعلق لهم إلا بذلك كالملائكة وما يعملونه من الأعمال الصالحة كالذي رئي في قبره يقرأ في مصحف وغير ذلك مما يحكى عن الأموات فالظاهر أنهم لا يثابون عليها، لانقطاعهم من دار التكليف، وإنما ذلك ليتلذذوا به كالملائكة، غذاؤهم الذكر وما ورد، إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلى آخره، أي عمله لنفسه قال ذلك الرجل لسيدنا، فهل يتعارف الأموات ويتزاورون، كما هو حال الأحياء، قال يكونون على حسب ما كانوا قبل الموت
وقال رضي الله عنه، ذكر بعضهم، إن من عجيب الاتفاق أن وقع ولادته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وموته في ١٢ ربيع الأول فشاب الفرحَ فيه بولادته الحزنُ فيه بموته عليه السلام، ولولا ذلك لكان الفرح فيه شديداً جداً
ما قال في عاشور
وأما عاشور فإنما هو يوم حزن لا فرح فيه، من أجل أن قتل الحسين كان فيه، ولم يَصِحَّ فيه أكثر من أنه يصام ويوسع فيه على العيال، ولكنه في نفسه يوم فاضل
(٢/٢٢١)
وقال رضي الله عنه، اغتنم الساعة التى تصفو لك، فإنها قل ما تحصل كل حين، ولا يحصل الصفا كل حين، ثم ذكر أحوال من تقدم فقال، كم راح ممن قد راح، وكم خلف المتقدم للخالف، أو قال السلف للخلف، ولكن كأن الله لم يرد أن ينفع أهل كل زمان إلا بأهل زمانهم
ما قال في أموال أهل البادية
وقال رضي الله عنه، أموال أهل البادية كلها بيت مال، لأنهم لا يدينون بأمور الإسلام، وإن أقروا بها، لا صلاة ولا زكاة، ولوسئلتُ عن مثل هؤلاء لم أجزم بأنهم مسلمون أو كافرون، وهذا هو محل التوقف وقول، لا أدري، لأنهم لا يقرون بالشهادة تعبداً، وإنما يقولونها بغير قصد عندما يتكلمون أو يتعجبون، ولا يفعلون أركان الإسلام، فبهذا يكاد يحكم بكفرهم، ولكنهم يقرون بها، ويعتقدون من يفعلونها، فبهذا يرجى أن يكونوا مسلمين، فظاهر أحوالهم يمنع أن يقال بإسلامهم، وباطنهم يمنع أن يقال بكفرهم، ففي مثل هذا، التوقف أسلم، لأن معهم شبهة إسلام، فلهذا حسن التوقف فيهم، ولو قد خرج المهدي لكان أول من يجاهد هؤلاء وأمثالَهم أو كما قال
(٢/٢٢٢)
واستوصاه رضي الله عنه رجل فقال له نفع الله به، إزهد في الدنيا لا تحبها كثيراً، فقيل إنهم يحبونها كثيراً، فقال، ماطلبنا منه أن يزهدكزهد الأولين، إنما نطلب أن يخفف من حبهاويقرب وكان الأولون كالشيصة الواحدة في الخِيل، وكله تمر، والناس اليوم إلا كالريع مايَلقى فيه إن كان فيه صالح إلا واحدة أو ماشي، ثم ذكر حكاية عن بعض السلف أنه سئل وقيل له، من نعامل من الناس، ومن نترك معاملته؟، فقال للسائل، عامل من شئت، ثم بعد مدة قال له، من أعامل؟، قال، عاملهم إلا فلاناً وفلاناً، وسأله بعد مدة أخرى كذلك فقال، لا تعامل إلاّ فلاناً وفلاناً، قال، وكانوا في الزمن الأول ثمراً بلا شوك، ثم ثمراً وفيه شوك، ثم شوكاً بلا ثمر، ثم ذكر ظواهر أحوال الناس فقال، ما مع الإنسان إلا الظواهر والبواطن إلى الله، وربما لو ظهر من البواطن شيء، كَدَّر الظواهر، ولا نقول في أحد إنه صالح أو طالح، فما أنت جالس في جنبه تعلم أحواله، ومن أخطأ، الله أعلم أصيبت مقاتله، ثم إنك لو اطلعت على باطنه ينبغي الستر أولاً، ينبغي أن تقول في (ولم أتَعَنَّ) بعد هذه، ولعل بعدها، أن تقول في الناس إلا خيراً، وذكر آية، قال الله تعالى، { رَبُّكُم أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } الآية، فاذكر الثمرة ولا تعرض للعمل، ولا يأخذ الله إلا بحجة { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } ومن قال، يأخذ بلا حجة فقد أخطأ، ولا يأخذ إلا بذنب، وإن كان له ذلك، ولا يعامل الإنسان إلا ربه
ما قال في خلافة الخلفاء الراشدين والرافضة والأباضة
(٢/٢٢٣)
وذكر رضي الله عنه الخلفاء الراشدين وأثنى عليهم كثيراً، ثم قال، من تأمل أحوال الخلفاء ممن له فراسة ومعرفة تامة، رأى طريقة أبي بكر وعثمان واحدة، إذ يغلب عليهما الحياء والشفقة، وطريقة سيدنا عمر وسيدنا علي واحدة، وهما على الضد من ذلك، القوة والشدة، ولما وَليَ سيدنا علي الخلافة سأل عنه أهلُ البصرة الحسنَ البصري وظنوا إنه يتكلم فيه لكونه قتل من أهل البصرة يوم الجمل، فأثنى عليه خيراً خلاف ماظنوه وأهل النصيحة من عادتهم إذا تكلموا على إنسان في غيبته، ثم حضر زاد كلامهم في ذلك، لايراعون، بخلاف المخلطين وينبغي للإنسان أن لا يتعمق في مطالعة الكتب التي فيها ذكر ماوقع لسيدنا علي من الحروب كالجمل وصفّين وغير ذلك، لأنها توغر الصدور، ولا بد مايمر عليه القليل منها في شيء من الكتب، وإن بُلِي العالِم بذلك واحتاج إلى النظر فيما ذكر، فليتوسط ولا يمعن، وإنما نظرنا فيه حين وصلت الزيدية إلى هذه الجهة، وسألونا عن أشياء فأجبناهم عنها، وكان في السائل منهم إنصاف، حتى إنه مال إلى ماقلناه، وَوَدَّ الإقامة عندنا، وكان من الزِّيَدَة بمكان، وكان متجرداً للأمر والنهي، وقالوا لنا، لأي شيء قَدَّمْتُم عَلَى أبيكم علي بن أبي طالب غيرَه، فقلنا لهم، هو الذي قدم غيره وفَضَّله على نفسه، فقدمناه نحن أيضاً وفضلناه لتقديمه له وتفضيله إقتداء به، فقالوا، إنما ذلك تقية، فقلنا، إنا لسنا مثله في قوته وشجاعته وصولته، فإذا فعل ذلك للتقية، فمن أقوى منه أو مثله في الشجاعة والقوة، فالتقية التي وسعته هو، تسعنا نحن أيضاً
(٢/٢٢٤)
وذكر رضي الله عنه أهل الرفض فقال، إنهم أهل باطل لا يُذكرون ولا يُعول عليهم في شيء، وإن كان عندهم يسير من الحق فإنهم خلطوه في الباطل، فلا يبقى له أثر، كمن يجعل زباداً في عَذِرَة، وينبغي لصاحب الحق أن يتركهم، وإن رأى عندهم شيئاً من الحق لا ينكره، لئلا يتعللون ويحتجون عليه بإنكاره ذلك القليل من الحق، فيستدلون بذلك على أن كل ما معهم حق، وأنه أنكره، وما اعتقدوا إن سيدنا علياً أولى بالخلافة، فإنه لو ولي بعد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لما كان منه إلا مثل ما كان لما ولي في وقته، ولكن سيدنا أبوبكر رضي به الناس ومنهم سيدنا علي، لسابقته وحصوله مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الغار، ولكونه صلى بالناس في حياته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهو أوصى بها باجتهادٍ لعمر، وعمر جعلها في أهل الشورى، الذين يجتمعون عليه من أحد ستة، وهو أي سيدنا علي منهم، ويكفيه فضيلة ما له من الفضائل والمزايا، وإن تأخرت خلافته فإن ذلك أيضاً زيادة في فضله، فقد كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إذا بعثه في سرية يقول، { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا} الآية، وما ذكره الرافضة من ذمه بأنه سكت في بعض الأشياء تقية، فليس سكوته فيها جبناً، وإنما هو للإبقاء على المسلمين، وكراهة منه لشق العصا بين المسلمين، وأكثَرَ نفع الله به في ذمهم والأباضة، فقال، الأباضة والناصبة أبغض إلينا من الشيعة، لأنهم يبغضون أهل البيت، وقال بعض الشيعة من أهل المدينة لبعض السادة من آل أبي علوي، ما تقول في الشيعة والأباضة؟ فقال، بعرة مقسومة نصفين ورأينا سنة حججنا رجلاً شريفاً رافضياً قائماً عند قبر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يصرخ ويقول، يارسول الله ظلمونا وفعلوا بنا، ويتنصف كثيراً، وإذا به على أمور قد سلفت منذ زمان بعيد، كما فُعِلَ بسيدنا علي وابنه الحسين، فعجبنا منه ومن طبع الرافضة الجنون، يدل عليه مثل قصة هذا الرجل، حتى قال بعض العلماء، لو أن الرافضة كانوا طيوراً لكانوا رُخماً، ولو كانوا دوابَّ لكانوا
(٢/٢٢٥)
حميراً، وتكلم في ذلك كثيراً
أقول، رأيت في بعض التواريخ، إن السفاح أول ملوك بني العباس، أول ماتولى وقف في المشاهدة لزيارة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فسمع شريفاً شيعياًواقفاً تلقاءه ويقول، ظُلِمْنا بعدك، وبُغِيَ علينا وأُخِذ حقنا، فقال له السفاح، من الذي ظلمكم وبغا عليكم وأخذ مالكم ؟ فقال، أبوبكر أخذ سهمنا من خيبر وفَدَك، فأدخله بيت المال، قال، ومن ولي بعده؟، قال، عمر، قال، فما فعل به؟، قال، فعل كفعل أبي بكر، وتمادوا على ظلمنا، قال، فمن ولي بعده؟، قال، عثمان، قال، فما فعل به؟، قال، فعل كفعلهما، وظلمونا، قال، فمن ولي بعده؟، قال، علي، قال، فما فعل به؟، فانخفض وعَرَف إنه إنما فعل مثلما فعلوا، وانكسرت عينه وأراد أن يهرب، فقال له السفاح، فوالله لولا إن هذا أول مقام قمته فيكم، لأنكلن بك، تزعم أي عدو الله إن أبابكر وعمر وعثمان ظلموكم، وإنما فعلوا كما فعل رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وفَعَل علي، قال سيدنا، وسبب تسميتهم بالرافضة، إن جماعة من أوائلهم أتوا إلى سيدنا زيد بن علي، أخي الباقر الذي تَزْعُم الزيدية إنه إمامهم، وأخذ عنه أبو حنيفة فقالوا، يا زيد نكون عسكراً معك على من عاداك، ولكن لا نتبعك إلا إن تتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال لهم، إنما أتبرأ ممن تبرأ منهما، فقالوا، إذاً نرفضُك، فقال، اذهبوا فأنتم الرافضة، فسُمُّوا بذلك من حينئذٍ، وسموا الزيدية بذلك لأنهم ثبتوا معه، لا إنهم على مذهبه، وقد كان من سابقي الرافضة رجل معه حماران، سمى أحدهما أبابكر والآخر عمر، فاتفق أن رمحه أحدهما رمحة شديدة مات منها، فلما عَلِم بذلك بعضُ السلف لعله عبدالله بن المبارك، فقال، انظروا أي الحمارين الذي رمحه، ما يكون إلا الذي سماه عمر، فنظروا فإذا هو الذي رمحه، لأن طبع سيدنا عمر رضي الله عنه الشدة والقوة، يعني في أمر الله، فلذلك قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، أرحمُكم أبوبكر، وأشدكم في الله عمر، وأصدقُكم
(٢/٢٢٦)
حياءً عثمانُ، وأقضاكم علي رضي الله عنهم، انتهى ما تكلم به نفع الله به في هذا المجلس
وقال رضي الله عنه، ما عاد في هذا الزمان إلا الملاطفة والمداراة والأخذ باللطف، ولا بد أن يدبر الله للناس ما فيه الخير
وذكر رضي الله عنه الأخطار التي عليها أهل الجهات فقال، كالهند ونحوهم، يتربى الإنسان بين السهام وفي الحروب، وما يشبههم في المخاطرة إلا الصوفية فإنهم يخاطرون بأنفسهم في أمور شديدة لا تكاد تدخل في الطاقة، وذلك لأنهم رموا بأنفسهم ولا حسبوها، فعدوها في الآخرة وإن كانوا في الدنيا، فما يظهر عليهم من أشياء غريبة من رؤية ملائكة أو سماع هاتف أو غير ذلك فكل ذلك من أمور الآخرة
وسئل رضي الله عنه عن قول الإمام الغزالي في كتاب التوبة، قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد إلا بسببٍ خفي يقتضي العفو عليه، ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضي البعد من الله إلخ، فقال، نعم، لما إن أعطاه الله التوحيد والطاعة ورَزَقَه ذلك ووفقه له، كان هذا منه تعالى لعبده من غير سبب ولا وسيلة استحق بها ذلك، وعند ترتيب المجازاة على الأعمال لا يكون شيء إلا بسبب
وقال رضي الله عنه في حديث، من التقط ما تساقط من الطعام حرم الله جسده على النار، أي للتواضع والصيانة وشكر النعمة، أي لما في ذلك من ذلك
وقال رضي الله عنه، لا تشاور إلا ذا عقل وذا سر إلا إن كان في أمر ظاهر
وقال رضي الله عنه، مَيلة الإنسان من الأمر وهو على حق خير من أن يُدْخِل يده فيه وبدنُه في البعد عنه، وباعِد الأمور إذا اضطربت ولا قام فيها والي، يصطلح فيها وجوهُ الأرض إلى أن يقوم والي، أو كما قال
وقال رضي الله عنه، بين الناس شياطين من شياطين الجن خالطوا شياطين الإنس مثل ما ترى بينهم في الأسواق في غلاء الأسعار وظهور ما يُطلب إخفاؤه، وكله من الشواغل والأمور السائغة بين الناس
ما قال في مسير الهند
(٢/٢٢٧)
وقال رضي الله عنه، مسير الهند ما هو إلا بلية عظيمة على آل أبي علوي، ما هو إلا بلية يُصبر عليها وبلية يُشكر عليها، وإلا يَسيرُ إليها صبي صغير، إيش يرجعه إلى وطنه وأهله، ما يرجع إلا إن كان حصلت عناية إلهية، وقد كان السيد أحمد باجحدب ما يخلِّي من يسافر إلى الهند يستخلف منه، ولا سار إليها السيد عبدالله بن شيخ إلا بإشارة ربانية، لكثرة ما حصل عليه من الدَّين، وقد تقدم قوله، إن على أهل حضرموت في سفر الهند دعوة ولي بلا شك، وإلا فإن أحدهم ما يصدق على الله يشوف تريم، ثم إنه ما ينشب أن رجع إلى الهند
وقال رضي الله عنه، التعلق بالخير في هذا الزمان كالمباشرة لكثرة الأشغال، لأن أمور الخير قَصْدٌ وتَعَلُّق ومباشرة ونية
وقال رضي الله عنه، الدنيا ما هي شيء، لا يعدها الإنسان إلا من قفا ظهره { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }
ما قال في البركة وقصة صاحب الدينار
وقال نفع الله به لرجل، هل بقي لكم شيء من النخل؟ يعني بعد سيل الحوت المتقدم ذكره، فقال، بقي قليل بين جماعة، فقال رضي الله عنه، القليل إذا فيه بركة خير من كثير ما فيه بركة، كما في قصة صاحب الدينار الذي سأل هل فيه بركة؟، فقيل، نعم، فأخذه واشترى به سمكة وجد فيها جوهرتين وأموال أهل الزمان ما عاد فيها بركة لعدم إخراجهم الزكاة فخالطت أموالَهم ومعاملاتِهم الفاسدة وغير ذلك، ما عاد إلا إقنع منها بالقليل
وقال رضي الله عنه، النفس قاسية رغيبة، إذا رأت الشيء لم تقنع به، لكن إذا رأته كثيراً تبارك وإن كان قليلاً، وإن رأته قليلاً ذهبت بركته وإن كان كثيراً
(٢/٢٢٨)
وقال رضي الله عنه، لا تستقل شيئاً طرح الله فيه البركة كائناً ما كان، ولا تستكثر شيئاً نزع الله منه البركة كائناً ما كان، كقصة صاحب الدينار وهو، إن رجلاً من الأمم السالفة اشتد به وبأهله الضر والفاقة، فجعل يدعو مع زوجته، أو قال، يدعو، وزوجته تُؤَمِّن، فرأى ليلة من الليالي كأن قائلاً يقول له، إن في الموضع الفلاني مائة دينار، فخذها أنفقها في حاجتك وعلى أهلك، فقال، هل فيها بركة أم لا؟، فقال، لا، ما فيها بركة، فقال، لا أريدها، فأخبر زوجته بذلك فلامته كثيراً على عدم قبولها، فقالت، كان أخذتها ننتفع بها سواء كان فيها بركة أم لا، وبقوا يدعون كذلك، فرأى القائل يقول له، في موضع كذا عشرة دنانير، فقال، هل فيها بركة؟، فقال، لا، ما فيها بركة، فقال، لا أريدها، فأخبر زوجته فلامته كالأولى، فبقوا في دعائهم كذلك، فرآه فقال له، في مكان كذا وكذا دينار واحد فخذه، فقال، هل فيه بركة؟، فقال، نعم فيه بركة، فمضى إليه وأخذه، فمر إلى الساحل ليشتري به سمكاً، فرأى صياداً يبيع سمكاً فاشترى به سمكتين، فلما أن شقوهما وجدوا في بطن إحديهما جوهرتين، كل واحدة تساوي مائة ألف، فرزقهما الله ذلك بسبب البركة من غير مظنته، إذ من أين للصيد أن يبتلع الجواهر وفي بعض ما أوحى الله به إلى من يوحي إليه، إنه قال سبحانه، ( إني أنا الله لا إله إلا أنا إذا باركتُ أدرَكَتْ بركتي السابع من الولد، وإذا مَحَقْتُ أدركَتْ محقتي السابع من الولد ) ولم يذكر الله تعالى في القرآن شيئاً من الخير إلا ذكر البركة معه، وإني تأملت في القرآن، فرأيت كثيراً ما يصف القرآنَ بالبركة، كقوله تعالى، { كِتَابٌ أَنْزَلنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ }، { وَهَذا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ }، وعلى هذا
(٢/٢٢٩)
وأوصى رضي الله عنه رجلاً يريد السفر، فقال له، الله الله في الطاعة والهمة وطلب الدِّين والآخرة فإن من سعى في طلب الدين والآخرة يسر الله له دنياه، ومن سعى في طلب الدنيا وترك دينه وآخرته فاتته الدنيا والآخرة، وقد انقلبت همم الناس اليوم إلى ما لا يُهتَم له، واستغرقوا فيما لا يُستغرق فيه، لأن كل أحد إنما يستغرق فيما يهمه خاصة، وكلٌّ يَهمه ما لا يَهم غيره على مقتضى غرضه، قَلَّ ذلك أو كَثُر، وقد جعلوا الآن هَمَّهم هَمّاً واحداً، وهو طلب الدنيا حتى استغرقوا في ذلك عن أمر دينهم وآخرتهم، ولولا أن الله منَّ على الناس بالحزب، لذهب بهم إستغراقهم حتى لا يعرفوا يوم الجمعة
ذكر الهارات
وذكر رضي الله عنه الهارات وهي أوقات الوبا، وكثرةَ الموتى فيها فقال، قد مات على ما أحصوا خمسمائة، وسمعت من يقول، توفى ما بين العيدين عيد الفطر وعيد الحج نحو أربعة آلاف من أهل البلد ومن غرباء وبدو وذلك سنة ١١١٥ وكانت هارة شديدة، ثم قال، وكل يحب سلامة نفسه، ويسعى في منفعتها إلا إنهم مختلفون في القصد، منهم من يقصد التنعم ومنهم من يقصد الطاعة ومنهم من يقصد المعصية ولا بد لكل من الموت، تأخرت المدة أو تقدمت، إذا لم تبك عليهم بكوا عليك، ولكن إذا كان مع الإنسان عبرة ينبغي أن يتسلى، لئلا يتغير عليه أمور دينه ودنياه، وما بقا الإنسان إلا كمن قال له واحد، إني أريد أن أقتلك فقتل من قرب منه ولامَسَه فتعجب من ذلك ثم ظهر عليه أثر القتل كمرض ونحوه فاشتد خوفه، فإذا صح نسي ذلك، وقال، عسى يتركني
(٢/٢٣٠)
وقال رضي الله عنه، ينبغي أن يأخذ مع أهل الزمان في تعريفهم الصواب بالتعريف باللطف والبيان، وأن لا تتعدى من هذا الطرف إلى الطرف الآخر، ولا عاد معنا لهم بيان ولا صبر ولا حوصلة، وهم كمن هو مائل عن الطريق ذراعين، فأردته أن يميل الذراعين حتى يقوم على الطريق فقفز أربعة أذرع، حتى يصير مائلاً عنه ذراعين في الجانب الآخر، ما شَبَهُهُم إلا كذلك، إلا القليل من أهل العناية، لأن الزمان مدبر، وأهله مدبرون، ويعسر تعريفهم الصواب، ولا لهم بصائر، ولا يَستخرج العلمَ إلاَّ هِمَمُ الطالبين، وما يستخرجه تقرير المعلمين، ولكن يأخذ الإنسان بالقليل من الخير ويحسنه، فما ذلك بقليل، وذكر السيد فقال، إذا كان في بلد أو قبيلة من يُستحيى منه فيرجى فيهم الخير
وقال رضي الله عنه، كل شيء له أسباب كثيرة فإن أسبابه وإن تعددت تكون فروعاً لأصل واحد، هو أصلها، وترجع جميعها إليه في الخير والشر، فإن كان شراً وأراد قطعها فليقطعه إن أراد الله به الخير وذلك بتحكيم شيخ محقق أو أخ صالح مشفق ناصح، وإلا لم يسلم من دسايس نفسه أبداً، ولو فيما هو صحيح في اعتقاده، فقد قال الإمام الغزالي، إن الإنسان لا يمكنه تعذيب نفسه، ولو كان ناصيته ورأيه بيد كلب لكان أنفع له من كون ذلك إلى نفسه
وقال رضي الله عنه، إن الأكابر لم يأمروا أحداً ولا ينهونه إبتداء منهم أبداً، حتى ما يُطلب منهم أن يروا له ما هو الأصلح والأنفع له، فقلت فإن طلب منهم أن يكون تحت نظرهم، فقال، يعطونه كلمة واحدة تكفيه، قلت، فإن سَلَّم نفسه إليهم وطلب منهم أن يتصرفوا فيه بما أرادوا، فقال، ذلك له حكم
وقال رضي الله عنه، ما يستقيم للأولياء أحوالهم إلا بترك الحظوظ في بداياتهم ونهاياتهم
وقال رضي الله عنه، إذا لم تقدر تمشي على الطريق مع من يمشي فكن منهم قريباً ولا تبعد عنهم، فتميل عنه وتضيع
(٢/٢٣١)
وقال رضي الله عنه، الإيمان إذا باشر القلب يكون هو اليقين
وقال رضي الله عنه، وكل من الأكابر غير أهل البيت لا بد لأحدهم علاقة وبركة من أحد من أهل البيت
وقال رضي الله عنه، ما كل أحد يستيقظ ولا كل أحد يسير أي إلى الله ، ولا كل أحد يصل، وكل الناس يسيرون، إلا منهم سائر إلى الجنة، ومنهم سائر إلى النار، حتى إنه ما يموت أحدهم إلا وهو على باب النار
وقال رضي الله عنه، القطبانية في خصوص وعموم، قد يكون قطب أهله، أو قطب بلده، فقد قال الشيخ عبدالرحمن أي السقاف في ابنه الشيخ عمر، وجدنا عند عمر أسراراً ما كنا نظنها عنده، فقال الشيخ عمر، أَوَ قد أحاط بجميع أسرار الله، وكان صاحب مجاهدة
وقال رضي الله عنه، لابد في الإمام المقتدَى به من السيرة والسريرة والصورة، فالسيرة، الطريقة، والسريرة هي حسن الخلق، أن لا يكون فظاً ولا غليظاً ولا وحشاً
وقال رضي الله عنه، الجهال صغار العقول لا تجالسهم فإنهم كالنار، ولا تَج في طريقهم، وتنح منهم مثل ما تنحى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من أبي جهل وأمثاله، إلا إن أولئك كفار، والجاهل ما يرجع من شيء
وقال رضي الله عنه، ينبغي أن يترك السوءَ وأعمال السوء من أول مرة لئلا تتحكم فيعسر إذ ذاك تركها، وقد جعل الله لك على نفسك بصيرة، وجعل لغيرك من أولي البصائر عليك بصيرة، حتى ينتهي ذلك إلى العلماء، ثم إلى الأنبياء، ثم إلى الملائكة، ثم إلى الله تعالى، ثم تكلم بعد ذلك في التنباك فقال، الأصح أنه يَحْرُم، إلى آخر ما قدمناه
وقال رضي الله عنه، الإحسان إلى الجار، بالإحسان إليه وكف الأذى عنه والصبر على أذاه
قف على هذه المقالة
وقال رضي الله عنه، ربما يصل إلى الجهة أجنبي، فيرى أموراً فيتعجب أن يكون هنا من يؤبه له مع وجودها، فنقول كما قال سيدنا علي لما اختلف عليه أهل العراق فقيل له، إنه يقال ليس لك رأي، فقال، لا رأي لمن لا يطاع
(٢/٢٣٢)
وقال رضي الله عنه، لا أنفع في هذا الزمان من البكاء والإستغفار، ومن معه خوف من الله في الدنيا آمنه في الآخرة، وبالعكس، ولا بد من خروج العرق والدموع، فإن لم يخرج ذلك في الدنيا خرج في الآخرة، قال الله تعالى، (( وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، وإن خافني في الدنيا أَمَّنْتُه في الآخرة ))، كما أخبر بذلك عنه نبيه عليه السلام، وقيل في قوله تعالى، { أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون }، أي لأنهم خافوا وحزنوا في الدنيا، فلا يعاد عليهم ذلك ثانياً، فينبغي للإنسان أن يتوب ويتقي ويخاف، وعسى الله
وقال رضي الله عنه، إذا خرجت الموعظة بجد وصدق مع معرفة مقاطع الكلام، وعدم التشكك، والوقف حيث ينبغي أن يقف عليه، نفعت، وإلا شوشت ولم تنفع
وقال رضي الله عنه، السير على الطريق العام على الإقتداء بالنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مليح، وفيه بركة، وإذا الإنسان دام عليه وتمسك به يحصل له خير مما يحصل من الخلوة، ومر في القراءة كلامٌ للشيخ حاتم الأهدل، فقال سيدنا، العارف إذا وصل إلى هذه المثابة، يعني التقييد بالحقائق لم يُنتفع به، وإنما يُنتفع به ما دام متقيداً بأمور المعاملة، وكذلك الشيخ علي بن عمر من أهل الحقائق، ولا يخلو هذا الأمر من ظاهرِين فيه ومن خاملين، ثم ذكر القطب، فقال، قال بعضهم، الأقطاب أربعة، قطب الأحوال كأبي يزيد، وقطب المقامات كالشيخ سهل بن عبدالله التستري، وقطب العلوم كالإمام الغزالي، وقطب الحق كالشيخ أبي الحسن الشاذلي
وقال رضي الله عنه، ربما حصل إساءة أدب، فتقل الحظوظ بسبب ذلك، وإذا أحد أقل الأدب فأحسِنْ أنت الأدب حيث يُحتاج إلى حُسْن منهم
(٢/٢٣٣)
وقال رضي الله عنه، لا ينبغي للجماعة المجتمعين في أماكن متقاربة أن تضيق صدروهم فتضيق بهم أماكنهم، وإذا وَسِعَت صدورهم وسعتهم أماكنهم
وذكر يوماً رضي الله عنه الأمر الخارق للعادة، وكان ذلك ضحى يوم الجمعة ١٣ محرم سنة ١١٢٧، و٦ في نجم النثرة وكان طالعاً إلى البلاد راكباً على حمار لما ماتت فرسه، فقال للخادم عكيمان، هل أنت واثق على هذا الحميِّر في طعمه وسقيه، قال، نعم، فقال له ولمن هو مسايره، لو تكلم الحمار، فقال، لا ما هو واثق علي، مَن أول من يشرد منكم؟، فقال عكيمان، أنا، فقلت، وهل يفزع الإنسان إذا تكلم نحو الحمار، فقال، نعم، لأنه خرق عادة، فقلت، هل الخارق للعادة لا يحصل لأهله إلا مع غَيبة، فقال، نعم، في حالة تسمى السبات وهي مرتبة بين الوحي والحس، لا ترتقي إلى درجة الوحي ولا تنزل إلى مرتبة الحواس قلت، فما صفة تلك الحالة، فتبسم وسكت ساعة، وهذه عادته إذا سئل عما لا يشتهي السؤال عنه، أو لم يكون السؤال موافقاً ثم قال، ما لم يُكَيفوه لا نُكَيِّفه نحن، لأن ما كُيِّف نزل، فلأي شيء تُضرب الأمثال، ما تُضرب إلا لمثل ذلك، إذ ما كل كلام له جواب، وقد سأل بعضُ الجهال بعضَ العلماء، متى يجد الإنسان لذة النوم، فسكت، وقال، إن قلت قبل النوم فليس بنائم، أو بعده فليس معه حس يدرك به اللذة، ثم تمثل بهذا البيت ،
ما كل قول له جواب جواب ما تكره السكوت
ثم قال، والأحسن أن يقال، يجد لذة النوم حالة النعاس، وهي أوله، والإنسان معه بعض شعور عند ما يتشكك، فانظر كيف أول هذا مزح، ثم انجر إلى هذا الكلام العجيب
(٢/٢٣٤)
والتقاه رضي الله عنه خارجاً من البلاد إلى الحاوي رجل بماء لينفث فيه لجملة ناس مرضى في وقت بارد، فقال، لا ينبغي أن يُداوى في وقت البرد إلا بكل حار، وكذا في كل فصل بما يخالف طبعه، إلا إن كان طبيب حاذق يرى خلاف ذلك، إذ قد استحبت الأطباء حتى في المأكولات أن يكون في الشتاء مثلاً حيث طبعه بارد رطب، أن يكون المأكول حاراً يابساً، والربيع حيث طبعه حار رطب، أن يكون المأكول بارداً يابساً، والصيف حيث طبعه حار يابس، أن يكون المأكول بارداً رطباً، والخريف حيث كان طبعه بارداً يابساً، أن يكون المأكول حاراً رطباً، وهكذا إذ مداواة كل شيء بضده هو الدواء الكلي، إلا إن رأى طبيب خلافاً في شيء من جزئيات ذلك
ما قال في الجنون
وذكر رضي الله عنه الجنون فقال، الجنون له مواد كثيرة، مواد من فوق، ومواد من أسفل، فإذا رأيت المجنون ذا خزعبلات فهو من مادة أسفل، وإذا رأيتَه كثير الذكر ونحوه، فمادته من فوق، وقالوا، الجنون فنون أي أنواعه كثيرة ومواده كثيرة
وقال رضي الله عنه، الجنون فنون، وما هو فن واحد إلا العقل، وكل له منه نصيب، ممن له منه جزء وجزءان أو أزيد أو أقل، ولا كَمُلَ فيه إلا رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وترى الإنسان عليه ثياب وعمامة ولا عقل معه، لأنك إذا تأملت أفعاله لم تكن من أفعال العقلاء
وقال رضي الله عنه، ربما إن أحداً من المجاذيب المجانين يجتمع ببعض الشياطين، لأنهم ما يميزون بين الإنس وغيرهم، فإنا نسمع منهم مايدل على ذلك
وقال رضي الله عنه، الجنون مرض عقل، ومنه المطبق، ومنه الذي يرد أحيانا كمرض الجسم وهو على أنواع شتى كما قيل، الجنون فنون، وأما الحمق فنوع واحد، ونهايته بداية الجنون، وهو أشد منه على الناس لأن المجنون كُلٌ يحذر منه، والأحمق فيه شائبة من عقل
(٢/٢٣٥)
وصافحه رضي الله عنه رجلان أخوان، يقال لهما أولاد - أظن- محمدبن شبانة، فسألهما من أين أصْلُكم، قالا، أبوهما جاء إلى هنا من نجد، وقبلها كان جدهما من الحساء، من آل شبانة المعروفين من عامر، فقال أحدهما، ادع لفلان فإنه عاده برأسه يعني له وفرة، فقال سيدنا، الشَّعَر مليح، إلا إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أمر بتعهده، وكان عليه السلام عليه شعر ما حَلَقَه إلا في حجته، والسر في التقوى، إذا وجدت صلح كل شيء وإذا فقدت التقوى فسد كل شيء
وقال يوما رضي الله عنه وهو في الضيقة خارجا لصلا ة الظهر، من الذي ُيدخِل المصلَّى يعني السجادة، بعد ما نقوم من الراتب، مع علمكم بأن صلاة الصبح تكون خارجاً، إذ لا معنى لإدخاله ثم إخراجه للصَّلاة فليخدم الإنسان بجميع أفعاله المعاني المطلوب الفعل لأجلها، لأن من فعل شيئاً لا معنى له كان فعله سدى بلا فائدة، فالحاصل أنه يتعين أن يخدم بجميع أفعاله وأقواله معانيَها التي لأجلها يقول ويفعل، ولا يقول ويفعل ما لا معنى له، والا صار سعيه ضائعاً وعمله خائباً، فراعوا ذلك في كل ما تقولون وتفعلون، أو كما قال
وصافحه رضي الله عنه بعض السادة فتوسم من حاله، فقال، كان أهل المروات إلا يعينوهم الناس، عكس ما عليه الناس اليوم، والخير والتقدير كلاهما مأمور به وإلا فإن مددت يدك كثيراً تعلقوا بك، فانظر إلى فلان تمره في كل مكان، وهم يقولون بخيل، وقد قال الله تعالى، { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ}
(٢/٢٣٦)
وقال رضي الله عنه، خلق الله كل شيء، وجعل تحته حِكَماً، وفي مقابلته حِكَماً، فخلق السماوات والأرض وغيرهما حتى انتهى الأمر إلى الشيطنة، فإن من خصال الشيطان ما لا يقبل الحق مجرداً، إنما ينفع فيه السيف، فرسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لما قاتل أهل بدر، لم َيدْعهم، إنما قاتلهم بالسيف فقط، وإنما كان دَعاهم قبل ذلك، وبعض الحجج الباطلة ما يقطعها إلا السيف، ولا يُناظَر صاحبها إذ لا تفيد فيه المناظرة، لأنه ينجر من شيء إلى شيء، والطرائق المسلوكة إلى الله كثيرة، منها عامة ومنها خاصة، ومنها ظاهرة ومنها باطنة، ومنها جلية ومنها خفية، وكلها مسلوكة إذا سلكها الإنسان وثبت عليها ومال منها قليلاً يمنة أو يسرة ثم رجع إليها، وإن لم ير السائرين، بأن بعد عنهم وجعل يتبع أثر أقدامهم، وأما إذا راح يسير على الشخر تضررت رجله وانقطع ولم يصل
ذكر مرضه الذي في سنة ١١٣٠
ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين العيدروس، وكان معه نفع الله به حمى، وذلك في مرضه سنة ١١٣٠، فقال سيدنا، الحمد لله حصلت العافية، أو العافية حاصلة، وإنما هي حمى خفيفة، قد كنتُ أحسستُها ولكن كنتُ أخفيها، قلتُ، إذا أظهرتُها تبقى لها صورة، وإذا كان الإنسان يروح ويجيء ويقيم صلاته ولو معه أمراض خفية ما يخالف، وإنما المرض ما أقعد الإنسان، وقد لي نحو سنتين ما أصلي إلا وأنا ماسك بالحائط، من سنة ١١٢٧ ومنذ مكثت في الدار لا أخرج، أصلي جالساً، واسترحت بذلك، والعافية من الله سبحانه، والعبد ضعيف، وفي بعض الاحاديث، إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جعل يصف الحمى لرجل، ثم قال له، أتريد أن أزيدك من وصفها، قال، لا، لو لم يكن إلا ما ذكرتَ أو قال، يكفيني ما ذكرتَ
(٢/٢٣٧)
أقول، ولما كان به الحمى في ذلك الوقت كان معي أيضاً حمى، وكان مع ما به نفع الله به، كثير التحنن عليَّ والسؤال عني، فرأيت مرة وأنا تلك الساعة معي منها شدة عظيمة، كأني حامل سيدي على ظهري، وأمشي به فاعترضني في طريقي نوف مرتفع، وأردت أن أصعد به فلم أقدر، فحاولت الصعود مراراً، حتى في بعض المرات تعلقت بذلك المكان المرتفع، حتى صعدت به وهو على ظهري ثم سرت أمشي به، ثم حصلت العافية له وَليَ بحمد الله
ودخلوا عليه يوماً رضي الله عنه عائدين له في هذا المرض، فبعد ما اطمأن بهم المجلس، قال، الحمد لله العافية حاصلة، وعافية الكبير إلا على قدرها، ولو هو إلا من حيث الشواغل لو أراد شيئاً أو أراد أحد منه شيئاً، وشيء من الشواغل من حيث الحقيقة، وشيء من حيث العادة
(٢/٢٣٨)
وسأل رجلاً من الحاضرين من الذين يقرءون في الليل في مسجد السقاف، متى تقوم لقراءة السدس؟، ثم قال، ومع الكِبَر الإنسان لا يستوفي نوم الليل كله، ولا أَكْلَهُ كله، وقد يكون ذلك إما لِكِبَر أو لعادة، والشاب لا يكفيه ذلك، بل يريد نوم الليل كله، وينام في النهار ويأكل أكثر من العادة، وقد قيل، إن خلاك الموت ما خلاك الكبر، والحاصل، إن الدنيا دار عقوبة منذ خلق آدم، فبقي ذلك في ذريته، خَلَقه للمثوبة فراح يدور للعقوبة، وإلا فما أحد يخالف الحبيب ويطيع العدو، { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } فدخل بعض السادة أهل الهندوان، من مشطة بأسوكة، فوضعها بين يديه، فقال لي، أتطيق تقسم الأسوكة؟، قلت، نعم، فأعطانيها، فاشتغلت بتقسيمها عن باقي كلامه، ثم دخلوا عليه مرة أخرى، كل ذلك عيادة له في مرضه ذلك، وكنت أنا معي أيضاً حمى، وما تعوقت بسببها عن حضور مجالسه، من فضل الله، فدخلت عليه معهم، ولما صافحته قال عساك أشكل فقلت، بخير، فقال نفع الله به، مسكين الحاج وكلنا ذلك المسكين، ثم قرأ هذه الآية، { سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } الآية ثم ذكر هارة شديدة حصلت سنة ١٠٣٠، قال ما أحصي من مات فيها لكثرتهم، وفيها مات الشيخ أحمد بن الحسين العيدروس، ثم قال لي، أتطيق تنشد، هات ما تيسر، ولو سبعة أبيات، فأنشدت بقصيدته، ( لجيران لنا بالأبطحية ) إلخ وبعدها قرأ الفاتحة وخرجوا
(٢/٢٣٩)
ودعاهم مرة رضي الله عنه للدخول عشية يوم التروية، وهو ثامن ذي الحجة الحرام، فدخلوا عليه، فلما اطمأن بهم المجلس، جعل يتكلم فكان كلامه كأنه تَنَفُّس كالفاقد لمجالسه المعتادة، والمتعطش لجريان المذاكرة بعد انقطاعها، فمما تكلم به، وما نسيته أكثر، وهذا أيضاً على مقتضى ما فهمته، مع ضعف حفظي وركاكة فهمي، بعد ما صافحه صبي فسأله من هو، فأخبره، فقال له، بارك الله فيك، ثم ذكر إن بعضهم قال، ينبغي إذا أراد أن يقول لأحد بارك الله فيك أن يقول، بورك فيك لئلا يكثر ذكر اسمه تعالى في كل لفظ، وفي كل محل غير لائق، فيكون شبه الإخلال بالحرمة، وكذلك الإتيان به في الألفاظ المذمومة كأخزاك الله، ونحو ذلك إذ كثرة تكرر الإسم الشريف فيها، يخل بالتعظيم الإلهي، ويعرف ذلك من حيث العلم الذوقي، أو العلم الكشفي، ولكن لا يفهمون بكثرة التعليم
وقال رضي الله عنه، ينبغي أن يُحْسِن الإنسان جانب الربوبية أولاً، ثم جانب النبوة ثم جانب العلماء العاملين، ثم جانب أولياء الله لأنهم خاصته، ولا يعترض على أحد ويخصصه، والإمام الغزالي مع كثرة ما اعترض على علماء السوء لم يخصص أحداً بذكر
وقال رضي الله عنه، وقد تُعَوَّج الألفاظ في ألسنة العامة فيقلبونها ولا أحد ينكرها عليهم، فيحتاجون إلى تعليم، (( وقد جاء رجل إلى عند النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال، عليك السلام يارسول الله، فقال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، عليك وعلى أمك )) الحديث، وألفاظ كثيرة لكثرة الاعتياد ما يحس الإنسان إلا وقد وضعها في غير محلها بحكم الاعتياد كألفاظ الطهور والخلاء وقد يقع لي أنا هذا كثيراً
أقول، يعني من كثرة مواظبته على الأذكار المختلفة باختلاف الأحوال، قد يأتي نفع الله به بذكر موضع في موضع آخر غير موضعه، فكثيراً ما أسمعه إذا دخل البيت يأتي بأذكار دخول المسجد، ومثل ذلك كثيراً
(٢/٢٤٠)
ثم ذكر رضي الله عنه صبر أهل العلم على العامة، فقال، وأهل العلم والدين يصبرون وذلك شرط، وقد يكون إما ابتلاء أو طلب فائدة، فالإبتلاء كمن ُيبتلى بأحد سيء الخلق في جامع أو مجلس تعلم، أو صحبة سفر، كما في قصة الرجل الذي صحبه في سفر رجل سيء الخلق، فجعل يصبر عليه مدة ما هو معه، حتى إذا فارقه جعل يبكي، فقيل له، ما يبكيك؟، قال، أبكي على صبري عليه مدة، ثم فارقني، وبقي خلقه معه، ثم أمر رضي الله عنه بإدارة دخون، ثم قال لمنشد، أنشد حتى يُفرغ من الدخون، وبعد النشيد قال للمنشد يمازحه، هل يمكنك لو قال لك أحد، هيا نروح نحج، ولكن بشرط أن لا تخبر أحداً أيمكنك تسكت، فسكت، فقال نفع الله به، لا لا، أستغفر الله، ولو حتى رؤيا إلا إن قال لك، إن أخبرت أحداً تموت فلعل أن لا تخبر أحداً، ثم قال، ما ندري أين جاء خبر بيت الشريف في اختلافهم، ما هو إلا لكونهم قرابة وإخوان، فالإختلاف غير لائق بل ينبغي أن يقول، الذي يقع لي يقع لأخي، ثم قال، وقد رأيت قبل أن تحصل لي الحمى، كأني قائم تحت الكعبة عند الحَجَر، وكأني أمس محله أملس ليس فيه كسر، ولكن نفس الحَجَر ليس موجوداً، فقال له السيد عقيل باعقيل، ماذا أولتوها، قال، ما أولناها بشيء لأن التأويل سمح يقع ذاك إلا في الزمن الأول إذا أولت تأخرت مدة وإنما نؤولها بأمر حادث ثم قرأ الفاتحة ودعا، فلما ختم الدعاء قاموا يصافحونه، وفي جملتهم جماعة كانوا مرضى، فسأل كل واحد منهم كيف أنت، فقال، بخير، ثم قال رضى الله عنه، لُون عَرفة إلا بايصحُّون لها الناس، سبحان الله، على بالك أن الناس هنا يقولون عرفة حتى الضواون ما تأكل فيها اللحم
(٢/٢٤١)
أقول، وهذا من كلامه في المزاح رضي الله عنه ونفع به، وهذا آخرُ دخول عليه بنية العيادة من مرضه الحاصل عليه في سنة ١١٣٠ وأفسحُ مجلس في المجالس المذكورة، ثم مَنَّ الله ببروز طلعته البهية، وظهور غرته السنية، خرج إلينا ليلة العيد إلى المصلى، فتَيَمَّنَّا بنفحة ريَّا مرأى رؤية وجهه البهيج، وحصل لنا برؤيته خيرات كثيرة وفوائد منيرة، وانطفت عنا حرقات الغرام المهيج
بغرته قد أودع الله أربعاً
تَسَلٍّ لمهموم وأمنٌ لخائفٍ نشاهدها كالشمس عند التأمل
ورشدٌ لذي غي ويسرٌ لمقلل
(٢/٢٤٢)
خرج بعد ما أتموا ربع القرآن، دخل وهم يكبرون عند تمام حزب آخر الأنعام، إذ هو مرتِّب لهم في إحياء ليلتي العيدين التكبير عند تمام كل حزب تقييداً للتكبير حيث هو مطلق، فقيده بذلك خوفاً أن يترك بمرة، وابتُديء من (الأعراف) بحضرته، وبقي جالساً في حلقة القراءة إلى أن وصلوا مقرأ وما تكون في شأن (من سورة يونس)، ثم قام، ودخلوا عليه ضحوة يوم العيد للمعاودة كما هي العادة في مثل هذا اليوم، ثم استأذن جماعة أخرى ليهنوه بالعيد، فأذن لهم وأمر لهم بقهوة، وما كان أمر بها في تلك المجالس المتقدمة للعيادة، ثم مكثوا قليلاً بعد القهوة ثم قرأ الفاتحة ودعا، ثم خرج من أتى بعد، وبقي من كان حاضراً قبلهم، فقال رضي الله عنه، أبداً ما تخلفت عن شهود صلاة عرفة إلا هذه المرة، لقلة الإختلاف فيها، وعدم اتفاق مرض في هذا الوقت، وأما صلاة عيد الفطر فتخلفنا عنها ثلاث مرات، غالبها بسبب الإختلاف وخطاهم في رؤية الشهر، فمرة أفطروا ولم نفطر ولا حضرنا الصلاة ولكن أمرنا النساء والصغار من أهل بيتنا بأن من أراد منهم أن يصوم أو يفطر هو بالخيار، ومرة أفطرنا، ولكن لم نحضر العيد لحصول الشبهة، ولكنها في هذه المرة (سنة ١١١٨ هـ) ضعيفة، وفي الأولى قوية (سنة ١١١٦هـ) ومرة تخلفنا فيها لبقية مرض كان حصل معنا وهو (سنة ١٠٧٠ هـ) وهذا أخف أمراضنا (أي سنة ١١٣٠ هـ) وإلا فقد مرضنا سنة ١٠٧٠هـ مرضة شديدة جداً، ونحن إلا في لطف كبير، وإلا فكم ناس من الأكابر يمكث الواحد الشهرين وأكثر وهو غائب لا حس معه، وأنا أود أن أخرج أكثر من هذا والمشي أيضاً يسهل علي، وإنما يشق الركوب، ولكون الناس يناتفون الإنسان مثل سارق عينات في نوف وعلى الفرس، فيَشغُلون وإذا عُلّم واحد ما تعلم غيره، وأهل الأرض هنا عامة وجلفان، فقيل له، إنه كان يكفيهم الرؤية بلا مصافحة، قال، ويا الله إن وقع لهم منا هذا، ولكن ما عاد معنا إلا الصبر عليهم، والأمور
(٢/٢٤٣)
إن شاء الله إلا جميلة
وبينما هو نفع الله به في آخر هذا المجلس، إذ قيل له، هنا جماعة يستأذنون، فقال، قولوا لهم، إنه أبطأ به المجلس وهو جالس فَوَعْدُكم العصر إن اتفق ذلك منا ومنكم، فلما كان العصر حشدوا وتجمعوا، فلما أُخبِر بهم أمر لهم بقهوة، وأذن لهم بالدخول، فلما اطمأنوا جالسين قال، المعاودة هذه ما لها أصل في السنة، وإنما هي بدعة حادثة، ولا يعرف لها ذكر إلا إن كان في الآداب، وإنما السنة عيادة المريض، وقال، ما قطع الناس عن الناس بالمواصلة في هذا الزمان إلا التكلف، وقال، ثلاثة أوقات، الناس يتواصلون فيها طوعاً أو كرهاً، الخريف ورمضان وعرفة، والعوائد شيء منها للنسوان، وشيء للرجال، وساداتنا آل أبي علوي أمورهم إنما هي مرتبة على السنة والعوائد الحسنة، ومن خرج منها فهو قليل خير، ثم أمر منشداً فأنشد بقصيدة فيه مُدِحَ بها، وفيها تهنئة له بالعيد، وهي للشيخ عبدالرحمن باكثير، ساكن الشحر أولها ،
الحمد لله الذي عم الورى بالجود والإفضال والنعماء
إلى أن قال فيها ،
إنا نهنيكم بعيد أكبر مع جملة الأهلين والأبناء
فلما فرغ منها سأله لمن هي، فأخبره، فقال، نحن ما نستثقل أو قال، نكتئب من هذه الأشياء لأن ما وقع لنا طرحناه في بحر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقيل له، الحمد الله حيث خرجتم البارحة فقال، نعم، نقول عسى ساعة قبول، أو ساعة رحمة، والدنيا سموها ساعة فهي ساعة، لا ينبغي أن تُجعل إلا في طاعة، وما بعد هذه الساعة إلا ساعتان، إما ساعة نعيم دائم، أو ساعة عذاب دائم، ثم قرأ الفاتحة ثم دعا ثم خرجوا، وكل من أتى زائراً أو معاوداً أو لغير ذلك، لا يرجع بل يأذن في الدخول، ويعطيه من المجلس والجبر كما يريده ويأنس به
(٢/٢٤٤)
ثم خرج نفع الله به لصلاة العشاء ليلة الجمعة ثاني عشر من الشهر وحضر من الذكر ما كان يعتاد يحضره غالباً قبل ذلك، وهو نحو ثلثيه، تَعَوَّدَ ذلك في هذه السنة أو قريباً منها قبل مرضه هذا، فإنه هذه الأيام قد يحصل له عذر، وقد يحضر كل المجلس ولا يقوم إلا بعد انقضائه بعد أن يقرأ الفاتحة، ومنذ حصل عليه هذا المرض، ما تقدم لصلاة إماماً بل يقدم أحد العيال، ولا صلى إلا قاعداً سوى الركعة الأولى حيث تقام الصلاة إذا دخل
(٢/٢٤٥)
ودخل عليه رضي الله عنه ضحوة يوم هذه الجمعة جماعة معاودين، فانبسط لهم وتأنسوا عنده، وعشيته دخلوا حاشدين معاودين، على عادتهم في الكثرة إذا دخلوا عليه في هذا الوقت، وأمرني بالإنشاد فأنشدت بقصيدته (خلها تجري بعين الله) إلخ، و (بمرحباً بالشاذن الغزل) إلخ، ثم قرأ الفاتحة وليلة السبت خرج لصلاة العشاء، وبعد الفراغ من قراءة يس، قام وأمر بشد الفرس، فركبها إلى البلاد إلى بيت آل فقيه للمبيت على عادته، فلما صعد الدرج وبلغ السطح، كأنه تعب في الدرج، فقال، الكِبَر قده مرض، فما حصل معه من مرض فهو محاوش له، ثم بات نفع الله به عندهم، وظل ذلك اليوم إلى العصر، كما هي عادته أن يبقى عندهم آخر أيام التشريق، وبعد أن صلى العصر خرج إلى الحاوي، ودخلوا عليه عشية الأحد، وفيهم كثرة فتكلم كثيراً في أحوال الناس خصوصاً وعموماً، ثم قال، لا عاد تدعو إلا بالصلاح، فإنما العزيز اليوم إلا الصلاح، وأما الدنيا فلا عبرة بها، فقد تكون عند أقوام، ثم تنتقل عنهم إلى آخرين، فلا ينبغي أن يحرص الإنسان إلا فيما يرضي الله ورسوله، فكلما كان لله ورسوله فما منه بدل، وكلما أخلصتَ في ذلك فهو العمدة { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِص } { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين } وكل شيء فهو في القرآن، إلا إن الناس ما علموا معناه، وقد قال الفضيل بن عياض، لو علمتُ من القرآن أولاً ما علمته منه اليوم، لما كتبت الحديث، يعني إنه انكشف له من معاني القرآن آخر وقته ما لم ينكشف له أولاً، ثم قرأ الفاتحة بلا نشيد، ثم دعا وصافحوا وخرجوا، ثم دخلوا عليه رضي الله عنه عشية الاثنين في ١٥، وفيهم كثرة كالتي قبلها، فشكا إليه رجل ضيق الحال، فقال، ما عاد معك اليوم إلا الرضى والتسليم، لكن بشرط موافقة الأمر، فإذا وافق الرضا بالقضاء والقدر، ثم أمرني بقسمة أسوكة، فبقي يتكلم ولا
(٢/٢٤٦)
عقلت منه شيئاً، ثم أمر منشداً فأنشد بقصيدة تنسب للشيخ أبي بكر العيدروس (أغالب دهري حينا وحيناً يغالب) ثم قرأ الفاتحة وخرجوا
ودخلوا عليه نفع الله به، عشية الجمعة في ١٩ فكان غالب كلامه في الناس الذين أدركهم وكان يعرفهم، وفي الأماكن التي كان يتردد إليها ويألفها أيام طلبه ووقت شبابه، حتى ذكر محلاً كان فيه حَسارة، قال هل هي باقية فقيل لا ولكن محلها معروف ينسب إليها يقال له محل الحسارة، ثم ذكر جماعة ممن كان يعرفهم ويألفهم، فممن ذكر رجلاً من السادة اسمه أحمد عيديد، كان عالماً فاضلاً وله اطلاع على العلوم، وذكر من أحواله أشياء، وذكر له في "المشرع الروي" ترجمة مطولة، وذكر غيره أيضاً قال، كل هؤلاء كانوا بين الستين إلى السبعين، وكانوا كلهم متواقرين ومتناصرين ومتعاونين، وما أحد يشح على صاحبه في مثل أمور الدنيا، فإذا مال أحدٌ منهم قام عليه صاحبه بالأمر بالمعروف، ثم قال، وكم أشياء كنا نعرفها ما عاد يعرفها أهل الزمان، فإنه كم وجوه راحت ثم ذكر خربطة هؤلاء المفتونين وسوء أحوالهم فقال، لا هم لهم نسبة إلى الدين ولا إلى أهل مروءة، فلا ينسبون إلى أهل صلاح ولا إلى أهل دنيا ثم قال، كل أمر بين أمرين فأمره مشكل جداً، الذي يكون لا هو إلى هذا الأمر فيلحق به، ولا إلى هذا الأمر فيلحق به، فعند الأطباء أن الشيء الذي لا تعرف طبيعته، هل هي باردة مثلا أو حارة، أو هي رطبة أو يابسة، فمعرفته مشقة عندهم، لا يعملون به في إحدى الدرجتين، حتى يتبين قربه من أحدهما فيلحقونه بها، وكذلك الخنثى الذي لا هو رجل ولا امرأة، فقد أخذ نصف العلم، ولا أحد حكم فيه بأمر قاطع، فكم أتعب الفقهاءَ أمرُه وأكثروا فيه الكلام، ونحو ذلك، فقس هذا في الأمور الدينيات، والأمور الدنيويات، واعتبره فيهما
(٢/٢٤٧)
ثم ذكر قراءته في النحو، فقال، حفظت "الملحة" ثم ذكر أخذه في الفقه إلى آخر ما تقدم ذكره في ابتداء قراءته، ثم قال للذي يدير الدخون، تم الدخون؟، قال، عاده، ثم قال، تم، فقال، الطيب إلا مبارك، وهو أقرب إلى السنة من القهوة، إلا إن القهوة لما كان أصلها وظهورها من عند الصالحين اتخذوها لأجل السهر والنشاط على الطاعة فهي خير، وما كان أصله إنما نشأ من خير فهو خير مما أصله من الأشرار واتُّخِذَ لأجل الهوى، يشير إلى التنباك، ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا
ودخلوا عليه رضي الله عنه عشية الاثنين ٢٢ فكان غالب كلامه في قبائل الأرض، من أهل الخلا وأهل البلد، فذكر أن آل باشيخ، وباسالم يرجعون في النسب إلى أصل واحد، وأن آل أحمد وآل حيد إلى أصل واحد، وآل باجذيع وآل باغوث كذلك
ثم ذكر باغوث الذي كان خادم الدولة، فقال، ماهو قليل ما فعل، فإذا جاءنا الناس يشكون، قلنا، لا بد ما ينصف الله المظلوم من الظالم، فقال عليوان بن دامس، مرادنا نشوف ما يفعل الله بهم، قلنا، هذه شماتة، والشماتة مذمومة والظالم مأخوذ، إلا إما أبطأ وإلا أسرع، { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَالِمُونَ }، وقد عاقب الله هذا الظالم، وأخذه أشد أخذة، ورجع جماعته يطلبون على الأبواب بعد ما كان من صولته واستضعافه المسلمَ، وهكذا جرت سنة الله في عباده ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا
(٢/٢٤٨)
وجاءه السيد زين العابدين يوم الثلاثاء ٢٣ ذي الحجة المذكور من السنة المذكورة، فقال له، عساكم إذا طلعتم الرقاد، ما تحسون تعباً، فقال، قليل جداً، وهو من بقايا شيء، ولكن نحسّه كالذي هو ذاهب وبانغلبه بالقوة، وقوة الكبير إلا ضعيفة، ومرضه زيادة فيما معه من الضعف، يعرف ذلك من نفسه، والعاقل ما يحتاج إلى التعلم، لأن التجربة قد علَّمته، ومن حنكته التجارب يعرف من نفسه ما لا يعرفه غيره، هذا إذا كان الإنسان عاقلاً، فإن كان لا عقل له، أو هو ضعيف العقل، فلا يفيد التعلم أيضاً، وقد قيل، بعد العشرين لا يزيد العقل، يعني الغريزي، وما بعد ذلك إلا لزيادة بالتجربة والمعرفة وهو من العقل الكسبي
ثم امتد الكلام إلى أن قال، ينبغي أن يؤخذ كل شيء من عند أهله، وإن أداه إليه العلم فلا يستغني عن أن يسمعه منهم، فقال له السيد زين، عسى أموركم المعتادة، مثل القوت والنوم قد تراجعت، قال، نعم، هي كالعادة، وما أحس شيئاً إلا إن كان بعض شيء في الدماغ، حتى إنه يشغلني الكلام، إلا إن كان عندي أحد فلا عذر من الكلام وقد أوصي الأهل والعيال إذا دخلوا عندي، وبقوا ساكتين أقول لهم تكلموا بعضكم مع بعض كما ترون من عادتي، وهم يرون هذه الأشياء أدبًا، وشيء منها من الأدب لكن ما هو بهذه الصورة، ولكن من لك بمن يعرف
(٢/٢٤٩)
وطلبه السيد زين العابدين يجيه إلى بيته، وذلك رابع عاشوراء سنة ١١٣٢ فوعده بذلك، وبقي ينتظره مدة، وما اتفق إلا بعد نحو ستة أشهر من الوعد، وذلك يوم عشرين من جماد الآخر، فظل ذلك اليوم عنده، وبعد ما طال به المجلس، قال له السيد زين، تنامون قليلاً، قال، نعم، وأنا قليل ما يجيئني النوم، وإنما هو السكون، سكون الاعضاء، فيحصل لي بذلك سكونان، سكون الأعضاء وسكون اللسان، وقدني أقول لهم، افصلوا بيني وبين الداخلين علي، إن أرادوا يتكلمون وحدهم أو يسكتون، وإلا فلا يطلعوا وأما أنهم يحيلون الكلام علي فلا، والكلام فضول يجر بعضه بعضاً فبينا أنت تتكلم بكذا انجر إلى كذا كالخواطر في الصدر، إلى غير حد
وقال يوماً، إن كان رحنا للحج بانطلب الفالكي نركب فيه، لوجود الضعف وينبغي أن يفرق بين أمور الأعذار، وأمور الرياسة
وقال رضي الله عنه فيما يخاطب به السيد زين المذكور، الإنسان إذا طعن في السن ضاعت عليه الأمور ونسي حتى كان في سن التسعين، وقال أنس بن مالك في آخر عمره، ما عاد أعرف شيئاً مما كان في عهد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلا الصلاة، وأهل الزمان حَيِيَتْ نفوسهم وماتت قلوبهم، لأنهم لا همة لهم في الدين، كيف يصلون أو يزكون، إنما همة أحدهم ما يأكل أو يلبس، وكان الأولون نفوسهم ميتة، وقلوبهم حية، لأنهم لا يهمهم ما يهم هؤلاء، إنما يهمهم الحياء والدين، ثم ذكر قصة اللصوص، الذين نهبوا قافلة فيها مال كثير، وتأولوا أنهم فقراء من أهل الزكاة، ولا حرفة لهم غير التعسكر، وإن المأخوذين تجار استغرقت أموالهم الزكاة، فحلت لنا لأنهم ما زكوها، وكان مقدمهم عالماً فقيهاً، وسألهم عن مسائل في الزكاة فما عرفوها بَيَّنَ بها ما ادعوه
(٢/٢٥٠)
ثم قال سيدنا، فانظر كيف هؤلاء مع غفلتهم، تأولوا علم ما يُجَوِّزُ لهم، وفي هذا الزمان ترى أناساً أخيار أولاد أخيار، لا يتفرغون لقراءة المختصر، بل استغرقتهم أمور دنياهم، تَعْلَم فرق ما بين ذاك الزمان وهذا الزمان، وهذا هو الذي كان موعوداً به، إذ لولا ذلك لما خَلِقَ الدين، وظهرت علامات الساعة
ثم إن سيدنا ذكر، إنه سيخرج لصلاة الجمعة يوم ٢٦ ذي الحجة المذكور، فطلب منه ابن أخيه السيد عمر بن علي الحداد قبل الجمعة بيومين أن يعبر عليه يومها، واستأذنه أن يفعل عزيمة للغدا بحضرته، فأذن له جبراً لخاطره، ففعل وأخذ عنده مجلساً طويلاً، فمما تكلم به في ذلك المجلس أن قال، اليوم حُسْن السفر من الشحر إلى اليمن، وذلك لعشر في البطين، ثم قال، لو إن أحداً فيه طاقة لسافر إلى الحرمين في هذه الأيام، مادام وقت الحج متراخياً، ومكث في الشحر إلى أن تتفق ساعية مناسبة يطمئن بها الخاطر، ونلقيها إلى المدينة ونحضر زيارة الرجبية، وإن اتفق موت فلا فرق أن يكون بتريم أو بمكة، أو في غير ذلك وقد سافر جماعة من أهل التصوف في آخر أعمارهم كالشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه حج وهو ابن نيف وتسعين سنة حتى إن ابنه كان يقود به الناقة، وذلك تواضعاً منه، وإن كان يقدر على إمساكها، وحج السهروردي، وكان قريب المائة فحمل على أعناق الرجال من بغداد إلى مكة، فهذه أسفارهم بأبدانهم، والأمور السماويات على حالها كما هى لا تعلق لها بذلك
(٢/٢٥١)
وقد قيل لواحد من آل باسهل، كان من أهل الخطوة، يقال إنك تحج متى أردت، فكيف ذلك؟، فقال، يخطر ببالي الحج، فما أحس إلا وأنا بمكة، وهذه الأمور ما هي إلا هكذا ومولى الشبيكة قال لعياله وأصحابه، إذا أردتم تطوى لكم الأرض، أو أردتم شيئاً فاذكروا اسمي، وكذلك البقال وهو إلا عامي يبيع البقل، لما رأى ابنَ الفارض، قال له، ما يفتح عليك إلا في مكة، قال، وأين أنا من مكة، فقال له، هذه مكة فالتفت فرآها، ولكن تقدمت هذه رياضات ومجاهدات، ثم قال، والعجب من أناس يذكرون في التواريخ، إن الواحد منهم عُمِّرَ مائة سنة ومائة وعشر ومائة وعشرين وأكثر من ذلك من هذه الأمة، من بعد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وجائي، كيف يستقل أحدهم بالحركة والتصرف في حوائجه، ثم قال لي، أنشد، فأنشدت بالقصيدتين الأخيرتين، الحائية والتي على اللام ألف، ثم مكث قليلاً، ثم بعد ذلك قال، أنشد (بسوح المقام) وأت من أثنائها، فأتيت من قوله نفع الله به ،
ودع العجز والتعلل واسلل صارم العزم يا له من حسام
(٢/٢٥٢)
إلى آخرها وخصها لما فيها من ذكر الحج والزيارة والحرمين، وترحيل منازل السفر إلى ذلك، وكيفية فعله لذلك لما سافر له، وكل ذلك بل كل كلامه من أول مجلسه ذلك تشوفاً وتشوقاً إلى تلك المناسك والأماكن المعظمة، ثم قرأ الفاتحة ودعا فخرجنا وبقي هو قليلاً يسلم عليه النساء والأطفال من أهل بيته، ثم جاء إلى داره التي في البلد وجلس في الدرع المغلول، وذكر أيام كان يجلس فيه لمقابلة "الإحياء" في الليل، قال، لا بد ما مر علينا جميعه (أي الإحياء) ١٥ مرة، إلا ما أحد يِتْقَن، وذكر أناساً كانوا يقرأون عليه، ومن قرأ هو عليهم ثم قال، من العجائب أن الفقيه باجبير قبل يروح الهند كنا نقرأ عليه في الفقه، فلما جاء قرأ علينا "الإحياء"، ثم قرأ الفاتحة ودعا وطلع إلى الغيلة وجلس فيها مجلسا آخر، وجرى بينه وبين السيد أحمد بن زين الحبشي كلام، وهو أن قال السيد أحمد له، الحمد لله أنتم بخير، أقوى مما كنت أظن، فقال، الحمد لله على نعمه وعافيته، وكنت أردت أن أطلع الجمعة التي قبلها، وبيني وبين عمر فيها وعد ولكن جربت نفسي بالحركة والقيام والقعود، أني ما أطيق لشاغل الناس ومناتفتهم فقيل له، إنها شاغل كبير، فقال، شاغل من لا يدري، وبلونا بكثرة المصافحة، وقد هممت أن أقول لواحد يقول لهم، بالقلوب، لا أحد يصافح، أو إني أصلي العصر في الجامع، لكن قلت، لأي شيء لا أنا قاعد لهم، ولا هم قاعدين لي، وأهل البلد في طبعهم جفاوة وبداوة، ثم قرأ الفاتحة وتفرقوا
(٢/٢٥٣)
وقد ذكر يوماً كثرة من يصافحه على الفرس، حتى أشغلوه، فقال، كنا حال القوة نمسك البغلة عن المسير رفقاً بهم، ونأمرهم في طريق هود إما يتقدمون أو يتأخرون، فلما رأينا من تقدم منهم يحتاج إلى الخبب، وكذا من تأخر تأنَّيْنا لهم في المسير، حتى إذا كان اليوم لو تحرك مسير الفرس قليلاً أشغلنا بسبب ضعف الأعضاء والقوى، وهم يصافحون وينترونا ولا يبالون، وإذا صافحنا الشريف، إذا مددت له يدي بمجرد المد لا بد ما يقع في خاطره، فالحاصل مع الناس لابد من المقاساة لمن عرفهم أو لم يعرفهم، لكن مقاساة من لم يعرفهم أسهل وأقرب إلى التقوى
وقد كان رضي الله عنه ذات يوم خارجاً من البلاد إلى الحاوي ماشياً فقال، ما أشغلنا إلا الناس بمصافحتهم ومناترتهم وبغوا منا مراعاة، وبغوا منا كلام، وما عاد إلا كما في قصة أبي الأسود الدؤلي، وكُلُّ من يطالب بحظه لا ترج فيه إلا خيراً، أي لا ترج فيه خيراً فإنه نفع الله به قال مرة، لا تقل، ما في الناس خير، فإذا أردت أن تقول ذلك فقل، ما في الناس إلا خير، فإن ذلك يُفهِم المعنى
(٢/٢٥٤)
وطلب منه السيد أحمد المذكور الدخول عليه بعد العصر، أي من يوم تلك الجمعة، فدخل ومعه ابنه جعفر، وأذن بحضوره لمن حضر بالحضور عنده، فلما استقر المجلس سأل السيد أحمد عن سن ابنه جعفر، فقال، أظنه ١٢ سنة، فقال، أنتم ما تعتادون تؤرخون المولود، قال، بلى، قال، لا تُخَلُّوا ذلك إلى آخر ما تقدم ذكره عند ذكر تاريخ ولادته نفع الله به، ثم أمر السيد أحمد أن يقرأ على قراءته في "الموطأ" فقرأ من أثناء كتاب الصيام وبقي كل عشية يدعوه بعد العصر إلى عنده في الغيلة، فيأمره بالقراءة فيه، ويدعو معه من حضر للقراءة في وقتها هذا، فيجتمعوا عنده، ودعاه مرة فدخل ودخلوا، فلما اطمأنوا جالسين جاء عبود بن إسحاق فصافحه فقال له، أنت من؟، قال، ابن اسحاق، فالتفت إلى السيد أحمد وقال يخاطبه، لله حكمة في ذكر إسحاق، وهو إن الله تعالى إذا ذكره وذكر إسماعيل، قدم إسماعيل ثم ذكر إسحاق بعده، لأن إسماعيل هو الأكبر وإن ذكر إسحاق أولاً أفرده، (ولم يذكر معه إسماعيل)، هل على بالكم هذا؟، قال، لا، ثم قال، وقد استبعد أهل العلم كون الذبيح إسحاق، لأنه منقول عن أهل الكتاب أرادوا ذلك لكون إسحاق جدهم، ومآثر الذبح إنما هي في الحرمين، والحاضر هناك إذ ذاك إسماعيل، وإسحاق كان في الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يجيئهم زائراً في خفية عن سارة، فإن لم يتفق بإسماعيل أوصى زوجته له بالسلام، ويوصيها بكلام تبلغه إليه، ثم أمر السيد أحمد بالقراءة، وبعد ما تم أمرني بالنشيد، فأنشدت بقصيدة البرعي، (أتأمرني بالصبر والطبع أغلب)، وهي نحو ٩٠ بيتأ وكان نفع الله به يستحسنها وتعجبه، وبعد تمام الإنشاد بها، قال، هذه قصيدة غريبة، وهي لعبدالرحيم، هل سمعتموها، قال، نعم، ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا
(٢/٢٥٥)
وقال رضي الله عنه يوماً، من جاء من القراء خلوه يدخل، فجاءوا ودخلوا عليه، وأمرهم بالقراءة فقرأوا، وهي أول قراءة وقعت بعد انقطاعها، وهي قراءة الإثنين والخميس، وبعد تمامها قال للسيد أحمد، قد تفعلون الذكر في خلع راشد، قال، نعم، قال عندكم من يشل مليح، فذكر ناساً يلحنون، فقال، إنَّ شل الذي يلحن يفرق الباطن ويشوشه، ولا يقيم الباطن إلا المستقيم، والأمور في هذا الزمان يحتاج فيها إلى المجاوزة، لكن لا في كل الأمور، بل في الأمور التي يقع فيها الخلل، كالذين يقرأون القرآن ويلحنون فيه، فتركُهم للقراءة أولى منها، ثم سكت قليلاً ثم قال، الفاتحة، ودعا وخرجوا
وبعد الظهر من هذا اليوم وهو يوم الاثنين ٢٩ ذي الحجة من السنة المذكورة أعني سنة ١١٣٠ بين الوقتين، أشرف عليَّ ابنه سيدي الحبيب الحسن، بأمر سيدنا والده، وقال لي، طالع لوحك، باتقع قراءة وقل لفلان وفلان، يطالعون ألواحهم، فدخلنا عليه نفع الله به في الغيلة بعد صلاة العصر وقرأنا قراءتنا المعتادة بعد انقطاعها تلك المدة فاتفق القراءتان، قراءة ضحوة يوم الإثنين والخميس، وقراءة عشية كل يوم، في يوم واحد
ومما تكلم به في هذا المجلس أن قال، قال أهل التجربة من أهل الحكمة، ستة أو قال سبعة لا ينبغي أن يُسكن إليها، من جملتها الطبيب والنهر، وما رأيت باقيها مكتوباً إما إنه لم يذكرها، أو إني نسيتها، ثم انجر به الكلام حتى قال، حكمة المرتبة للأمور بعضها على بعض، حتى إن الإنسان إذا تفكر في توارد الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة في هذا الباب يظنها متضادة ومتناقضة، حيث لم يعلم وجهها، فإذا تأمل في معاني مجاريها واطلع عليها، عرف أنه لا تناقض هناك، أو كما قال بمعناه على مقتضى فهمي
(٢/٢٥٦)
وطلبهم رضي الله عنه للدخول عليه عشية الثلاثاء سلخ ذي الحجة، فاجتمعوا عنده في الغيلة، فأمر بالقراءة في الكتب المعتاد قراءتها يوم الثلاثاء وهو أول ثلاثاء اتفق فيه ذلك بعد ما ذكر، ودعاهم للدخول بعد عصر يوم الأربعاء غرة المحرم فاتحة سنة ١١٣١ للقراءة، فدخلوا وحشدوا وقرأوا، والقراءة لأهل البلاد، فما انقضى المجلس إلا مع غروب الشمس
ومما تكلم به في هذا المجلس أن قال، إذا نقل أحد كلام أحد فليذكر الكلام كله من أوله إلى آخره، فإن الكلام يُذكر بالكلام، ويُعرف معنى بعضه من بعض، إلى آخر ما تقدم ذكره في المقدمة، توطئة للكلام الذي نقصد نقله، قدمناه هناك لذلك، وإلا فهذا موضعه
ما قال في ذم محبة الجاه والترفع
(٢/٢٥٧)
وذكر رضي الله عنه في هذا المجلس قبل هذا أن رَغَّب في ترك محبة الجاه والترفع في الدنيا، وذم ذلك، فقال، ما مقصود أهل المعرفة إلا فراغ القلب لذكر الله، ولا يحبون من يشغله بأي شيء كان، أو بمدح أو ذم، ومن طبعي أنه يشغلني المدح مثل ما يشغلني الذم، لا إني ما أفرق بينهما، ولو جلس عندي أحد وقال، ما أقوم إلا إن قمتَ، ولا أنام إلا إن نمتَ، ولا أفعل شيئاً إلا إن فعلتَ، شغلني كثيراً، ونحن إذا جلسنا بين الأولاد والبنات والأهل، وبقوا منتظرين لنا وساكتين بين أيدينا فرحنا بأن رَفَعنا الله عندهم، وسَلَّمَنا من شرهم، وما ينفع الإنسان إذا ارتفع في الدنيا وهو عند الله بخلاف ذلك، ولا يميل إلى هذا إلا من ضعف عقله، ويعدونه شيئاً، وإذا كان الإنسان عند الله رفيعاً لا يضره أن يكون وضيعاً عند الناس، وإذا ارتفع عندهم ولا هو عند الله كذلك كان أشرَّ له، ولو سجد له جميع أهل الدنيا إلى شرق ما هو إلى قِبْلة، ما نفعه ذلك، فلو كان هذا ينفع لنفع النمروذ وفرعون، لعنهما الله، فإن الله أهلكهما، هذا في أربعة أبواع من ماء والآخر ببعوضة دخلت دماغه، أحب الناس إليه من يضربه في رأسه
وقد كان يوم كنا في الهجيرة يجلس عندنا وقت القراءة جملة ناس، وفيهم أهل رياسة، فاستأذننا رجل أن يقرأ بعد ما ينصرفون هذه الآية، { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَة} إلخ، فأذنَّا له، وقلنا، القرآن بركة، ولا بأس بها، فبقي مدة يقرؤها كذلك ثم بعدُ نهاه رجل منهم عن قراءتها لئلا يُتوهم أنه يقصدهم بها
(٢/٢٥٨)
ودخلوا عليه نفع الله به بكرة الخميس ثاني المحرم المذكور للقراءة، فصافحه بعض الأشراف، فقال، فلان صار إماماً في السقاف ولا هناك كبير مؤنة، والمعونة تحصل من الله، ولكن يجتهد الإنسان في التقوى والورع، ومرة قال، ما يعين الله العبد على الشيء حتى يشرع فيه، وقال حينئذ، المِنْسَاة المراد بها العصى، ولا ذلك على بال أكثر الناس وربما ظنوها غير ذلك، يوم ما يطلبون العلم، ولو أنهم طلبوه لحصلوا منه ما تيسر أو المهم، وأشياء بعض الناس قائم فيها على الترك بالكلية، وأحد منهم على التوسط، وآخرون على المُهِمّ، وأحد يمعن فيها جداً حتى يشتغل فيها بما لا يُشتغل به، أو كما قال
وقد طال عليه رضي الله عنه هذا المجلس جداً واشتغل من طول الجلوس، ثم ردفه مجلس القراءة عشية هذا اليوم، فكانا مجلسين طويلين في يوم واحد، مع ما انضم إلى ذلك من تعب مجلس عشية الأربعاء قبله إلى الغروب، فعوّدت الحمى وهي خفيفة فلم تمنعه من الخروج لصلاة عشاء ليلة الجمعة، ولم يطلع لصلاة الجمعة، ثم دعاهم نفع الله به بعد صلاة عصر يوم الجمعة للدخول عليه في الحاوي، فدخلوا عليه وفيهم كثرة، فأمر السيد أحمد أن يقرأ على قراءته، وأن تُقرأ الكتب المعتاد قراءتها في البلاد بعد عصر كل جمعة، واستخلف منه حينئذ السيد عقيل باعقيل، مسافر إلى دوعن وطلب منه الفاتحة، فقرأها ودعا، فلما صافحه قال له يوصيه، الله الله في الدعاء إلى الخير، والوصية بما يحسن منك أن توصي فيه لمن يليق به ذلك، كُلٌّ على قَدْر حاله، ثم انفضوا قبيل الغروب
وقال رضي الله عنه لرجل جاء من الحج، كم حججت؟، قال كذا وكذا، فقال، المترددون إلى البيت كالمتردد على الباب، يطلب، إذا لم يعط في المرة الأولى أعطي في المرة الثانية، وإنما العَسِر الإنقطاع، أو قال الإدبار
قف على هذه الفائدة الجليلة
(٢/٢٥٩)
واستأذنه رضي الله عنه رجل في الحج، فقال، مليح حِجوا هذا العام ففي الخبر، من حج حجةً أدى فرضه، ومن حج الثانية دايَنَ ربه، ومن حج الثالثة حرمه الله على النار، حتى ذُكر إن رجلاً حج ثلاثاً ثم أسر، فأرادوا إحراقه، فلم يحترق ولم تضره النار فتعجبوا من ذلك، فسألوا عن ذلك بعض العلماء، فقال، اسألوه كم حج من حجة، فسألوه، فقال، ثلاثاً، فقال لهذا، لأن الله حرم من حج ثلاثاً على النار
وسأل سيدُنا عن مريض، فقيل، به ضعف، فقال هذا أثر المرض، فإن الأثر يتأخر عن المرض، ونحن الآن ما عاد ننكر شيئاً من بعد ذلك العارض، يعني الذي حصل عليه سنة ١١٣٠، وإنما الباقي الآن ضعف الكِبَر،وهو المرض الذي لا يزول، وهو لا يزول عن الكبير،وإن زال مرضه
وسأل أيضاً رضي الله عنه عن رجل مُسِنٍّ، فقيل، إن أكثر ما يعوِّقه رُكَبُه، فقال نفع الله به، هذا من الكِبَر، ونحن كذلك من حيث ضعف الرُّكَب، فإن سببه الكِبَر وقد قيل ،
لو خلانيَ الموتُ ما خلاني الكِبَر
ويصلح هذا أن يكون بيتاً، وقد كتبناه إلى السيد علي بن عبدالله يعني العيدروس
وما طلع سيدنا رضي الله عنه البلاد، يوم جمعة ثامن يوم من صفر سنة ١١٣١ فقال عشية هذا اليوم، طاقني البرد والماء، حيث اجتمع مع ضعف الكبر ضعفُ المرض، فخطر لي أنه ربما يتكلف الإنسان الطلوع، فيحصل ضعف عن صلاة الجمعة، ومع الغسل قد يحصل نافض فيبقى ولا ينقطع فلا يمكن حضور الجمعة، فمع الضعف والكبر قد تحصل مثل هذه الخواطر، ويتوقع مثل هذه العوارض، ولكن الله لطيف، والعبد ضعيف
(٢/٢٦٠)
ويوم الأحد سلخ ربيع الأول من هذه السنة، كسفت الشمس، وأمَرَنا بصلاة الكسوف في المصلى، فصليناها، وطلبه رضي الله عنه السيد علي عيديد أن يمر على مسجد بناه عند غرفته بوادي ثبي، ويركع فيه ما تيسر ليتبرك به، فمر عليه راجعاً من عند آل عمر حداد حين وصلهم لما حلوا، وصلى في المسجد ركعتين قرأ فيهما بعد الفاتحة ،{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} الآية، وبعد السلام دعا، ثم قال، آمال الخير هي النية الحسنة، وقد وُعِد، إن آخر الزمان تكثر المساجد ويقل الساجدون ولكن الله يصلح النيات وذكر قلة الخريف تلك السنة أي المذكورة آنفاً، فقال، في الحديث، إن العبد ليُحْرَم الرزقَ بالذنب يصيبه وما بهم إلا ذنوبهم، ذنوب بلا توبة ولا ندم ولا استغفار، ثم مكث قليلاً ثم قرأ الفاتحة وقوله تعالى، { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } إلى { العَظِيم }، ولإيلاف قريش ثم دعا وقام وسار إلى الحاوي وله الآن رضي الله عنه جمعتان يسير من الدار إلى الجمعة ماشياً بعد ذلك المرض، وهو ٢٣ رجب من السنة المذكورة، وليلة الخميس ١٧ رمضان منها بعد ما تقبَّض الناس، أمر بشد الفرس، ولم يعلم أحد أين يريد، فركب وناداني وسرت معه ثالث ثلاثة، فقال لقائد الفرس عكيمان، خذ طريق الساقية ثم قال له، أتظن أين نريد، قال، المسجد، يعني مسجده المسمى (الأوابين) وقال لي، وأنت ما تظن، قلت، كنت أظن التربة، فلما كان طريقكم هذا يكون المسجد، قال، نعم، والتربة ما هذا وقتها، فقصد مسجده المذكور، وصلى فيه في الحمَّام، ثم في المحاريب وسمعته يقرأ في أحد الركعات، { لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّة} إلى آخر سورة الحشر، وحَضَر الوترية، وأديرت قهوة، وأمر بدخون يدار، ثم قام وخرج إلى الحاوي وقال في الطريق، قد أوقفنا نخلاً على المسجد قبل نبنيه، وكنا أردناه إلا عند سدة باشريف، ولكن أشار
(٢/٢٦١)
علينا الصنو علي أن يكون في ناحية النويدرة، وأن يكون في ذبر له اشتراه، فاشتريناه منه، وفعلنا فيه المسجد، وفي مثل هذا الوقت من ليلة الثلاثاء ٢٢ رمضان المذكور خرج رضي الله عنه إلى السبير، وقال، مرادنا المسجد نركع فيه وأصابنا في الطريق مطر، فدخلنا غرفته بالسبير، الذي ذكرنا إنه ولد فيها، وكان ابنه السيد علوى حالاًّ فيها إذ ذاك، وأقمنا فيها ساعة طويلة، حتى جاء ابنه السيد علوي من المسجد، بعد ما تفرقوا من الوترية، وقدَّم سحوراً ثم خرج سيدنا إلى المسجد وتوضأ في الجابية وصلى في المسجد ما بدا له، ثم جلس وجلسنا ننتظر طلوع الفجر ساعة، ثم سأل عن الوقت فما منا من جزم فيه بشيء من قوة السحاب والقمر فلما رأى تحيرنا قال لنا، اركعوا فإنه فجر، أمرنا أن نصلي السنة، وكان رضي الله عنه أعرف بالأوقات من البُصَراء الناظرين بعيونهم، فإنه نفع الله به مدة ما أنا عنده، وقبل ذلك إلى أن توفي، ما يخرج لصلاة الفجر إلا بعد أن يركع السنة داخل الدار عندما يدخل الوقت، من غير أن يعلمه أحد قط، فإذا ركع السنة خرج إلى الضيقة وجلس فيها، ولا يخرج إلى الصلاة حتى يبعث له الجماعة أنهم فرغوا من السنة وما معها من الأذكار، كل هذا من شدة اتباعه لجده المصطفى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كما كان عليه الصلاة والسلام يصليها في البيت، ولا يخرج حتى يأتيه بلال يؤذنه للصلاة، وبعد ما فرغ نفع الله به من الأذكار التي بعد الصلاة، وفرغ القاري يس من قراءتها، أمر بشد الفرس، ثم طلع إلى الحاوي وسمعته رضي الله عنه غير مرة يقول، إنما بنينا هذا المسجد في هذا الموضع، لأنا سمعنا الوالد يقول، رأيت كأن في هذا الموضع عند بير العسلة مسجداً، فلما توفي الوالد تممنا نيته، وصَدَقْنا رؤياه
قف على تسمية مساجده الشريفة
(٢/٢٦٢)
ومسجده هذا رضي الله عنه سماه مسجد الأبرار ومسجد العابدين، ومسجدُ الحاوي مسجدَ الفتح ومسجدَ التوابين، ومسجدُ النويدرة مسجدَ الأوابين، ومسجدُه الذي في بلد سيؤن مسجدَ باعلوي، والذي في نقر شبام مسجدَ الأبدال، والذي في مدوده مسجدَ الأسرار، وله نفع الله به في سيحوت مسجد بُني باسمه، وكذلك في أرض ابن عبدالواحد، وفي بلاد العوالق وفي أماكن أخر، انتهى
أنظر بركة آبار مساجده وجوابيها
قال عبدالله باشراحيل، وبئر مسجده والجابية يعني الذي في الحاوي، من أخذ منها جرعة على نية صالحة، حصل له المطلوب، وقد جربت ذلك وجربه الغير، وكذلك جميع آبار مساجده وجوابيها نافعة شافية، شرباً وغسلاً مجربة، واكتحالاً أيضاً للعين
وقال رضي الله عنه، إنا نحب من يجيء مسجد النقر لأن الحق يتجلى عليه، وهو مسجد الأبدال، المؤسس على التقوى، لن يبيد حتى يبيد الله الأرض ومن عليها، قال ذلك لما بلغه أن بعض الناس قال، هذا مسجد بني في خلاء ما يدوم، انتهى ما ذكر باشراحيل والذي سمعت أنا من سيدنا يقول، قد قلنا، إن من بدت له حاجة فنزح من بئر الحاوي إلى الجابية سبعة أَدْلاَء بنية قضاء حاجته، قضيت بفضل الله، إن شاء الله، وذكر في محل آخر، أنه قال أحد عشر دلواً، أو إثنا عشر دلواً
وقيل له نفع الله به، فلان من آل بافضل يسلم عليكم وهو نعم الرجل، فقال، من طاب أو قال صلح من آل بافضل فهو فضة خالصة، ومن طاب من السادة فهو ذهب خالص
(٢/٢٦٣)
واستأذنه رضي الله عنه بعض الجماعة في السفر، وسأله الدعاء بالتيسير، فقال له، إن شاء الله أمورك ميسرة، والله الله في السيرة المحمودة، فإن لم تقدر عليها كما ينبغي فكن مقارباً لها، وللسيرة علامات وأمارات، فلتكن منك السيرة باطناً، وعلاماتها ظاهراً، وخذ في أمورك بما تعرف أنا لا نكرهه منك، لأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، إحذر أن يُؤثِرَ عنك أحدٌ شيئاً من العلامات المذكورة، ثم يَنقل عنك آخر خلاف ذلك فلا يُعرف منك استقامة على حال، مثل من ذُكِرَ أنه مُغَرِّبٌ فرؤي مشرِّقاً، بل ليتواتر عنك ذلك على هيئة واحدة، أو كما قال بمعناه
ما قال في الخروج للمحلة في الخلاء أيام الخريف
وقال رضي الله عنه لرجل، حِلُّوا، أدخلوا على أروحكم الرَّوح لئلا تضيق النفس، والذي يروِّح الروح كالنسيم والخروج إلى الأماكن المتسعة والأشجار، وتتقوى النفس والجسم بالأكل والنوم والأشياء الكثيفة، وليست هذه أغذية للروح
وقال له رضي الله عنه بعض السادة، ما حَلِّيتوا هذا العام، فقال، إنهم أي الأهل ما نشطوا للحلول، وقالوا، إن الخريف قليل، ثم قال، إن المؤمن يأكل بشهوة أهله، والمنافق يأكل أهلُه بشهوته
(٢/٢٦٤)
وقال أيضاً نفع الله به لرجل آخر، لأي شيء ما حليتوا؟ والمحلة عادتكم، فقال، نحن في الهمة، والمشيئة بيد الله، فقال، ما عليك، مشيئة الله شيء، ومشيئتك شيء آخر، مشيئة الله قوية قاهرة، وإذا لم يرد شيئاً لم يقع، وإنما هي همتك وعزمك، ثم إن الرجل شكا إليه من الظلم، وما هو وغيره عليه من الأحوال، فقال له، إذا اشتد الأمر فالفرج قريب، وإذا قد حَمَلَتْ بالرأس وَلَدَتْ، وشكا إليه أيضا من ولد له غير بار، وليس هو في رأيه، فقال له، ما عاد معك إلا الصبر والمسامحة، والصبوة في الصغر لا تستنكر، وفي الحديث، (( عَجِب ربك من شاب لا صبوة له)) والصبا شعبة من الجنون، وإذا غلبتك الأمور فاغلبها بالصبر، ولا تَدَعْها تغلبك
ما قال في خمول السادة
وقال رضي الله عنه، السادة من أهل حضرموت، مناقبهم شائعة وفيها خمول، لأنهم لا يتكلفون ظهورها، وفي الجهة ناس يحسدونهم، وهم مع ذلك يحبون الخمول والستر، حتى إن الشيخ عبدالله باعلوي، إذا قيل له، يا شيخ، قال، الشيخ أبوك، ألا ترى إلى كتب تَرجمت لآل باعباد وغيرهم، ولم يذكروا فيها
وقال رضي الله عنه، الصالحون خاملون في حياتهم وموتهم، وإنما أشهَرَهم ملوكُ الناس، إذا أشهروا أحداً اشتهر عند الناس، مثل ابن عربي، فما شهره إلا آل عثمان، لأنهم بلغهم عنه الإخبار، بأن بعض أجدادهم سيملك فبنوا عليه قبة، وأشهروه وكانوا إذا ظهرت منهم الكرامات يوصون مَنْ عَلِم بها أن يكتمها، ولكن عدمت في هذا الزمان الكرامات، وإنما منعوا الأسرار لعدم كَتْمهم الأسرار، لو رأى أحدهم رؤيا راح يُحَوِّل بها، فلما لم تكن لهم أسرار كذبوا بادعاء الأسرار، أو كما قال
ما قال في إخبار الولي بالمغيَّبات
(٢/٢٦٥)
وقال رضي الله عنه، الأمور الغيبية ما هي إلا إلهام أو أوهام، ولا يكون فيها قطع، ولا يمكن أحد أن يقطع بها، حتى إن الأولياء إنما يخبرون عنها بالوهم، حتى ربما يخطيء في ذلك، ولا يمكن القطع المتيقَن إلا في اللوح المحفوظ
وقال رضي الله عنه، أهل الباطن لا يبالون بالظواهر ولا بأهل الظاهر، والصادق لا يُمَكِّنُ أحداً أن يعترض عليه
وأمر رضي الله عنه في بعض الأيام منشداً ينشد، وكان ذلك في مسجده الأوابين، فأنشد بخمرية ابن الفارض، وكان السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي حاضراً، فقال له سيدنا، أثبِتْ لنا ما فهمت من معنى هذه القصيدة وما في معناها لنرى كنه فهمك، فتناول الورقة من يدي والقلم وكتب هذا وهذا المنقول هنا من خطه، الحمد لله، مما فهمناه من كلام سيدنا مدار المعنى المقصود في كلام أمثال ابن الفارض لأهل المعنى على سر قوله تعالى، { رَبِّ أِرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } إلخ الآية، وفي نحو قوله في الخمرية، شربنا على ذكر الحبيب مدامة يرجع إلى ظاهر التوحيد وباطنِه وذوقِهم فيه واتصافِهم به، فإذا أُخِذَ ذلك دستوراً ظهرت، وظهر غالب المعاني انتهىقال سيدنا نفع الله به، كلام الشاذلية متداخل يختلف فيه اللفظ ويتفق فيه المعنى، وينقل بعضهم عن بعض
وقال رضي الله عنه، لا ينبغي للإنسان أن يجلس في مجالس الخير، مجالسِ الصالحين إلا وقلبه مطمئن وسليم القلب، وإلا عاد إذا سمع من كلامهم شيئاً أدخل فيه الشيطان كلاماً مناسباً لما هو حاضر في قلبه، فيسيء الظن بهم فيخسر، أو يسمعها مَن في قلبه ضغائن، أو محسن الظن لكنه جاهل، فينكر، وقد قرأ النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في حضرة قريش سورة النجم، وفي خاطره حالتَهم، فأدخل الشيطان في قراءته الكلمات، (تلك الغرانيق العلى، إنَّ شفاعتها لترتجى) حتى سجد معه كل الفريقين، أو كما قال
ما قال في معاملة النفس
(٢/٢٦٦)
وقال رضي الله عنه، إن النفس كسلانة عن الخير، فليقهرها الإنسان على فعل الخير وما ينفعها، وإلا جرته إلى الشر لأنها مجبولة عليه، وفعل الخير يعسر عليها لأنه خلاف طبعها، فليُكْرِهْها عليه ولا يَدَعْها
وجاء بعض السادة إلى تريم للزيارة في مدة قريبة مرتين خلاف عادته، فقال سيدنا له، ما كنت تعتاد المجيء على القرب، هل أحسست في نفسك رغبة في الخير، فإذا رأيت من نفسك أو من غيرك زيادة خير في الظاهر كسعي في فعل خير لم تكن تفعله فهو علامة زيادة خير في الباطن، وفي الشر كذلك إذا رأيت له أثراً على الظاهر فهو علامة على وجوده في الباطن، وهكذا زن نفسَك وغيرَك، وإلا فما علامة الزيادة والنقصان، والأصل في الشيء الهمة، وقد قال رجل للحسن البصري عظني، قال، مات أبوك؟، قال، نعم، قال، ماتت أمك؟، قال، نعم، قال، رح فما تنفعك الموعظة، أي لأنه لم يعتبر بموت أبويه، وهما أحب الناس إليه، فالله الله في الهمة في طلب الخير، فالسادة أصل تحصل لهم همة الخير، وحصل لهم المطلوب، كما قال الشيخ عبدالرحمن السقاف، إن أولادنا كالذي يحفر في أرض طيبة قريبة الماء، يخرج لهم الماء عن قرب، وغيرُهم كالذي يحفر في جبل أو أرض صلبة لا يكاد يخرج، وإن خرج ماء فعلى بُعْدٍ ومشقة، ولا يدري يكون طيباً أو مالحاً
ما قال في جُرْأَة أهل الزمان على المعاصي
(٢/٢٦٧)
وقال رضي الله عنه، ليس مع الإنسان في هذا الزمان عن المعاصي مانع من الحق من نحو خوف، ولا من الخلق من سلطان عادل آمر بالمعروف ناه عن المنكر، وإلا لملئت منهم المساجد أو السجون، لكن عُدِم ذلك، فاجترأوا على تضييع حقوق الله، لما اجترأوا الأكابر ووجوه الناس اجترأ بسببهم أداني الناس، لما رأوا الأمور مفلتة، ولا زاجر يزجرهم، فأكب كلٌّ على ما يدعوه إليه هواه، طالب الدنيا في دنياه، والظالم في ظلمه، ثم هم في تفريطهم يحتجون لأنفسهم على ربهم، ويقولون مع ذلك، مقدَّر علينا، فَهَمُّ واحدهم في أمر الدنيا يكدح بغاية ما يمكنه خوفاً من جوعة، أو فوت عشاء، وإذا جئنا عند حقوق الله قال، مقدر علي، أفلا ترك أحدهم حرفته أو صنعته ويقول، الرزق مقدر، مع إنه كذلك، أو فَخُذْ ثوبه وقل له، مقدر عليك، وانظر كيف يطالبك إلى القاضي
وقال رضي الله عنه، إنما وصف الله الجنة وذكر حورها وقصورها وغيرَ ذلك، ليُرَغِّب الناس فيها فيطلبوها ويزهدوا في الدنيا، لأنهم إذا كان مرادهم مثل هذه الأشياء فهي لهم في الجنة، وإلا فإن الحق تعالى يتعالى عن ذكر الحور والقصور وسائر الأشياء
وقال رضي الله عنه هذان البيتان لأبي الأسود الدؤلي ،
وما طلب المعيشة بالتمني ولكن إلق دلوك في الدلاء
تجيك بملئها طَوراً وطوراً تجيك بحمأة وقليل ماء
انظر ولايته في الأيتام والمساجد
(٢/٢٦٨)
وكان سيدنا نفع الله به ذات يوم خارجاً من البلاد إلى الحاوي فالتقاه في الطريق بعض السادة فصافحه وحياه، فحياه وبَشَّ له وألان له الكلام، ثم قال له، إن جدك تزوج عندنا، وجاءه من العيال كذا وكذا، وبقي يكلمه حتى فارقه الشريف، وما بقي معه إلا الفقير وقائد الفرس جعل يحدثني ويقول، ولما مات جده بقي عياله عندنا نربيهم ونكفلهم، لأنهم عيال كريمتنا، وقَلَّ ما تخلو كفالتنا بحمد الله من يتيم أو أرملة، لأن من عادتنا من كان من هذا القبيل مَحْرَماً لنا، ولا له من هو ألزم به منا في الشرع، جعلناه عندنا، معيشته وما يحتاج إليه، فيحصل لنا الثواب الموعود به كافل اليتيم والأرملة بالفعل فيما يمكننا، وبالنية فيما لم نقدر عليه من كفالة الأرملة واليتيم من جميع آل باعلوي بالخصوص، ومن غيرهم بالعموم، المطلوب ذلك من ذوي الثروات، فلما رأيته رضي الله عنه تكلم بهذا، وما هناك من يعي كلامه ويفهمه غيري، سألته، كيف تفعلون باليتيم الذي يكون عندكم، وفي المساجد الذي بنظركم وكذلك كلما لكم فيه نظر، فقال نفع الله به، أما اليتيم فإن كان ما معه ما يكفيه، فجميع مؤنه من عندنا، وإن كان معه بعض كفاية، بحيث يحتاج إلى أكثر من ذلك كَغَلة لا تكفيه سنتَه جعلناه في مصروف الدار، ولا عليه حساب فيما زاد عليه، وإن كان له زائد على كفايته جعلنا كفايته من ماله، لأنه ورد نهي عن اليتامى، يتكففون الناس، كمن جعل فطرة على مسجد، فأردت أن تجعل عليه فطرة، فلا حاجة بجعلها وهو مكفي، فاجعل ذلك في غيرها، وربما راح مالُهم لوارث، فنجعل من مالهم إن كفى مؤنتهم كلها أو بعضها، وما زاد فمن عندنا كما فعلنا في مال فلان (زوج إحدى بناته) وقد أوصى لنا بجميع أمتعته، من أمتعته من تمر ونحوه فأعطيناها منه مهرها وثمينها والباقي للولد وبقي ثمينها معه، وما حصل من غلة وهي لا تكفي مؤنة الولد سنة، طرحناه في الدار في جملة المصروف، ونحن
(٢/٢٦٩)
بحمد الله ما أخذنا قط شيئاً من مال يتيم، ولا من مال سدس مسجد، إلا ما كفى المسجد من وقفه، فذاك، وإلا جعلنا له من عندنا، وإذا كان معه من هو أقرب إليه منا، خليناه إليه، ونظرنا من وراه كأولاد فلان (هو ابن أخيه)، وقد أوصى بهم إلينا لكن إلى أبيه، ونظرنا من وراه قلت، فلو لم يكن، كانوا إليكم، قال، لا، إما إلى أمهم، أو إلى وصي ونَظَرُنا عليهم، ثم قال، الآن نحن غرباء في وقتنا، وأمورنا قد ماتت قبلنا، وتموت بعدنا، فقلت، أنا عارف بذلك، ولهذا أتبحث في هذه الأمور عنكم
وأراد رضي الله عنه عشية جمعة وهو في البلاد أن يصلي المغرب في البلاد، وأراد أولاده الخروج إلى الحاوي، فقال، من يبقى يصلي معي المغرب؟ قالوا فلان لبعض الأخدام، فلما سمعت منه ذلك، استأذنته في الجلوس للصلاة معه، فأبى عليَّ ذلك وقال، عليك هناك درك، يعني في الحاوي، ودركي فيه الأذان، فقلت، إن كل صلاة تفوتني معكم يبقى علي منها حسرة، فقال، وهذا أحسن، لأن أمور الخير إذا فاتت على إنسان وتحسر عليها، فتحسره ذلك خير من فعله لذلك لو فعله، أما سمعت بقصة ذاك الذي رأى إنساناً تحسر على أن فاته الحج، فقال له، يا فلان إني قد حججت سبعين حجة، أتريد أن أهب جميعها منك، وتهب لي تحسرك هذا؟
وقال رضي الله عنه، لا تنكر على الأكابر أموراً وليست محرمة شرعاً، فلعل لهم فيها نية صالحة، ولا تقتد بهم فيها حتى تقتدي بهم أيضاً في أمور أخرى، ولا تجعلهم لك عذراً، وقد لبس السواد الشيخ أحمد بن أبي بكر
وقال رضي الله عنه، الرجل، من كان رحمة وسلامة لنفسه ولغيره فلا يكلمهم فيما لا يبلغه فَهْمُهُم من أمور التوحيد والدين سيما العامة ونحوهم
وقال رضي الله عنه، البخيت بغيره في الفضول لا في الخير، إلا في خير يتفرغ بسبب ذلك لخير خير منه
(٢/٢٧٠)
وقال رضي الله عنه، الإنسان ضعيف، عينه قوية وقلبه ضعيف، وما نريد من الإنسان إلا الربط على الدين، وأما الدنيا فمن حصلها فهو لا شيء، ومن لم يحصلها فهو لا شيء مرتين
وقال رضي الله عنه، رأينا في النوم كأن في محل سقاية زنبر، سقاية، فحكينا له بالرؤيا فبادر وفعلها وقال، خشيت أن تسبقوني ببنائها ولكن من نوى عملاً صالحاً وسبقه إليه غيره، فهو نائب عنه
قف على سرِّ ثِقَلِ الطاعات
وذكر رضي الله عنه أمور الخير وثِقَلَها على النفس وقال، ينبغي أن يستجلب إليها باللطف ولو إلى القليل منها فإذا كانت الغايات لا تدرك، فالقليل منها لا يترك، وثِقَلُ الأمور الإلهية على الإنسان، فيه سر آخر، فلو كان يتلذذ بها كأمور النفس ما حصل عليها الثواب
وذكر رضي الله عنه أقواماً يقاتل أحدُهم ابنه وأخاه وقريبه بسبب الملك، فقال، البغي ما له عاقبة، فإذا طلبت أمراً فاطلبه بالتقوى، فإذا ذهبت الدنيا بقيت الآخرة
وقال رضي الله عنه، فعل الكافر إذا صدر من المؤمن فهو النفاق وفاعله منافق، لأن المؤمن بَيِّنٌ، والكافر بَيِّنٌ، كلٌّ مقر بما هو عليه ظاهراً وباطناً، وأما المنافق فمتلبس بالحالين، الإسلام على ظاهره، والكفر في باطنه
وذكر رضي الله عنه الأولاد (ورأيت موضعه بياض لا خط فيه، ولعل معناه، ما يتعلق بك من مؤنتهم، والقيام عليهم في دينهم ودنياهم)، ثم قال، لأنهم أخرجهم الله إلى الوجود بواسطتك وجعلهم ضعفاء عاجزين وجعلك قائماً عليهم، ولكن هذا يحتاج إلى نية، والنية تفسرها الأغراض فكم واحد عنده مثل هؤلاء ويقول، ما نحن إلا بُلينا بهم
وذكر رضي الله عنه الخوف والتخويف، فقال، إن كنت تخاف فلا تفعل ما يكون منه الخوف، وهذا ميزان، والله لا يُضِيعُ أجر من أحسن عملاً، وقال لي حينئذ، أنت جئت عام جاء عمر بن جعفر فسبحان الله العظيم، استَعْمَلَ أقواماً في الرضا واستعمل آخرين في الغضب
(٢/٢٧١)
وقيل له رضي الله عنه، كم فرق بين الأولين وأهل الزمان في همة الطاعة، فقال، هؤلاء إلا غثاء مثل غثاء السيل، فقيل له فلو أراد الواحد منهم أن يحصل له ذوق في الطاعة لم يمكنه ذلك، فقال، عليهم حُجُب حائلة، إنما يحك أحدهم جبهته في الأرض حكاً، فسَلْهُم هل يجدون في الطاعة ما يجدون في الأكل والشرب عند الجوع والعطش، لا، ولكن يوم يُخَبِّر أحدهم التمر أو يقطعه فانظر الحلاوة
وذكر رضي الله عنه ذات يوم كتاب "نشر المحاسن" لليافعي، فقال، أصله جواب على أسئلة من كرامات الأولياء، وهذا أمر لا يحسن السؤال عنه ولا الجواب عليه، لأن أصل الولاية سر، فلا يجوز إفشاؤه وإذاعته وماالغرض الداعي لذلك؟
وقال رضي الله عنه، النفس مطية فيها الخير والشر، كالنخلة فيها الرطب والشوك، والشيطان غدار مخادع، ولهذا إذا جاءك من وجه فخالفتَه جاءك من وجه آخر، وعلى هذا حتى يُخرِج الإنسان من الباب الكبير، وهو التوحيد، ودسائس النفوس كثيرة، فإذا وَجَدْتَ واحدة فابحث تجد أختها كالحية، والشيطان قد يقبل منك ويروح لغيرك، وأما النفس فمكانها معك لا تفارقك قال الشاعر،
تَوَقَّ نفسك لا تأمن غوائلها فالنفس أخبث من سبعين شيطانا
والبكاء نور للقلب، قال عليه السلام، (( لو بكى باكٍ في أمة لرحمهم الله )) لكن من خوف الخالق، وأما البكاء للتصنع للخلق ولو لم يرد منهم شيئاً من جاه أو مال، لكن ليُرى أنه خاشع أو استحياء منهم، بأن يظنوه يبكي وقد رأوه بكى مرة فتباكى للحياء، والبكاء من الخشوع إنما هو قد يَعرُض، فإن كثر وتعدد صار عادة، وينبغي كتمان البكاء في القلب، ومنع الدموع أن تخرج فإن ذلك يزيد في تنوير القلب ويؤثر فيه أكثر مما لو ظَهَرَتْ لأن في ظهورها تنفيساً، ففي الخبر أو الأثر، إن لله عباداً يضحكون من سعة رحمة الله جهراً، ويبكون من خشية الله سراً
(٢/٢٧٢)
وقال رضي الله عنه، الناس في مقام الشكر، وهم يحسبون أنهم في مقام الصبر، لأنهم ليسوا في بلاء، وإن كان بهم شيء من ذلك فما هم فيه من النعم يغلب عليه، لأنك إذا تفكرت فيما أنت فيه من نعمة الإسلام والتوحيد، رأيت أنك في أتم ما يكون، لأنه لا عيش مع كفر، إلا إن الإنسان خلق ضعيفاً، وقد رأى بعضهم في النوم قائلاً يقول له، أتحب أن تكون أعمى ولك كذا وكذا؟، قال، لا، قال، أتحب أن تقطع يدك ولك كذا وكذا؟، قال، لا
وقال رضي الله عنه لرجل مستخلف منه يريد الشحر، المراد مرور الحال، إذا مر وأنت دائم على طاعتك، غير مضيع لديانتك والشحر بلد مبارك، كان السادة يتعودونها، وحوط الشيخ عمر فيها أماكن كثيرة، ومات الشيخ عبدالله في طريقها، وقال الشيخ عبدالله، إذا جئت من الشحر، ولا معك شيء فاحمل شيئاً من ترابها فإنها مباركة، فعمل بذلك بعض الناس للتبرك بكلام الشيخ، فحمل من ترابها، فلما جاء إلى تريم، لحق فيه أحمر، قال، وكانوا يسألون عن حال الإنسان للمواصلة والمراحمة
(٢/٢٧٣)
وذكر رضي الله عنه التفكر فقال، إن أهل الزمان ما تَخَلَّوا للتفكر، بل تناتفهم الخواطر من شيء إلى شيء آخر، ولو أراد يصلي ركعتين مثلا نتفه الشيطان إلى غير ذلك، وهذا من الغرور بواسطة الشيطان، فلو أنه أحسن ما هو فيه لكان أحسن له من أن يتركه أو يستعجل فيه ليفعل غيره، ثم قد يفوت عليه هذا وهذا، وأما أولئك فقد أعطاهم الله قلوباً قوية، وأجساماً قوية، وأحوالاً قوية، نفعنا الله ببركاتهم، وكان داؤد الطائي ما بينه وبين الميت إلا إنه حي، وإذا سمع الإنسان بسِيَر الأولياء اليوم يقول، ما هذه إلا أضغاث أحلام، فأين هي اليوم، وإنما المتعنتون هم الذين يطلبون معرفة أيهم أفضل، وبيقين، إن الأنبياء والأولياء بعضهم أفضل ولكن من الذي يعرف ذلك؟، وإذا وُزِنَ بعضُ الفضائل ببعض، عُرِفَ الأفضل، ولكن في ذلك فضول ولا حاجة، وإن دعت حاجة إلى ذلك ينظر بقدرها، كما قد دعت العلماء الحاجة في أمور العقائد بسبب المعتزلة إلى تأويل وتفصيل، فلولا ذلك لكان بعد ما يحرز معتقده ودينه، ما عليه إلا العمل، ولا يوسوس، إلا إن كان حصلت وسوسة في العمل، كما تكون في الصلاة وخذه من هنا معنى حديث قول الله تعالى لآدم عليه السلام، أخرج بعث النار إلخ
وذكر رضي الله عنه الساعة فقال، أمر الله عظيم، وما هي إلا بغتات، ما تأتي والإنسان مستعد لها، إنما هي بغتة لا يُعلم بها كما يجيء المطر بغتة وينخسف القمر بغتة من غير علم للناس بذلك
قف على هذا الدعاء
وقال رضي الله عنه لبعض السادة، أكثر من الدعاء بهذه الكلمات، اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، وتوفني مسلماً، وألحقني بالصالحين
وقال رضي الله عنه، ينبغي للإنسان أن يفتش عن نفسه ولا يُخدع بغرورها، فكم من يُبَري نفسه من شيء وهو ملابس له أو نحو ذلك
(٢/٢٧٤)
وقال رضي الله عنه، ذُكر إن بعض عمال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له، إني رأيت الشمس والقمر اختصما، مع كل واحد منهما جيش وعسكر يحارب الآخر، وإني قاتلت مع القمر، فعزله عن عمله، وقال له، قاتلت مع الآية الممحوة، فاتفق أنه قاتل مع معاوية، وكان في عسكره على سيدنا علي كرم الله وجهه، ويعني بالآية الممحوة القمر، لقوله تعالى، { وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَآيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَآيَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَآيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً }
وقال رضي الله عنه، كلما جاء في حق الفقير من المدح فالمراد به الفقير من الدنيا، الغني من عمل الآخرة، لا الفقير منهما جميعاً، فإن ذلك شيطان
وقال رضي الله عنه، من أنفق عمره في غير طاعة أو وسيلة إلى الطاعة فقد أنفق أعز الأشياء في أخس الأشياء
ودخل رضي الله عنه الضيقة يوم الجمعة تاسع ربيع أول سنة ١١٢٩ فرأى صبياً يتيماً فقيراً، وكان تلك السنة في البلد قحط شديد، والجهة مُسنِتَة جداً، فقال له، غَدَّوك، قال، نعم لكنه قليل، فقال، اقنع اليوم بالقليل والشيء عند ربك، ثم قال، اليوم من معه شيء يقسمه بينه وبين مسكين، ومن ما معه شيء وحصل له قليل يقنع به، وأما أن يتسخط الإنسان القليل إذا أُعْطِيَه نُزِعَت منه البركة، ومع القلة والضيق لا ينبغي أن يحاذر الإنسان، بل يفعل كل شيء بقدر، ومن خبأ التمر لا لأجل صدقته، ولا لأجل مؤنته، فهو محتكر ملعون، وفي الحديث، (( إنه يحشر مع قتلة النفوس ))
(٢/٢٧٥)
وقال رضي الله عنه لبعض بني بعض بنيه، بعدما سأله عن أحوال بيتهم، قل لأمك قال حبيبي، استقنعوا ما عاد في الأوقات الضيقة إلا البركة، وهو سبحانه ما يسيب خلقه، ولكن إعرف حقه، واعمل ما أمرك به، ثم ذكر قصة رؤيا الذي رأى الدنانير، وسأل هل فيها بركة، ثم قال، الأمور خرجت عن أوضاعها، وقد كان الأولون، إن الاثنين، إذا وقع بينهما نزاع ذهبوا إلى رجل من أهل الدين والصلاح يصلح بينهم
وقال رضي الله عنه، لا يستقيم أمر كما ينبغي إلاّ مع العقل والتدبير، ومن لم يكن كذلك فليستعن بمن هذه صفته
وقال رضي الله عنه، الكِبْرُ ونحوه كالذري تطرحه وهو حبة، ولم تشعر به إلا وإذا به نخلة أو شجرة كبيرة، فليبادر إلى قطعه ما زال صغيراً، لئلا يكبر عليه فيعسر قطعه حينئذ
وقال رضي الله عنه، كلما قل عقل الإنسان كثر تكبره، ولهذا ترى أكثر الصغار والنساء يتكبرون
وقال رضي الله عنه، إنما فائدة بلوغ الإنسان حد التكليف، الترقي، فإن لم يترق فموته قبل ذلك أحسن، لأنه لم يبلغ الحنث، ويكون حينئذ على الفطرة
(٢/٢٧٦)
وقال رضي الله عنه، اسمعوا منا كلمتين، الأولى من حج ليحج للناس، فحجته معلولة، أو قال مدخولة، ويكون حجة إسلامه وحجج الناس في ذمته، والثانية إذا أراد الإنسان أن يعرف نفسه، فليعرضها على كتاب الله، فإنه خليفةُ رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في أمته وأهلُ بيته، قال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( تركت فيكم كتابَ الله، وعترتي )) فإن لم يعرف نفسه من كتاب الله، فليسأل الأئمة من أهل البيت، فإنهم نوَّاب جدهم وورثته يفسرون للناس ما أشكل عليهم من معاني الكتاب العزيز، فإن لم يجد منهم أحداً فليسأل عنهم ويبذل جهده في طلبهم، فإن لم يجدفليسأل نوابهم من الأئمة من غيرهم وهم العلماء العاملون، فقال له بعض الناس في بعض الأيام، أخبِرْني، قال، ألم تكن عاملاً بالقرآن؟، قال، الله أعلم، قال، ألم تؤمن إنه من عند الله وإنه معجزة لا يُقْدَر أن يُؤتى بمثله، وإنه منزل من عند الله؟، فقال، آمنت بجميع ذلك، وأشهدكم على ذلك، قال، كان
وقال رضي الله عنه، المال مذمومٌ من أكثر الوجوه، محمودٌ من بعضها
قف على كلامه في حضرموت
وقال رضي الله عنه، حضرموت لم تصلح إلا لمن اجتمعت فيه خصلتان، الطلب والتزهد، لأنه إذا كان كذلك، لم يُبَلْ لو جلس على الجمر
وقال رضي الله عنه، الأولاد في هذا الزمان بغوا منك صبراً، وإلا حرمتهم وأشغلتهم
وقال رضي الله عنه، لم يحصل للعباد حسن المعاد إلا بالجد والاجتهاد، إلا إن ذلك على حسب الزمان والحال بحيث يُعَدُّ الإنسان من مجتهدي الزمان، لا من المبطلين المقصرين
وقال رضي الله عنه ما معناه، ما عاد أهل الزمان لهم هَمٌّ، إلا نظرهم إلى حالتهم الراهنة والأمر العاجل، وغفلتهم عن مآلهم وأمرِ ما هم صائرون إليه، ولو نظروا إليه لكفاهم
(٢/٢٧٧)
وقال رضي الله عنه، بعدما أكثر من ذكر الزمان وأهله ووصفهم، يشيب الرجل في ذا الزمان ولم تصدق له رؤيا مرة واحدة، وقد كان الناس يرون في المنام ما يوجب لهم اليقظة والإنتباه من سِنَة الغفلة، ويحثهم على ملازمة الجد والتشمير
وقال رضي الله عنه، لولا الحرص على طلب فضيلة الجماعة وطلب الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يترك صلاة الجماعة، لاخترت الصلاة مع الإنفراد، لأن أهل هذا الزمان لم تزل قلوبهم في الوساوس حالة الصلاة، فتُشغِلنا خواطرهم وما يختلج في صدورهم
وقد سمعت مرة سيدنا يقول، إن أكثر ما تُرْتَج القراءة على الإمام من سوء خواطر المأمومين، وورد في ذلك حديث
أقول، قال لي مرة عمر باحميد، قلت للسيد أحمد الهندوان وقت انتظار بعض الصلوات، يا سيدنا إني لا أتمكن من قراءة الفاتحة معكم، فقال نتريض لأجلك، فتقدم يصلي بالجماعة، وصليت معه ركعة أو قال ركعتين، ولم يخطر لي خاطر، وهو متريض أكثر مما يعتاد، ثم ما أدري إلا خطر لي خاطر فطار من العجلة حتى ما أتممت الفاتحة إلا بعد ما فرغ من السجود الثاني
انظر قدر صلاته نفع الله به
وذكر سيدنا نفع الله به صلاته يوماً فقال ما معناه، صلاتنا هي الصلاة المعتدلة لا تطويل فيها ولا إخلال، وقال لي مرة بعد ما أقيمت صلاة الظهر، إجلس إحزر صلاتنا، فحين ما أكبِّر إبتدِيءْ في قراءة سورة يس، قراءة متوسطة بلا عجلة ولا تأن، فحين ما كَبَّر شرعتُ فيها على ما وصف فأتممتها قبل أن يسلِّم، ثم قراءة الفاتحة وسورة الإخلاص، فأتممتها مع سلامه، ثم أمرني كذلك لصلاة العصر فأتممت سورة يس وقل هو الله أحد مع سلامه
وقال رضي الله عنه، إذا لم تراقب الله فراقب الناس، لأنك بذلك تسلم من الإثم
(٢/٢٧٨)
أقول، معناه إذا لم تترك ما نُهيتَ عنه إمتثالاً لأمر الله أو خوفاً منه فتثاب على ذلك، فاتركه حياء من الناس، تسلمْ من الإثم حيث لم يحصل لك ثواب، فتحوز أقل الغنيمتين، فالسلامة إحدى الغنيمتين
وقال رضي الله عنه، لم يكف فعل الأمر في الباطن، ولم تسقط عنه المطالبة به في الظاهر، وإن كان في الحقيقة سواء
أقول، لعل مراد سيدنا ما مثاله كما يقع لأحد من أهل الله، إنهم يحجون وتتحقق رؤيتهم في الحج، وهم في أماكنهم ما فارقوها، وإنما لم يحجوا غير ذلك في الحس، لأن الشريعة لها حق مطلوب لله، لا يكفي عنه غيره، والحقيقة كذلك فلا بد منهما، كصور الأعمال مع الإخلاص، فلا يكفي أحدهما دون الآخر
وقال رضي الله عنه، الملَلُ من ذكر الله، وكثرةُ النوم، وكثرةُ الأكل، وكثرةُ الكلام، كل هذه الأشياء أمراض في القلب تنبغي معالجتها والتداوي منها
وقال رضي الله عنه، المشغول في باطنه، إذا اشتغل في ظاهره غفل عن الشغل الباطن، وكذلك مشغول الظاهر إذا اشتغل في الباطن غفل عن شاغله الظاهر
وقال رضي الله عنه، يقال، لا يخلو الطبيب من مرض في الغالب كما قيل ،
يموت راعي الضأن في ضانه كموت جالينوس في طبه
وقال رضي الله عنه، كلام الصالحين إما وارد، وإما قد أداره المتكلم على قلبه، وكل ذلك صواب ولا سبيل إلى مخالفته
وقال رضي الله عنه، إن الله يُذَكِّرُ عباده في الدنيا بذكر الوعد والوعيد، فإذا كان يوم القيامة جمع الله جميع الخير كله في الجنة لأهلها، وجمع الشر كله في النار لأهلها
وقال رضي الله عنه، من كره ما تحمد عاقبته في المآل، ولو كرهته النفس في الحال، فهو مريض القلب، يحتاج أن يصحب أحداً من أطباء القلوب يداويه منه، لأن كلما يُقَرِّب إلى الله مرادٌ للقلب، غير مراد للنفس، والعكس مرادٌ لها لا لَهُ
وقال رضي الله عنه، ومن دخل عليه شخص فوجده على طعام فاستحيا منه فهو متكبر
(٢/٢٧٩)
وقال رضي الله عنه، في قول الشيخ سهل بن عبدالله التستري رحمه الله (للعقل مائة اسم لكل اسم ألف اسم) فقال، قد تحصل لهم غلبات، ويقع مثل هذا الكلام فيها، ولو سئل عن ذلك بعد حين لأنكره وقال، ما قلت ذلك، كما قال الشيخ عمر المحضار، سمي الفؤاد بذلك لأن فيه ألف وادي، ولما مر في القراءة قول صاحب العوارف، لما ذكر في أولها جملة من علوم القوم كالفَناء والبقاء، والمحو والصحو، والخاطر، ونحو ذلك إلى آخر ما ذكر، فقال نفع الله به، هذه هي العلوم التي يقول الشعراوي، نعلم مائة ألف علم، وفلان يعرف كذا كذا من العلوم فهي من هذا القبيل
وقال رضي الله عنه، في قول بعضهم في الرسالة، (الخُلُق، أن تكون من الناس قريباً، وفيما بينهم غريباً) قال، غربَتُه، أن لا يحب أن يكون له عندهم جاه، وأن يكره إحسانهم وثناءهم عليه، وقربُه منهم أن يعينهم على الخير ويحسن إليهم
وقال رضي الله عنه، ليس مع الله ومع أوليائه غربة، إنما الغربة مع النفس والهوى، ثم قال، إحفظوا هذه الكلمة
وقال رضي الله عنه، العز، ما يحصل لأحد من الخلق من العز بسبب دينه مع الإخلاص، وأما ما يكون لأبناء الدنيا من القيام لهم، واحترام الناس لهم، فليس هذا عزاً بل ناموساً ينبغي لمن حصل له ذلك أن يستعيذ بالله منه، لأن هذا عبد مبتلى بنفسه، غالبة عليه
وقال رضي الله عنه، لا يظنن أحد ممن يطلب الرياسة أن تستقيم له، إلا بسرّ أو عبادة، وإن ظن الإنسان أنه يفعل
وقال رضي الله عنه، الذي يجمع المال للمال أحمق، وإذا لم يعط الإنسانُ ربه من نفسه يأخذ الله منه بيده، ومن فيه حيا وهمة لم يطق الضولة بل لو أراد أحد يأخذ حقه تركه له
(٢/٢٨٠)
وقال رضي الله عنه، من جالس أهل السر بالتجسس والتطلع حُرِم بركتهم، ولا نرى نحن إلا ما كان على الكتاب والسنة، ومن قال شيئاً بنفس وهوى فالله حسبه، ومن أراد أن ينقل عنا فليفهمه أولاً، وإلا فلا نأذن في ذلك
وقال رضي الله عنه ما معناه، اسمعوا منا كلاماً واحفظوه، وانقلوه عنا، إن جاء بعدنا أحد وقال لكم، إن فلاناً أطلعني على كذا أي من المغيبات، أو فَعَل لي كذا أي من الخوارق، أو قال لي كذا أي مما ينكره ظاهر الشرع، فكذبوه، ولا تتوقفوا عن تكذيبه أو كما قال
وقال رضي الله عنه، الفقراء كالماء، تَرِدُهُ الدابة وهي ظمآنة ثم تعود تبول فيه
أقول، أي يأتيهم الزائر وهو في غاية التعطش إلى رؤيتهم، ثم إذا طال مقامه معهم، ربما يعود إلى الملل والسآمة، وحينئذ عليه خطر من قلة الاحترام والتأدب وربما أدى إلى الإعتراض عليهم فيخسر في دينه ودنياه
وسمعته رضي الله عنه يقول، إن الناس لم يحبوا الصالحين لمجرد الصلاح فقط، وإنما حبوهم لأنهم انخلعوا عن الدنيا بالكلية وتجردوا عنها وتركوها لهم، فلم ينازعوهم فيها ولم يضايقوهم عندها، فلذلك أحبوهم، لأن الإنسان مجبول على بغض كل من يطلب أمراً وهو طالبه، وحب من يترك ما هو طالبه
وسمعته نفع الله به مراراً في أيام متعددة يردد هاتين الكلمتين، يامن لاتخفى عليه خافية، أسألك اللطف والعافية
وقال رضي الله عنه، أخطر الأعضاء على الإنسان لسانه، لخفته، وبقية الأعضاء قد تتعسر عليه المعصية به إما لخوف مخلوق أو خسارة ونحو ذلك بخلافه هو
(٢/٢٨١)
وقال رضي الله عنه في قول أبي عمرو اسماعيل بن نجيد المذكور في "رسالة القشيري"، من ضيع في وقت من أوقاته فريضة افترض الله عليه، حُرِم لذة تلك الفريضة ولو بعد حين، إن كلام الصالحين يؤخذ للإعتبار فقط، ولا يكون هذا لكل الناس، بل ربما يكون لبعضهم، بل ربما اختُص به القائل، لأنه جرب هذا من نفسه، ولا يكون لغيره، ولا يعم إلا إن كان كلام الله وكلام رسوله إذا ورد في العموم
وقال رضي الله عنه، يعسر طلب مجرد الفضيلة لمجرد كونها فضيلة إلا على أهل الفضل
وقال رضي الله عنه، إذا قوي الروح احتاج إلى مراعاة البدن وقُوَّتِه لأنه مطيته وإلا خيف عليه تغير المزاج
وقال رضي الله عنه، إنما تم النعيم لأهل الجنة لتمكن الأرواح منهم، كما تمكنت الأجسام في الدنيا، لأن النعيمَ والراحةَ مع تمكن الأرواح، والتعبَ والشدةَ مع تمكن الأجسام، ولهذا كانت الدنيا سجن المؤمن
وقال رضي الله عنه، من فيه خيرية وكان ذا دين لم يزل يستفيد من خيِّر وشرير لأنه يرى فائدته فيأخذها، ولا ينظر إلى من سمعه منه
ما قال في شرب الماء البارد في الشتاء، والحجامة
وقال رضي الله عنه، كنا نسمع من الأولين، إن شرب الماء البارد في الشتاء حيث يشتد البرد، إنه يستحيل في الباطن دماً فاسداً، وكان يُنهى عنه كثيراً
وقال رضي الله عنه، الحجامة على ثلاث درجات، للضرورة فمتى دعته إلى ذلك، وللحاجة فينبغي أن يترقب بها الأوقات المذكورة في الحديث، وحقِّ البلوة فلا ينبغي للإنسان أن يَهريق دمه بلا فائدة، لأن الدم حياة البدن
وقال رضي الله عنه، من يحب الناس ويحبونه فهو مفتون، ومن أحبهم ولم يحبوه فهو مفتونان، ومن لم يحبهم وهم يحبونه أو لا يحبونه فهو أسلم وأقرب إلى السلامة
وقال رضي الله عنه، لا أحسن للإنسان من أن يلزم وصفه من العبودية والفقر المحض، ولا يخرج من ذلك أبداً
(٢/٢٨٢)
وقال رضي الله عنه، إن لإبليس في أهل الشمال تمكيناً إِلهياً، وإنه سأل الله التمكن من الفريقين أهل اليمين وأهل الشمال، فلم يمكِّنه من أهل اليمين، فقال تعالى، { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِم سُلْطَان } ومكنه في أهل الشمال فقال تعالى، { إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِين }، { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجلِكَ } الآية
أقول، ذكر الشيخ ابن عِرَاق، إن بعض الصالحين رأى إبليس في صورة رجل فقال له، لِمَ تضل عباد الله؟ فقال له، الزم الأدب، وقف عند حدك من العبودية، فإني مأمور فيما أنا فيه، كما أنت مأمور في ما أنت فيه، أما سمعت قوله تعالى، { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم }إلخ، وفي كلام آخر عن هذا الصالح أو غيره من الصالحين، لمَّا قال له، لِمَ تضل إلخ، قال له، تأدب لا تعترض علي، فإن كنتُ أضللتُ عباد الله، فأنا من أضلني؟، كنت أنا جالساً على سجادتي في عبادتي عند العرش، فنوديت هناك أُخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين نعوذ بالله من مكره وغضبه
وقال رضي الله عنه، كلٌّ فيه هوى وليس الشأن أن يذهب الهوى بالكلية، وإنما الشأن أن يعمل على خلاف مايقتضيه مع وجوده، والعمل على خلافه يضعفه، وكلما ازداد من العمل على ذلك ازداد ضعفاً، حتى إنه ربما يتوهم عدمه، وليس بمعدوم، بل يكون ضعيفاً جداً
مناقب سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه
(٢/٢٨٣)
وقال رضي الله عنه، مِن أعظم المناقب لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أن أسلم أبواه وأدرك أبوه خلافته، وحج إلى مكة واجتمع بأبيه، ولكنه ماجلس إذ ذاك في مكة إلا نصف يوم، ولما ذكر لأبيه إن ابنه صار خليفة بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال، أَوَ رضي قريش به، قالوا، نعم، قال، سبحان من أعز ذليلاً، وأذل عزيزاً، قال ذلك لأنه كان من تيم بن مرة، وكانت قريش تعده من أقل بيوتهم، قال سيدنا في حديث، (( الأئمة من قريش )) أي الأئمة في الدين والعلم، ومن كان منهم ضعيف الدين جاهلاً، بأي وجه يستحق التقديم، بل يتعين عليه يجتهد أن يصير عالماً تقياً ليصير أهلاً للتقدم، وقد قال الشيخ علي بن أبي بكر لابنه الشيخ عبدالرحمن بن علي، تفخسس تسلم، لا تكن عقرباً تقتل، وكن ذَنَباً في الخير ولا تكن رأساً في الشر، فإن الرأس أول مايقطع
وقال رضي الله عنه، الجنة ممالك ودرجات، والنار مَبَارِك ومَعَارِك ودركات، وقال، أمور الدنيا تابعة لأمور الدين كالظل من الشاخص
وقال رضي الله عنه، من لا يخاف من الله خَوِّفْه بغير الله، لأن المراد الإنكفاف
وقال رضي الله عنه، الأشياء لاتظهر عند أوائلها إلا لأرباب البصائر، وإنما تظهر عند أواخرها
وقال رضي الله عنه، كلما ذُكِر عن الأكابر من الكلام الذي ظاهره التبجح، كقول الشيخ أبي الحسن الشاذلي، منذ أربعين سنة ما حُجبتُ عن الله، وقول أبي العباس، لو حُجبَتْ عني جنة عدن لحظة ما عددت نفسي من المؤمنين، كل هذا مؤول وليس على ظاهره
(٢/٢٨٤)
وذكر رضي الله عنه بعض السادة فأثنى عليه، وقال، لابأس به هو رجل مذاكر، ولا في جماعته مثله، إلا إن الزمان منقوص، إنْ ما انتقص من كلا طرفيه، انتقص من طرف واحد، وقد ذكرنا لرجل من السادة فقلنا له، لو اجتمع السادة على رجل يقدمونه ويرجع رأيهم إليه، إن كُتِبَتْ ورقة أو حصلت مشاورة أو مقابلة في أمر، فقال، إن كان أنتم فنعم، فقلنا، لا، نحن لايمكننا لأننا لا نحبه أولاً، ولأني مدبّر، وسلوا عني أهل بيتي، ودعونا نحن للعلم والدعاء، إن طلب أحد يقرأ علينا في علم نحسنه، ونقرر عليه على مقتضى حاله وحالنا، وأنتم أعرف بأمركم، والتوسط بين الناس أمر عسر، أشد من الحكام، لأن هذا يحتاج إلى إقامة الشرع والعادة، وذكرنا له ذلك الرجل، فقال، لا نريده، وهو فيه كفاية إلا إن الزمان محسود
وذكر رضي الله عنه التجرد فقال، ما هو بعسر، لو أراد كل أحد أن يتجرد سهل عليه، وإنما يعسر على أهل العلائق، ومنهم مَن عوائقه في نفسه، ومنهم من عوائقه في غيره، وإلا فالإكتساب موجود لكل أحد لكن هذا فيمن قنع بالقوام، إما بقوت أو بقوة، وصاحب "التنوير" نَبَّه كما ذكره المتقدمون، ولكن المغرور يظنه إنما يحسن أن يكون هكذا ويترك العمل ويتكل
وأنشد رضي الله عنه يوماً هذا البيت ،
ياصاحباً كله مليح عملت بالفضل وبالجزاء
وقال رضي الله عنه، كل ما مع الخلق من التدبير إنما هو من عند الله، بواسطة وحي أو إلهام، ولهذا طُلِبَ إقامة الإمامة والولاية لينتظم الأمر ويؤدي حقوق الله وحقوق العباد وما وقع من خلاف ذلك، فإن الله لا يزال يعفو عن صغار الأمور حتى يحصل شيء من كبارها، فيعاقب عليه في الدنيا قبل الآخرة بخسف أو غيره، فإن لم يكن خسفاً ظاهراً كان خسفاً باطناً، يخسف القلوب فلا تتأثر بموعظة، ولا تخشع في عبادة ونحو ذلك، وكلما لا يحتمل أهلُ الله الصبر عليه والسكوت عنه، هو الذي يعاقب اللهُ عليه
(٢/٢٨٥)
أقول، وهذا الذي كان رضي الله عنه ينهى عنه الناس من متداينات الربا، وأمور أخر من المناكر الكبار، التي لا يحتمل أهل الله الصبرعليه حتى أصابه نفع الله به ما جرى عليه من ذلك العارض سنة ١١١٥ وسنة ١١١٦ كما ذكره تلميذه عبدون بن قطنه، مما جمعه في رسالته، ولهذا عاقب الله أهل الجهة حيث لم يمتثلوا أمره بهذه العقوبة الشنيعة، التي أخرجتهم من أموالهم وأوطانهم، ودامت من أول يوم من سنة ١١١٧ إلى حين كتابة هذا النقل سنة ١١٧٠، وبعد ذلك إلى أن يشاء الله، فأعجِب لإشارات سيدنا وما يومي إليه كلامه مما قَرُبَ أو بَعُدَ في حياته وبعد مماته
وذكر رضي الله عنه ذات يوم ماوقع على الجهة في أموالهم وأحوالهم، فقال، ماعاد إلا يدعو الإنسان، اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، وقاعدة، الظالم مخذول، وهؤلاء مَثَلُهم مثل سيل عِدِم، إذا جاء يقول الناس، المتطرف يميل لا يشله، ولكن السيل يخفش، وما فات يخلف الله، ومظلوم ولا ظالم، ولا عاد نَفَع فيهم الدعاء، مع إن المظلوم دعاؤه لابد ما يُسمع ولو بعد مدة، ولكن المظلوم إذا كان ظالماً لا يُسمع دعاؤه وقيل ،
المرء يغلط في تصرف حاله ولربما اختار العناء على الدعة
هل لا يحاول حيلة يرجو بها دفعَ المضرة واجتلابَ المنفعة
وهذه أشياء بذنوب، منها شيء نسيه الإنسان، وشيء ما استغفر منه، وشيء فعله وهو يستلذه، فلا عاد تحرك أحداً فيتجرأ، كقصة ذاك الذي جر أباه من فوق السطح إلى الضيقة، فدخل عليه غريم له وطالبه، وقال له، جريت أباك إلى هنا، فأنا أجرك إلى خارج وجره، وهذه أمور خَوِّفْ فيها بالله وبالرسول وبالسادة، ولا عاد معهم تقوى ولا عقول ولا صيانة، فإذا ذَكَّرت عيالك فهكذا علمهم ولا تُجَرِّيهم، وتقول كان فلان فيه أمانة، وصفته كذا وكذا
(٢/٢٨٦)
وقال له رضي الله عنه رجل، ادع لي، خاطركم بالطاعة والعبادة، فقال له، مكانك فيها لا تخرج منها فإنها ما عليها باب، وما دعاك اليها، ويريد أن يمنعك منها، لكن ما المانع لك منها إلا ربك
وقال رضي الله عنه، إذا أتاك الأمر المستقيم في نفسه فخذ به، وإن لم يصح عمن نقل عنه لأنه صحيح في نفسه،
وإن أتاك الأمر الفاسد فلا تأخذ به وإن صح عنه، لأنه فاسد ولعله إنما فسد في طريق وصوله اليك
وقال رضي الله عنه ضحوة يوم الثلاثاء ٢٩ رجب سنة ١١٢٢ في الغيلة بمحضر جماعة أتوه زائرين، مَن طلب الفضل لنفسه وحاول أن لا يكون لأحد غيره، فما له فضل، فإن موارد فضل الله معه تَسَعُه وتسع غيره، فَلِمَ يضيق من تعديها إلى غيره، فليشربه كله إن قدر على ذلك
وقال رضي الله عنه، إذا أفرط إنسان في محبة أمر أو بغضه، انعكس إلى ضده لأنه لا ضابط حينئذ فينعكس الأمر
ما قال في البحر
(٢/٢٨٧)
وذكر رضي الله عنه البحر فقال، إن الله قال، { سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ } في غير موضع، ولم يقل وسخر لكم الأرض في موضع، والتسخير إنما يكون فيما يعظم ويهول وقد قيل، البَّرُ بكُم أَبَرُّ وحُسْنُ حالِ البحرِ نادرٌ، والأغلب فيه الإضطراب، ثم إن اضطرب أشغل، أو السكون الكلي ويشغل أيضاً، وحكى بعض الصالحين من أهل المغرب، إنه أراد الحج فتحير هل يسافر براً أو بحراً، فعزم على أن يشاور أول من يلقاه، فاتفق أنَّ أول من لقيه يهودي على بغلة، فتوقف أولاً عن مشاورته، ثم استشاره فقال له مارأينا فيما سمعنا من كتابكم أن الله ذكر البر والبحر في موضع إلا بدأ بالبر قبل البحر، فَسِرْ فيه خير لك، فسار في البر وهو أسْلَمَ، وقيل لسيدنا، ما يحصل من البحر هذا الوقت قليل، فقال، سبحان الله هذا لأمر وإلا فسكان البحر لا تقصير منه، وإنما ذاك من سكان البر، إلا إن كان لما كان ذلك نصيباً لأهل البر، ومن رحمته سبحانه وتعالى ولطفه أن قال تعالى، { ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ } إلى أن قال، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون } ولم يقل لعلهم يهلكون أو يذهبون، إنما ذلك استجرار منه لعباده إلى طاعته
وقال رضي الله عنه، أحسن ما في هذا الزمان قطع العلائق، لأن الزمان مظلم وخرجت فيه ظلمات الساعة
وقال رضي الله عنه، من بنى أمره على الفتوح، فهو كالبحر ما له في السارحة بارحة
وقال رضي الله عنه، الحب والبغض موروث، وإن لم يعلم الوارث
ما قال في بلدة قَسَم
(٢/٢٨٨)
وذكر رضي الله عنه قرية قَسَم ذات يوم فقال، سميت بذلك لأنها مُقْتَسَمة بين السادة، وهي حوطة وإنما تكون الحوطة حوطة بالنسبة لعقيدة المعتقِد، لا المعتقَد، لأنه لا يعتقد في نفسه ولو كان ولياً، لأنه محجوب بنفسه عن قلبه، فإن النفس حجاب القلب، فإذا قوي القلب انخرق منه باب إلى النفس (وبعد هذا بياض لعله سقط كلام متعلق به) وهذا لا يَعرِف معناه إلا هو، ومن هو من أهل مقام الولاية
وقال رضي الله عنه، ذَكَر بعضهم، ينبغي أن يفرح الإنسان بحصول الشدة، لأن الرخاء يعقبها، ويكرهَ الرخاء لأن الشدة تعقبه، وقدَّم إليه نفع الله به بعضُ أخدامه حذاءه ليلبسها، فقال له افتحها لتزول بذلك كراهة لبس الحذاء قائماً، لأن السبب فيه خوف السقوط، فتزول بزواله، وتناول ابنه السيد علوي رحمه الله الورقة التي كنت أنقل فيها كلام أبيه سيدنا نفع الله به، فكتب فيها كلاماً سمعه منه، فنقلته هنا من خطه وهو، قال سيدنا، كان بلغنا أن السلف لما اختلف عليهم ولاة الأمر، وكثر بينهم القتال، ساروا إلى عند نبي الله هود عليه السلام، واستغاثوا بأن الله يختار للجهة ويجمعها، ويسلمها لرجل واحد، فأجيبوا وقد رأينا هذا اليوم إجتماعاً في ذلك المحل، وفيه ناس من السادة من الأحياء والأموات، وهناك من ينشد بشيء من كلامنا، ورجونا أن يكون ذلك فرجاً للجهة وأهلها مما حل بهم والله أعلم
أقول، وكان مارأى ضحى يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الثاني سنة ١١٢٣، ومن الأموات السيد حسين بلفقيه، والسيد حامد بن علوي، وغيرهما وهي إما رؤية منام أو تورية عن الكشف، لكونه أطلق الرؤيا
(٢/٢٨٩)
وحضر عنده رضي الله عنه جماعة، فبقوا سكوتاً لا يتكلمون، فقال، السكوت مع الإجتماع ما له معنى، ولو كانوا يسبحون، فلأي شيء الإجتماع، فليسبح كل إنسان وحده ولا نرى مع الجمعية أحسن من قراءة كتاب ليسلم الإنسان خصوصاً في هذا الزمان، حيث لا يخلو كلامهم من كذب أو غيبة، وهذه عادتنا من قديم كما قيل ،
أعز عزيز ماعلى الأرض سائح وخير جليس في الزمان كتاب
وقال رضي الله عنه، طريقة آل باعلوي، من تأملها عرف أنها هي الطريقة الوسطى المعتدلة التي لا تُنكَر، من رأى تواضعهم وزهدهم وفقرهم وخمولهم وسلامة صدورهم، ومن صحب أحداً لا بد أن يقتدي به، ولو في بعض الشيء على حسب الحال والزمان، وإلا خرج إلى الخلاء ومرَّ في القراءة حديث، (( إن الله يَبْغَضُ السخي عند موته، البخيل في حياته))، فقيل، أليس هو أحسن ممن لم يفعل أبداً، فقال، وورد، إنك إن تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وايش هذا الكرم الذي جاءه عند الموت، بعد أن لم يفعل محتسباً لله تعالى في حال صحته بل لا يجوز له إن قصد أن يُحرِم ورثته
وذكر رضي الله عنه أهل الزمان وإدبارهم، فقال، لو عاد حذفوهم بالحجارة مانفع لأن الشارد شارد، ماعادها إلا حثالة، وقد عرَّف الشعراوي أهل زمانه ببعض صفاتهم، وهم اليوم إلا خضخاض كحثالة الإناء
وذُكِر له رضي الله عنه جماعةٌ فاتهم الحج فقال، لا بد لله تعالى في ذلك خيرة، ولكن خيرة الله تعالى لا تظهر سمح ما تظهر إلا ما فيما بعد، وقيل له نفع الله به، عجيب من اختلاف طبقات الناس ونياتهم، حتى إن الواحد يحب وجود الشيء وآخر يؤثر خلاف ذلك، فقال، دعهم لربهم حتى يخرجوا من الطاعة، وإلا فدعه لهم فله فيهم مراد
(٢/٢٩٠)
وجلس ضحوَة يومٍ رضي الله عنه، وهو مُحْتَرٌّ وكان الوقت في شدة الحر، ثامن نجم البلدة ١٨ جماد آخر سنة ١١٢٤ فجعلت أروّح عليه، وذلك يوم الجمعة في داره التي بالبلاد، فقال، سبحان الله، لو أن أحداً رَوَّحَ عليك في الشتاء، أشغلك، فعجب للإنسان كيف يفر من خلاف حظه إلى حظه، ولو فعل أحد معه خلاف حظه، صار عدواً له، ويختلف ذلك باختلاف الأوقات واختلاف الناس، الفاعل والمفعول به، فلو ضربك بيده أحد من أداني الناس، ربما حنقت، ولو فعل ذلك بك أحد من أحاسن الناس، ربما لم تحنق، فقد يجلس الشريف والضعيف والحائك في محل، فإذا كان بيد الشريف مروحة لا يتركونها في يده بل ينازعونه إياها، فلا أدب لهم ولا حرمة، ولا فيهم لبيب ونحن قد طُلِبَ منا أن يُرَوَّحَ علينا في أماكن أحسن من هذه، فامتنعنا إراحة للناس وسلامة من التشبه بأهل الرفاهية، والناس غير يروحون على المحتشمين وإذا بطلت الرياسة بطلت السياسة
ما قال في الجن
وكان رضي الله عنه ذات يوم في فسحة في غرفة آل فقيه في الصالح، وذلك يوم الاربعاء ١٧ ربيع الأول عام ١١٢٨هـ، فجاء رجل من أهل شبام من غير أن يعلم بذلك، فقال سيدنا له يمازحه، من أعلمك بأنا هنا؟ أَجِنّي؟، قال، علمت، فقال، إن أهل الطاعة من الجن ينقادون لأهل الطاعة من الإنس وكذلك الشياطين من الجن ينقهرون لأهل الطاعة من الإنس، وفيهم مماثلة، ومشابهة منهم كثيراً، حتى إن فيهم شيعة كما في الإنس
وعن ابن عباس، إن فيهم ابن عباس مثلي، ولهم مع الإنس وقائع، حتى إنه ذكر إن رجلاً من أهل شبام، كان له قرين من الجن يقرأ معه القرآن، ولهم وقائع كثيرة، حتى إن رجلاً رأى جنياً، فقال الجني، أنا شريف، فقال له الآخر، أَوَ فيكم أشراف؟، قال، نعم وفينا مشايخ مثلكم
وقال رضي الله عنه، الطرق كثيرة والمقصد واحد
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكُلٌّ إلى ذاك الجمال يشيرُ
(٢/٢٩١)
وذلك كالصلاة وغيرها، إذا كنت تريد الله فاعبر على النار إلى الجنة، وترى الله سبحانه فيها، ولكن إفهم المقاصد، وصحح النية وفساد الطرائق والمقاصد عسر
وقال رضي الله عنه، إذا لم يكن للنفس نظر بينها وبين صاحبها تغيرت، وقد حمل عمر بن الخطاب قربة ماء، وهو خليفة، وكل شيء يُعْرَف بقدَر، ولا أحد أعرف منه من نفسه، وإذا رأيت إنساناً لا تنكر، فرب شيء غير مذموم فلا تنهه إلا إذا علمته عن كِبر ونحوه، ولو مَرِضَ اجتهد في إزالته، واهتمامه بأمر قلبه أهم عليه من أمر جسمه
ودخل عليه رضي الله عنه بعض السادة في آخر يوم من نجم الغَفْر، فقال سيدنا، في الوقت برد، على خلاف العادة ولا بد لله في ذلك حكمة أقل ما يكون في ذلك العبرة، لأن الإنسان إذا رأى ما يخالف عادته يتعجب فيعتبر، فيشل رأسه أظن قال، يحركه بخلاف ما يعتاده
وذكر رضي الله عنه جماعة من السادة فيهم صفاء، ثم قال، ذاك كان زمن صفا بلا كدر، واليوم اختلط منه الصفا والكدر، أما سمعت قول القائل، يا الله بجنون واضح ولاّ عقل ناصح
كلامه في ذكر زيارة النبي هود عليه السلام
وقال رضي الله عنه ليلة النصف من شعبان وذكر زيارة النبي هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أرى منصبين في حضرموت، إما يدمران بالكلية، أو ينقلب خيرهما شراً، أرى ذلك واقعاً وظاهراً فيهما، لأنا نرى أهلهما يسعون في خرابهما، وقال، قواعد الزيارة من جانب الشيخ أبي بكر قد تغيرت عن قواعدها المعتادة وأصل الدعاء فيهم إلا من الشيخ شهاب الدين، هو ترك الشيخ أبابكر يدعو فبقيت عادة لهم
(٢/٢٩٢)
وقال له رضي الله عنه رجل، إن الناس يروحون لزيارة النبي هود عليه السلام يخبُّون لأجل أن يدركوا العيد هنا، فقال سيدنا له، اسكت لا تطرح الملح على الجرح، وقد تقدم قوله، مَنْ رَوَّح ما له زيارة، لأنه خالف ترتيب السادة وما درجوا عليه، فكأنه مراغم لهم، وما جعل الشيخ أبوبكر بن سالم الحضرة إلا ليجتمع الناس ساعة، ويذكرون الله ويدعونه، ويقرأون مولداً لحصول البركة بالإجتماع، ومن سرح بعدما حضر الحضرة له نصف زيارة، ومن نفر فله زيارة تامة، فرب شيء من الأمور الإلهية، مرتب على ما رتبه السادة
وقال رضي الله عنه، هذه جهة ضعيفة ما تستقيم فيها إلا إن أردت أن تحمل كل ما ترى فيها على الضعف، وإلا أظن قال، الرعاع لا يستقيمون على حال، قال، لأنهم أشرار، ولا فيهم صيانة ( ثم استمر به الكلام ) ثم قال، كما قيل، يافصيح لا تصيح، فسمعه واحد، فقال، بل صح لعل أحد ينقذك
وقال رضي الله عنه، كانت الأشياء هنا يعني في الجهة من عوائدهم مع القل، والأمور كلها كل أحد على قدر حاله من حيث الجِدَة والقلة، وكان لا عذر من دقتين من الطيب في السنة أحدهما من الأبيض والأخرى من الأحمر، وأين الناس اليوم، مات الدين والدنيا عندهم، ومن مرت عليه الأيام مثلنا ومثل السيد علي بن عبدالله أي العيدروس، قده إلا غريب في كل الأشياء من العوائد وغيرها، حتى إنا إذا أذكرناهم بأمر من أمور الدين، قالوا، أينك فَين، فنقول لهم، أنتم أينكم فَين، وكان من عوائد الأولين، إنه إذا تزوجت المرأة ولا لها ظعون بقيت عند أهلها سنة كاملة ما يطالَب الزوج لأجلها بشيء من أمر المعيشة أبداً لا في قليل ولا في كثير، وهذا المدة كلها ما فيها خوض (أي مطالبة)، وكانوا على أساليب جَرَوْا عليها، وحملوها عن غيرهم، وهم فيها على مراتبهم كل أحد يعرف طبقته ومَن هم جنسه من الأشراف وغيرهم
(٢/٢٩٣)
وقال رضي الله عنه لرجل ثقيل على خواطر الناس، وهو مع ذلك يلومهم في عدم إقبالهم عليه، الذي ترجوه من الناس قَدِّر إنك ترجوه من الله، ومن تميز بالدين لا يعلق قلبه بالناس، أو يقول للناس، عظموني واصطنعوا إليَّ واظب على قراءة القرآن والطاعة، لكن مع الإخلاص، ولا عليك من الناس، إذا رأوه متمسكاً بالدين عظموه، وعاده إلا يرد الزائد، والرزق مقسوم، لو بغيت ترده ما ارتد إلا بالذنب، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( إن العبد قد يصيب الذنب يمنعه الرزق)) وأسأل ربك البركة، فإن القليل مع البركة كثير، والكثير مع عدمها قليل كقصة صاحب الدينار وإذا حصل للإنسان رزق، فصَرَفَه في الشهوات، إيش الفائدة هل شيء غير الحساب؟
ومر في القراءة في تفسير البغوي، عند قوله تعالى، { وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه} فقال، ينبغي أن يرشد العامي إلى التسمية عند الذبح، لما في القرآن وللخلاف في ذلك، لأن أحوالهم الغفلة، إلا إن كان عنده معرفة بشيء قليل فلا يستعملونه، وقد رتب الله تعالى لكل أمر يتعاطاه الإنسان أذكاراً تخصه من نوم وانتباه ودخول وخروج، حتى إلى حد إذا اشترى دابة أو جارية ونحو ذلك، فمن فعل جميع ذلك كان متنبهاً، وإلا فغافل بقدر ما أغفل، وقد يتعود الإنسان الذكر في شيء من هذه الأمور فيجري على لسانه من غير تقصد، أو كما قال
وقال رضي الله عنه، ما شيء أدل على الزهد من السخا، والذين يحبون الدنيا ما يحبون الصالح إلا لسماحته لهم بالدنيا
(٢/٢٩٤)
وقال رضي الله عنه لرجل بعد ما ذكر أمر المعاش، اقصد محبة الله، وهذه الأمور تجيك عَرَض، أيُعوِز اللهَ أن يعطيك خرقة وكسرة، لو كان هو مانعاً ذلك أحداً لمنعه الكفار، فإذا أردت أن تعرف الله، فانظر إلى الكفار، كيف يرزقهم وينعمهم، تعرف إن الدنيا بأسرها هَمٌّ وشاغل، ولا ترى أَرْوَح ممن يأكل كسرة خبز على دكة أو في مكان مثل الطَلَب فإنهم أَرْوَحُ من غيرهم بكثير، وقال لي بعض الجماعة، إن الحبيب قال لي يوماً، ما لك ليس لك تدبير ولا معرفة بالأمور؟، فقلت، يا سيدنا إن الله لم يجعل لي شيئاً من المعقول، ولا أُحْسِن فيه تدبير الأشياء، فقال رضي الله عنه، أما علمت أنهم قد ينزعون من الإنسان المعقول، فيقربوه بذلك إليهم، ويعطونه معقولاً فيُبَعِّدُونه بذلك عنهم
وذكر رضي الله عنه "منهاج العابدين" فقال رجل، لكنه عسر، فقال سيدنا، ما عليك، إذا أُخِذَ على المقدور أحسن من لا شيء، كما قيل لسفيان الثوري، قد سبقنا أناس إلى الله تعالى، وتبعناهم على حُمُر عرج، فقال له، أَوَ نحن على الطريق على أثرهم؟، فإذا كنا كذلك فلا بأس، فنحن وإن سبقونا نلحقهم، وإنما الخوف أن لا نكون على الطريق، فنميل إلى الهاوية، ثم قال سيدنا، وأين الناس اليوم، راحت بهم الشهوات والغفلات، وضاعت منهم قلوبهم فلم يجدوها، فمنهم من لم يلحق قلبه، ومنهم من لحقه ولا انتفع به، فترى تخطر على بال الإنسان إذا كان في الصلاة خواطر لا حاجة إليها ولا نفع، ويخطر له منها من آن يصبح إلى أن يمسي ما لا يحصى
وذكر رضي الله عنه أقواماً كان ألفهم وألفوه أيام الصغر، فتكلم كثيراً وكان هذه عادته إذا ذكر ذلك الوقت وصفاه بالنسبة إلى الوقت الحاضر وكدره، ثم قال، الحديث شجون، يجر بعضه إلى بعض، ومن طال سِنُّه كثرت شجونه، إلا أنه يُصَدَّق في بعض دون بعض، ثم إنه التفت إلى بعض الحاضرين وأنشد هذا البيت ،
(٢/٢٩٥)
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني شجونا فزدني من حديثك يا سعد
وقال رضي الله عنه، في هذا الزمان إذا حصلت للإنسان الشهادة، وواجهته الرحمة، فسكون القبور خير له من سكون الدور، وقد رأيت ليلة في النوم الشيخ عمر العطاس يقول ذلك ويتمثل بقول بامخرمة ،
قِدْ حِلال المقابر خير وأكثر فوائد من مقامي كذا ما بين واش وحاسد
ما قال في كلام بامخرمة
وذكر يوما رضي الله عنه كلام بامخرمة وما فيه مما يشكل فقال، يُترك على ظاهره فلو كان من كلام الأئمة المحققين المقتدَى بهم أُوِّلَ له تأويل يليق، وأما كلامه فيترك على ظاهره، فإنه يتعاطى أموراً لا تليق بالكمل من الصالحين، إلا إنه محفوظ بنور العلم، وكلامه إنما هو وارد وكان من أهل العلم والصلاح، إلا إنه مخرب في طريقة الصوفية، والشاعر ما يؤاخَذ بقوله، فإن كان عالماً لا بد أن يقصد أموراً محمودة
ومر في الدرس في القراءة في الاربعين الأصل، وتمثيله للتوحيد، وإن له أربع درجات، وفي الرابعة وهي اللب، إلى أن قال، وذلك بأن يعرف سلسلة الأسباب، وكيفية تسلسلها، وارتباط أولها بمسبب الأسباب، فقال سيدنا عند ذلك، وهذه الأشياء لا تحصل إلا بجود إلهي، أو برياضة تامة، حتى ينقطع تعلقه بالخلق، ولا يبقى له تعلق إلا بالله، كهؤلاء المتجردين الذين يسيحون في الأرض، قال، وهذا في التوحيد الرابع وهو عسر جداً يُتَحدث به ولا يوجد، ولا يقع إلا خطرات، ولو دام لاضمحل الإنسان، ويحصل إما بالجذب أو بالرياضة، وليست ترك الأكل بل العمل والإجتهاد، وإنما يكفي الإنسان التوحيد الثالث أن يصحح العمل، والتوحيد على طريق العامة، ولو كان مع ذلك مكتسَباً فلا يضره
وسألته رضي الله عنه عن معنى قوله، في القصيدة العينية ،
تلك الأئمة والدعاة إلى الهدى والحق من أهل المقام الرابع
(٢/٢٩٦)
فقال نفع الله به، هو المقام الرابع من مقامات التوحيد التي ذكرها الإمام الغزالي رحمه الله ومَثَّل لها بأربعة أمثلة
وقال له رضي الله عنه بعض أولاده يوماً في معرض المدح، إن فلانا ما فيه أدب، فقال نفع الله به، أكابر العرب ليس فيهم أدب، إنما الأدب معروف عند العجم، مستنكر عند العرب، والكرم معروف عند العرب، مستنكر عند العجم، وكان ذلك ضحى يوم الخميس لعله غرة رجب من سنة ١١٢٤ وسبب هذا الكلام، إن المذكورين من الأولاد والرجل المذكور مع جماعة آخرين كانوا مع سيدنا في حضرته على الغدا، لأن هذا اليوم أي غرة رجب، يوم عيد عند أهل حضرموت، فاتفق أن قام بعض الأولاد فقام فلان المذكور، ثم إن سيدنا نفع الله به أخذ يفرق لقيمات على الحاضرين، فقال، أين فلان، فقال ابنه المذكور، فلان ليس فيه أدب أي لأنه قام قبل أن تقوموا، فأجابه بما تقدم ذكره نفعنا الله به وجزاه عنا خيراً
ما قال في قراء القبور
وضرب رضي الله عنه مثلاً لقراء التربة الذين يقرأون على القبور أي بالأجرة يذمهم، فقال، قراءة أحدهم مثل الحنذوله، يوزوز، وتقدم قوله، قراء القبور بين الآثم والسالم، فلا هم يُعَدون قارئين ولا ساكتين، فإنهم يتحملونها بإجارات وشروط والقاريء وحده أسلم عاقبة، ومَدَح عنده رجل رجلاً آخر، فقال رضي الله عنه، حتى نسأله عنك، فإن مدحك هو فإن مدحك له معلول غير صحيح، فإن المدح في هذا الزمان مسالفة
أنظر إلى مرائيه المباركة الصالحة
(٢/٢٩٧)
وعندما خرج رضي الله عنه لصلاة الظهر يوم الأربعاء تاسع رمضان سنة ١١٢٨ قال، رأيت ضحوة هذا اليوم عوض بن صبَّاح، وكأني أسير في البلاد وهو يسير معي فنمر في أرض سوداء من كثرة الوَصَح، فيقول لي، لأي شيء مانهيتموهم عن هذا وهو غضبان من أجل ذلك، فقلت له أمر هذا سهل، هو ذا يجيء الآن المطر مرة مرتين فيغسله، ثم قلت له، إنما نحن ننظر إلى هنا، ورفع نفع الله به سبابته يشير إلى السماء، وأنتم تنظرون إلى هنا ووضعها يشير إلى الأرض، فبقينا نسير من طريق مديحج، وكان أكثر ترددنا أيام الصغر فيها، وكأنا نريد إلى دارنا وإذا بحفرة وطية غير كبيرة يُخشى من سقوط رِجل الماشي فيها، فقلت له، مثل هذه ينبغي أن تدفن، فدفناها ومضينا، قال سيدنا، ففرحت بهذه الرؤيا لخصلتين، إحداهما إشارتي بإصبعي إلى فوق جهة السماء، والثانية ذكري للمطر، ثم قال، وكثير من الناس حنقانين علينا لأجل أغراضهم لا غير
وقال رضي الله عنه، رأيت سابقاً كأني مِتُّ وأتيت إلى باب الجنة وإذا هو مغلق، فقلت، إني قد مِتُّ على الإسلام فلا يضرني ذلك، ومرة قال لي، رأيتك في النوم، وعليك خاتم فضة وفوقه قطعة زائدة، وذلك زيادة خير
وقال رضي الله عنه لرجل من السادة في مجلس القراءة ضحوة يوم الاثنين في ١٤ ذي القعدة سنة ١١٢٤، رأيت البارحة في النوم كأني وجماعة من الأحياء والأموات في الحرم الشريف تحت الكعبة، فقُسِّم عليهم سُكَّر نبات، فلما استوفوا كلهم بقيت بقية فقلت، وهذا قسمي، فإذا بك قد دخلت، فقلت لك، تعال أقاسمك إياه، فقسمته بيني وبينك أنصافاً، وذكر من الأموات السيد أحمد الهندوان، ومن الأحياء السيد عبدالله بن مصطفى
(٢/٢٩٨)
وتقدم له رضي الله عنه مرائي كثيرة رآها في حضرموت وفي الحرمين، من جملتها ما رأيته مكتوباً بإملائه على الكاتب ما لفظه، الحمد الله، رأى الشريف عبدالله بن علوي الحداد ليلة الثلاثاء، خامس ذي القعدة سنة ١١٢٠ كأنه دخل عليه الشيخ حسين بافضل صاحب مكة، وأخذه في الحياة فقال، الحمد لله يوم عادك زرت تريم، وكأنه يقول، أسألك بالله ورسوله أن تضمن لي بالجنة، وإن أردت أني أخرج أجي لك بالشيخ ابن عربي خرجت، وكأنه خرج ليجيء به، انتهى
وذكر رضي الله عنه رؤياه المشهورة في مسجد باعلوي وهي، إنه رأى الشيخ علي بن أبي بكر في المسجد، وفيه جماعة من السادة أيضاً من جملتهم الشيخ عبدالله بن أبي بكر، فقال الشيخ علي لأخيه الشيخ عبدالله المذكور، هناك رجل يريدك يشير إلى الرائي، قال، فجاء إليَّ، إلى آخر الرؤيا كما رآه عند قبره في الواقعة التي أشار إليها وقد سبق ذكرها
وقال رضي الله عنه، لا يقضى بين أهل الأعراف إلا آخراً، فعند ذلك إما يعطيه بعض إخوانه حسنة يتمم بها ما يتوقف عليها دخوله الجنة، أو يتفضل الله عليه فيأمر بإدخاله
انظر إلى تهليل زبيدة
(٢/٢٩٩)
وقال رضي الله عنه لرجل موسوس، نريد نعلمك تهليل زبيدة بنت جعفر ابن الخليفة المنصور، لأنك رجل موسوس، وكلما جاءك من التهليل يسقي شجرتك فإن كانت ضعيفة قواها، وإن كانت قوية زادها قوة، وكان لها مآثر وأعمال خير، رؤيت في المنام، فقيل لها ما فعل الله بكِ، قالت، نفعني الله بهذا التهليل، لا إله إلا الله أرضي بها ربي، لا إله إلا الله أفني بها عمري، لا إله إلا الله أدخل بها قبري، لا إله إلا الله أخلو بها وحدي، أربع كلمات وبعض الناس يغلطون، يقولون زبيدة بنت مروان، كيف وهي زوجة هارون الرشيد، ومروان عدوه، وهي بنت عمه لَحْ، ثم قال لذلك الرجل إنا نرى عليك سيما المؤمنين، فلا عاد توسوس وتسيء الظن بربك، وسر على الطريق ولا تتخلف فتنقطع وتهلك في المخاوف، لأن مخاوف الطريق من خَلْفِها أكثر من مخاوفها في أثنائها، ولهذا جاء، إن ناراً تمشي يوم القيامة خلف الناس تسوقهم إلى المحشر، والشيطان حاسد يريد الناس كلهم يدخلون النار فلا تتبعه، ونحن نطرح على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهو يطرح على ربه، والأمر إلى الله فاعملوا ولا تغتروا، وكان هذا الرجل يَخْرُج عليه وقت الصلاة ويعجز عن الإحرام بها، فيكتب كل صلاة تفوته إلى أن يتمكن من قضائها
وذكر يوما رضي الله عنه تلك النار المذكورة، فقال تخرج من قعر عدن من بئر في صيرة
وذكر رضي الله عنه ذات يوم الأوراق الواصلة إليه من الجهات، فقال، خُصَّ بالبلا من عَرَف الناس أو عرفوه، الأول مشغول بنفسه والثاني مشغول بربه
(٢/٣٠٠)
وذُكِر له رضي الله عنه بعضُ الجهات بأن بها مرضاً شديداً، حتى إنه قد يغيب الإنسان عن حسه وشعوره، فقال، هذه الغَيبة بسبب قوة الخواطر لكثرة ما يرى من الموتى، فإذا اشتدت في الباطن ظهر أثر ذلك على الظاهر، وكل الناس إلى هناك فإن الأمر على التدريج، ولو وقعت الأمور على المقاصفة والكثرة لغيرت عقول الناس، مع إن كل هذه الأشياء يوُمن بها الإنسان، ولكن لم يتحقق بها، فتراه يؤمن بالشيء فإذا حَصَل له جَزِع وخاف
وقال رضي الله عنه لرجل ادعى أنه لا يبالي بما يفوته، إن كلامك هذا في اللسان دون القلب، والكلام بمجرد اللسان مثل القربة المنفوخة، فارغة ما فيها شيء، والكلام في اللسان مع موافقة القلب له كالقربة الملآنة
ما قال في العشق
وذكر يوماً رضي الله عنه العشق فقال، لا يرقى الإنسان إلى الشيء إلا من جنسه في كل شيء من أمور الدين والدنيا فلا يرقى إلى سماء الشيء إلا من أرضه، فإن سقط من سماه فلا يسقط إلا إلى أرضه كائناً ذلك الشيء ما كان، فمن كانت همته في الأكل مثلاً، فلا يرقى منها إلا إلى شهوة الوقاع، وكذلك من همته الجمع والتمتع، قال وهذان البيتان للشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله ،
أُحِبُّ الكأسَ من غير المدام وأهوى الغانيات بلا حرام
وما حبي لفاحشة ولكن رأيت العشق من شيم الكرام
وهذا عشق مِنْ طَالِعْ، عشق الأرواح، وهو محمود، لا العشق المذموم فإنه عشق من أسفل، فرب واحد منهم لم يتزوج مدة عمره، فإنَّ شَبَقَ الحمير عشق بلا أليف، حتى عشق الطير ليس هو مثله، فإنها تذكر أليفها فتشتاق إليه، وفي الطير خفة تشبه الأرواح والملائكة، وكلٌّ أمرُه إلى الخفة، وأما البهائم فكثيفة مثل طبع الأحجار
سيرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي
وكان الشيخ أبو اسحاق من الزاهدين، حتى إنه كان قُوتُه قرصاً يابساً يفته بالماء ويأكله وينشد ،
خبز وماء وظل هذا النعيم الأجل
(٢/٣٠١)
جحدت نعمة ربي إن قلت إني مقل
وقد يفته في السوق عند الذي يطبخ الفول، ومضى إليه يوماً فلم يجده فقال الشيخ تلك إذاً كرةٌ خاسرة، ثم قال، والعشق ما يتم إلا بشروط لاختلاف الناس فيه، فإن أحداً يهوى في الرضا، واحد في الجفا، وأحد في العطا، ولولا اختلافهم لما صدروا أشتاتاً
ومن نقل السيد عمر البار رحمه الله في بعض المجالس، وكنت حاضراً إلا إنه حفظ ما لم أحفظه، قال لسيدنا نفع الله به رجل، عسى القبول، فقال، عسى الله، عسى الإقبال والقبول، وأنت على ما أردت من حيث الإقبال، إن كان من الرب أو من العبد، وأما القبول فلا يكون إلا من الرب
وسأله السيد عمر إذا من الله علينا بشيء من ملبوسكم كيف نفعل به، نلبسه أو نخبيه، فقال، إلبس لباس العافية، إن الشيخ عبدالقادر الجيلاني رحمه الله ألبس بعض الناس طاقية، فقال له، إلبس العافية، فبقي مدة لم يتألم بألم، ثم قال له السيد عمر، وإذا تقطعت الثياب كيف نفعل بالدويل من ذلك، فقال، يكسوه المتبركين، الثياب الا تكسى ورأى أبويزيد بعض فقرائه يمشي خلفه ويجعل قدمه محل قدم الشيخ، فقال له الشيخ، لو إنك سلخت جلدي وجعلته عليك لم ينفعك ما لم تتبع طريقي في السير إلى الله، ثم قال سيدنا، ونحن ما نعطي الناس إلا على قدر نياتهم، ولا يخيبهم الله إما يعطيهم على نيتهم أو فوقها أو دونها، وأما نحن فلا نرى أنفسنا أهلاً لشيء، ولكن كما قال الشاعر،
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم يَعْفُ عني
(٢/٣٠٢)
ولكن الناس لا يسلِّمون لك، ولا يَتْبَعُونك على نيتك، وكان عيسى عليه السلام، لما عظمه الناس، فَرَّ منهم، فلما فَرَّ عبدوه، ولو عملنا على ما نرى لأنفسنا لكان في ذلك قطع التبركات، والناس أيضاً ما يُسَلِّمون لك ما تدعي من عدم الأهلية انتهى ما نقلته مما حَفِظَ في هذا المجلس المبارك، وحفظت أنا بعد قوله من عدم الأهلية، وهو كذلك في بعض الأشخاص، حتى إنه ليذم نفسه ويقول، أنا ضعيف مسكين مذنب مخطيء، ونحو ذلك مما فيه هضم نفسه، وفي إظهار التواضع إظهار المنزلة ولو بهتَّه وقلت له يا مخطيء يا كذا مما يصف به نفسه، لأشتد ذلك عليه وضاق به الحال، وإنما نقول نحن كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه، إنما أنا رجل من المسلمين، وذلك لما سأله ابنه الحسن رضي الله عنه، أيما أفضل أنت أو أبوبكر؟، قال، أبوبكر، قال، فعمر، قال، عمر، قال، فقلت، ثم أنت؟، فقال، إنما أنا رجل من المسلمين، ولم أقل له في عثمان خوفاً أن يقول، هو أفضل مني، ثم قيل لسيدنا، عسى ببركتكم تحصل الرحمة للمسلمين، فقال، لن نَعدم خيراً من رب يضحك كما قال الأعرابي، يا رسول الله أَوَ يضحك ربنا قال، نعم، قال، لن نَعدم خيراً من رب يضحك، وهو سبحانه كما أعطى البعض، فهو يعطي الكل انتهى ما قاله نفع الله به في هذا المجلس المنور، وهو ضحى يوم الجمعة في دار البلاد، ثالث شوال سنة ١١٢٨، ثم بعد صلاة المغرب مضى سيدنا من الدار إلى الدار التي يريد المبيت فيها فقال للسيد عمر المذكور وهو ماسك بيده، عاد دوعن فيه حياة بظهور أثر العلم فيه وما مات العلم فيه بالكلية مثل وادي عمد، قال، لكن ذلك صورة بلا حقيقة، فقال سيدنا، مجرد صورة أو حقيقة خير من عكسه، وإن كان أحدهما لا يُنتفع به دون الآخر، وأين الحقائق اليوم فقد طال بالناس العهد من وقت حقائق الأمور، وإذا كانت الصورة ظاهرة ولو بلا حقيقة، فهو خير من عدم الصورة والحقيقة ،
(٢/٣٠٣)
وقد انقلب الناس اليوم إلى حال آخر، فلو ألقيت إلى أحدهم كلمة أو كلمتين من العلم لم يفرح بهما ولم يتأسف على ما مضى من عمره قبل أن يعرفهما، ولو سألته عنهما بعد يوم أو يومين رأيته قد نسيهما ولا يهمه ذلك، ولو أعطيته أوقية مصفى لكان كم خواطر تخطر له فيها، وكم أمور فعلها، وكم شهوات أخذها، وتَحَفَّظَ عليها غاية الحفظ لئلا تضيع أو كما قال
وقال رضي الله عنه، فلان مُهَوِّن ولا فيه نظر، ولكن إن شاء الله فيه تقوى، ومع التهوين وعدم النظر تضيع على الإنسان أشياء أكثر مما تضيع مع عدم التقوى، وأمور الدين والدنيا ما تستقيم إلا بالنظر، وإلا فاتت فكم كرر الله سبحانه من قوله، انظروا انظروا وتقدم قوله، إن والي الأمر لا بد له من نظر، إن لم يكن نظر دين كان نظر دنيا
أنظر كلامه في الرفق والتواضع
وقال رضي الله عنه، الوطاء محمود في كل شيء، فإذا عسر عليك أمر فَتَوَطَّ له، وهو معنى حديث، (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ــ ــ ـ الحديث ))، لأن الإنسان لا يخلو إما أن يكون حجراً أو ماء، وكلاهما ينفع فيه الوطاء، فلا يسيل الماء إلا في الموضع المنخفض، وأنشد هذا البيت ،
العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان المعالي
وذكر رضي الله عنه الزمان ونَقْصَ من لحق عن حال من سبق فقال، إن النور لم يزل يختفي شيئاً فشيئاً، والظلمة لم تزل تظهر شيئاً فشيئاً حتى تقوم الساعة ولا أحد يقول، الله، ولو إن الآتي كالذي قبله لم تقم الساعة
(٢/٣٠٤)
وقال رضي الله عنه، عَزَّ الصدقُ اليوم جداً، حتى لو ذُكِرَ رجل صاحب صدق بارٍ لم يصدَّق لعدم إلف الناس لذلك، إذ لا يصدِّق الإنسان إلا بما يألفه ويفعله، فلو قيل لهم، إن أحداً أُعطي عشرة قروش فردها، أو أخذ حاجته وردَّ الباقي لم يصدقوا، ثم إن الإنسان اليوم ربما تُمنيه نفسه أن لو كان معه مال لفعل به كذا وتصدق، فإذا تمكن لم يصبح من ذلك شيء، وكذا يكون قبل حصوله قانعاً بثوب وقوت يوم، وإذا حصل انبعثت دواعي أخرى، ولكن اللهم ارزقنا ما يكفينا، وامنع عنا ما يطغينا
قصة الرجل من آل بافضل مع أهله
ثم ذكر، إن رجلاً فقيراً من آل أبي فضل كان مع أهله سالكين ومستريحين بحالهم في بيتهم، وفي جوارهم بعض الأشراف معه مال، فبقي الشريف طول ليله مع أهله في كلام من جهة نفعل كذا ونترك كذا، فلما رأوا من حال بافضل وأهله في الراحة غبطوهم براحتهم، فأعطاه الشريف شيئاً من ماله، وقال له، اتجر فيه ولك الفائدة انتفع بها، ورأس المال لنا، فبقي بافضل مع زوجته طول ليلهم في كلام، يقول، نشتري كذا، وهي تقول، بل نشتري كذا وعلى هذا، ثم إنه تفطن وقال للشريف خذ مالك وأرحنا منه
أنظر ما قال أيام الخريف
وقلَّ القراء يوماً فسأل رضي الله عنه عنهم وقال، من شأن الخريف التشتت، لأنهم يتقسمون في الوادي وفي البلاد، وهو موسمهم، وأهل مكة موسمهم أيام الحج، فيعطِّلون فيها لاشتغالهم، إذ يحصلون في هذه المدة كفايتهم في كل السنة، وكان من شأن السادة الأولين الإرتحال للتخرف والنَّفَس، كانوا أَوَّلاً يحلون ببيت جبير، إلى وقت الشيخ عبدالله، ثم حلوا قَسَم حتى اجتمع فيها في نخل يسمى بازياد نحو أربعين سجادة، وكانوا يعجبهم التمر بالخصوص لأنهم يعتقدون حِلَّه، فإنهم يَرِثُون النخل عن أجدادهم وأسلافهم، ومن الكلام المنسوب إلى السقاف، من حَصَّل أيام التعطيل، عطل في أيام التحصيل
(٢/٣٠٥)
وقال رضي الله عنه لرجل، حِلُّو على الشجر والمرعى والنَّفَس وإن لم يكن خريف، فقد كانوا يفعلون ذلك لذلك
وقال رضي الله عنه، كلٌّ جعل الله فيه نفعاً للآخر، جعل في الرجال نفعاً للنساء، لا يوجد إلا فيهم، وفي النساء منافع للرجال لا توجد إلا فيهن، وشيء يوجد في كُلٍّ، ولو لم يجعل النفع إلا في أحدهما، لتعطل جانب العالَم، وفي ما رأينا من عجائب البلدان أن بلداً كلها نساء ما فيهم رجل، ولا يلدن إلا النساء، وسقط عليهم رجل فأرادوا قتله
وأرسل لسيدنا رضي الله عنه بعضُ أهل السواحل بشملة، وطلب منه شيئاً من اللباس، فقال نفع الله به، لا عاد تطالبونا إلا بالجزاء الذي لا ينفد، الفاتحة والدعاء، ولو تعلق بنا عشرة أنفس مثلاً كل واحد يأخذ من ثيابنا شيئاً لبقينا بلا ثياب، ومن أراد البركة يكفيه أن يجيب ثوب أو كوفية، نُلْبِسْها له، وقد ذكر الشيخ عبدالله بن شيخ، إن جميع أهل الجهات إذا أرادوا يتباركون بالصالحين، جاءوهم بشيء يعطونهم إياه، إلا أهل حضرموت، فإنهم إذا أرادوا البركة طلبوا منهم أن يعطوهم
ما قال في مسجد آل أبي علوي وليلة ختمه
(٢/٣٠٦)
وسألته عما يعتقده أهل تريم من أفضلية صلاة الصبح في مسجد باعلوي صبح ليلة ختمه بالخصوص، أي في شهر رمضان دون غيره واجتماعهم له، هل فيه خاصية أو يؤثَر ذلك عن أحد، فقال رضي الله عنه، لا، وما كنا نعرف ذلك، وإنما الذي على تِقْنِنَا إنهم من بعد تمام كُتُب الختم يتفرق الناس كلهم، ولم يبق منهم أحد، إلا من جلس يتهجد، فنمر عليه في مضينا إلى الهجيرة لصلاة الصبح، فلا نرى أحداً إلا من جلس للتهجد، ونمر عليه بعد الصلاة فلا نرى أحداً وإن كان فيه بعض الناس، وكان لم يكن شيء من الذكر بعد الختم ولكن لعموم بركة مسجد آل باعلوي، يجتمع الناس فيه، ويرغبون في الإجتماع لذلك، وهذه أمور حدثت، خَفيت فيها المقاصد وظهرت فيها العوائد، قلت، فالمقاصد من قوم، والعوائد من قوم آخرين، قال، نعم، حيث لم يعلموا اليوم ما هو المعتاد في وقت السلف، وحدوث هذا كان في وقت حامد، قلت، فصلاة العصر فيه مأثورة، قال، نعم عن بعض السادة لعله الشيخ أحمد باجحدب، وإنها حَبَشَة بلا جِفِلَّة وذلك لفضيلة البقعة والوقت، لكون بقعة المسجد كانت مباحة وبنيت بحلال حتى إن طينه حملوه من أموالهم من بيت جبير، ولاجتماع السادة فيه في هذه الصلاة إجتماعاً لا يكون في غيرها، وفي فضل هذه الصلاة خاصة أيضاً أحاديث واردة صحيحة
(٢/٣٠٧)
وقال رضي الله عنه لرجل يمازحه، نريدك تروح إلى عند السيد علوي بن عبيد الله، تأخذ نحو ثلاث إن تيسرت لك أمورك، وإلا ارجع، ولكن ربما لو جُعْتَ طلبت تمراً أَوَّلاً فإذا حصل طلبت خبزاً، فإذا حصل طلبت له خصاراً ثم لم تحس إلا تحرك عليك شيء، فقلت أريد أهلي، وما هذه حالة المتجرد، كأنكم ما سمعتم بقصة توبة ذي النون، وخروج السُّكرُّجات له من الأرض، ورؤيته القُنبرة العمياء وغير ذلك، إنما حال المتجرد إنه كلما طعن في السن عد نفسه في أصحاب القبور، ثم قال، وكل من وثق بغير الله هلك، ثم الموثوق به إن سكن إلى ذلك واطمأن إليه هلك الآخر أيضاً، ثم بعد ذلك قال، لا ما لفلان عذر إلا نجزم عليه، فإن لم تتيسر له أموره واحتاج أذِنَّا له في الرجوع، وإلا وقع له جاه وحشمة جلس إلا أن تطغى نفسه أو احتاجت رجع
وقال رضي الله عنه عشية يوم ٢٩ صفر سنة ١١٢٤، لا تحب الكافر لأجل المؤمن، ولا تبغض المؤمن لأجل الكافر، لأن ذلك بعيد المناسبة، وكذلك في المنافقين
وقال له رضي الله عنه رجل، ألبسني، وقد تقدم له منذ أيام إلباس، فقال له، قد ألبسناك مع جماعة منذ أيام، فلا ينبغي لمثل هذه الأمور أن تبتذل لأنها عزيزة، وقد ذُكِر، إنك إذا اعتقدت مثلا إن فلانًا شيخك، ينبغي لك أن لا تأكل معه، ولا تجلس بجنبه، أو على سجادته، وقال له، الله يتولى الصالحين، فإذا أردته يتولاك أو قال يصلحك فأصلح ما بينك وبينه
وقال رضي الله عنه، ما يتم الأمر إلا بثلاثة أشياء، وهي الأثافي التي يقوم عليها، النية والعلم والعمل، لكن لما كان هذا أمر الدين، فتكون سريراً فتحتاج إلى رابع، وهو الاعتماد على الله
ما قال في الوفاء
(٢/٣٠٨)
وقال رضي الله عنه لرجل يعاتبه، لو دخلت الخلوة ما بارك الله لك فيها لعدم مشاورتك لأهل المعرفة، فإذا كان أمور الدنيا ولا أخس منها، يستعان عليها بمن يعرفها، فكيف بأمور الدين والأفعال مع الهوى ليس تحتها طائل، والهوى كالجُفاء لا يبقى، وإنما يبقى الحق، ثم تلا، { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } الآية، وقال، إذا أردتم تعرفون الفرق بينهما فاقرأوا الآية هذه، ثم قال، صادف الهوى أوعية أهل الزمان فارغة فسكن فيها فامتلأت به، ولو كانت ملآنة بالحق لخليت منه، والهوى عبارة عن خلو الإناء، فبقدر ما يمتليء يذهب منه وبقدر ما يفرغ يكون فيه، وقال للرجل المذكور، أتريد أن نراعي فيك حسن الوفاء، ولم تراعه معنا، لا، لا يحمل شجرُ الشوك ثَمَراً، قال ذلك للتعليم والتأديب، ثم قال، لا يطول الرأس في الدنيا والآخرة إلا بحسن الوفاء وكان ذلك عادة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه معه ومع أصحابهم وأقاربهم حتى من الكفار، حتى ذلك الرجل في قصته المشهورة مع سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث قال له، لو لا يدٌ لك عندي لم أكافئك بها لأجبتك ثم طال كلام سيدنا في الوفاء، حتى ذكر العمودي صاحب شيخه الشيخ محمد بن علوي بحسن الوفاء، حيث اعتكف سنة لا يفارقه إلا وقت الصلاة، قال، ثم وقعت له رؤيا عند قبره، فسافر إلى المدينة، فاجتمعنا به، وطلب منا أن يقرأ علينا في حِكَم أبي مدين، فلما ابتدأ حصل في حلقه شحام، فقال، أخاف إن السيد محمد ثقل عليه أن أقرأ عليكم، فقلنا له، لا، إنما نحن والسيد محمد شيء وأماثل السادة شيء واحد، ثم ضرب لذلك مثلاً، فقال، ونحن معهم كالجوابي مفترقات من فوق، وملتقيات من تحت، أي ولو افترقنا في الظاهر، فنحن مجتمعون في الباطن، ثم قال، ولو ذكرنا سيرة هذا العمودي، وسيرة حسين بافضل معنا، لاحتاجت إلى كراريس، وإنما ذكر ذلك نفع الله به ليعرف الملازمون قلة وفائهم معه، ومما ذكر
(٢/٣٠٩)
في شأن العمودي معه أنه طلب أن يفرش له السجادة في صلاة الجمعة وأن يغسل ثيابه كل يوم
وقال رضي الله عنه، كل نفس تخرج من الدنيا ظمآنة إلا نفس الذاكر، وكل يوم للذاكر عيد، والعيد رضا ربك
ما قال في التجربة
وقال رضي الله عنه، التجربة قسم من العقل، ولا بعد ٢٢ سنة زيادة في العقل، إنما هي التجربة فقط، وإذا أردت تصحب أحداً أو تخالطه لا عليك من ذلك، خصوصاً في هذا الزمان الذي قلَّت فيه الأمانة، ولو لا أن عاد طرفاً من الحياء، لخرجت في هذا الزمان أمور غريبة، وقال سيدنا علي رضي الله عنه، الحزم سوء الظن، أي الحذر والتجربة من غير ما تسيء به ظناً، ولا عاد يسع الإنسان في هذا الزمان إلا الصبر والتحفظ لأنهم ضباع، إذا طرفت لهم أكلوك، وأنشد هذا البيت،
ومن يفعل المعروف مع غير أهله يجازى كما يجزى مجير أم عامر
وقال رضي الله عنه، لا بأس أن يُكثر المريد من المشايخ، إن حصل له من كلٍّ فائدة، وإن اجتمع قلبه على نحو اثنين أو ثلاثة فليعتمد عليهم، ويأخذ الفائدة من الباقين، وإن اجتمع قلبه على واحد ولم يمكنه الانتفاع من غيره، فليلزمه فهو شيخه
(٢/٣١٠)
وقال رضي الله عنه، ليس في الإنفاق في الصدقة إسراف، فإن أجحف بعياله فلم يُبقِ لهم شيئاً جاء النهي من حيثية أخرى، ولا تحدث أهل الزمان بالإمساك رأساً، فلعلهم لم يُخرجوا الزكاة، ومنهم من يأخذ مال محتاج بنصف القيمة، فهؤلاء هم أعداء الشريعة، وخل الأعداء الكفار ونحوهم، والأشياء بغت البصائر لا الأبصار، لأن البصائر هي التي تعرف طريق الدين، لا الأبصار، لأن الطريق مظلمة لا يسلكها إلا أهل البصيرة، ومن ليست له بصيرة يقلد صاحب البصيرة، وقد يحصل النور في أثناء الطريق، وطريق الإمامة الخاصة مظلمة، فلا يسلك فيها إلا من سلَّم يده، ولا تُحَسِّن لأهل الزمان ما هم فيه، إلا إن كان حسناً فحسنه، والناس درجات، أحدهم يجيء باللطف والرفق، أظن قال وأحد يجيء بالقهر والإكراه، وكنا أردنا أن نجلس للناس على كرسي، لكن منعنا منه، أن سلفنا لم يفعلوا ذلك، بل مشوا على المنهاج العدل الذي سلكه أناس قبلهم، والجاهل لا يُحصل شيئاً من أمر الدين والدنيا، وإنما يُسلِّك وقته بالإعجاب
ووصف رضي الله عنه الطريق، فقال ما معناه، إذا رأى الإنسان الأمر عسيراً استصعبه، كالذي يريد سفراً إلى مكان بعيد، يتأمل إلى ذلك المكان فيستعسره، ثم ذكر رجلاً سار إلى نبي الله هود للزيارة، فلما وصل النصف قال، ماذا بقي من الطريق؟، قيل، النصف، قال، النصف يوصلني إلى بلادي، فرجع وترك الزيارة، وهذا كذلك، لكنك إذا كنت في باب من هذا الأمر فافهمه ولا عليك أن تتأمل فيما وراء ذلك
ذكر زيارته التربة وابتداء الحضرة
(٢/٣١١)
وزار رضي الله عنه التربة ضحى السبت ٢٦ ذي القعدة من سنة ١١٢٤ فقال، كنا مرتبين زيارة التربة الا في ليلة الجمعة، لأن في الليل يصفو الوقت للزيارة ويسلم الإنسان من تشويش الناس، كل ساعة يجيئك واحد، وبقينا نزور كذلك حتى فعلنا الذكر في ليلة الجمعة في المحرم أول سنة ١٠٧٢، فبقينا نزور في أثناء الأسبوع وترتيبنا الزيارة ليلة الثلاثاء بسبب رؤيا رآها بعض الأخيار، وهي، أنه رأى كأن السادة مجتمعين عند الفقيه المقدم، ويقولون ما يكفينا من فلان في الأسبوع زيارة واحدة، والآن لما حصل الضعف نزور على الاتفاق حسب الطاقة، وإن طالت المدة، وإذا زرت إن أمكنني أتم الزيارة وإلا زرت الفقيه وحده، وقده تجتمع عنده أرواحهم، فقلت له، قد كنتم تزورون في الليل، وملازمين الزيارة لا بد منها في الأسبوع فقال نفع الله به، خل كان، كنا نزور نمشي والمركوب قائم، وما عاد ينفع كان لأن ما كان قد كان، وعلى بالك أن ابن خلكان سمي بذلك، لأنه يقال، إنه من ذرية البرامكة، وكانوا على ما هم عليه فيذكرون الناس أيامهم، ويقولون، كان فلان منهم كذا وكذا، ومنهم فلان كان كذا وكذا، ومنهم فلان كان كذا وكذا، وعلى هذا، فقيل له، خل كان، أي أترك كان، فقلت، هل الزيارة مندوبة في نفسها، أو لأجل التذكر والإتعاظ؟، فقال، لأجل ذلك وللتبرك بمجالسة الصالحين، إذ ورد، إن رجلاً سأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن أفضل الأعمال، فقال، الجلوس بين يدي ولي لله سواء كان حياً أو ميتاً، وورد، من زار قبري فكأنما زارني في حياتي، فقلت، أيكون الميت يرى إن عليه حقاً للزائر ينفعه به في الآخرة، فقال، شيء ضعيف، دون من زار الحي، ولهذا تعجب السائل من قوله عليه السلام حياً أو ميتاً، لأن الحي ترجو منه وصية ودعاء صالحاً، ومثال الزائر كالواقع في السيل، إنما يطلب نجاته بأي ممكن، فإنه يطلب ما يتخلص به منه كان ذلك ما كان، ولو بحبل أو عود ولو ضعيفاً، فلو أضله
(٢/٣١٢)
الشيطان وسَهَّل عليه أمر الزيارة للميت فلا يكون له شيء من الأسباب التي يود أن يتخلص بها، قال، وكان إبراهيم الجعبري إذا مر بموضع قبره يقول، يا قبير، جاءك دبير وهو مقبور بمصر، وكان من أهل العراق
وقال لسيدنا بعض الناس إن في سنة ١٠٧٢، لمزية على بعض السنين، فيها رتبتم الراتب، وفيها جعلتم الذكر، فقال، نعم
ما قال حيث يحل الشيخ أحمد بن عيسى وأولاده
وقال رضي الله عنه، من نظر إلى مواطن حيث يحلون السادة الشيخ أحمد بن عيسى وبنوه حيث يكونون في الأطراف تحت الجبال يستدل بهذا إنهم لهم مشمة بطلب دولة ورياسة، ويكون قصدهم إعلاء الحق والأمر بالمعروف، فإن الشيخ أحمد بن عيسى، يُذكر في الكتب إنه حل في الهجرين لارتفاعها وكونها حصينة، واشترى فيها مالاً كثيراً، ثم لما رأوا الماء فيها عزيزاً يؤتَى به إليها من هابَط تَرَكَها وأعطى المال بعض أخدامه، ودخلوا حضرموت في الأطراف منها كما يُرى من قبر الشيخ أحمد بن عيسى في الحسيِّسة وابنه عبيدالله في العرض ببور، وابنه علوي بن عبيدالله في سُمَل، يَعرف به إنهم لم يحلوا في هذه الأماكن إلا لأجل شيء يطلبونه، وكانوا أهل علم وتقوى يحبون أن يتمكنوا من إقامة الحق، وأيضاً خرجوا من البصرة بمال كثير له قدر، وكلما حلوا بمكان لم يطب لهم المقام فيه لكون هذا طبع الجهة هذه، فبقوا في الأطراف، إن حصل لهم ما أرادوه بقوا عليه، وإلا فلا ينالهم في مكانهم أذى ملوك البلاد، ولم يحل في بيت جبير ويسكن تريم إلا آل أحمد بن عيسى أي أولاد أولاد أولاده
(٢/٣١٣)
وقال رضي الله عنه، تريم بلاد آل باعلوي ومسقط رؤسهم، وإنما تفرقوا إلى أماكن أخرى، حلوا فيها عن قريب بعد ذلك، وكانوا تَدَيَّرُوها وحلوها سنة ٥٢١، من وقت خالع قسم، هو أول من نزلها، وكانت هي بلدتهم لقضاء حوائجهم، وهم كانوا حالين ببيت جبير، وسمل، وعرض بور، فبنوا في تريم مسجدهم المعروف بمسجد آل باعلوي، وقطعوا من محله شجر سَلَم، وحملوا له الطين من بيت جبير طلباً للحِل، وذلك قبل أن ينزلوها، وكان لهم فيها أيضاً حافات معروفة، فحافة آل جديد حوالي مسجد الحبوظي، وحافة آل بصرى حوالي مسجد بروم، أو بالعكس وحافة آل باعلوي الحوطة، وفيها مسجدهم المذكور، وأما الرضيمة فإنها قديمة، حتى حكي أنهم لحقوا في جبلها صناديق، وفيها قبور آل قحطان
وقال رضي الله عنه، استكثر من أعمال الخير ما استطعت، وخذ منها ما تطيق المداومة عليه، ولا تحتقر منها شيئاً، فلعل فيها وصولك، وذلك كتهليلة وتسبيحة، واملأ بطن جائع، ولا تحتقر منها شيئاً، فقد رئي الإمام الغزالي بعد موته فقيل له، ما فعل الله بك؟، فقال، غفر لي، فقيل، بم ذلك؟، قال، بذباب برح على القلم وأنا أكتب، فتركته حتى روي، فإن الخير كله في أمور الخير السهلة، التي لا تراها النفس ولا تعدها شيئاً، وأما التي تراها وتعتد بها، فإنها يتطرق إليها البطلان، إما من جهة الفاعل أو المفعول معه، أو الحاضر بينهما
وقال رضي الله عنه في حديث، (( لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها))، قال، هي دعوة عامة يدعو بها في ما شاء، كأنه قيل له، إسأل ما أردت استجب لك
(٢/٣١٤)
وقال رضي الله عنه في قول صاحب العوارف ( إن النفس بكل ما تلقيه من الخواطر، تأمر بالسوء )، واستدل لهذا بقوله تعالى، { يَآأَيُّهَا الَّذينَ ءَآمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ } الآية، ولو إن الآية تشمل مراد من يريد تزكية النفس، لكن الغالب اعتبار ذلك في النميمة والغِيبة، ولا عبرة بقول فقهاء الزمان، ومثلهم مثل حشرج الدخن، يُدَق كثيراً ويظهر بلا فائدة فيه، وما كان لهم فيه هوى أنكروا له، وإلا سكتوا، فقد حكي، إن فقيهاً قال، إن الشيخ عبدالله أي العيدروس جلس رجل يفص له حتى دخل وقت بعض الصلوات، قال للشيخ، قم للصلاة قال، قد صليت، فخرج الرجل فرأى الجماعة قد خرجوا من مسجد الشيخ أبي بكر أي السكران مصلين، فقال لهم، من صلى بكم؟، قالوا، صلى بنا الشيخ عبدالله، وهذه وأمثالها تسلم لأولياء الله، ولا يعترض عليهم فيها، لأن عقولهم أي المعترضين لا تبلغ أحوالهم أي أولياء الله ، ولكن قد يصح له قدم الصلاح أي فيُسَلَّم له وإلا كان فتنة ينبغي الإنكار عليه
وقال رضي الله عنه، صاحب الحقيقة مستغرق فيها، وجميع عمله ومشهوده فيها، وأكمل منه الجامع، يضع الحقيقة موضعها باعتبار، ويضع الشريعة موضعها باعتبار
وقال رضي الله عنه، كان الشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه يعمل في عين الحقيقة، وقل من لا تشغله الشريعة عن الحقيقة ولا تشغله الحقيقة عن الشريعة، ثم ذكر قصة الكيسين الدنانير اللذَين أرسلهما له الخليفة العباسي الذي في وقته، فعصر أحدهما فصب دماً، ورسول الخليفة ينظر، فقال له، قل له، يسلم عليك ويقول لك، أما تستحي ترسل إليَّ بدماء المسلمين، فلولا قرابتك من رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لجعلتهما نهرين يجريان دماً من الزاوية إلى بيتك ثم رُدُّهما عليك
ما قال في الشيخ عبدالقادر والغزالي
(٢/٣١٥)
وقال رضي الله عنه، ما رأيت مثل رجلين، أحدهما من أهل الباطن، والآخر من أهل الظاهر، يغبطهما أهل الباطن وأهل الظاهر، وهما الشيخ عبدالقادر والإمام الغزالي، نَسَبوا للشيخ عبدالقادر كتباً فيها أمور منكرة، واعترضوا على الإمام الغزالي وقالوا، لا تجوز مطالعة كتبه، حسداً منهم وعدوانا، وكانا في أماكن متسعة، تحصل فيها المنافسة والمباهاة، ولكن من مات لا عاد تذكره إلا بخير لأمور، أولها، إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال، لا تذكروا مساويء موتاكم، واذكروا محاسنهم، والثاني، إنه رجع إلى الله، ومجازاته إنما هي عليه سبحانه، وهو كافيه، والثالث، إنك إذا خصصت أحداً بالإعتراض ربما تَجَرَّأَ أحد على الإنكار على أحد من أهل العلم لإنكارك على الأول، بل ينبغي إذا بلغك عن أحد ما تنكر، أن تقول كما قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا وتقدم قوله، اثنان يغار منهما أهل الباطن، ويحسدهما أهل الظاهر، لأنهم إذا طعنوهما بمسلة طَعَنَاهم برمح، الشيخ عبدالقادر والإمام الغزالي
ما قال في الزائر الخاص
(٢/٣١٦)
وأتاه يوماً رضي الله عنه بعض الفقراء زائراً، فقال له، قد أمرنا لك عند الخادم بحاجة فاقبضها منه، فقال، أتيتكم زائراً لا لطلب شيء، فقال له، ذاك كذلك فإذا أتيت للزيارة حصل لك النفع الدنيوي، مع ما حصل لك من الزيارة من النفع الأخروي، فقد جاء، إن آدم عليه السلام لما هبط من الجنة إلى الأرض نزل معه بأوراق من شجر الطيب، ولها من الرائحة الطيبة شيء كثير، فأتته الظبية زائرة، فأعطاها من ذلك الورق فظهر عليها ريحه، فلما شم ذلك منها سائر الدواب، جاءوا لآدم فلم يعطهم، لأنها أتته زائرة، وهن أتوه لطلب ذلك، ويشبه هذه الحكاية، ما سمعنا، يذكر إن رجلين أتيا إلى سيدنا الشيخ القطب عبدالله بن أبي بكر العيدروس علوي رضي الله عنه، وأحدهما نيته الزيارة والتبرك بالشيخ، والآخر نيته حصول شيء يأكله، فلما وقفا تحت الباب وكل منها مضمر ما قصده، أمر الشيخ الخادم أن ينزل بما أراده ذلك الرجل، فيعطيه إياه ويصرفه من تحت الباب، وأمر بالآخر فطلع إلى عند الشيخ فأكرمه وحصل له بحسن قصده من الشيخ الإقبال والقبول وأضعاف ما حصل لذلك من مراده، مع ما حصل له من الخير الديني، والمنزلة عند الله بحصولها له عند أولياء الله، فسبحان المتفضل المنان بما يشاء على من يشاء، والحارم لذلك من أراد ممن لم يسبق له ما سبق للآخر، وكل ذلك متوقف على حركة المُضْغة أي القلب من حيث صلاحها أو فسادها، وهذا معنى الحكاية، ومثلها ما يحكى عن الشيخ عبدالقادر قدس الله سره والرجلين معه، لما وصلوا إلى الرجل الذي يسمى الغوث، ويحتجب عن الناس ويظهر لهم متى أرادوا، والحكاية مشهورة، وهذا سرُّ حديثِ، الأعمال بالنيات، أو كما قال
(٢/٣١٧)
وذكر رضي الله عنه الطلسمات والعزائم والتنجيم وأمثالَها فقال، هذه الأشياء كلها أمور باطلة، ولو صدقت في بعض الأوقات في بعض الأشياء، لأن الباطل قد يشتبه بالحق، فإذا أخلفَتْ في وقت، قال، هذا من الله، إذاً فاتركها إلى الله أولاً وآخراً، ولهذا، إذا أتيت المنجم مستعجلاً قال دعني أحسب، وقال بعضهم، إن المنجم ونحوه متجسر على غيب الله، لأنه ينزله من حاله حتى يركبه في الحس، وقد يتعلم الأكابر أشياء من هذا القبيل، فيظن بهم ظان أنهم متدينون بذلك، وليس كذلك، وربما تستروا بشيء من هذه عن إظهار كرامة، والكرامة إنما تكون عند الحاجة، وربما توهم بعضهم عند ظهورها أنه كان قادراً عليها قبل ذلك، وإنما أظهرها حينئذ، وما راح بالناس إلا أهل الإشارات وأهل البدع وأولئك معذورون، وأولئك غير معذورين ولا مأجورين، والناس في طرف البحر، نشغوا بهم في الغبة، وهل قال لك أحد، إنه يمكن أحداً أن يدخل البحر بلا مركب؟ لا يمكن ذلك، حتى لمن يسير على الماء، الغاية إنها حصلت له كرامة في لحظة، وما يدريه لعله يغرق أو كما قال
ما قال في التعزية
وقال رضي الله عنه لرجل يعزيه في ابن له مات غريباً، إن الله يَمُدُّ له من قبره إلى موضع ولادته، والحمد لله على الوفاة على الإسلام، إن الإنسان أصله التي هي النطفة تمزج بتراب أرض قبره، والأعمار مكتوبة، كل له حد معلوم، ولا يخلو في كل سنة أو شهر من مصيبة، لأنه معرض لها، ومن عمره خمسون من أين لك أن ترده عشرين، ولكن تَذَكَّر الأمور التي تنفس عليك، ودع تذكر الأمور المنكدة، وأكثر ما يتعب الإنسان قوله، لَو، لَو، لأن لَو تفتح عمل الشيطان ولا يحصل منها إلا التعب، { لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا }
ما قال في الإجتهاد في رمضان
(٢/٣١٨)
وقال له رضي الله عنه رجل في شهر رمضان، أريد كتاب كذا نطالع فيه، فقال له، إن رمضان شهر عمل، فاترك فيه العلم، يكون في غيره، فإن رمضان لمجرد العبادة، ألا ترى كيف يترك الناس فيه التدريس إلا إن كان بعد العصر تذكيراً للأصحاب إذا جلست معهم، فاجتهد فيه في العمل وتنظيف الباطن، وجعل الله في نهاره الصيام، وفي ليله القيام، فيستعمل فيه ما حصله قبله من العمل، فمن جمع في وقت شيئاً من الأمتعة استعمله وقت الموسم، وكان رجل في وقت السهروردي قال له، أُدخُل الأربعينية لعل الله أن يفتح عليك بشيء، فدخلها فنام ذات ليلة فرأى تحت رأسه ورقة فيها ٢١ دائرة فخرج فقال، فُتِح عليَّ بهذه، فبعد ساعة دخل عليه رجل بواحد وعشرين دينارا، وأهل الزمان إنما هم على التشبه والرسوم، ومن تشبه ولا معه شيء من الدعاوي الكاذبة فهو على خير، وإلا الأشياء التي تذكر عن الأولين قد طويت، إلا إن كان في الزمان خبايا، ولله تعالى أخلاف ما زال الدين قائماً والبيت قائماً، لا بد منهم ولو أنهم حتى في القفار، أما ترى هنا القرآن يُرفع، والدين يُرفع، فهذه من البقايا وإن اختفوا، وما المؤمنون إلا سابق ومسبوق، والمؤمنون على خير، من لقي اللهَ مؤمنا دخل الجنة، أو عليه شيء من الذنوب أدخله الله النار بقدر ذنوبه ليطهره، والناس بالنسبة إلى الله تعالى أهل تقصير كثير، وإن فعلوا ما فعلوا، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعترف، فكيف بغيره، وأنت أعبد الله على قدر ما عندك من العلم والنور، واترك الإغترار والتعلق بصالحين قد مضوا كما يفعله كثيرون، فالذي اعتمدوا عليهم، لأي شيء لم يتركوا العمل، والإنسان يَنهى ولا يَنأى، بل إذا نهيتَ وهناك خير إلزمه، إلا من يرد الدين أو يعترض على الدين، فلا تخض فيه بل اتركه، فإنه كالذي يريد أن يرمح، ومن الناس من لا يمكنك أن تجذبه إلى الخير، أو عن الشر، إلا بترغيب
(٢/٣١٩)
في الرئاسة بأن تقول له، أنت فلان، ومن رآك تفعل هذا سقطت من عينه، وإن لم تفعل كذا استحقرك الناس
وقال له نفع الله به ذلك الرجل المذكور آنفا، لا ترون علينا فإن السكوت عن هذا أقرب إلى الأدب، فقال، لا بأس بذلك فإنك تحيي المذاكرة، وأنت كالصائد، ونحن ما نحابي، إذا كان المجلس وقت فسحة، ويحسن ذلك تكلمنا، وإلا قلنا له، أترك الكلام إلى وقت آخر
وقال رضي الله عنه في قولهم، لا يقيم على معلوم، وأين هذا، لا يستقيم إلا المجرِّد لا يعول على أهل ولا مال ولا على أحد
وذكر رضي الله عنه الصمت فقال، هو محمود إلا إنه لا ينبغي أن يبقى الصامت بلا ذكر وفكر
ما قال في عيد الأضحى
وقال رضي الله عنه ضحى يوم الإثنين سادس ذي الحجة سنة ١١٢٤، مع الناس شغل العيد، لأن هذه العيد مشهورة في الجهة حتى سموها، الدُّهمة، لا تبقي ولا تذر، ويتكلفون فيها كثيراً، حتى قالت العامة، راحت العيد بزينها وبقي همها ودَينها وهي أشهر من عيد الفطر بكثير، مع إنها في مكة لا تعرف، لأنهم في هذه الأيام يكونون مشغولين بأمر الحج والبيع والشراء، فقال بعض الحاضرين، قد ينفق الرجل منهم إذا حج ثلاثمائة قرش، فقال سيدنا، لأنهم يتكلفون إذا حجوا أشياء، ولأجل ذلك قد يشيب الرجل منهم ولا يحج، لاستثقاله من تلك العوائد التي يعتادونها في حجهم، فقال الرجل، يشبه هذا عندنا أيام المحلة حيث يتكلفون فيها، فقال رضي الله عنه، وكل هذه أوزار يحملونها على ظهورهم، ما في الكُلَف إلا كَلَف
ما قال في عقيدة أهل الجهة
وقال رضي الله عنه، أهل الزمان حُسْنُ ظنهم في الأموات أحسن منه في الأحياء لعظم حجاب البشرية فيهم
(٢/٣٢٠)
وقال له رضي الله عنه رجل، متع الله بحياتكم، فقال، ما عاد نرغب في الحياة في هذا الزمان، لأنه زمن إدبار، وإذا بقي في حضرموت واحدٌ أو اثنان يعلمون الناس ظاهرين، فيهم كفاية، ولو إن رجلا خُيِّرَ بين المغفرة وبين مائة قرش، لاختار الدراهم على المغفرة لفرط غفلتهم عن الدين ورغبتهم في الدنيا، ولو قيل، كل من طلب العلم فهو جبري، لرأيتهم يتبادرون اليه، ولو كان في الدول نظر وأدنى رغبة في الدين لحصلوا أمور الدين، لأن معهم منهم بعض رهبة، فلو قالوا، من صلَّى أو من فعل كذا من أمور الدين خُفِّف عليه مما يؤخذ منه لفعلوا، ولكنهم ما يهمهم إلا ظلمهم من غير حق، ووضعه في غير مستحق كما قال فلان، إنهم طلبوا الزكاة وبالغوا كأخذ عمر بن الخطاب، وفرقوها كتفريق الحَجاج
وسأل رضي الله عنه رجلاً عن سِنِّهِ فقال الرجل، كذا وكذا، فقال رضي الله عنه، بعض الرجال الخُرَّق إذا قيل له، كم سنك؟، ربما يذكر دون ذلك، ويحب أن يكون ما مضى من عمره قليلا، ويظن أنه إذا كان كذلك أنه بقي له عمر طويل، وإن مضى كثير من عمره، فهو الى الموت أقرب، وإن كان يعلم أن الموت يأخذ الصغار والكبار، يتسلى بذلك، وهذا من الشك النافع، الذى هو رحمة للإنسان، فقد يكون الشك خيرا من العلم في أشياء مثل هذا، والعلم خيرا من الشك في أشياء، وفي الشك في مثل هذا تسلية وراحة
ما قال في اعتياد النفس
(٢/٣٢١)
وذكر رضي الله عنه اعتياد النفس للأعمال فقال، هذا عام في الخير والشر، فينبغي أن يعَوِّدها الخير مع المشقة حتى تعتاد فيسهل بعد ذلك، وربما يكون بحيث لا يصبر عنه، ويعَوِّدها ترك الشر مع المشقة حتى تعتاد تركه حتى تشمئز عنه، مثاله، رجل يكره أن يجلس في مجلس قوم يكره مجالستهم، فإذا جلس أول مرة مع الاستثقال، فلا يزال يسهل عليه حتى لا يصبر عنه، وكذا في الرجل ينقر الصلاة نقراً، فإذا تكلف الطمأنينة مرة فمرة، بحيث لا عاد يصلي إلا بطمأنينة، وبالعكس لو كان يطمئن فنقرها مرة، ثم لم يزل كذلك حتى لا يبالي بأن يصلي صلاة باطلة، وعلى هذا، وليس ذلك لكل أحد فإنما هو بالنصيب
ما قال في البَرْد وما يليق له
وذكر رضي الله عنه البرد فقال، في البرد تعريف ومنافع أخرى ما لم يَجُر، فإن جار فهو كالخراب، وله ثورات حتى يضرب به المثل، فيقال، فلان كالبرد إن لم يثر في أوله ثار في آخره، وشدته في ستة نجوم الثريا وما بعدها، ثم ذكر الطبائع وما يليق بكل وقت من الأكل وقال، إن العسل في الربيع أحسن منه في غيره، فإذا عرف الإنسان العلوم وقواعدها ومظانها أمكنه الاستنباط، وإذا تفكَّرْتَ في كل علم رأيت إنما أصله من ثلاثة أقسام ونحوها، كقوله عليه السلام، (( بني الإسلام على خمس )) وإنما تفرع الباقي من ذلك، حتى ذكر علم الحَرْف وطبائعها فقال، هو علم جليل، ولا يتمكن منه إلا من هو من أهل الولاية
وذكر رضي الله عنه أناسا إنهم يتعنتون في شيء من الألفاظ، فذم التعنت كثيرا ثم قال، ولا يخلو كل أحد من أجر على قدر نيته، إن كان له في ذلك نية، وإنما الآثم الخاسر من كل وجه من لا له مقصد إلا الكِبْر والعُجُب
وقال رضي الله عنه في قولهم، ( بأن لا يعتقد أن الصالحين معصومون، بل قد يقع منهم الزلة والهفوة )، قال، أي على سبيل القلة والندور، وإلا صاروا كالعامة والفساق
(٢/٣٢٢)
ما قال في حديث سيدتنا فاطمة رضي الله عنها
حين أتته عليه السلام بالكسرة من الخبز
وقال رضي الله عنه، ما جاء في الحديث، (( إن فاطمة رضي الله عنها أتته عليه السلام بكسرة خبز وقالت، خَبَزْتُ خبزاً فما طابت نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال عليه السلام، أما إنه أول طعام دخل فم أبيكِ منذ ثلاث ))، إنه عليه السلام كان يتنقل في بيوته التسعة كل ليلة في بيت ويخرج أيضاً إلى خارج المدينة ويصوم ويجوع ولا يعلمون به، وكل موضع يجيئه يظنونه قد أكل في الموضع الآخر، حتى إنهم طلبوا يوماً معرفة كونه صائماً أم لا، فأطعموه فأكل فعرفوا أنه مفطر، ثم تكلم سيدنا في الجوع فقال، ينبغي أن يُنقِص كل ليلة لقمة، حتى يصل إلى حد لا يتغير عليه عقله فيه فيلزمه، وأقوام يدخلون الخلوة على غير هذه المقاصد بل يقصدون أموراً أخرى، فلهذا تتغير عقولهم، لأنهم إذا أشتد عليهم الجوع قد يسمعون أصواتاً وأشياء فيفزعون ويتغيرون منها، ولو أخذوها بشروطها وحقوقها لما حل بهم ما حل
وقال رضي الله عنه، إذا بقي العُود فالخير يعود، وإن راح فكل شيء إنما هو للفناء، ولكن إنما هي مقدمات، الأول فالأول
وتكلم نفع الله به في شدة ما في الناس من الطمع، ثم قال، راحت عقولهم وقلوبهم أخَذَها الخوف والطمع
(٢/٣٢٣)
وطلع رضي الله عنه البلاد يوم سابع عشر رجب سنة ١١٣٢ مدعوا عند ابن أخيه السيد عمر بن علي الحداد، لما فعل دعوة لختم ولده أحمد حين ختم القرآن، وكان هذا مجلسا حافلا وتقدم ما تكلم به في هذا المجلس لما ذكر تشوقه إلى الحج، وأمر بإنشاد قصيدته (قل لأحبابنا بسوح المقام) لما كان فيها ترحيل منازل سفر الحج، وبعد الفراغ والبخور خرجوا، وبقي سيدنا يسلم عليه أهل البيت، ثم خرج إلى داره التي في البلد وقال فيها، ثم خرج لصلاة الظهر في مسجد باعلوي، وبعدها أنشد المنشدون وأدير البخور والقهوة، ثم جاء الخاتم ومعلمه والمتعلمون، وقرأ الخاتم ما يعتاد قراءته، ثم قرأ المعلم ما يعتاد أيضا ثم دعا سيدنا بالحاضرين فلما ختم الدعاء عادوا للنشيد والبخور والقهوة إلى أن صلوا العصر، وكان ذلك جمعا عظيما حافلا، ولم يكن هناك كلام ينقل، غير إنه قال، لم نحضر لختم فيه قبل هذا، وبعد صلاة العصر أمر السيد أحمد بن زين الحبشي أن يقرأ على قراءته في شرح السنة للإمام البغوي، فقرأ إلى نحو وقت قيام سيدنا من مجلس القراءة المعتاد كل يوم بعد العصر، ثم قرأ الفاتحة وصافحوه وتفرقوا
( ذكر ابتداء مرض وفاته نفع الله به )
(٢/٣٢٤)
ولم يزل سيدنا رضي الله عنه مواظبا على عوائده كلها، من حضور الصلوات وترتيب الأوراد ومجالس القراءات في البكر والعشيات إلى عشية يوم الخميس ٢٧ من شهر رمضان سنة ١١٣٢، وقد حصل معه بعض الألم، وكان ذلك يعاوده ويعتاده وسيأتي ذكره من لفظه هو، فما خرج لصلاة عصر ذلك الخميس المذكور، ولا للقراءة بل أمرهم أن يقرأوا على عادتهم في حضوره، وهو عند الخلفة من الغيلة يسمع قراءتهم وكان قراءتي في "إرشاد" اليافعي ووقفي على قصيدة اليافعي فيه، التي أولها (قفا حدثاني فالفؤاد عليل)، فقرأتها فقط ولم أزد عليها، وبعد إنقضا القراءة قال نفع الله به، ما قرأتَ كثيراً، قلت، اكتفيت بالقصيدة وحدها لعدم حضوركم المعتاد، ثم خرج لصلاة العشاء ليلة الجمعة وتراويحها، ودخل بعد أن ابتدأوا في الذكر، ولا خرج لصلاة الجمعة، بل لما كان وقت طلوعه إلى البلاد لأجلها قال لي، إطلع ما بايقع لنا طلوع لأنه أشغلنا احتباس راقة، الظاهر، ولا أرى لذلك سببا هل هو من يُبس أو غيره، وقد يحصل لي ذلك لكن في وقت يسير ويزول وفي هذه المدة طال قليلا، ولا أستر للإنسان من العافية، وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، (( ولكن عافيتك هي أوسع لي )) وخشيت من طول الجلوس يحصل بسببه ألم، ولكن كما قال الشافعي، ولا ذكره، فادعوا لنا بالعافية، ومضى أولاده لصلاة الجمعة وجلسوا بعدها في الدار مجلسه المعتاد مع قراءة القرآن على عادته في رمضان نحو جزءين، ثم خرجوا وصلوا العصر بالحاوي، ولا خرج لها وقرأوا بأمره على العادة في الكتب المعتادة في شهر رمضان، وقرأت القصيدة التي أولها، (مَن بَانَ عن ربع من نهواه والطلل ) وهو يستمع كالأمس، وخرج لصلاة العشاء ثم بعدها وبعد صلاة السنة أشار اليهم لصلاة التراويح بالتنحنح وهذه عادته كل ليلة، ثم دخل وهذه الليلة أعني ليلة ٢٩ رمضان هي ليلة ختم مصلى الحاوي وما ترك الحضور وهو يمكنه، وبعد صلاة عصر يوم الأحد سلخ رمضان
(٢/٣٢٥)
دعاني وطلعت عنده في الغيلة، فصافحته وقبلت يده الشريفة، وهو مضطجع على سريره ويده حارة كالمحموم، وسألني، كيف أنت؟، وتحادثت معه ساعة، وسأل عن قراءتي ووقفي وأي باب انتهيت اليه من "الإرشاد"، وسأل عن الباب الأخير الطويل في "الترغيب والترهيب" وقال، تأخر تمامه، وظنناه يتم قبل هذه المدة، ثم قال، امض احضر القراءة وكانوا إذ ذاك في حال القراءة، وهم يقرأون في المصلى على عادتهم يوم كان يحضر في شهر رمضان وفي ست شوال، وفرغت من القراءة آخر يوم من الست، ولسؤاله وكلامه هذا نفع الله به معنى عجيب يفهمه الفطن الحاذق اللبيب، ولهذا دعاني اليه في مجلس القراءة، ولا خرج رضي الله عنه لصلاة عشاء ليلة العيد وهي ليلة الإثنين ولا لصلاة العيد وأشار إلى أولاده الكرام بشهودها، وتخلفت عنها لتخلفه، وخف عنه ذلك اليوم ما يجد من سبب الراقة، ثم عرض له وجع آخر في الجنب وسألت سيدي ابنه الحبيب حسن هل به حمى قال، لا إنما يده حارة فقط، وقد يكون ذلك، وكنا مجربينه إذا مشى أو ركب أو نزل من المركوب أحس يده حارة
(٢/٣٢٦)
وجاء اليه رضي الله عنه ضحى يوم العيد السيد زين العابدين وأخوه السيد شيخ معاودين وعائدين، فجلس لهما مجلسا فسيحا وكنت حاضرا ذلك المجلس المنور، فقال لهما، سبب ذلك بعد تقدير الله فيما ظهر لي، التقصير في بعض الأمور كالتأديب، وذلك إني خرجت إلى السادة آل فقيه ليلة الأربعاء سادس عشرين من شهر رمضان، وقد كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يترك أمور الدنيا في هذه الأيام، يعني العشر الأواخر وكان صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يعتكف فيها، ولا يبيت فيها عند أحد من نسائه كعادته، لكن فعلنا ذلك استمراراً على إجراء الحقوق والإقامة بالجبر من غير داعية لشيء ولا عاد معي طلب لشيء، ولو كان مع الاقامة بذلك استعمال قال هذه الكلمة مزحاً وتبسطاً معهما، وقد خرجت ليلة ختم الحاوي وصليت العشاء والركعتين بعدها، لكن مع الحرقة الحاصلة أحس معي لاكز في الكلوة فما أمكنني المقام وأنا عازم إن تنشطت رجعت، ولكن ما ينبغي أن يكلف الجسم عمل الهمة، وقد قالوا، همة العاقل أقوى من جسمه، وجسم الجاهل أقوى من همته، وتقدم قوله، القوى ضعفت، فلا يمكنها تساعد الإنسان على ما يريد، فربما نهم بالأمر لا تساعدنا عليه القوى، فالهمة قوية، والقوى ضعيفة والروح أقوى من الجسم، وإذا قوي الروح حصل للجسم قوة، وإذا حصل على الروح ما يوجب الإنقباض انهدم الجسم، واللاكز قد يحصل، لكن أداويه بالزباد وغيره، فيصح ولا يحس به أحد، وهذا فيه زيادة على ذلك، ولكن الحمد لله حيث العافية حاصلة ولا شي زيادة، وقد رأى العيال في بعض كتب الطب عندهم، إنها علة خفيفة وقد كنت حكيت لكم بالرؤيا التي رأيت فيها السيد علي بن عبدالله وهي إني رأيت كأني وردت عليه وهو في مجلس مستطيل، وهو في طرفه الشرقي وأنا في القبلي، وبيني وبينه مسافة، وكأنا جئنا لسبب يوجب الإجتماع كالعزأ ونحوه ومعنا من الصغار كثير جاءوا في جُرتنا، وقد كنت قبل وفاته أظن أني وإياه متقاربين في الوفاة، فلما رأيت
(٢/٣٢٧)
ما بيني وبينه من المسافة في المجلس، قلت، هذا يكون مسافة مدة ما بيننا وبينه في الوفاة، وقد تقدم ذكر هذه الرؤيا بأبسط من هذا عند ذكره للسيد علي المذكور، وكان مدة ما بين وفاته ووفاة السيد علي سنة ونحو ١٩ يوما ثم قال، والحمد لله وقد ذكرنا لكم من المعمرين من آل باعلوي كالسيد عمر بن أحمد عاش ٩٥ سنة وعَدَّدَ جماعة آخرين عمروا، وذكر عمر كل واحد منهم
أقول، وذكره لهذه الرؤيا والمعمرين من السادة يشير إلى إنه يتوفى من هذا المرض، وأكثر إشاراته رضي الله عنه إلى وفاته كانت منه سنة ١١٢٨ كما قدمنا ذكرها فلا نعيده، وذلك لغُزْرِ قَعْرِ بحر علمه وكتمه الأسرار وستره للمغيبات وحفظه الشئون الإلهية، وقد ذكر لي ابنه الحبيب الحسين رحمه الله غير مرة قال، مَرِض الوالد فيما سبق أيام صغري مرضا شديداً أشفقنا عليه، فكنت يوما والكريمة بهية رحمها الله جالسَين عنده إذ قال، كان السيد عمر بن أحمد مَرِض مرضاً شديداً خيف عليه منه، وكان ذات يوم عنده ابن وبنت له يحبهما كثيرا، فجعلا يدعوان له ويقولان، اللهم زد في عمره من أعمارنا، اللهم زد في عمره من أعمارنا، ويكرران ذلك كثيراً، فصح من ذلك المرض، وعاش عمراً طويلاً، وكان يرى أن ذلك زيد له من عمريهما، قال، وأملى عليَّ الوالد قصيدته ( يا رحمة الله زوري) حين أنشأها في مرض فقال عند ختمها، ( يا رب واختم بخير، إذ حان حين المسير) فتعبنا من ذلك، ولكن بَعْدُ مَنَّ الله عليه بالعافية فأصلحها (إن حان حين المسير) وقال له السيد زين العابدين، ما الذي يناسبكم من الزاد، فذكر سيدنا ما يناسبه حينئذ، وذلك قبل أن يشتد عليه الألم كثيرا، فقال، يناسبني الرطب كثيرا، حتى إني لم أدَع كل ليلة عند العَشاء من أخذ حبتين أو ثلاث، وكان الوقت ذلك الحين وقت الرطب فقال له السيد زين، أيناسبكم التين، فقال، لا، لأنه حار، وأرى الصغار يتولعون به، فأعطيهم إياه، وإلا
(٢/٣٢٨)
ففيه عندنا هذه السنة كثرة، ثم أمر بالقهوة وبعدها البخور، وبعده قرأ الفاتحة ودعا بدعاء كثير
أنظر إلى هذا الدعاء الجامع
ومما دعا به، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وحولنا وقوتنا، اللهم متعنا بالعافية، ومُنَّ علينا بدوام العافية، اللهم إنا نستحفظك ونستودعك أدياننا وأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأصحابنا وجميع من معنا وما معنا، اللهم اجعلنا وإياهم أجمعين في حفظك وكنفك وأمانك وجوارك، اللهم أصلح أمور المسلمين، اللهم ارحم المسلمين واسقهم الغيث والرحمة برحمتك ياأرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين، ثم بقي الناس يتحرون أوقات الدخول عليه نفع الله به، ويطلبون ذلك، وهو يعتذر سيما والوقت وقت معاودة وعيادة حتى وعدهم عشية الأربعاء ثالث شوال بعد صلاة العصر فاجتمعوا لذلك ثم أُعْلِمَ بهم، فأذن لهم في الدخول عليه، وكان غالب كلامه في ذلك المجلس في شبه كلام أهل الحقائق، فأول من صافحه بعض الشيبان من السادة فقال له، الله الله في الدعاء بالعافية واللطف، وفعلُ الله كله فضل وعدل، وما جاء من الله للعبد يكون على قدره تعالى لا على قدر العبد، فينبغي أن يتنبه لذلك من كل الوجوه أو من بعضها، وما نحن إلا من جهة الرحمة بكم والشفقة عليكم، وهذا ونحوه كلامه إلى أن فرغ منه، ثم أمر بماء ورد فأدير به عليهم، ثم قرأ الفاتحة ودعا، اللهم اقسم لنا من خشيتك الدعاء المشهور، حتى بلغ ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يخشاك ولا يرحمنا، اللهم أصلح أمورنا وأمور المسلمين، واسقنا الغيث والرحمة وول علينا خيارنا، واصرف عنا شرارنا، ثم ختم الدعاء، وكلما صافحه إنسان مستخلفا بعد المجلس سأله من هو، فإذا قال، فلان، دعا له بخشوع ورحمة
(٢/٣٢٩)
وتحنن، حتى صافحه آخرهم رجل فأوصاه بمال رجل من أقاربه قد مات وبما يتعلق به، فكأنه أستثقل أن يتعرض فيه، وقال عسى أن يكون فلان لرجل آخر قريب له، ولكنه قد قلنا له فاعتذر، فقال سيدنا، إنما هو قضى حاجة، ما في ذلك من طمع، والكلام ما ينفع في ذلك، ما المطلوب إلا العمل والنصيحة، وما ذكر الله القول مجردًا، ولا على مجرد القول عمل عند الأكابر، ومن كان مراده الا الأكل والإستيلاء ولو على مال يتيم بالظلم فلا تَعُدَّه شيئاً، وقد أوحى الله إلى بعض الأنبياء، وأظنه داود عليه السلام، أن حَبِّبْ إلي عبادي، فقال، كيف أحببهم اليك؟، قال، تُذَكِّرُهم نعمائي، ثم انقضى هذا المجلس
ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين وقت الإصفرار يوم الجمعة خامس شوال، فجلس مستندا إلى الجدار مستقبل القبلة في الطرف النجدي من الغيلة متوشحا بشَمَط وليس من عادته لبسه إلا تلك الساعة، فكلمه وأنسه وأَثَرُ العافية باد عليه، فقال نفع الله به، ما أظن بي إلا حرارة وأوصيناهم يدورون لنا كِرْزَام، لأنه في غاية من البرودة وقد قطعوا نخلة لأجل ذلك فعله بعض الخلفاء
أقول، هو هارون الرشيد لما أصابته الحرارة في بعض أسفاره، وقد مر على نخلتي حلوان اللتين يضرب بهما المثل في طولهما وطول الصحبة وفي إتحادهما، فقطعت إحداهما وأطعم كِرْزَامها، فما لبثت الأخرى بعدها أن ماتت، وللعرب فيهما أبيات كثيرة من الشعر في أمثلة تضرب في طول صحبتهما، والتعجب من موت الأخرى بعد صاحبتها، وكانتا من غرس الأكاسرة
(٢/٣٣٠)
ثم بقي السيد زين إلى أن غربت الشمس، ثم قرأ سيدنا الفاتحة وبعدها سورة لإيلاف قريش والكوثر والإخلاص، ثم دعا اللهم اقسم لنا إلخ إلى أن قال، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك وكررها ثلاثا، اللهم أصلح لنا أمورنا، وأصلح لنا قلوبنا وأجسادنا، اللهم طهِّر منا باطن الروح وظاهر الجسد، وحِطْنَا من جميع الآفات ونجنا من الأهواء والتبعات، وجُد علينا بفضلك وقربك، واجعلنا من خالص أهل المحبة من حزبك، ثم ختم وقام السيد زين، ولما صافحته قائما قال، بارك الله فيك ووفقك لطاعته، وجعلك من عباده الصالحين وأرجو أن يستجيب الله دعاءه هذا وغيره، لأن دعاءه نفع الله به مقبول عنده، والله سبحانه لا يخيب من رجاه، وكل يوم بعد ذلك يجتمعون بعد صلاة العصر ويطلبون عليه طريقا فوعدهم نفع الله به عشية الاثنين ثامن شوال، فحشدوا واستثقل من كثرتهم، وأراد أن يعتذر منهم، ثم أمر بدخولهم وهو متكلف لهم فدخلوا وصافحوه وكلم كل واحد بكلام يخصه، ولكنه بقي مضطجعا فوق السرير، ومكثوا عنده قليلا وأمر أن يُنشَد بقصيدة مختصرة، ثم بعدها قرأ الفاتحة وقال، قولوا لهم بالقلوب، أي بلا مصافحة، فخرجوا من غير مصافحة ودعا للجميع وطلب منهم الدعاء كما هي عادته وصافحته أنا وحدي فقط، فقال، كيف أنت، بخير؟، وكلما اتفقت به في هذه الأيام في شكواه هذه قال لي هذه الكلمة، ودخلت عليه رضي الله عنه ضحى يوم الجمعة ١٢ شوال، وهو في السطح الشرقي وعنده السيد زين العابدين، فبقى يتكلم ساعة ويهون مرضه هذا كثيرا بالنسبة إلى مرضه الأول، فقال، أين مرضنا الذي عام العام، أي عام ١١٣٠ من هذا، ذاك حمى مطبقة، وهذا إنما اشتد بسبب الإنحسام، ونحو هذا الكلام
(٢/٣٣١)
ثم قال له الأولاد، عسى نقوم مع السيد زين نتقهوى في الغيلة، فقال، مليح وعاد شيء غير القهوة، قالوا، بعدها يعلم الله ما يكون، فقال نفع الله به، إن كان شيء غيرها هاتوا قسمي إلى هنا، وإن قل، فإنا نتبارك بكم أكثر مما تتباركون بنا، فعندما قال هذه الكلمة، أخذت السيد زين العبرة فبكى وخشع كل من سمعها، فرضي الله عنه ما أحسن أخلاقه، وأطيب معاشرته ومحادثته، وما أعرفه بربه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا إلى المكان المذكور ودخل عليه رضي الله عنه هذا اليوم جماعة من السادة فرادى ومجتمعين، كالسيد سقاف بن عبدالله استأذن وحده فأذن له بالدخول، ولم أعلم له زيارة لسيدنا قبلها، وقد أرسل مرة فيما سبق، هو والسيد محمد بن سقاف العيدروس، أرسلا يستأذنان سيدنا في زيارته، فلم يأذن لهما إستنكارا لمجيئهما الآن مع عدم إعتيادهما للزيارة من قبل، فأذن للسيد سقاف في هذه المرة لكونه مستودعا وداع آخرة، وأعطاه قميصا وجعل يوصيه، الله الله في التوالي مع إخوانك العيال، { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى } ومثل ذلك ثم قرأ الفاتحة واستودع منه وخرج
(٢/٣٣٢)
وعشية هذا اليوم كنت أجني رطباً من النخلة العشدلية، التي هي مقابلة الخلفة النجدية من الغيلة، فلما أحس بي، ناداني ثلاث مرات، بحَنانةٍ وشفقة، يا حاج وكانت هذه مناداته لي فلبيته، فقال، ذا مَن عليك يا حاج، قلت ما عَلي من أحد، وبقي يقول في نفسه وأنا أسمع، يا حويِّج مَن ذا عليك، يا حويِّج مَن ذا عليك يا حويِّج مَن ذا عليك، ثلاثاً، فعرفت من هذا إنه يترثى لي من أمور ستعرض لي، والله المستعان، وما رأيتها إلا بعد فراقه، من أمور لا تحكى، في حضرموت وفي الحساء، لو أخبرت بها الناس لعجبوا، وعلموا أن مصادمتي لها من باهر كراماته وخوارق عاداته رضي الله عنه، حتى إني بحضرموت لم أطق أرى موضعا كنت آلف منه الجلوس فيه، أو كنت أمر معه به، وأود الفرار منه بسرعة
فهذه مقدمة لبعض الشؤون، وأما في الحساء فأمور كثيرة رأيتها من إشاراته رضي الله عنه ونفع به
وعشية يوم ثامن عشر شوال كثروا العُوَّاد وتجمعوا واشتد طمعهم في الدخول عليه، فأرسل اليهم وقال، أما أنا فلست متكلفا لأجلكم الجلوس، ولا أريدكم تدخلون علي وأنا مضطجع، فادعوا لي وأنا أدعو لكم، وأعذَرَهم فانصرفوا، ومرة قبلها قال، قل لهم في مثل هذا الحال، أتركوني أنا وربي، ولا تكلفوني شططاً وأنتم إلا في الخاطر، وأنا داعي لكم فادعو لي
(٢/٣٣٣)
ثم عشية الجمعة ١٩ شوال تجمعوا وأرادوا الدخول عليه، ورجوا أن يأذن لهم، ووافق أن جاء السيد زين العابدين وهم مجتمعون، فأذن له ولهم معه، فدخلوا وازدحموا، فصافحه من جملتهم رجل كان يُرقي من العين، فقال له، الله الله في الهمة، وعمدة العمل على الهمة، وهمة أهل هذا الزمان في أسباب المعاش ولهذا يغبطون من معه منها شيء، ويعظمون أمره، وهذه الأسباب لا تذكر، فذكر له السيد زين إنه أصابته قبل هذا بيومين عين، وذلك إنه جلس عنده رجلان معروفان بالعيانة، فوسوس منهما، فلما قام إلتَوَتْ رجلاه حتى لم يطق القيام إلا بشدة بعد مدة وبقي متألما من رجليه زمنا طويلا، فأوصاه سيدنا بالحذر والإحتراز من العين، وقال له، إن الناس ماعادهم إلا كالخلقان بالنسبة إلى الجديد الصحيح لِمَا هم عليه من الإستكثار والحسد، فلا شيء أخس من العين، وقد كانوا في وقت الإمام الغزالي لَمَّا أصابه ذلك العارض الذي عرض له حتى بقي لا يقدر على الكلام قالوا، إنما هذه عين أصابت الأمة، وسأله السيد زين عن نومه إذ ذاك فقال، هو أكثر من أيام الصحة، ثم أمر بإدارة ماء ورد، ثم قرأ الفاتحة ودعا كعادته ثم خرجوا من غير مصافحة إلا السيد علي بن حامد، فقال له، يباسطه يا علي، يا علي أدع لي، والقهوة عَلَي، ثم إنه في الغد أرسل له نصف قرش، ولكريمته مثل ذلك، ثم صافحته وقال لي، أحمد، قلت، لبيك، وما أعلم أنه ناداني كذلك، إلا هذه المرة فقال، الله الله في الدعاء، قلت قد دعوت لكم اليوم بالعافية عند الفقيه المقدم، فقال نعم أدع عنده، ويوم السبت حصل له رضي الله عنه ورم في البطن وورمة مثل البيضة، تحت السرة اشتغلوا منه جداً، وبعد صلاة صبح يوم الأربعاء فاتحة أو ثاني يوم من ذي القعدة، وصل الشيخ عمر بن عبدالقادر العمودي زائرا وعائدا له في نحو عشرة من أصحابه، وليس له عادة قط يجيء في مثل هذا الوقت، إنما جاء لهذا السبب، فلما جاء
(٢/٣٣٤)
مكث يومين لا يؤذن له في الدخول، ثم بعدهما قال سيدنا، أين الشيخ عمر، مرتين أو ثلاثا وليلة هذا الأربعاء المذكور رأى أحد من أهل البيت كأنها تخاطب أخرى، فإذا رجل قد صعد السطح، فقالت صاحبة الرؤيا من هذا قالت الأخرى هذا سرور طلع إلى عند حبيبه، فأُعلم بالرؤيا فأستَرَّ بها، ويوم هذا الأربعاء فَشَّ ورم البطن لكن حصل له بُحَّة في الحلق وانقطاع في الصوت فشق عليه لذلك الكلامُ
وقد حصل مثل ذلك للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في مرض موته، وفي ذلك إشارة إلى أنه لما كان شديد المتابعة له عليه السلام في حياته، وأوقات صحته، في كل حالاته الإختيارية من عباداته وعاداته أجرى الله عليه مثل ما أجرى عليه عند وفاته، مما ليس له فيه اختيار، تتميما للمشابهة والإتحاد والإنتساب رضي الله عنه ونفعنا به في الدارين، وبعد صلاة عصر يوم الخميس دعا سيدُنا الشيخَ عمر المذكور، فدخل وصافحه وقبَّل يده، فقال له سيدنا، مرحبا بالعمودي، مرحبا بالعمودي، مرحبا بالعمودي، ثلاثا، ثم إنه أراد أن يتمسح بسيدنا، فقال له، تمسح، خلوه يتمسح، ففعل ثم قرأ الفاتحة ورفع يديه بالدعاء، ثم قال خلوا العمودي يتوطأ، وعاده يعود، فنزل من عنده
(٢/٣٣٥)
ومنذ أصابته رضي الله عنه البُحة، لا قوت له إلا نحو مُجِّين أو ثلاثة رائباً لا غير، وفي هذين اليومين الأربعاء والخميس بل والجمعة، ما تناول شيئا قط، وزاد عليه الأمر ليلة الجمعة ويومها إلى الغاية حتى بقي الناس في غاية من التعب عليه، فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة خف عنه بعض ما يجد من البحة، ولكن ما أكل شيئاً إلا ضحى يوم السبت نحو ثلاثة أمجاج رائب ولم يذق بعد ذلك شيئا إلى أن توفي، بل مدة مرضه ذلك كله، ما يأخذ شيئاً إلا إن كان قدر العُلْقة من الزاد، وكذلك الشراب، وأخبرني سيدي الحبيب إبنه الحسن، وكان هو الذي لازمه وخدمه في مرضه ذلك، وحَظي به من بين الأولاد، إنه أعني سيدنا ليلة هذا السبت خامس ذي القعدة أخذ ساعة يذكر فقيره ومحبه، ويقول، أين الحساوي، أجاء الحساوي، نبهوا الحساوي، قولوا للحساوي يجلس هو والرجال في الضيقة، لا بعد يطلع لأنا الساعة ما بعد نحن بمفسوحين، خلوه يجلس أولا، ونحو هذا الكلام، فقلت للحبيب حسن، من الرجل الذي يشير اليه، هل ظهر لك من هو، قال، الله أعلم، وما هناك رجل يشار إليه، إلا إن كان يعني الخضر أو أحدا آخر
ودخلت عليه رضي الله عنه يوم الأربعاء ثاني يوم من ذي القعدة، فرأيته وهو مسجى وكأنَّ بدنه ووجهه لا لحم فيه، بل مجرد جسم وجلد وعظام فقط، وكان يتمنى أن يكون كذلك عند موته، وقد أخبرني ابنه الحبيب حسين إنه سمعه منذ مدة طويلة، أظن نحو العشرين السنة، يقول، أشتهي أني يوم أموت ولا في جسمي مُزعة لحم، وكنا نسمع أهل بلدنا يقولون، رحم الله جثة لم تُخَثْلِم قبرها، أي تقذره، ولكن من لك بمن يصبر عليك إذا طال بك المرض فلو أن أحدا وَضَّاك مرتين أو ثلاثا، مَلَّك وضاق منك
(٢/٣٣٦)
وقال لي ابنه الحبيب حسين أيضا، إحتجم سيدي الوالد ليلة عشرين من شهر رمضان، سنة ١١١٢ وعشر في نجم الثريا في الليل وقت العشاء، وكان معه شبه الفرسة، ولم يخرج إذ ذاك لصلاة العصر ولا المغرب ولا العشاء، وسمعته وهو يحتجم يقول، الإنسان في هذه الدنيا معرَّض للأمراض والأعراض والأغراض، وسمعته يقول، إني أجد في نفسي هذه السنة زيادة لحم من غير سبب، وأنا أحب أن لا أموت وعَلَيَّ كثير لحم، ولا أحب أن أموت بطول مرض، وقد أشتهى الشيخ أحمد الرفاعي ذلك، فتم له، ولكن مَرَض حصل عليه باطن، ولكن الشيخ أحمد وافق زمانا أشبه من زماننا، وزماننا هذا كما ترى، لو طلبت في الخمسة الفروض واحدا يُوَضِّيك ضجر منك، ثم قال، وما نسمع ما يقول الناس، رحم الله جثة، إلخ
أقول، فتم لسيدنا نفع الله به ما تمناه واشتهاه من ذلك، ومن أول ما حصل عليه هذا العارض وهو يذكر إنه إنما هو عين، وصرح بذلك مرارا، وكذلك أيام صحته، قال كما تقدم أكثر ما كان خوفي من العين والسم، وأشار إلى ذلك مرارا أخرى، كما ذكر في قصة الإمام الغزالي، إنها عين أصابت المسلمين، وكلما عرضوا عليه نفع الله به شيئا من القوت، أو ذكروه له ذكر قصة الفقيه المقدم عند موته، وكان يأمر برش الماء عليه كثيرا، قل ما يفتر عنه، بل كل ساعة يشير إليه، وذلك من نحو نصف شوال، فلذلك ظنوا أنه حرارة كما تقدم من قوله، ما أظن إلا أن بي حرارة، وطلبُهُ للكرزام، لكنه لم يقبل شرب الماء، فلما رأوه لم يقبله إنبهم عليهم الأمر، فإن طلبه الرش يدل على الحرارة، وعدم الشرب يدل على عدمها، والسيد الحبيب أحمد بن زين قال، ظهر لي إن ذلك لتقوية الأعضاء ونشاطها وظهر لي أنا والله أعلم، إن ذلك لمعنى من معاني مرض النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حيث كان يُصَب عليه في مرض موته قِرَبٌ من الماء، تتمة من الله سبحانه وتعالى بإجرائه على سَنَنِه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حياً وميتاً
(٢/٣٣٧)
وكان رضي الله عنه في مرضه ذلك كثيراً ما يذكر خاتمة صحيح البخاري فيقول، ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) وكان في أيام صحته متعلقاً به أي صحيح البخاري ولا يَدَعُ مَدْرَسَه يخلو من قراءته، وكان أيضاً في آخر مرضه يقول، يامحمد ياأحمد
وسمعته رضي الله عنه غير مرة يقول، إن شيخه السيد محمد بن علوي السقاف آخر كلمة تكلم بها عند الموت أن قال، يا حبيبى يا محمد، ثم انطفأ بعدها في الحال، ولم يجر على لسانه بعدها كلام، وفي هذه الستة الأيام من ثاني ذي القعدة التي ثقل فيها واستغرق، كثيرا ما يرفع يديه ثم يقبضهما تحت صدره كهيئة المحرم بالصلاة، ثم يضع كفه على ركبتيه قابضا أصابعه، ورافعا المسبِّحة كهيئة المتشهد
ذكر انتقال روحه الزكية قدس الله سره ونفعنا به في الدارين آمين
فلما كان ليلة الثلاثاء سابع أو ثامن من ذي القعدة من سنة ١١٣٢ لنحو ربع الليل، وسَبع في نجم سعد الأخبية انتقلت روحه الزكية إلى أعلا عليين، ومن هذه الدار الفانية إلى الدار الآخرة الباقية وكان حاضرا عنده ابنه الحبيب حسن، فرحم الله مثواه، وبل بوابل الرحمة ضريحه وثراه، وكان مدة عمره ٨٩ سنة إلا ثلاثة أشهر تنقص ثلاثة أيام، ومدة مرضه أربعون يوما، ومدة إقامتي في خدمته والتمتع برؤيته، تحت ظل ريف رأفته ١٧ سنة وشهر و١٧ يوما ولسان الحال يقول ،
رعى الله أياما برامة قد خلت وأوقاتِ طيب ما عرفت لها قدرا
أويقاتُ وصل لو تباع شريتُها بروحي ولكن لا تباع ولا تُشرا
وأنشد أيضا لسان الحال فقال ،
أسفي على زمن العقيق وطيبة مع جيرة كانوا لنا بكثيبه
زمن صفا مشروبه آهٍ على ما فات قلبي من صفا مشروبه
أترى أرى الوادي ويشرق ناظري وأرى بحضرته جمال حبيبه
وأرنح الأعطاف من فرح اللقا بُشرى بطيب نسيمه وهبوبه
(٢/٣٣٨)
فيالله ما أقصر تلك السنين في حال صحته، وما أطول هذه الأيام في مدة مرضه، وما أنكد عيشنا بعده، وإن كل مصيبة إذا طالت هانت، وأرى المصيبة به تتجدد بتجدد الأيام والأعوام، كما قال أبو تمام ،
كانت لنا أعوام وصل بالحِمى فكأنها من طيبها أيام
ثم اعقبت أيام صد بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلُها فكأنها وكأنهم أحلام
فالله يجبر ما انصدع من قلوبنا لفقده، ويجمعنا وإياه في دار كرامته، فأي عين لم تسح دموعها عليه، وأي قلب لم ينصدع لفراقه ويشتاق اليه، بل والله لو أن أحدا بكى الدمع ثم الدماء لم يكن ذلك كثيراً في رزئه، إذ لا أحد يقوم مقامه مثله، ولا ينوء بعبائه، لقوله نفع الله به، عندنا أمانة لا يحملها إلا المهدي، وكان أمر الله مفعولا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان ذلك في الكتاب مسطورا، وكان انتقاله رضي الله عنه، في المرواح الشرقي من بيته الذي في الحاوي الميمون، ثم حُمِل إلى الغيلة القبلية ولم يُعلموا أحداً بموته إلا بعد الفجر، أرسلوا إلى البلاد إلى مساجد السلف ليقرأوا له الفاتحة بعد الصلاة، وهكذا عادة أهل الجهة، إذا مات أحد أعلموا أهل المساجد ليقرأوا له الفاتحة ويشتهر موته لمن أراد الصلاة عليه، ولم يُعلموا أهل البيت من النساء والصغار بذلك، ولا أحداً من جماعة الحاوي من الفقراء والمجاورين، إلا بعد أن صلوا الصبح، وقرأ مرتب الفواتح، فقال ابنه السيد علوي، وهو الذي صلى بنا، إقرأ الفاتحة لحبيبك، فحينئذ انقلبوا في صيحة واحدة، ولا عاد قدر مرتب الفواتح بعد الأولتين أن يتم الثالثة، ولا قريء الحزب ذلك اليوم، فلما سمع النساء من أهل الدار ضجة أهل المسجد، ضجوا بأجمعهم وصاحوا، ثم خرج الناعي من البلاد إلى الحاوي وانقلبت الدنيا بمرة، وأظلمت الأرض لهول مصرعه، وحُقَّ لها أن تظلم فالصابر المستمسك الذي يحمد ويسترجع وهو يبكي، ولا
(٢/٣٣٩)
أظن أن عينا لم تبك لفراقه، ولا قلبا لم يحزن عليه، فكم يومئذ من عين باكية، وكم من أصوات بالعويل والنشيج عالية، ومن العجائب كيف لم تنشق المرار، وتؤذن الأجسام بالدمار، ولكن لما ورد ،(( إنه ما نزلت مصيبة إلا ومعها من اللطف بقدرها))، وامتلأ الحاوي من الخلائق للتبرك والتمسح به، حتى لم يبق في المصلى ولا الضيقة ولا الحوش الشرقي ولا الغيلة، ولا السطح ولا الدَرَج وما حوالي المكان، وفي الطريق من بحر وبين النخيل من نجد، وقبلي المصلى متسع من الزحام، وهو رضي الله عنه مسجى على سريره في الغيلة الذي كان ينام عليه، وابتدأوا في غسله وقت الضحى، وغسلوه على سريره المذكور، في المحل الذي هو فيه من جانب الغيلة النجدي، والذي غسله ابنه سيدى الحبيب الحسن وهو الذي كان مواظبا عنده أيام مرضه، وأشرك معه صهره السيد عمر بن حامد، ومغيربان يصب الماء، ويتردد إليهما بما يحتاج اليه، وما هناك أحد غيرهم، وماؤه يصب من الميزاب، وتحته ناس كثير يتلقون الماء الذي ينصب من غسله بأقداح وأدنان يشربون منه ويتمسحون به ويتبركون، ثم بعد غسله درجوه في الأكفان، ثم وضعوه على السرير مسجى بعد أن جففوه، ثم لما صلوا العصر حملوه في النعش، وحمل على الأعناق والرءوس، والناس يتنافسون الحمل، أيهم يحمل خطوة أو خطوتين وقل من يتم الثالثة إلا وقبضها عليه آخر، والزحمة من الناس شيء لا يعلمه إلا الله، وكم من ضَرْب بالعصي، ولَكْم بالأكف، ودَفْع باليد لأجل المنافسة على حمل النعش، مع الصياح والبكاء والعويل من كل جانب وما بلغوا الجبانة إلا قرب اصفرار الشمس، وما فرغوا من الدفن إلا بعد الغروب، والإزدحام في التربة لحضور الدفن مد البصر من كل جانب وما وضعوه على شفير القبر إلا وقد قُطِّعت أذبال الشقة الممدودة على النعش للتبرك، وألحده السيد عيدروس بن عمر صاحب مشطة، ومن عادته إلحاد المرموقين والموصوفين بالصلاح والقوي
(٢/٣٤٠)
الشديد من الناس من تمكن يحثو ثلاث حثوات على القبر، وحزروا بالتخمين من حضر الصلاة والدفن نحو عشرين ألفاً، أو تزيد من كل بلدان حضرموت
ومن العجيب أنهم لما فرغوا من دفنه جاء درويش عجمي، كالذي وصفه في تلك الرؤيا كأنه هندي أو سندي، وأكب على القبر، وبرك بصدره عليه، وجعل يصرخ ويصيح، ويلثم من تراب القبر، فصاحوا عليه فتنحى إلى قبلي قبة الشيخ عبدالله العيدروس وجلس إلى أن تفرق الناس، ثم لم نره بعد ذلك ولا قبله
فلما سافرت ووصلت إلى بنادر اليمن، كعدن والمخا والحديدة واللُّحَيَّة وإذا كل أهل بلد يقولون، أول ما سمعنا بموته من درويش جاءنا والله أعلم هو ذاك أو غيره
ثم نصبوا على قبره الشريف خيمته الكبيرة التي كان ينصبها في زيارته لنبي الله هود عليه السلام أيام كان يزوره وقت نشاطه، ثم بعد ذلك يأمر أولاده الأجلاء بالزيارة، ونصبوها لأجل يستظل تحتها الذين يقرأون على قبره رضي الله عنه، والقراءة عليه طول النهار، ونحو ربع الليل، ثم تسابيح ساعة طويلة، ثم يتفرق الأكثر من الناس، وأبقى في جماعة من الفقراء نبات عند القبر المنور، نقرأ نشاطنا، ثم ننام وذلك من حين دفنه إلى ثالث يوم، وهو يوم ختمه، كذلك عادة أهل حضرموت يقرأون على القبر ثلاثة أيام
(٢/٣٤١)
وكان ختمه يوم الجمعة ١١ ذي القعدة وفي هذه المدة قل ما تمضي ساعة من ليل أو نهار إلا ويفد ناس لم يشهدوا الصلاة عليه، فيصلون على القبر، ويدعون لأنفسهم ولمن يحبون عند قبره ويترضون عنه ويترحمون عليه ويحملون من تراب ضريحه، حتى إنه في يوم الختم انقلبوا عليه، يأخذون من ترابه حتى قرب أن يستوي مع الأرض، بعدما كان مسنما مرتفعا، وحضر عند الختم أكثر ممن حضر عند الدفن، وفعل أولاده الكرام مأدبة عظيمة ضافية، أكل منها جميع من حضر الختم إلا الآحاد من الناس، كرهوا كثرة الزحام، ودفن في طرف التربة الجديدة، التي أمر هو السيدَ زين العابدين بفعلها ففعلها، وبقي يحثه عليها سنين كثيرة، حتى قال له، أسرع بذلك، فإنه بايقبر فيها أحدنا إما أنا وإما أنت، ولم يتفق للسيد زين عمارتها إلا سنة ١١٣١ قبل وفاة سيدنا رضي الله عنه بسنة وكان محلها ساقية ماء، يجري فيها من وادي عيديد، إلى نخل لجماعة من آل باحرمي يسمى باتميم فعوضوهم بساقية بحري المكان المذكور
وذكر سيدنا نفع الله به جماعة صالحين مرضوا، منهم من مات قبله ومنهم من عاش، وقال في كل منهم، إن مات فلان، أمرنا بدفنه في تلك التربة يعني المذكورة آنفا، فكلما هَمَّ أن يأمر بدفن أحد من أولئك إذا مات فينسى أن يأمر به، فما دفن أحد منهم حينئذ
(٢/٣٤٢)
ثم يذكر بعد ذلك فيقول، لو ذكرنا لخليناهم يقبرون فلانا فيها، وتكرر منه ذلك، في نحو ثلاثة ماتوا قبله واثنان بقوا بعده فقال لكل منهما، إذا مُتَّ نقبرك فيها، وأحدهما اشتد به المرض، حتى أصبح لا يتكلم فأرسلني سيدي الحبيب إلى السيد زين يحضه في إصلاحها وقال، قل له يسلم عليك، ويقول لك هيا اهتم في إصلاح هذه التربة، فإن فلانا مرض مرضا شديدا، حتى أصبح لا يتكلم، ونخشى أن يموت قبل إصلاحها، فنريد أن يكون قبره فيها، وما مراده رضي الله عنه إلا أن يحضه حتى يسرع بذلك، واتفق إن سيدنا نفع الله به أول من قبر بها، وذلك بعد أن تشاوروا أولاده المباركون، أين يقبر، فاتفق رأيهم أن يقبر في موضعه هذا
وتقدم قوله رضي الله عنه، إن الإنسان أصله قد مزج بتراب قبره، وذكر لي السيد علي عيديد، وكان من المترددين على سيدنا كثيرا، قال، سمعت سيدنا الحبيب في بعض زياراته لما خرج من قبة الشيخ عبدالله بن أبي بكر العيدروس، توطأ إلى موضع قبره، فوقف فيه، وقال، بسم الله، { رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ } وذلك قبل وفاة سيدنا بسنين فيدل على أن هذا يكون منزله بعد، وموضع قبره، فأعظم بهذه المكاشفة العظيمة، وأمور سيدنا وأحواله رضي الله عنه عجيبة جدا، لمن ألهمه الله تعالى فَهْمَ معانيها، وقد قدمنا كثيرا منها في هذا النقل، فلا نعيده وهو نقطة من عجيب أحواله
(٢/٣٤٣)
ومن تصرفاته العجيبة، وإشاراته الغريبة، أنه نفع الله به قال لي ذات يوم، قد أذنا لك أن تزور من أردتَ من شيبان السادة، فزرت كثيراً منهم إلا واحداً، فكلما مضيت إليه قاصداً لزيارته، فَتَرَتْ مني الهمة ورجعتُ من أثناء الطريق، ومراراً أصل إلى بابه، فإذا أردت أن أقرع الباب ما جزمت على ذلك، ورجعت وأنا على ذلك إلى نحو أربع سنين، فقلت، لأذكرنه لسيدنا بالخصوص، فقلت له، إنكم أمرتوني بزيارة الشيبان من السادة فزرتهم إلا فلاناً، فقال، هاه الحذر تزوره، فإنا لا نريد لك زيارته فقضيت من ذلك العجب رضي الله عنه ونفعنا به في الدارين
وسمعته رضي الله عنه مرارا يقول ما معناه، كنا إذا دخلنا على شيخنا السيد عبدالرحمن بن عقيل، أول أيام مخالطتنا له يتمثل ويقول ،
ومن رعته العناية في المجيء والذهاب فلا يبالي ومن خانته الأقدار خاب
وإذا دخل عليه عباد بن اسعد، وكان فيه بلوة واعتراض يتمثل ويقول ،
وإذا كنت في المدارج غِرّاً ثم أبصرت صادقا لا تمار
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
ويشير إلى سيدنا، وآخر من مشايخه يتمثل إذا رآه ويقول ،
وإذا السعادة لاحظتك عيونها نَم فالمخاوف كلهن أمان
ثم إن بعض الناس بعد وفاته رضي الله عنه، جعلوا يتلهفون عليه ويتأسفون أن لا يكونوا من الملازمين له، والمنتسبين به، وندموا كثيرا حيث لا ينفعهم الندم
وقال رضي الله عنه قبل انتقاله بنحو ثمان سنين، ما يعرفون قدرنا إلا إذا فارقناهم، فما دام الرجل بينهم لا يعرفون قدره، فإذا صار الرجل قبرا، فحينئذ يعرفون قدره
(٢/٣٤٤)
وقد صدرت منه رضي الله عنه إشارات كثيرة في مرضه هذا، إن هذا هو مرض موته، وما عُرِف بعضها إلا بعد وفاته، منها قوله لجماعة جاءوا عائدين له، قولوا لهم دعوني وربي، ولم يأذن لهم، وليس هذا من عادته، ومنها ذكره للسيد زين العابدين لما جاءه عائدا رؤياه للسيد علي بن عبدالله وذكر له المعمرين من السادة وقد تقدم ذكر ذلك، ومنها إنه طلبني ضحى يوم الثلاثاء سادس عشر شوال، فأتيت اليه وهو بالمرواح الشرقي، وليس عنده إلا ابنه الحبيب حسن، ومغيربان يروح عليه، فلما صافحته حياني بتحية شفقة ورأفة وحنانة، وأمر ابنه السيد الحبيب حسن أن يأتي بقميص له كان قد لبسه مدة، ثم طواه وضمه، وما علموا لمن يريده له، فقال لابنه المذكور، قد قلت لكم اطووا الدرَّاعة الفلانية التي هناك نريدها للحاج، لئلا يأخذها غيرُه، ويفوت الذي عليه العمل، الإلباس الحسي والمعنوي، ثم قال له، قم هات ذلك القميص، فلما أتى به، أخذه ونشره وضمه إلى صدره، وأدخل رأسه في جيبه، كأنه يريد يلبسه، ثم لفه وتفل فيه ونفث، وذكر الله وصلى على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ثم دفعه إليَّ وقال، هاك قد ألبسناك الآن، وأذِنَّا لك في الإلباس لمن شئت من المتأهلين له، وقد تقدم منا لك الإلباس مرات، ونرجو لك الإلباس أيضا بعد ذلك، ونرجو أن يرزقك الله الإلباس الحقيقي ويؤهلك الله له، هذا كلامه بلفظه، وأرجو أن يحقق الله رجاه جزاه الله عنا أفضل الجزاء، وقد ألبسني قبل هذا نحو ستة عشر إلباساً، لكن لم يكن معها إذن في ذلك، ثم قال الحبيب الحسن، صافحْه، يعني مصافحة الخروج، فلما صافحته دعا لي وقال، بارك الله فيك وأصلحك، فكان هذا المجلس مع ما اشتمل عليه من المؤانسة والملاطفة والدعاء آخر مجلس لي معه من مجالس المؤانسة، وإلا فقد دخلت عليه بعد ذلك مراراً كثيرة وهو مستغرق بالمرض، ولم يصف الوقت كما صفا له في هذا المجلس المذكور، فخلَفه الله علينا وعلى كافة
(٢/٣٤٥)
المسلمين بخلف صالح، وجمعنا وإياه في دار القرار، كما جمعنا به في هذه الدار، وقد رأيت ليلة رابع من شوال، وذلك حين اشتد بسيدنا المرض، وكنت قد نمت على وضوء وأتيت بأذكار النوم، كأني جالس في الصف الأول من مصلى الحاوي وهو ملآن من الناس والصفوف متضايقة جداً، منتظرين لخروج سيدنا الحبيب نفع الله به، يصلي بهم صلاة عشاء ليلة الجمعة، فبينما الناس جلوس إذ جاء طائر يشبه الغراب، يطير فجاء حتى وقع على كتفي الأيسر، ومكث ساعة وعييت من ثقله، فلما أحس أني عييت طار، ووقع على الأرض بين يَدَيَّ لحظة حتى رأى أني استرحت من ثقله، فطار ووقع على كتفي الأيمن، وبقي ساعة، حتى عييت منه ثم طار ووقع في الأرض بين يدي، وإذا به قد انقلب صقراً وله خرطوم طويل كخرطوم الفيل، مُعْوَجَّا، وإذا له صوت يسمع كصوت الذي يتكلم، فتسمعت له فإذا به يتكلم بكلام عربي فصيح، فقلت له، أو تعرف أسماء الناس، فقال، نعم، فقلت له، ما اسمك أو ما اسم هذا الرجل لرجل كان حاضرا أشك في أيهما كان، فقال، محمد ابن فلان فسماه باسمه واسم أبيه وجده، فقلت له، وأنا من؟ فنظر إلي وظننت أن يقول فلان الفلاني، أي أحمد الحساوي أو فلان بن فلان أي بن عبدالكريم فقال، أنت أحمد الشجار وما أُعْرَف بحضرموت بهذا اللقب، وإنما ذلك في الاحساء فقط وفي حضرموت (الحساوي)، فقلت، أترى أن أحملك إلى أولاد الحبيب يكلمونك ويعجبون منك فسكت قليلاً، ثم قال، ما أقول لك إلا، ما لي بأحد حاجة، ثم أردت مفارقته، فقلت له، ادع الله لي بصلاح القلب والدين والجسم، فقال، أصلح الله قلبك ودينك وجسمك، فعند تمام هذه الكلمة انتبهت فظهر لي من تأويلها معنيان، أحدهما، أن كلام ما لم يتكلم كالطير أنه هول عظيم، وأن الغراب غراب البين المشعر بالوفاة، ولا أهول ولا أشنع من وفاته رضي الله عنه، على ما سمعت من ذكر وصف بعض الحال وركوبه على كتفي حتى أعياني
(٢/٣٤٦)
مرتين، مما يحقق ما يخصني من زيادة العنا بوفاته، المبين لقوله نفع الله به، أكثر ما أنا خائف على فلان، يعنيني لمحبته وغربته، يعني من ألم التعب على فراقه وشدة الحزن على المصيبة به، هذا ما ظهر لي من تعبير هذه الرؤيا
وذكر أيضا السيد علوي بن شيخ البيتي، من أهل الخريبة من دوعن، أنه رأى وهو في طريق صنعاء مقبلا منها إلى حضرموت، وذلك ليلة ٢٧ سبع وعشرين من رمضان، وهي ليلة ابتداء المرض بسيدنا كأن الحبيب عبد الله توفي، وكأنه موضوع في محفة، ورجال حاملين المحفة طائرين بها إلى السماء، فكتم الرؤيا ولم يحك بها إلا يوم الثلاثاء، سابع ذي القعدة وهو يوم وفاة سيدنا، حكى بها لأحد خواصه قبل أن يعلم هو ولا أهل بلده بوفاته، ولم يبلغهم الخبر بوفاته إلا يوم الجمعة في ١١ ذي القعدة، ومن العجيب أن اتفقت له هذه الرؤيا حين ابتدأ بسيدنا المرض، وإخباره بها يوم وفاته، وكل هذه المرائي دالة على وفاته رضي الله عنه
وسمعت عن بعض السادة، إنه رأى سيدنا وكأنَّ بيده أوراقاً صغاراً مطوية، يقسمها على كل من حضر جنازته، يعطي كل واحد واحدة، قال، فأعطاني أنا أيضا ورقة، ففتحتها فإذا هي بيضاء لا خط فيها، فأولت ذلك محو الذنوب وستر العيوب
وقد رثى سيدَنا جماعة كثيرة من جملتهم، أولاده الأجلاء كابنه السيد الحسين رثاه بقصيدة طويلة، وابنه السيد علوي رثاه بقصيدة، عدد أبياتها ١٤٢ وفق عدد حروف اسم سيدنا عبد الله، مطلعها ،
أتراني أسلو بعد فقد عمادي أو أهن يوما عيشتي ورقادي
وأرسلها إليَّ من حضرموت إلى الاحساء، فنقلتها ثم أرسلتها إلى صنوه الحبيب زين العابدين بالبصرة، فجاءني جوابه مع قصيدة جوابا لأخيه ومرثية لأبيه عددها ٤٠ بيتا ومطلعها،
كرر على سمعي حديث الوادي فلِنازليه منيزل بفؤادي
ورثاه السيد الشريف علوي بن جعفر مدهر، ساكن غيل باوزير بقصيدة عددها ٢٩ بيتا أولها ،
(٢/٣٤٧)
يا عين سحي بدمع الوابل الرذم على فراق جليل القدر والشيم
وكذلك رثاه أخوه السيد الفاضل عبد الله بن جعفر مدهر، نزيل مكة المشرفة بقصيدة عددها ٦١ بيتا أولها ،
ما للمكارم آذنت بنفاد والكون مشتمل بثوب حداد
ورثاة جماعة من أهل حضرموت وأهل الحساء، وأرخوا وفاته في قصائدهم، وقد جمعت ما بلغني من مرثياته، مع ما معي من مدائحه التي أنشئت في حياته، وقد سَمِعَ أكثرها، وأُنْشِدَ بها في حضرته، وتكلم عند سماع بعضها بما يتعلق بالمدح، كقوله، ( من مُدِح بفضيلة فان مدحه يعود إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لأن فضيلته إنما جاءت عنه، وصدرت عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فمدحه يعود عليه) في كلام كثير قدمنا ذكره في هذا النقل، وجعلْنا الجميع مع ترجمته التي من المشرع الروي مع ما زيَّد عليها السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي، ومع راتبه وجملة أوراده وأذكاره في الصباح والمساء وبعد الصلوات وفي أوقات أخر وفي أحوال مختلفة، كل ذلك في مجموع، وأضفت اليه شيئا من كلام مجالسه، وشيئا لخصته من مكاتباته، فصار مجموعا مجلدا ثمرا مجنيا ورطبا جنيا فيه خالصُه وزُبْدُه وعيونُه، يسهل على المطالع ويستحظ منه السامع والحمد لله على ما وفق وأعان، وأمد بالعناية والبيان
(٢/٣٤٨)
وحيث بلغ بنا النقل إلى ذكر وفاته رضي الله عنه ونفع به فما بعد الوفاة من كلام، فلنقتصر منه على ما يسره الله، وكفى به وإلا فلا نقدر على استيعاب جميع ما نقلناه من كلامه، وهذا نزر يسير من بحر كبير، يكفي عن كثير، والغرض الآن أن نختم هذا النقل بفائدة حسنة، وهي في ذكر ما كان يقرؤه في الصلوات، من السور والآيات، مما واظب عليه إلى أن انتقل إلى رحمة الله وقربه، دون ما تكرر منه في أوقات دون مواظبة، لأني أرى من نفسي ومن كل محب أن يتأثر بآثاره، ويستضيء بأنواره، ويتبعه في إيراده وإصداره، لأن في اتباعه والاقتداء به، الإتباعَ لسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، فمما كان رضي الله عنه مواظبا عليه إلى الوفاة المعوذتين في أولتي المغرب ليلة الأربعاء وليلة السبت، ما سمعته قرأ فيهما بغيرهما قط، وفي أولتي صلاة العشاء من ليلة الجمعة، وأولتي عصر يومها (ألم نشرح) و (إذا جاء نصر الله) وصبح يوم الجمعة (بسبح) و (الغاشية) وقال، إن قراءتهما في صبح يوم الجمعة تنوب عن قراءة (السجدة) و(هل أتى)، وقد كان نفع الله به أيام نشاطه يقرؤهما فيهما، وتنوب في العيد عن (ق) و (اقتربت) وكذلك فيما تعيَّن في شيء من الصلوات من السور المطولات، فيكفيان عن ذلك، وأما الآيات المداوم عليها إلى الممات فآية، { رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ }، { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } بعد الفاتحة في ثالثة الظهر والعصر مطلقا، وفي رابعتهما كذلك أي مطلقا، { رَبَّنَا ءَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وفي الجهرية في السكتة التي بعد الفاتحة وقبل السورة في الأولى، { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
(٢/٣٤٩)
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } وفي الثانية، { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ } وقد قال يوما، لا سكوت في الصلاة، ويقرأ في أخيرة المغرب بعد الفاتحة، { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وربما قرأ فيها، { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ } وفي ثالثة العشاء بعد الفاتحة، { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وِلاِ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَآمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وفي الأخيرة منها بعد الفاتحة الآية المتقدمة في المغرب، { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إلخ، وفي سُنَّة الفجر (الكافرون) و ( الإخلاص)، أو { قُولُوا ءَآمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } الآية في الأولى و، { قُلْ يَاأَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا } الآية في الثانية، وفي سنة الوضوء (الكافرون) و(الإخلاص) وكذلك في أولتي المغرب ليلتي الجمعة والإثنين، وفي صبح يوم الأربعاء ( لم يكن) و (الزلزلة) كثيرا، وما عدا ذلك فقد يتكرر بلا مواظبة فيما نعلم
(٢/٣٥٠)
ونختم هذه المجالس الشريفة بما كان سيدنا رضي الله عنه يدعو به في خاتمة مجالسه بعد الفاتحة وهو، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وحولنا وقوتنا أبدا ما أبقيتنا، واجعلها الوارث منا، وانصرنا على من عادانا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وأرنا في العدو ثأرنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا ولا يخافك ولا يخشاك ولا يتقيك يا رب العالمين، فإذا نهض قائما قال، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب اليك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، هكذا حفظته عنه من كثرة ما أسمعه يدعو به إذ ذاك فإن كان زاد أو نقص شيء أو تبدل شيء، فهو من طول العهد بذلك، لأني نقلته هنا من حفظي الآن، وأرجو من فضل الله تعالى وكرمه حسن الختام، والوفاة على الإسلام والإيمان والإحسان، إنه الكريم المنان، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا الحبيب النبي المرتضى، والرسول المصطفى، محمد وآله وصحبه أهل الفضل والوفاء، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الفصل والجزاء، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين
% % % % %
وبفضل الله سبحانه وتعالى كان هذا نهاية الجزء الثاني من كتاب تثبيت الفؤاد فله الحمد أولاً وآخراً
وتتميماً للفائدة ننقل ماوجدناه مكتوباً على ظهر بعض النسخ التي تمت المراجعة عليها،-
١ - الموجود على النسخة الأم، نسخة الحبيب أحمد بن حسن الحداد ،
(٢/٣٥١)
وكان الفراغ من نساخة تحريره بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء ١٩ جمادى الأولى سنة ١١٧٠ على يد العبد الفقير إلى الرب القدير، المعترف بالقصور والتقصير، الراجي لعفو الله الكريم الجواد، الشريف أحمد بن الحسن بن عبد الله بن علوي الحداد عفا الله عنه وعن والديه وأحبابه والمسلمين، ( أي وعمره - أي الحبيب أحمد بن حسن - إذ ذاك ٤٤ سنة، حيث كان وجوده في شوال سنة ١١٢٧هـ ) وأفيدك أيها القاريء الكريم، أن الإمام المدقق الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، قد قرأ هذه النسخة وراجعها وحققها، فقد وجد بخطه مايلي ،- قرأ في هذا الكتاب، تثبيت الفؤاد بذكر مجالس الحبيب عبدالله الحداد - علوي بن أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد باعلوي أول قراءة فيه، وثانية، وثالثة، على جده القطب العارف بالله الحسن بن سيدنا الغوث عبدالله، جعل الله في ذلك البركة والعاقبة الحسنة آمين ثم قرأ فيها الحبيب عبدالله بن علي الحداد، وكتب مايلي ،- بلغ مقابلة على الأم المنقول منها التي هي بقلم الحبيب أحمد بن الحسن بن الحبيب عبدالله الحداد حسب الطاقة والإمكان نحن والمحب المنور أحمد بن عبدالرحمن عقبة الشبامي بتاريخ ١٣ شهر رجب الأصب سنة ١٣١٣ هجرية قال ذلك وكتبه الفقير إلى ربه عبدالله بن علي الحداد عفا الله عنه آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ثم طالع في تلك النسخة الحبيب علوي بن محمد الحداد، وكتب مايلي ،- طالع في هذا الكتاب الفقير إلى ربه الجواد، علوي بن محمد بن طاهر بن عمر الحداد، رزقه الله الإنتفاع بما فيه، وغمر بفيوض المعارف واديه، وجعله وذويه من المتبعين للحبيب الأمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الميامين وأسأل من الواقف على هذا الكتاب أن يدعو لي بصلاح ظاهري وباطني، وكمال الإتباع للحبيب وآله، وكمال اليقين والتمكين، والإنتظام في سلك الصالحين، وبحسن الختام، والوفاة على الإسلام
(٢/٣٥٢)
فأعظم بها من نسخة، كتبها وحررها الحبيب أحمد بن حسن الحداد، ثم راجعها وقرأها مراراً الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد على جده الحبيب الحسن بن عبدالله الحداد، فأكرِمْ بهم من قاريء ومستمع ثم الحبيب عبدالله بن علي الحداد، ثم طالع فيها الحبيب علوي بن محمد بن طاهر الحداد
٢ - الموجود على نسخة الحبيب أحمد بن عبدالرحمن الحداد ،
وقد تمت المراجعة على الجزء الثاني منها ومكتوب على ظهرها ،- كان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الخميس ٢٠ من شهر جمادى الآخرة سنة ١٢٥٢هـ بقلم الفقير الحقير، راجي عفو ربه الجواد، أحمد بن عبدالرحمن بن أحمد بن حسن بن عبدالله بن علوي الحداد عفا الله عنه ووالديه، آمين وأيضاً مكتوب عليها ،- بلغ بقراءة الفقير إلى مولاه، علي بن حسن بن حسين بن أحمد الحداد، على والده في مصلى الحاوي، بعد صلاة العصر آخر جمادى الآخرة سنة ١٢٥٤ هـ وهي ملك الحبيب حسن بن حسين بن أحمد الحداد
٣ - الموجود على ظهر نسخة الحبيب الإمام، حجة المتأخرين، عيدروس بن عمر الحبشي ،
(٢/٣٥٣)
وكان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الثلاثاء ١١ خلت من شهر رمضان المعظم من سنة ١٢٩٣هـ على يد العبد الفقير الحقير إلى مولاه، أقل العباد، علي بن حسن بن حسين بن أحمد بن حسن بن القطب الغوث عبدالله الحداد علوي، عفا الله عنه وعن والديه وأولاده وأجداده وأحبابه ومحبيه، آمين وذلك بعناية محبه وخلاصته، الموفق عمر بن أحمد عبادي بنذياب، كان الله له عونا ومعينا، ووفقه لما يرضيه ويرتضيه ربُّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ثم انتقل هذا الكتاب إلى ملك إبراهيم بن عمر بن أحمد بن عبدالله عبادي بنذياب، خاص له وابراهيم بن عمر المذكور قد وهب هذا الكتاب بالهبة الصحيحة لسيدنا وبركتنا الحبيب القدوة البركة عيدروس بن عمر بن عيدروس الحبشي، وصار ملكاً من أملاكه، تقبل الله ذلك بمنه وكرمه،آمين وذلك بتاريخ يوم الاثنين ٢٦ خلت من شهر جمادى الأولى سنة ١٣٠١هـ ثم صار إلى ملك الفقير إلى مولاه محمد بن عيدروس بن عمر الحبشي، عفا الله عنه
وعلى النسخة المذكورة أيضاً، تشرف وسعد إن شاء الله تعالى بمطالعة هذا السفر الجليل وسماعه، العبد الحقير علي بن محمد بن عيدروس الحبشي، وأنهى قراءته في شهر ربيع الأول سنة ١٣٦٥هـ، رزقه الله كمال محبة قائله، والانتظام في سلكه، آمين ثم انتقل إلى ملك الفقير عبدالله بن عبدالقادر بن أحمد الحداد، مشترى من الأخ علي بن محمد بن عيدروس الحبشي اهـ
(٢/٣٥٤)
ونحمد الله سبحانه وتعالى أن مَنَّ علينا ووفقنا لقراءة هذا السفر المبارك، وبذل الجهد لمراجعته على النسخ التي ذكرناها، وانتهى بنا المطاف على أن يكون الضبط والتحقيق على نسخة الحبيب أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد (النسخة الأم)، وهي النسخة التي حققها الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، حيث وجدناها في قمة الضبط، ومهمشة بفوائد وتدقيقات من قبل الحبيب أحمد بن حسن نفسه، وعليها عناوين المقالات وتلك النسخة هي التي وجدت عند الحبيب البركة أبي بكر العطاس بن عبدالله بن علوي الحبشي، حيث تكرم بها علينا في آخر أيام حياته، فجزاه الله خير الجزاء، وقد كان انتقاله أي الحبيب أبي بكر العطاس إلى الدار الآخرة يوم الأربعاء ٢٩ من شهر رجب عام ١٤١٦ هـ فرحمه الله رحمة الأبرار
كما قام بتخريج بعض الأحاديث، وتوضيح معنى بعض الألفاظ الدارجة، وإسناد بعض الأبيات التي يستشهد بها إلى قائلها - السيد عبداللاه بن علي الحبشي، فجزاه الله خيراً
كما تشرف وقام بنساخة السفر، ومزيد المراجعة السيد عدنان بن يحيى بن أحمد العيدروس
وكان الوقت المخصص للمراجعة والقراءة، هو مابين صلاة الصبح إلى الإشراق من كل يوم إلا يوم الجمعة وكانت المراجعة بمساعدة ومجهود كل من الشيخ المحب محمد بن سالم بن عبدالله الخطيب، والشيخ المحب أبي بكر بن زين بن أبي بكر الراقي بافضل وقد استغرقت المراجعة قُرابة الخمس سنوات
ومن الجدير بالذكر، أن بعض الألفاظ تم إيرادها كما وجدت بالأم، لا كما ينبغي من حيث حركات الإعراب كما أن هناك جُمَلاً تعد بالأصابع لم يتوضح لنا معناها، فأثبتناها كما هي بالأم ونلتمس من كل من يجد ملاحظة نحو المراجعة من كل ما ينسب إلينا أن يفيدنا عنها مشكوراً
(٢/٣٥٥)
نسأل الباري جلَّتْ عظمته، أن يتقبل منا وأن يعفو عنا بمحض الفضل والجود والكرم، وأن ينفعنا ويدخلنا في دائرة الإمام الحداد، وأن يكفر عنا السيئات، ويرزقنا كمال الاتباع للرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يشمل بالمغفرة والدينا وأحبابنا وذريتنا وجميع المسلمين، وأن يعم نشر هذا الكتاب في أرجاء المعمورة ليعم به النفع إنه سميع مجيب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
المشرف على المراجعة الفقير إلى الله الملك القدوس، يحيى بن أحمد بن عبدالباري العيدروس، عفا الله عنه حرر في جدة صبح يوم الخميس السابع من ذي القعدة من عام ١٤١٨هـ ومن يُمن الطالع أن هذا اليوم يوافق يوم وفاة الحبيب عبدالله بن علوي الحداد، حيث كان انتقاله في السابع من ذي القعدة من عام ١١٣٢ هـ - أي قبل حوالي ٢٨٦ سنة - نفعنا الله به في الدارين آمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
(٢/٣٥٦)
فهرس الجزء الثاني حسب العناوين
ذكر بداية قراءة الحبيب عبدالله ٢
انظر إلى هذا الدعاء الجامع ٧
فائدة جليلة ٨
آ يات تقرأ للعين ٨
ما يقال عند شرب القهوة ٨
ذكر إبتداء تدريسه نفع الله به ٩
ما قال فى رؤية النبى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ١٧
حكاية أصحاب السرير والمروحة ٢١
قف على ما قال في الكتب المعتمدة ٢٢
انظر ما قال في الشاهد العدل وتساهل أهل الزمان في الشهادة ٢٤
تأمل هذه القاعدة الكلية الجامعة ٢٤
انظر ما قال في الصبر ٢٥
انظر ما قال في لعب الصبي ٢٩
ذكر تاريخ ولادته وإبتداء أمره نفع اللّه به ٣٢
انظر ما قال في الولاة الظلمة وشؤم الظلم ٤٤
ذكر دوعن وآل العمودي ٥١
انظر ما قال فيما يتعلق بالرحمة ٥٨
ما قال في الإلباس رضي الله عنه ٦٢
انظر ما قال في حسن الخلق ٧٠
انظر ما قال في الغضب ٧١
(٢/٣٥٧)
انظر ما قال في البر وقطيعة الرحم ٧٤
انظر بعض مكا شفا ته رضي الله عنه ٧٥
انظر ما قال في موت الفجاءة ٧٨
ما قال في عقيدة أهل شبام ٧٩
قف على تقسيم الرزق ٨٤
قف على درجات العقل ٨٥
قف على من يتجاوزون الحد ٨٦
ما قال في التطفيف في الكيل والوزن ٨٨
أنظر تعريف الأخلاق الحسنة ٨٩
تأمل أيضاً ما قاله في القضاء والقدر رضي الله عنه
قف على الفرق بين الإيثار والمواساة ٩٢
ما قال في الخوف والرجاء ٩٤
انظر ما قال في أهل القرن الثاني عشر ٩٥
كلامه رضي الله عنه فيما يسهّل أمر المعاش ٩٥
قف على الأحرف النورانية ٩٦
انظر إلى هذه الرؤيا ٩٨
قف انظر هذه المقالة ١٠٢
ما قال في ضرب الأمثال ١٠٢
ما قال في الغزل ١٠٤
ماقال في الوجد ١٠٤
ما قال في الوسواس ١٠٤
انظر إلى عَتْبِه على من لم يحضر ضيافته ١٠٦
ما قال في الذي يأخذ من أيدي الناس ١٠٧
ما قال في مدح الخمول ١٠٨
انظر إلى هذه التورية به عن نفسه نفع الله به كما هي عادته ١١١
فائدة ١١٢
ما قال في المحبة ١١٤
ما قال في أدب السائل ١١٤
ما قال في انتظار النفحات ١١٥
ما قال في التوبة ١١٥
ما قال في خداع الشيطان ١١٥
انظر إلى هذا التأويل البديع ١١٥
ماقال في كتب ابن عربي ١١٨
ما قال في كلام الحقائق والحذر منها ١١٩
ما قال في أقسام الصُّحبة ١٢٠
ماقال في الفتن ١٢٠
قف على دعاء الحبيب بعد الجمعة ١٢١
ما قال في طريق الشط ١٢١
ما قال في سبب الجذب ١٢٢
ما قال في ذكر السيد علي بن عبدالله العيدروس ١٢٢
قف وانظر ما أخبر به عن نفسه الشريفة ١٢٥
انظر إلى هذه الحكاية فيمن يتبع رأي النساء ١٢٧
انظر ما قال في البناء ١٢٧
انظر ما قال في ذم طول السفر ١٢٧
قف على ما قال في سيدنا عمر رضي الله عنه ١٢٨
(٢/٣٥٨)
انظر هذا التأويل العجيب ١٢٩
قف على هذه المقالة ١٢٩
انظر ما قال في من يحفظ من كلامه المنظوم شيئاً ١٣٠
ما قال في شرب التنباك ١٣١
ذكر نفع الأموات للأحياء ١٣٣
ما قال في عاشور ١٣٤
ما قال في أموال أهل البادية ١٣٤
ما قال في خلافة الخلفاء الراشدين والرافضة والأباضة ١٣٥
ما قال في مسير الهند ١٣٨
ما قال في البركة وقصة صاحب الدينار ١٣٨
ذكر الهارات ١٣٩
قف على هذه المقالة ١٤١
ما قال في الجنون ١٤٣
ذكر مرضه الذي في سنة ١١٣٠ ١٤٤
ما قال في ذم محبة الجاه والترفع ١٥٥
قف على هذه الفائدة الجليلة ١٥٦
قف على تسمية مساجده الشريفة ١٥٨
أنظر بركة آبار مساجده وجوابيها ١٥٨
ما قال في الخروج للمحلة في الخلاء أيام الخريف ١٥٩
ما قال في خمول السادة ١٦٠
ما قال في إخبار الولي بالمغيَّبات ١٦٠
ما قال في معاملة النفس ١٦١
ما قال في جُرْأَة أهل الزمان على المعاصي ١٦١
انظر ولايته في الأيتام والمساجد ١٦٢
قف على سرِّ ثِقَلِ الطاعات ١٦٤
قف على هذا الدعاء ١٦٦
انظر قدر صلاته نفع الله به ١٦٨
ما قال في شرب الماء البارد في الشتاء، والحجامة ١٧١
مناقب سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ١٧٢
ما قال في البحر ١٧٤
ما قال في بلدة قَسَم ١٧٥
ما قال في الجن ١٧٧
كلامه في ذكر زيارة النبي هود عليه السلام ١٧٨
ما قال في كلام بامخرمة ١٨٠
ما قال في قراء القبور ١٨١
أنظر إلى مرائيه المباركة الصالحة ١٨١
انظر إلى تهليل زبيدة ١٨٣
ما قال في العشق ١٨٣
سيرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ١٨٤
قصة الرجل من آل بافضل مع أهله ١٨٦
أنظر ما قال أيام الخريف ١٨٦
ما قال في مسجد آل أبي علوي وليلة ختمه ١٨٧
ما قال في الوفاء ١٨٨
ما قال في التجربة ١٨٩
ذكر زيارته التربة وابتداء الحضرة ١٩٠
(٢/٣٥٩)
ما قال حيث يحل الشيخ أحمد بن عيسى وأولاده ١
ما قال في الشيخ عبدالقادر والغزالي ١٩٣
ما قال في التعزية ١٩٤
ما قال في الإجتهاد في رمضان ١٩٤
ما قال في عيد الأضحى ١٩٥
ما قال في عقيدة أهل الجهة ١٩٦
ما قال في اعتياد النفس ١٩٦
ما قال في البَرْد وما يليق له ١٩٧
ما قال في حديث سيدتنا فاطمة رضي الله عنها حين أتته عليه السلام بالكسرة من الخبز ١٩٧
( ذكر ابتداء مرض وفاته نفع الله به ) ١٩٨
ذكر انتقال روحه الزكية قدس الله سره ونفعنا به في الدارين آمين ٢٠٦
(٢/٣٦٠)